آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٢٧)
الكلام على مسألة السماع
تأليف
أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١ هـ)
تحقيق
محمد عزير شمس
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الجديدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد كنتُ حققت هذا الكتاب ونُشر ضمن مشروع آثار الإمام ابن قيم الجوزية سنة ١٤٣٢ بالاعتماد على نسخة واحدة كانت معروفة آنذاك، وهي نسخة الإسكوريال، ونبَّهتُ على الخرم الموجود فيها بين الورقتين ١٢٣ و١٢٤ لعدم اتصال الكلام بينهما. ثم اكتشف الأستاذ إبراهيم بن عبد العزيز اليحيى (المفهرس في مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض) نسخة أخرى من الكتاب في المكتبة برقم ٩٥٥/ ٢، وكتب بذلك في ملتقى أهل الحديث سنة ١٤٣٤. وهذه النسخة الجديدة تُكمل النقص المشار إليه، وتبيّن لنا أنه خرم كبير يبلغ ١٥ ورقة (الورقة ١٢٤ - ١٣٩).
ولما اطلعت على مصورة نسخة الرياض وقابلت بينها وبين طبعتي ظهرت لي أمور أُجملها فيما يلي:
أولًا: أنني كنت اجتهدتُ فزدت بعض الزيادات بين معكوفتين في طبعتي ليستقيم السياق، فوجدتُ جُلَّها في نسخة الرياض.
ثانيًا: أنني كنت صححتُ كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في نسخة الإسكوريال بالنظر إلى السياق والمعنى، فوجدتها كما صوَّبتُها في نسخة الرياض غالبًا، فالحمد لله على ذلك.
المقدمة / 5
ثالثًا: أن نسخة الرياض (مع أنها كاملة) أكثر تحريفًا وسقطًا من نسخة الإسكوريال، فلا تصلح أن تكون أصلًا لطبع الكتاب. وسيأتي مزيد بيان ذلك.
وقد حقّق الكتاب من جديد الأستاذ عبد المنعم السيوطي بالاعتماد على النسختين، وطبع في مدار الوطن سنة ١٤٣٧، فكانت طبعته أكمل من الطبعات السابقة. وقد كان المرجو من صاحب التحقيق الجديد أنه يُخرِج النصَّ سليمًا من التصحيف والتحريف وهو يعتمد على نسختين خطيتين وطبعاتٍ سبقته، إلّا أنه أُتِي من جعله نسخة الرياض أصلًا يعتمد عليه، وهي (مع كونها منسوخة سنة ١٠٣٢ من أصلٍ قرئ على المؤلف وقوبل مع نسخته ومؤرخٍ بسنة ٧٤٧) كثيرة التحريف والسقط، فإن الناسخ (أحمد بن بايزيد الحافظ لتربة (كذا) المبنية الشريفة المحيطة على مرقد (كذا) الشريف المنيف المبني على جسم أبي أيوب الأنصاري) يبدو أنه كان ضعيفًا في العربية، ولذا كثرت منه الأخطاء اللغوية في النسخة. وكثيرًا ما يسقط لفظ الجلالة (الله) وضمير الغائب المذكر المتصل بالفعل، ويُحرّف الكلمات تحريفًا شنيعًا. والأمثلة على ذلك كثيرة في هوامش الطبعة الجديدة.
ثم إنه لا دليل على أن الناسخ قابلها على الأصل، فليس في هوامشها تصحيحات واستدراكات، ولا في أثنائها دوائر منقوطة، وجلُّ ما يوجد في حواشيها شرح بعض الكلمات بالعربية والفارسية والتركية، والإشارة إلى بعض المباحث المهمة في الكتاب. وعلى هذا فلا يكون
المقدمة / 6
لهذه النسخة ترجيح على نسخة الإسكوريال بوجهٍ من الوجوه. ونسخة الإسكوريال أقدم منها فقد كتبت في القرن التاسع تقديرًا، وهي نسخة مقابلة على أصلها، كما يدل عليها التصحيحات في الهوامش. وإنما تنقصها أوراق سقطت من النسخة، وهي موجودة في نسخة الرياض، فيستفاد منها ويكمل النقص.
