¿Cuántos años tiene la rabia?: Estructura y crisis del pensamiento árabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Géneros
1
والكثير منهم لا يعرف عن هذا العهد إلا مجموعة من القوالب اللفظية التي تكرر ترديدها على أسماعهم إلى حد أنهم أصبحوا يأخذونها كما لو كانت من المسلمات المؤكدة، كالحديث عن «الفساد» في عهد ما قبل الثورة، وعن فشل «التجربة الحزبية» وعن «تخبط الأحزاب وسعيها» إلى «مصالحها الضيقة» وعن «الأزمة التي انتهت إليها الديمقراطية الحزبية قبل الثورة»، إلى آخر هذه العبارات التي يعرفها الجميع، والتي تخفي في واقع الأمر أهم معالم تلك التجربة الخصبة إلى أبعد حد.
أما السبب الثاني فهو تلك المواقف غير المنصفة التي وقفها هيكل من تلك التجربة.
كان هيكل، منذ بداية نضجه الصحفي، منتسبا إلى مدرسة «أخبار اليوم» في الصحافة، وهي مدرسة لها سمات خاصة، أهمها الولاء للقصر الملكي، وتأييد أحزاب الأقلية، والدعاية لكل قوة معادية لحزب الأغلبية الشعبية، أعني الوفد، وكان قطب هذه المدرسة ومعلمها الأكبر هو «محمد التابعي» وهو صحفي مخضرم كان يؤمن بأهمية الإثارة الصحفية، عن طريق الفضائح والجنس، في اجتذاب مزيد من القراء لأية جريدة. ومن الإنصاف لهيكل أن نقول إن مجرد انتمائه خلال فترة هامة من حياته الصحفية، إلى دار «أخبار اليوم» لا يعني بالضرورة أنه كان يتبنى جميع الأسس التي قامت عليها هذه الدار، ولكن من الإنصاف للتاريخ أن نقول إنه لم يبد أي نوع من التمرد الواضح عليها.
كانت هذه الدار التي أنشئت أساسا لتلطيخ سمعة الوفد (وقد أثبتت انتخابات آخر سنة 1949م أنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا) هي التي مجدت مجموعة الشباب التي كانت ينتمي إليها أنور السادات، وعلى رأسها المغامر المشبوه حسين توفيق، وهكذا كانت تروي عنهم حكايات أسطورية، وكان الغطاء الوطني لعملياتهم هو العداء لقوات الاحتلال البريطاني، ولكن الهدف الحقيقي منها هو تخليص القصر من أعدائه، عن طريق التصفية الجسدية، كما تشهد محاولات السادات المتكررة لاغتيال رمز الوطنية المصرية في ذلك الحين؛ مصطفى النحاس.
ولقد تضمن «خريف الغضب» تعبيرات كثيرة تحمل في طياتها اعترافا بالدور الوطني الذي قام به الوفد، وبالفارق الشاسع، في هذه الناحية، بين الوفد وأحزاب الأقلية الأخرى، فهو مثلا يتحدث عن «حزب الوفد المصري الذي يقوده مصطفى النحاس والذي كان يمثل أغلبية الوطنيين في مصر»، ويصدر حكما مثل: «أما الوفد - وبرغم كل محاولات تزوير الانتخابات - فقد ظل حزب الأغلبية ، يتمتع بتأييد شعبي لا ينازعه فيه أي حزب سياسي آخر.» كما يشير إلى المعارك الدستورية المجيدة التي خاضها الوفد ضد القصر، ويؤكد أن «كفاح» السادات ضد الوفد ومحاولاته اغتيال مصطفى النحاس واشتراكه في مقتل أمين عثمان، كل ذلك كان لصالح السراي، وقد تحقق عن طريق علاقة السادات بالحرس الحديدي، الذي يبدو أنه كان يقوم بدور «عمالة مزدوجة»، لصالح القصر في الواقع، ولصالح الوطنية المتطرفة في الظاهر، وكان مثل كثير من القوى الشديدة التطرف، عاملا لحساب قوى شديدة الرجعية، بل إن هيكل يتحدث عن «صحافة القصر» (ويقصد أخبار اليوم، حيث كان يعمل) التي راحت تصور هؤلاء الشباب على أنهم أبطال شعبيون ... وكل هذه كلمات صحيحة كل الصحة، ومنصفة لتاريخ مصر في تلك الفترة.
