¿Cuántos años tiene la rabia?: Estructura y crisis del pensamiento árabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Géneros
كانت تلك، بطبيعة الحال، واحدة من الحالات التي يقوم فيها اختيار لكلمة مخففة بالتغطية على حقيقة أليمة مريرة، تلك الحالات التي تكتشف فيها أجهزة الإعلام سحر «الكلمة»، فتتلاعب بها وهي واثقة من أن الكلمة المزيفة، إذا ما تكرر استخدامها إلى الحد الكافي، تستطيع أن تغير طبيعة الظاهرة التي نتحدث عنها وتشكلها بالطريقة التي تحقق أهداف الحاكم - ويدخل في هذا الإطار استخدام أجهزة الإعلام المتكرر للفظ «النكسة» بدلا من الهزيمة الثقيلة في يونيو 1967م، وحديثها الدائم عن «سيادة القانون»، بمعنى وضع قوانين مزيفة توافق عليها الأغلبية الآلية في المجالس النيابية ثم ضمان «السيادة» لها، واستخدامها تعبير «تحريك الأسعار» بدلا من الغلاء الفاحش، وهلم جرا.
على أن الأمر اللافت للنظر هو ذلك الافتقار العجيب إلى سياسة محددة المعالم، قابلة للتنفيذ، لمواجهة ظاهرة الفقر في مصر، فبدلا من التصدي للظاهرة بأساليب مخططة ومدروسة، كان الحاكم يتحدث في كل مناسبة، عن أمنيته الغالية، وهي أن يكون لكل مصري «فيلا وسيارة» خاصة به ، ومثل هذا الحديث ليس مجرد تخدير لحواس الناس وعقولهم فحسب، بل هو أيضا دليل على أن فكرة المواجهة العلمية للمشكلات غير موجودة في ذهنه أصلا؛ ذلك لأن بلدا كمصر لا يحتمل ببساطة، أن يكون لكل مواطن فيه «فيلا وسيارة»، حتى لو كان نظام الحكم فيه وطنيا مخلصا بلا أي شائبة، والنظرة العلمية إلى مشكلة كهذه، هي التي تحدد الأهداف وفقا للإمكانات الموجودة، وتكتفي بالحد الأدنى للمعيشة الآدمية، بدلا من أن تغرق الناس في أوهام يستحيل تحقيقها، ومن المؤكد أن المفارقة لا بد أن تكون قاسية بين حلم «الفيلا والسيارة»، حين يشيعه بين الناس أكبر مسئول في الدولة، وبين الأسعار الفلكية للمساكن الجديدة، ووسائل المواصلات اللاإنسانية التي لا تملك الأغلبية الصامتة غيرها، وفي مثل هذه الحالات، يكون التقدير الواقعي للأهداف أقدر بكثير على تهدئة مشاعر الناس، وبعث الأمل في نفوسهم من أي تعبير تخديري حالم.
المهم في الأمر أن المحاولات الواعية المتعمدة للتغطية على حقيقة الفقر الصارخة، ولتعليل الناس بآمال زائفة، لا يمكن أن تكون مجرد تعبير عن «عقدة فقر» متأصلة منذ النشأة الأولى، وإنما هي تعبير عن اختيار وانحياز إلى جانب القلة المستغلة، ضد الأكثرية المطحونة من وطأة الاستغلال، إنها فلسفة متكاملة، دبرت وخططت بعناية وبخطط مرسومة، وليست مجرد رد فعل سيكولوجي على ظروف الفقر التي سادت خلال فترة النشأة الأولى، ومن هنا يبدو أن الخطأ الذي ارتكبه هيكل في هذا الجزء، لا يقل فداحة عن ذلك الذي ارتكبه خصومه ممن تحمسوا للدفاع عن السادات، سواء منهم ذلك الذي أكد أن فقر السادات جعله يسعى حثيثا لاستئصال كل مظاهر الفقر في بلاده، أو ذلك الذي ذرف دموع التماسيح وهو يتحدث عن معاناة رئيسه من الفقر في حداثته، أو ذلك الذي شهد - بكل أمانة وإخلاص - بأن السادات لم يقهر يتيما، ولم ينهر سائلا، وكان بنعمة ربه يحدث!
إن الاهتمام الزائد بعوامل التنشئة والتربية والبيئة الأولى، في حياة السياسيين، يمكن أن يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ففي حالة السادات كان من الممكن - كما قلنا من قبل - أن تفسر نشأته المتواضعة على نحو يؤكد تعاطفه مع الفقراء، كما فعلت أجهزة الإعلام المؤيدة له بالفعل، ولو قيل إن النشأة المتواضعة، وليس الاختيار الأصيل، هي التي أدت به إلى ارتكاب أخطائه، فإن مثل هذا التعليل يعني التماس شيء من العذر للحاكم؛ لأنه سيكون عندئذ «ضحية» ظروفه العائلية القاسية، وربما اقتنع البعض بأنه لم يكن يملك أن يفعل إلا ما فعل، وهذا كله هروب من المسئولية الحقيقية؛ مسئولية الاختيار الواعي، المخطط، المرسوم، الذي تخلى فيه السادات عن طبقته الأصلية، وانحاز بكل قوة إلى صف أصحاب الملايين الجدد.