وليس الغرض هنا النقد التفصيلي للطبعة الجديدة، وإنما أقتصر على ذكر نماذج من القسم الذي انفردت به نسخة الرياض (الورقة ١٢٤ - ١٣٩)، كيف قرأها المحقق وأثبتها (ص ٣٣٩ - ٣٩٢) ليصححها من اقتنى هذه الطبعة.
- ص ٣٣٩ (لا يُحسّ الإنسان بنباته، ولا تَفحاه إلا وقد استحكم ...). وعلَّق عليه: تفحاه: تبزره من "الفحا" أي البزر.
أقول: في النسخة: "ولا نفخاه"، وصوابه: "ولا يَفجأُه" من باب فرح وفتح، أي: ولا يُفاجئ الإنسانَ هذا النباتُ إلا وقد استحكم. أما "تفحاه" بمعنى تبزره فلا يوجد بهذا المعنى في المعاجم. ثم "لا تفحاه" لا يناسب "لا يحس" الذي سبقه.
- ص ٣٤٤ (فأولئك الأموات في الحيَّان). وعلق عليه: في الأصل: "الجبّان". والمثبت من مصادر التخريج.
أقول: ما في الأصل هو الصواب، والجَبَّان بمعنى المقبرة، وبه يستقيم المعنى. والحيّان لا معنى له هنا.
المقدمة / 7
- ص ٣٤٥ (أو بعض النِّعَم المباحة ...). وعلق عليه: في الأصل: "المباح"، ولعل المثبت هو الصواب.
أقول: الصواب (أو بعض النَّغَم المباح)، والكلام هنا على السماع والغناء.
- ص ٣٥٢ (والذي جرى على يده عقدُ البيع عندَه رسوله). وقال: في الأصل "ورسوله"، والمثبت يقتضيه السياق.
أقول: الصواب "عبدُه ورسولُه"، وفي النسخة "عنده" تصحيف. وما أثبت المحقق يختلّ السياق به بسبب الجمع بين "على يده" و"عنده".
- ص ٣٥٣ (زيَّنها لهم ليُمتِّعنَّهم ويبليهم). كذا أثبتها المحقق.
أقول: وهي خلاف ما في النسخة والسياق. واللام على الفعل لام كَيْ (وليس لام التأكيد التي تقتضي نون التأكيد) تعليلًا للزينة كما في الآية المذكورة (لنبلوهم). والصواب: " ... ليمتحنَهم ويبتليَهم".
- ص ٣٥٦ (ولا مُهلةَ لك، فإنه لا يخاف الفوت). وفي الهامش: في الأصل "مهالة".
أقول: الصواب: "ولا إمهالِه لك ... "، عطفًا على "سَتْرِه" السابق، أي: "ولا تغترّ ... بإمهالِه لك ... ".
- ص ٣٥٦ (فإذنُه بامتنانه عليهم من أجلِّ نعمه).
المقدمة / 8
قلت: لا معنى له هنا، والصواب: "فآذَن ... من أَجْلِ نِعمه"، كما في النسخة.
- ص ٣٥٦ (إذا كان تُطوى في يديه المراحلُ).
أقول: صوابه: "إذا كان يَطوِي في يديه المراحلَا" كما في النسخة والرواية في مصدر التخريج، والقصيدة من قافية اللام المفتوحة.
- ص ٣٦٢، ٣٦٣ (لعلانيَّاتهم) (علانيَّاتهم).
قلت: الكلمة مخففة الياء.
- ص ٣٦٤ (لما طالَ عليهم الأمد ولم تخشع قلوبهم قَسَتْ وعَنَتْ).
أقول: "عَنَتْ" بمعنى خضعت وذلَّت، ولا يناسب السياق. والصواب: "عَتَتْ" بمعنى استكبرت، وفي القرآن: ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الطلاق: ٨].
- ص ٣٦٧ (ينظرون من سبق ومن وصل بعده). وفي الهامش: في الأصل "صلى"، والمثبت يقتضيه السياق.
أقول: هذا تحريف لما في الأصل يدلُّ على أن المحقق لا يعرف معنى "المصلّي" في ميدان السباق.