ولكن المفارقة تظهر حين يعود هيكل فيصدر أحكاما مناقضة، يبرر بها استيلاء الجيش على السلطة في 1952م، فيقول: «في ذلك المناخ (الأربعينيات) بدت السياسات المصرية التقليدية القائمة على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؛ بدت شيئا فات أوانه؛ لأنه يفقد صلته بالحقائق الجديدة يوما بعد يوم، كان لا بد من تغيير، ولم تكن هناك فائدة ترجى من انتظار التغيير بواسطة حزب سياسي قديم أو جديد، فلقد كان التركيب الطبقي في مصر لا يزال في حالة سيولة، الأمر الذي يمنع ظهور قاعدة اجتماعية صلبة، يقوم عليها تنظيم سياسي حقيقي ويزدهر، وهكذا فإنه حين جاء التغيير، كان مصدره هو القوة الوحيدة التي تمثل إرادة الاستمرار من ناحية، وتملك قدرة العمل من ناحية أخرى؛ الجيش.»
هنا يعود هيكل القديم، هيكل الخمسينيات، إلى الكلام، على الرغم من أنه كان يكتب في الثمانينيات، فمن قال إن السياسة المصرية قبل الثورة قامت على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؟ لقد كانت تقوم، كما تدل عبارات هيكل نفسه التي اقتبسناها من قبل، على صراع واضح المعالم بين الشعب، ممثلا في الوفد من جهة، والقصر والإنجليز وأحزاب الأقلية من جهة أخرى، كان صراعا حول قضايا متبلورة تماما: القضية الوطنية، الديمقراطية، حكم الدستور، توفير المطالب الشعبية، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن أول ما حرصت عليه ثورة 23 يوليو كان إسكات الصراع، الذي يرمز له إعدام اثنين من العمال (خميس والبقري) بالتهمة التقليدية (الشيوعية) في الأيام الأولى للثورة، ثم ظهور مختلف التنظيمات القائمة على فكرة التوازن، لا الصراع، وأولها هيئة التحرير.
وهكذا يتحدث هيكل حينا بطريقة تدل على أنه أدرك حقيقة القوى المتفاعلة في تلك الفترة المظلومة من تاريخ مصر، ولكنه سرعان ما يعود إلى موقفه التقليدي، ذلك الموقف الذي وقفته ثورة يوليو منذ البداية، وأعني به وضع الأحزاب جميعا في سلة واحدة وكأنها كلها خانت وفشلت وتنكرت للحركة الوطنية، ثم الترويج لتلك الأسطورة التي لم يكن لها أي أساس من الواقع أو التاريخ، وأعني بها أنه «لم تكن هناك فائدة ترجى من أن يأتي التغيير من حزب سياسي»، تلك الأسطورة التي تريد أن تسدل ستارا من النسيان على تجربة ديمقراطية عظيمة، كانت تبشر بتطورات وتصحيحات هائلة لمسارها، لو كتب لها البقاء بعد إزاحة العقبات التي كانت تعرقل مسيرتها حينا وتبطئ حركتها حينا آخر.
من أجل هذا يقدم هيكل تبريرات لمجموعة الإجراءات التي أدت إلى القضاء على التجربة الحزبية في مصر، وهي إجراءات تكررت، مع اختلاف في التفاصيل، في كثير من الأقطار العربية الأخرى حين قامت فيها حركات عسكرية مماثلة، وهكذا يذهب هيكل إلى أن الشرعية التقليدية في بلاد العالم الثالث لها أساس قبلي أو ديني، وحين تحاول أن تنتقل في العالم الثالث إلى شرعية ذات أساس دستوري وقانوني، تستند في عملية الانتقال هذه إلى ضرورات الاستمرار، وتمثلها «البيروقراطية» بما فيها القوات المسلحة، وكذلك إلى شخصية الزعيم.
Página desconocida