¿Cuántos años tiene la rabia?: Estructura y crisis del pensamiento árabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Géneros
أما أصحاب الرأي الثاني، الذي يضم عناصر من الفئات الناصرية واليسارية والقومية، فإنهم يرتكبون خطأ جسيما حين يستعينون، من أجل دعم موقفهم، بشخصيات مثل هيكل. إن الكثيرين منهم، بالطبع، يصفون موقفي بأنه نوع من المثالية التي تفتقر إلى الحس العملي. إنه بحث عن الصواب المطلق أو الخطأ المطلق، لا يعرف كيف ينتهز الفرص السانحة ويستفيد من أي عنصر - بصرف النظر عن طبيعة هذا العنصر في ذاته - من أجل خدمة قضيته، هذا رد أتوقعه من الكثيرين، بل أتوقع ما هو أشد منه، فمن هؤلاء من سيهاجمني بعنف، مؤكدا أن هيكل الآن يخوض معركة ضد المؤسسة الساداتية كلها، ولا بد من تأييده ومساندته، لا إضعافه ومحاربته.
ولكن هذا المنطق، في رأيي، مرفوض من أساسه ، فالمسألة ليست على الإطلاق مثالية مفرطة في الابتعاد عن الواقع، وإنما هي - على عكس ذلك - موقف واقعي وعملي بكل معاني الكلمة؛ ذلك لأننا لن نستطيع أن نفهم العوامل المؤدية إلى السقوط الذي وصلنا إليه، في كافة جوانب حياتنا، إلا إذا حللنا بدقة أساليب التفكير والممارسة عند أولئك الذين تحكموا في مصائرنا طوال عشرات السنين، وانتقدنا هذه الأساليب دون أية مهادنة. وحالة هيكل تقدم لنا نموذجا بارزا لهذه الأساليب، وإن كان يظل رغم كل شيء مجرد نموذج، لا يهمنا إلا بقدر ما يدل على المناخ السياسي والفكري العام الذي كان ينتمي إليه.
والواقع أنني لا أجد، من منظوري الخاص، أية فائدة ترجى من التحالف مع شخصيات اعتادت التقلب مع عهود الحكم، بحيث لا ندري، إذا كانت تتخذ اليوم خطا وطنيا (سنقدم له تفسيرا فيما بعد)، وهي أن هيكل أسهم بدور أساسي في إرساء دعائم الاتجاهات التي ينتقدها اليوم على السادات، عندئذ يبدو التحالف معه أمرا محفوفا بالخطر، ويبدو انقلابه الأخير على السادات موقفا لا علاقة له بالمبادئ السياسية، وإنما هو في حقيقته، ومهما أنكر هيكل، انتقام شخصي يلبس رداء الوطنية.
وفي غمرة الغضب الذي اجتاح هيكل، خلال فترة اعتقاله القصيرة الأمد، نسي أشياء كثيرة، ولم يتذكر إلا أنه يريد أن ينتقم، وكان لديه بالطبع مخزون المعلومات الهائل الذي يضمن له انتقاما مدويا، وهكذا تحدث هيكل عن أخطاء السادات، مدعمة بالوثائق التي تفضح أشياء كثيرة وخطيرة، كما لو كان مشاهدا محايدا، ونسي الدور الخاص الذي لعبه في هذه الأخطاء، بل إنه حين تدقق في سرد المعلومات من مخزونه الكبير، نسي أن الكثير مما قاله له دلالات عكسية، ويأتي بنتائج سلبية على الجميع، سواء عليه هو، أو على الحكام الذين عاش في عهدهم، ومرت عليه أشياء خطيرة انزلق إليها دون أن يدرك معانيها، حتى ليشعر المرء - كما سنرى فيما بعد - أن غضبه قد سد عليه منافذ التفكير.
ولو كان هيكل متسقا مع نفسه، لتمالك غضبه وبدأ كتابه بانتقاد نفسه. كان من واجبه تجاه ذاته، وتجاه وطنه، أن يقول: «لقد أيقظتني فترة السجن من غفوة طويلة، كنت على خطأ في كثير من مواقفي طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وكان أكبر أخطائي مساندتي القوية للسادات ودعمي لحكمه، وها أنا ذا أكفر عن أخطائي ...» لو كان هيكل قد بدأ بكلمات كهذه، وصاغ كتابه في هذا الإطار، لما تعرض لكلمة نقد واحدة مني أو من غيري، بل لصفقنا له جميعا؛ إذ إنه كان سيقدم إلينا عندئذ عملا رائعا، يكشف الحقائق المخفية، ويلقي - بموضوعية - أضواء باهرة على أخطر مرحلة في التاريخ العربي المعاصر.
ولكن هذه أمنية يستحيل أن تتحقق؛ إذ كيف تنزل الآلهة من عليائها وتعترف بأخطائها؟ إن هيكل يرى نفسه أرفع حتى من الرد على منتقديه، فكيف نتوقع منه نقدا ذاتيا شاملا؟ على رسله إذن، وليتحمل نتيجة موقفه.