- ص ٣٦٧ (ويَعِد الله بسبقه من شاء).
أقول: صوابه "ويُسْعِد" كما في النسخة حيث فيها مطَّة السين.
المقدمة / 9
- ص ٣٦٨ (يؤلِّهُهُما).
أقول: صوابه كما في النسخة: "يَأْلَهُهما" أي يعبدهما. وهناك فرقٌ بين الثلاثي والرباعي في المعنى. وسيأتي "المألوه" بعد أسطر.
- ص ٣٧٠ (ويَرْوِي به الناسُ).
قلت: صوابه: "ويَرْوَى به الناسُ" من باب فرح، أي يشربُ ويشبع. أما "روى" من باب ضرب فهو متعدّ.
- ص ٣٧١ (لئلّا يقطعهم الرغبةَ في هذا الذي زينَ لهم عنه). وعلّق عليه: "عنه جار ومجرور، ومتعلقه مشكل".
أقول: لا غبار عليه، فـ"الرغبةُ" [وليس منصوبًا كما ضبطه المحقق] فاعلُ "يقطع"، و"عنه" متعلق بهذا الفعل، والضمير لـ"ما هو خير وأفضل". والمعنى: لئلَّا يقطعهم الرغبةُ (في هذا الذي زُيِّن لهم) عن (ما هو خير وأفضل).
- ص ٣٧٥ (ولم يُكامِحْ قلوبَهم مرادُ المتكلم منه ولم تباشِرْها روحُه).
أثبته المحقق كما في النسخة، وشرحه بما لا طائل تحته، ولا تساعده اللغة على ذلك. والصواب أنه: "ولم يُكامِعْ" بالعين، أي "لم يُجامِعْ قلوبَهم ... "، وهو المناسب للسياق وكلمةِ "لم تُباشِرها".
- ص ٣٧٧ (وعُرِف حلمه).
المقدمة / 10
قلت: الصواب ما في النسخة: "وعُرِفَتْ حكمته"، ولا داعي للتغيير.
- ص ٣٧٩ (ابتغاء الوسيلة هو طلب القُرب منه). وقال: في الأصل "القربة". والمثبت كما في مدارج السالكين.
أقول: القُربة والقُرب كلاهما مصدر الفعل "قَرُبَ"، فلا داعي للتغيير.
- ص ٣٨١ (فما أعظمها من خيانة عمدٍ إلى صفات جلاله).
أقول: صوابه: "فما أعظَمها من خيانة! عَمَد إلى صفات جلاله". وهو فعل ماض بمعنى قصدَ، وهو المناسب لما سيأتي: "فجعلَها ... ثم عطَّلَه ... ".
- ص ٣٨١ (مرتبة الأمانة لا تُدرك إلا بالأمانة).
أقول: الصواب في الأول: "الإمامة".
- ص ٣٨١ (ويقصد مرضاتِه).
هكذا ضبطها بالكسر متوهمًا أنها جمع المؤنث السالم، والصواب أنها بفتح التاء كلمة مفردة.
- ص ٣٨١ (إنّا بالله وبك، أو متّكلٌ على الله وعليك).
أقول: الصواب: "أنا" ليناسب ما بعده.
- ص ٣٨٤ (بموجَبها).
أقول: صوابها: "بموجبهما". والضمير للآيتين، والسياق فيما بعد
المقدمة / 11
يقتضي ذلك.
- ص ٣٨٥ (ولا يُعاون به).
أقول: استشكله المحقق وحاول توجيهه فلم يوفَّق، والصواب: "ولا يُعاوِنونه"، وبه يستقيم السياق والمعنى.
- ص ٣٨٥ (لا يتَّفِق عندهم إلّا خائن ...).
قلت: الصواب كما في النسخة "فلا يَنْفُقُ ... "، وبه يستقيم المعنى.
- ص ٣٨٦ (فلا يُمكن الموحدُ أن يجرِّدَ ...).
ضبط "الموحدُ" بالضم ظانًّا أنه الفاعل، والصواب أنه مفعول منصوب، و"أن يجرّد" فاعل الفعل. وكثيرًا ما يخطئ فيه الناس.
- ص ٣٨٦ (أفلح عند الحساب من ندِمَ).