ومع ذلك فإن هيكل يبرز هذا العامل إلى حد تصوير المسألة، كما لو كانت مسألة إنسان مصاب بمجموعة من العقد النفسية، التي لم يكن يستطيع التخلص من تأثيرها طوال حياته، وإذا قال البعض، دفاعا عن هيكل، إنه لم يفعل ذلك إلا في الفصول الأولى، بينما خصص الفصول التالية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الموضوعية، فإن هيكل نفسه يعود فيؤكد التهمة الموجهة إليه حين يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه، بعد أن عرض ملحمته الطويلة عن السادات، وأراد أن يلخص في النهاية ما انتهى إليه من نتائج: «يمكن الآن بأثر رجعي أن يقال إن غلطة السادات الكبرى، تمثلت في تضحيته بالأهداف الاستراتيجية لمصر، من أجل مناورات تكتيكية كان مشكوكا منذ البداية في قيمتها، ويمكن أن يقال - وبحق - إن حرب أكتوبر كانت فرصته الكبرى، بل كانت فرصة لم تتح لحاكم مصري قبله في تاريخ مصر الحديث، بما في ذلك محمد علي وجمال عبد الناصر، ولكنه ألقى بكل شيء في الهواء، وربما كانت المسئولية تقع على نوع الحياة التي عاشها، أو ربما كانت تقع على نقص حصيلته من التعليم والعلم، وكلها عوامل تجعل من الظلم إصدار حكم قاطع عليه.»
هنا، وفي نهاية الكتاب، يعمد هيكل إلى استخدام التعليلات الشخصية، مثل نوع الحياة التي عاشها الحاكم، أو نقص تعليمه؛ لكي يفسر بها أخطر الأحداث، وكأن السادات لو كان أكثر علما لتغيرت سياساته جميعا ، أما المصالح والانتماءات والارتباطات، فلا مكان لها في تعليلات هيكل، فظروف الحاكم، من حيث هو فرد معين نشأ في أوضاع معينة، هي التي تفسر كل شيء، وإن المرء ليعجب كيف يقبل مفكر ومحلل كبير، كان أقرب المقربين إلى حكام أكبر بلد عربي خلال ربع قرن من الزمان على الأقل، أن يقدم مثل هذا التعليل الجزئي الضيق لأحداث سياسية كبرى، ويتجاهل عوامل سياسية مثل اختيار الحاكم أن ينتمي إلى الشريحة العليا للمجتمع ويربط مصيره بها، ومثل اتباعه أسلوبا للحكم غير مستند إلى إرادة شعبية تعبر عن نفسها تعبيرا حرا سليما، فهل يكون من المستغرب بعد ذلك، أن تكون النتيجة التي يصل إليها تحليله، هي أن «من الظلم إصدار حكم قاطع عليه»؟
وكل ما أستطيع أن أقوله من تفسير لهذا القصور الشديد في التحليل، هو أن من اعتادوا الاقتراب الشديد من حكام أفراد بعيدين عن الديمقراطية، ومن ألفوا رؤية أخطر القرارات تصدر بإرادة فردية مطلقة، لن يستطيعوا أن يخرجوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم عن إطار الظروف الشخصية لأصحاب السلطان. •••
إن المناقشة الطويلة التي قمنا بها، على مدى هذا الفصل والفصول السابقة، لردود الفعل على ما كتبه هيكل، إنما كانت تستهدف قبل كل شيء، إظهار عناصر الضعف والتفكك في الجو الفكري الذي عاش في ظله هيكل وخصومه معا، فالجميع يقعون في أخطاء متشابهة، وإن كانت هذه الأخطاء مكشوفة مفضوحة في بعض الحالات، وغير ظاهرة للعيان في حالات أخرى.
وأبرز هذه الأخطاء هو الخلط بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية في تحليل الظواهر السياسية، وإصدار الأحكام على تصرفات رجال الدولة، هذا الخطأ واضح كالشمس في استنكار الساداتيين لعدم الوفاء وانتهاك الحرمات ونبش القبور، ولكنه ظاهر أيضا في تأكيدات هيكل، في مواضع كثيرة من كتاباته، بأن نقد الحكام بعد موتهم ليس من الشجاعة في شيء، إن المنهج الفكري واحد، وإن كان يطبق في حالة هيكل - كما يحدث دائما - بطريقة أكثر ذكاء وخفاء.
ومن شأن اتباع هذا المنهج أن يبدو الصراع حول المسائل السياسية الكبرى، كما لو كان ثأرا بين أشخاص، وهكذا يقول البعض، تأييدا لموقف هيكل ضد مهاجميه: أين كنتم عندما كان عبد الناصر يشتم؟ فيرد البعض الآخر ممن ينقد حملة هيكل على السادات: ولماذا هاجمت دكتاتورية السادات وسكت عن دكتاتورية عبد الناصر؟ ويظل كل من الطرفين حريصا، قبل كل شيء، على ألا يوجه اللوم إلى الرئيس الذي يدافع عنه ويترك الآخر، أما القضية الأصلية، وهي أن حق النقد ينبغي أن يكون مباحا للجميع، وفي عهود كل الحكام، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، فلم يدافع عنها أحد.
Página desconocida