لقد كانت لدى هيكل حاسة سياسية مرهفة، جعلته يتخذ حتى النهاية موقف المحامي عن عبد الناصر، وبدرجة أقل، عن عصر عبد الناصر، رغم أنه شارك بدور رئيسي في بذل الجهد الضخم الذي أدى إلى القضاء على أهم مقومات العهد الناصري في 15 مايو، وكان من دعامات التحول الحاسم الذي كان لا بد أن يفضي في النهاية إلى انهيار سياسة الحياد الإيجابي، وإلى الانحياز لأمريكا، بكل ما يعنيه ذلك من انضمام إلى صف أعداء الشعوب ومكافحي التحرر الوطني، ومن تصالح وتطبيع مع إسرائيل، ومن سيطرة للطبقات الطفيلية والبنوك الأجنبية. وإذا كان هيكل قد انتقد هذه النتائج كلها بشدة في الآونة الأخيرة، فإن دعمه الحاسم للسادات ، الذي كان هيكل يعرف جيدا ميوله واتجاهاته واتصالاته، كان لا بد أن يؤدي إلى نتائج كهذه في المدى البعيد.
ولقد أتاحت هذه الحاسة السياسية المرهفة ذاتها لهيكل، أن يقفز من مركب السادات في الوقت المناسب، ويدخل من أجل ذلك السجن فترة قصيرة، وكان دخوله السجن في الواقع أكبر «ضربة حظ» نالها في السنوات الأخيرة؛ فعندما أصدر «خريف الغضب»، استطاع أن يكتسب لنفسه تأييد كل الساخطين على عصر الانفتاح، ولصوص التموين والارتماء في أحضان بيجن، وتوصيل ماء النيل إلى القدس، وبيع آثار مصر ومواقعها التاريخية. تحول هذا كله إلى رصيد لصالح هيكل، واعترف هو نفسه بذلك حين قال في الفصل الأول من كتابه، معلقا على مهاجمة السادات له: «حين يجعل رئيس الدولة من أحد مواطنيه هدفا دائما لمهاجمته، فهو بذلك يرفع من قدره ولا ينتقص منه، وبالتالي فلعلي لا أتجاوز إذا قلت إنني على نحو ما مدين للرئيس السادات بما أضافه - دون أن يقصد - إلى قيمتي في الساحة الوطنية والساحة الدولية على السواء.» وبصرف النظر عما يمكن ملاحظته بسهولة من أن تضخيم الذات واضح في هذا الكلام، فإن الحقيقة الواقعة هي أن هيكل قد أصبح في نظر الكثيرين «بطلا» وطنيا، وأخذ الوطنيون الشرفاء يتبنون قضيته، إما عن كراهية للسادات تحتم التصفيق بلا تفكير لكل من يهاجمه، وإما عن عجز عن الربط بين حلقات التاريخ، وفي المقابل، فإن خصومه من الساداتيين أخذوا يهاجمونه بعنف؛ مما جلب له مزيدا من الشعبية ... وحين اتخذت الحكومة بعض الإجراءات القمعية، بإصدار تشريع استثنائي آخر يمنع أي «مسئول» من الإفشاء بأسرار كان مطلعا عليها، تحول هيكل، الذي طالما برر الحكم الفردي وصاغ له النظريات البارعة، إلى شهيد لحرية الرأي والديمقراطية المهدرة.
إن قصة هيكل مع الحرية والديمقراطية قصة طويلة، ليس هنا مجال الكتابة عنها، وكل ما نود أن نفعله هو أن نركز انتباه القارئ على جوانب معينة من الانتقادات التي وجهها، مؤخرا، إلى السادات، والتي وقف فيها يدافع بقوة عن هذه المبادئ السامية، ثم نسأل أنفسنا: هل كان هيكل، في انتقاداته الأخيرة، يدين السادات وحده، أم يدين نفسه أيضا، ويدين كل المناخ السياسي الذي كان يعمل فيه؟
يتحدث هيكل في الفصل الخامس من كتابه عن الهدايا التي كان السادات يتلقاها فيقول: «وخلال سنوات عمله في المؤتمر الإسلامي، كان السادات يتلقى الكثير من الهدايا، في عالم يؤمن بالهدايا كوسيلة من وسائل توثيق الصلات.» فإذا تساءلنا: أي عالم كان يقصد؟ أتانا الجواب سريعا: «لكن الحق يقال إنه كان كريما في تقديم الهدايا قدر كرم الآخرين في تقديمها له، لقد قدم أنور السادات في تلك الفترة أكثر من سيارة «كاديلاك» كهدايا لعبد الحكيم عامر.» إذن فالمقصود عالم أقطاب ثورة 23 يوليو، أولئك الثوار الذين استهدفوا تطهير مصر من «فساد» الأحزاب القديمة، والذين يهدي أحدهم إلى الآخر بعضا مما أنعم الله به عليه، هو مجرد «سيارات» كاديلاك تقدم إلى الرجل الثاني بين الثوريين، الذي وصفه هيكل في الموضع نفسه بأنه: «كان في نفس الوقت أقرب أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى قلب جمال عبد الناصر.»
Página desconocida