أقول: قافية البيت لا تنتهي بحرف مفتوح دون وصله بالألف، فصوابها: "نَدِمَا".
هذه نماذج قليلة في ١٥ ورقة من نسخة الرياض (ع)، أخطأ محقق الطبعة الجديدة في قراءتها وضبطها، أو خطَّأ الصواب فيها، ولم يفطن لتصحيح بعض الأخطاء والتحريفات الواضحة في النسخة.
وفي هذه الطبعة أسرف المحقق في الضبط والشكل، وتقسيم جملة واحدة إلى فقرات، وفَصْل الحواشي عن مواضعها ووضْعها مجموعة في آخر الكتاب (ص ٤٤٤ - ٥٩٩)، والرمز لها بـ (ت)، (م)، (ع)، (ق) أو جعْلها غفلًا من أيّ رمز، واستخدام ألوان من الزخرفة والتلوين. وهذه
المقدمة / 12
الأمور ــ وإن كانت على خلاف نهج أئمة التحقيق وأعلامه ــ لا مشاحَّة في استعمالها لو لم تشغل المحقق عن قراءة النصّ قراءة صحيحة!
وأخيرًا وقبل أن أدفع الكتاب إلى المطبعة أتحفني الأخ الفاضل الباحث النِّقاب عبد الله بن علي السليمان بنسخة ثالثة من الكتاب ضمن موسوعة "الكواكب الدراري" لابن عروة الحنبلي ج ٤٧ (نسخة الظاهرية ٥٧٢، الورقة ٩٧ ب- ١٢٤ أ)، فجزاه الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله. وبعد مقابلتها ظهر أنها تحوي القسم الأول من الكتاب، دون القسم الثاني الذي فيه عقد مجلس مناظرة. والنسخة بخط إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي سنة ٨٢٨. وخطه معروف، وقد نسخ أجزاء عديدة من "الكواكب"، ويغلب عليه الصحة. وقد استفدت من هذه النسخة تصحيح كثير من الكلمات، وأشرت إلى فروقها المهمة. ووجدتُ أن في مواضع كثيرة منها سقط كلمة أو كلمات أو سطر أو سقط كبير أشرت إلى بعضها وتركت الإشارة إلى الباقي. وكذلك فيها أخطاء وتحريفات عديدة ذكرتُ نماذج منها. وبالجملة فهي أقدم النسخ التي وصلت إلينا من الكتاب وتتفق مع نسخة الأصل غالبًا، واستفدت منها في تصحيح القسم الأول، وأشرتُ إليها برمز (ك)، وهي أفضل من نسخة (ع) التي هي أكثر تحريفًا وسقطًا منها، كما يظهر من هوامش هذه الطبعة.
وبعد، فهذه طبعة جديدة للكتاب بالاعتماد على ثلاث نسخ خطية، مع ذكر الفروق بينها والتنبيه على ما فيها من أخطاء وتحريفات،
المقدمة / 13
وتصويب ما بقي منها في الطبعة الأولى. ومهمة المحقق إزاء هذه النسخ المحرفة أن يختار النص منها بعناية، ولا يعتمد على أي واحدة منها ويجعلها أصلًا، فهي ليست مثل نسخة المؤلف أو النسخ الصحيحة التي كتبت عنها وقوبلت عليها وهي قريبة من عهد المؤلف، حتى تُجعل أصولًا معتمدة لا يُعدَل عنها.
وختامًا أدعو الله أن يوفقنا جميعًا لما فيه الخير والصلاح، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
محمد عزير شمس
بمكة المكرمة
٢٠/ ٤/ ١٤٤٠
المقدمة / 14
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا كتاب في السماع والغناء ألَّفه علم من الأعلام، بَسَط فيه الكلام على هذا الموضوع، وردَّ على جميع الشُّبه التي أُثيرت في هذا الباب، وقام بالمقارنة بين ذوق الصلاة والقرآن وذوق السماع والغناء، وبيَّن أن أحدهما منافٍ للآخر، ولا يمكن أن يجتمعا في قلب واحدٍ. ومن الغريب أن تجعله طائفة من الصوفية ذريعة لتصفية القلوب وإثارة العواطف النبيلة، وتتخذه قربةً تتقرَّب بها إلى الله، مع ما ينضم إليها من المنكرات، مثل استخدام آلات اللهو والموسيقى، والنظر إلى النساء والمردان، والرقص والطرب والدوران، والتواجد وخرق الثياب، والنخير والشخير والصياح، وكل ذلك من اللغو واللهو والباطل الذي نُهِي المسلمون عنه في القرآن الكريم.
وقد ردّ العلماء والفقهاء على أصحاب السماع، وألَّفوا كتبًا كثيرة في هذا الباب، ومن أوسعها وأشملها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، تناول فيه الإمام ابن القيم هذا الموضوع بأسلوبه المعروف، وأجرى الحوار بين صاحب الغناء وصاحب القرآن، وأورد جميع ما يحتج به أهل السماع والغناء، وناقشهم مناقشة علمية تفصيلية.
المقدمة / 15
وفي أثناء الكتاب فوائد منثورة في موضوعات مختلفة، من تفسير آية أو شرح حديث أو بيان مسألة فقهية أو ذكر شيء من مباحث العقيدة والسلوك، كما هو منهج المؤلف في سائر كتبه. وقد اعتمد كثيرًا على كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب، وخاصةً في القسم الثاني من الكتاب، وسيأتي البحث في طريقة الاستفادة منه في مبحث خاص إن شاء الله.
وهذه فصول تحتوي على دراسة الكتاب وموضوعه والأصل المعتمد عليه عند إخراجه، وغير ذلك من المباحث التي أرجو أنني قد وُفّقتُ فيها.
* موضوع الكتاب ومن ألَّف فيه:
الكتب المؤلفة في موضوع السماع كثيرة، ولستُ هنا بصدد إحصائها وبيان ما طبع منها وما لم يطبع (^١)، وإنما يُهمُّني بيان الباعث
_________
(^١) ذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون" (٢/ ١٠٠١) بعض هذه المؤلفات، وذكر بعضها عبد الحي الكتاني في "التراتيب الإدارية" (٢/ ١٣٢ - ١٣٤) ولكنه لم يُشِر إلى الكتب المؤلفة في الرد على أهل السماع إلّا قليلًا، لأن هواه كان معهم. وللمستشرق فارمر "مصادر الموسيقى العربية" (ط. القاهرة ١٩٥٧)، ذكر فيه أكثر المطبوعات والمخطوطات. وصنع عبد الحميد العلوجي، ببليوغرافيا بعنوان "رائد الموسيقى العربية" (ط. بغداد). وأورد عبد الله محمد الحبشي في "معجم الموضوعات المطروقة" (١/ ٦٣٣ - ٦٣٥، ٢/ ٩٠٢ - ٩٠٤) قائمة للكتب المؤلفة في الباب ينقصها ذكرُ عددٍ من الكتب المطبوعة المشهورة، فضلًا عن المخطوطات. وفي "المعجم الشامل للتراث العربي المخطوط" (الفقه والأصول) استقصاء النسخ الخطية لكتب السماع التي ورد ذكرها فيها، ولكنها مفرقة على الحروف تحتاج إلى تتبع واستخراج. وفي مقدمات بعض الكتب المنشورة في السماع قوائم أعدَّها محققوها، وفيها كثير من الخلط والاضطراب والتكرار، وأخطاء في أسماء الكتب والمؤلفين ووفياتهم. وينبغي الاهتمام بنشر ما لم ينشر من هذه المؤلفات.
المقدمة / 16
على التأليف فيه، وذكر أشهر من ألَّف فيه من الصوفية والظاهرية، ومن ردَّ عليهم من العلماء. وكان المُحدِّثون سبَّاقين إلى هذا الميدان، فألَّفوا كتبًا في ذم الغناء واللهو والمعازف، من أشهرها: "ذم الملاهي" لابن أبي الدنيا (ت ٢٨٢)، و"تحريم النرد والشطرنج والملاهي" للآجري (ت ٣٦٠)، ذكروا فيها الأحاديث والآثار بالأسانيد، لتحذير الناس من الاشتغال بها.
وقد كان السماع عند زهاد القرنين الأول والثاني هو سماع القرآن والأحاديث والأشعار الدينية التي تدعو إلى القيام بواجبات الشرع ونواهيه، والتذكر الدائم للوعد والوعيد، ولكنه منذ القرن الثالث تحوَّل عند الصوفية إلى أمر آخر، فجعلوا له آدابًا وشروطًا، وقسَّموه أقسامًا بحسب المستمعين، وأدخلوا فيه الغناء بآلات اللهو والمعازف، والرقص والطرب وخرق الثياب لشدة الوجد، وصدر عنهم الشخير والنخير والزعقات في مجالس السماع، واتخذوا ذلك وسيلةً لتصفية القلوب وتزكيتها، وزعموا أنه يزيد في أذواقهم ومواجيدهم الإيمانية، وأنه قربةٌ يتقرب بها إلى الله.
المقدمة / 17
ومن يراجع مؤلفات الصوفية في السلوك يجد فيها أبوابًا وفصولًا تتحدث عن السماع وآدابه وبيان تأثيره في القلوب، وتذكر أقوال الصوفية وأعمالهم في هذا المجال، وتحتج له بأخبار وآثار مروية بغضّ النظر عن ثبوتها ودلالتها على المطلوب. وهذه بعض المصادر المهمة في هذا الموضوع:
- اللمع، لأبي نصر السرَّاج (ت ٣٧٨): ص ٣٣٨ - ٣٧٤.
- التعرف لمذهب أهل التصوف، للكلاباذي (ت ٣٨٠): ص ١٩٠ - ١٩١.
- قوت القلوب، لأبي طالب المكي (ت ٣٨٦): ٢/ ٦١ - ٦٢.
- رسالة في السماع، لأبي عبد الرحمن السلمي (ت ٤١٢): مخطوطة في كوبريللي [١٦٣١].
- الرسالة القشيرية، لأبي القاسم القشيري (ت ٤٦٥): ٢/ ٥٠٤ - ٥١٩.
- إحياء علوم الدين، للغزالي (ت ٥٠٥): ٢/ ٢٦٨ - ٣٠٦.
- صفوة التصوف، لابن طاهر المقدسي (ت ٥٠٧): ص ٢٩٨ - ٣٣٠.
- عوارف المعارف، للسهروردي (ت ٦٣٢): ص ١٠٨ - ١٢١.
وبالاعتماد على هذه المصادر وغيرها ألَّفوا كتبًا مفردة في إباحة السماع، وكان لبعض الظاهرية أيضًا إسهام في هذا الميدان، مثل ابن حزم (ت ٤٥٦) الذي ألَّف "رسالة في الغناء الملهي"، وابن طاهر
المقدمة / 18
المقدسي (ت ٥٠٧) الذي ألَّف كتاب "السماع".
وقد أنكر العلماء والفقهاء من جميع المذاهب على أصحاب السماع، وردُّوا على شبههم، وأبطلوا احتجاجهم ببعض الأخبار والآثار، وناقشوا آراءهم، وألَّفوا في تحريم السماع مؤلفات مفردة، وخصصوا بعض الفصول والأبواب في كتب الفقه والأخلاق لبيان حكم السماع في الشرع. وسنذكر فيما يلي أشهر العلماء الذين ألفوا في هذا الباب:
١ - أبو الطيب الطبري (ت ٤٥٠):
له "رسالة في الرد على من يحب السماع" (^١) استفاد منها كل من ألَّف بعده في الموضوع، وهي عبارة عن فتوى، ذكر فيها أقوال الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة في الغناء، ونقل إجماع علماء الأمصار على كراهته والمنع منه، ثم ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذم الغناء، وأتبعها بأقوال الصحابة والتابعين. ثم ذكر شُبَه المفتونين بالسماع، وبيَّن حكم إنشاد الشعر وسماعه من غير تلحين، وذكر معنى التغنّي بالقرآن، وأنكر على من أباح النظر إلى المردان وزعم أنه قصد به الاستدلالَ على الصانع. وفي الأخير ذكر المؤلف سبب اشتغالهم بالسماع والنظر والرقص، وهو تناولهم لألوانٍ من الأطعمة الطيبة والمآكل الشهية مما
_________
(^١) طبعت بتحقيق مجدي فتحي السيد من دار الصحابة للتراث، بطنطا (مصر) ١٤١٠. وهي طبعة رديئة كثيرة الأخطاء والتحريفات.
المقدمة / 19
يُرغّبهم في السماع وغيره من المنكرات. ولو أنهم تقللوا من الغذاء والشراب لم يلجأوا إلى الغناء والرقص والنظر.
٢ - أبو بكر الطرطوشي (ت ٥٢٠):
ألَّف كتاب "تحريم الغناء والسماع" (^١)، ذكر فيه أقوال الأئمة أولًا، وبيَّن أن العود والطنبور وسائر الملاهي حرام، ومستمعه فاسق، ثم استدلَّ على ذلك بالآيات والأحاديث والآثار، وعقد فصلًا لبيان أن الغناء صنو الخمر في التأثير، وهو جاسوس العقل وسارق المروءة والعقول. وفي فصل آخر ذكر الإجماع على تحريم سماع الغناء من المرأة وأنها عورة. ثم ذكر احتجاج المبيحين للسماع ببعض الأحاديث وردَّ عليهم، ورد على دعوى الصوفية أنهم يسمعون الغناء بالله وفي الله. ثم ذكر شبهة أن جماعة من الصالحين سمعوه، وردَّ عليها بقوله: ما بلغنا أن أحدًا من السلف الصالح فعلَه، وإن كان فعله أحدٌ من المتأخرين فقد أ خطأ، ولا يلزم الاقتداء بقوله. ثم عقد فصلًا ذكر فيه ردَّ شيوخ الصوفية على من أباح السماع، وناقش احتجاج بعض الصوفية لإباحته.
وعقد فصلًا في كراهة قراءة القرآن بالألحان وبيَّن معنى قوله ﷺ: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، واعتبر شهوة السماع مثل شهوة الأكل، كلتاهما مذمومة، وقال: إن السماع فتنة مثل النظر إلى وجوه المردان، وردَّ على من يبيح النظر إليهم بحجة الاستدلال على الله. وفي الختام تحدث عن الرقص والطرب وتمزيق الثياب الحاصل في مثل هذه
_________
(^١) طبع بتحقيق عبد المجيد تركي، من دار الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٧ م.
المقدمة / 20
المجالس، وأن كل ذلك مخالف للمروءة.
وختم الكتاب بفصل عن اللعب بالشطرنج، وذكر أقوال الأئمة والأحاديث والآثار في تحريمه أو كراهته. وردَّ على أبي إسحاق الشيرازي القائل بإباحته.
٣ - ابن الجوزي (ت ٥٩٧):
عقد فصلًا في كتابه "تلبيس إبليس" (ص ٢٢٢ - ٢٥٠) بعنوان "ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في السماع والرقص والوجد"، ذكر فيه أن الناس تكلموا في الغناء وأطالوا، فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه ومنهم من كرهه، وفصل الخطاب أن نقول: ينبغي أن يُنظَر في ماهية الشيء ثم يُطلَق عليه الحكم. ثم ذكر أنواع الغناء، منها ما لا خلاف في إباحته، ولكن الغناء المعروف اليوم الذي يكون بألحان مختلفة بآلات المعازف، والذي يُخرِج سامعها عن حيز الاعتدال ويثير فيه حبّ الهوى والشهوات، فهذا لا يقاس بإنشاد الشعر المجرد، وغناء الحجيج والغزاة، والحداء ونشيد الأعراب، والغناء في أيام العيد وحفلات الزواج. وتسوية الغناء المعروف بالأنواع المذكورة من تلبيس إبليس الذي وقع فيه كثير من الناس.
ثم ذكر المؤلف مذاهب الأئمة الأربعة في ذم الغناء والسماع، وذكر الأدلة من القرآن والأحاديث والآثار، والعلة في النهي عن الغناء أنه يُخرج الإنسان عن الاعتدال ويغير العقل. ثم ذكر الشُّبَهَ التي تعلَّق بها من أجاز سماع الغناء، وردَّ عليها، وانتقد صنيع أبي نعيم الأصفهاني وابن طاهر المقدسي وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي طالب المكي
المقدمة / 21
والحاكم والغزالي في الاحتجاج له بأمور لا تدلُّ على المطلوب. ثم ردَّ على أولئك الذين آثروا السماع على قراءة القرآن، وجعلوه قربة إلى الله. وعقد فصولًا (ص ٢٥٠ - ٢٧٧) للرد على الصوفية في الوجد والرقص وتقطيع الثياب وصحبة المردان والنظر إليهم، فصَّل فيها الكلام على هذه الموضوعات، ولم يترك شبهة تعلقوا بها إلا ردَّ عليها.
٤ - ابن قدامة (ت ٦٢٠):
له "فتيا في ذمّ الشبّابة والرقص والسماع" (^١)، ذكر فيها أن المشتغل بهذا ساقط المروءة مردود الشهادة، وأن هذا معصية ولهو ولعب، ولا يُتقرب إلى الله بمعاصيه. ثم ذكر أقوال الأئمة في ذمه، وأنه لم يُنقَل عن النبي ﷺ ولا أحد من الصحابة أنه سمع الغناء، وإنما كان يفعله الفسَّاق. وإذا انضّم إلى ذلك النظر إلى النساء والمردان سلَب الدين وفتَن القلب، كما وردت بذلك الأحاديث والآثار. وحضور المعازف واستماع الأغاني مما ينبت النفاق في القلب، فمن أحبَّ النجاة والسلامة فعليه باتباع الكتاب والسنة ولزوم طريق السلف، فإنه الصراط المستقيم. والحق واضح لمن أراد الله هدايته.
_________
(^١) نشرها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري بالقاهرة سنة ١٣٩٧، وأعاد نشرها ضمن "الذخيرة من المصنفات الصغيرة" (١/ ٢١٥ - ٢٣٨) ط. الرياض ١٤٠٤. ونشرت أيضًا بعنوان "ذم ما عليه مدّعو التصوف من الغناء والرقص والتواجد" بتحقيق زهير الشاويش في المكتب الإسلامي بيروت ١٤٠٣ هـ.
المقدمة / 22
٥ - أبو العباس القرطبي (ت ٦٥٦):
ألف "كشف القناع عن حكم الوجد والسماع" (^١)، وصف في مقدمته سماع الصوفية في زمانه، حيث كانوا يستدعون المعروفين بصنعة الغناء ومعهم آلات اللهو والمعازف، فيغنّون في المجالس، ويقوم الحاضرون ويطربون ويرقصون، ومنهم من يكون له زعيق وزئير. وذكر أن هذا السماع لا يُختلف في تحريمه وفحشه، وخاصةً إذا جُعل ذلك من أفضل العبادات وأجلِّ القربات.
وقد بحث المؤلف هذه المسألة بطريقة علمية، حيث ذكر الدليل وأوضح وجه الدلالة منه، ثم أورد عليه أسئلة وأجاب عنها، ثم ذكر دليل المخالف وناقشه مناقشة علمية، ثم توصل إلى نتيجة. وقد حرَّر المؤلف محلَّ النزاع في المسألة، وبيَّن الصحيح من السقيم والحلال من الحرام. وقسَّم الكتاب إلى أفراد المسائل، وبحث عنها مسألة مسألة، فتحدَّث عن معنى الغناء وأقسامه وحكمه، وقراءة القرآن بالألحان، وسماع غناء المرأة والأمرد، وحكم سماع آلات اللهو، والرقص، والتواجد والوجد، وتمزيق الثياب وإلقائهم الخِرق في حال السماع. وختم الكتاب بفصلين: الأول في التحذير من البدع، والثاني في بيان سماع الصادقين وبيان أحوالهم فيه، فذكر أن سماعهم إنما كان القرآن، يتدارسونه ويتفاوضون فيه، ويتدبرون معانيه، ويستعذبونه في صلواتهم، ويأنسون به في خلواتهم. وأورد من الآيات والأحاديث والآثار ما يدلُّ على ذلك.
_________
(^١) نشره عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي في الرياض سنة ١٤١١.
المقدمة / 23