وحين جاءت أول مرة إلى الشقة، لقد اتفقا في مصر الجديدة أن تأتيه يوم الجمعة، فجاءت الخميس قائلة إنها كانت في زيارة صديقة، أممكن أن يكون هذا صحيحا؟ أم أنها حجة؟ وإذا كانت حجة، أممكن أن يكون الدافع إليها سببا يمت إلى العاطفة؟
أممكن أن يكون إصرارها على الحضور إليه وفي المواعيد بالدقة يحمل هدفا آخر غير ارتباطهما في معركة؟ خاصة وأن هذا الارتباط قد ضعف بضعف اتصالاته؟
أممكن أن يكون تنفيذها الدقيق الرائع لكل ما يكلفها به يحمل طاعة غير الطاعة التي تفرضها علاقة الجندي نحو زميله وقائده؟
أممكن كل هذا؟
كان حمزة قد وصل في تفكيره إلى آفاق مثل تلك وأبعد، ولكنه كان كعادته يوغل في الخيال والافتراض ثم يعود به برد الصباح إلى طبيعته التي تأبى أن يتحكم فيها شيء غير العلم، والعلم يقول: إن أقصر ما يوصل بين نقطتين هو الخط المستقيم، قد يكون أصعب الطرق ولكنه دائما أحسنها، فليجرب إذن الخط المستقيم.
وحين انتهى إلى هذا استراح وانطلق بلا وعي يصفر ويغادر مكانه، وذهب يبحث عن الصعيدية العجوز وقد شعر برغبة في الحديث وفي الضحك بل وفي الغناء.
ولم يجد امرأة، إنما وجد «السلطة» معدة والشقة أرضها تلمع بالغسيل والمسح.
وفي هدوء سمع المفتاح يدور في الباب، ودخل بدير يحمل كيسا من البرتقال «أبو صرة» الضخم الحجم. - ألله، حمدالله على السلامة! يعني جيت بدري النهارده، الساعة يدوبك اتناشر. - والله بصيت لقيت نفسي زهقان يا حمزة، الواحد الأيام دي ملوش نفس للشغل مش عارف ليه. - أنا عارف ليه. - ليه؟ - لازم ليلى التي في الدقي مريضة! - ليلى مين يا شيخ؟ أنت عارف أنا باتأثر من الحاجات دي، مايغركشي دا محسوبك واد تقيل يعجبك. - إزاي؟ - أنا مش امبارح كنت باسألك عن حكاية . - آه. - النهارده لقيت الحل. - بالذمة؟ ايه؟ - الحل بسيط جدا، مافيش داعي الواحد يتعب نفسه ويحاول يعرف، يستنى ويتقل لما هي من نفسها تقع بعضمة لسانها وتتكلم. - يعني لما تعترفلك هي بحبها؟ - لا مش للدرجة دي، لما يبان عليها قوي، حاكم الحاجات دي عايزة تقل. - معقول، معقول جدا.
ودخل بدير حجرة النوم وعاد وقد ارتدى الروب وهو منهمك في تقشير برتقالة ضخمة، وقال وفمه ممتلئ بنصفها: هي الولية فين؟ - خالتك أم عبده، لازم راحت تجيب الصينية، مافيش أخبار خاصة؟ - مافيش، بس فيه إشاعة كده إن الوزارة حتستقيل. - ما هي أدت دورها، خلصت على المعركة وأعلنت الأحكام العرفية. - والله الحكاية بقت نيلة قوي، تفتكر يعني حنفضل كده على طول؟ - طبعا لأ، بس لا يمكن حايحصل أي تغيير إلا إذا استؤنفت معركة القنال. - يا جدع بطل بقى، ما راحت الهوجة بتاعة زمان دلوقتي والناس خلاص سكتت، وكل واحد بيقول ابعد عن الشر وغني له. - أبدا. - أبدا ازاي؟ كل الناس كده، ما انت اهو مثلا، كنت عامل زي النحلة زمان، وادي أنت مستخبي وساكت دلوقتي.
وضحك حمزة وسأله: أنت فاكر إن أنا مستخبي خايف من الحكومة؟ - أمال يعني أنا اللي خايف؟ - إنت لسه برضه مش فاهم يا بدير، أنا مختفي وباتفادى القبض مش علشان خايف من السجن أو الاعتقال، أبدا، أنا شايف بس إن الشعب محتاجني ومحتاج لغيري عشان ننظمه وندخل بيه معركته الفاصلة؛ ولذلك أنا باعتبر نفسي أمانة من أمانات الشعب لدى نفسي لازم أحافظ عليها ولازم أحميها علشان تقوم بدورها. - إنت يا أخي عايز تمخولني واللا بتاكل بعقلي حلاوة؟ بقى عايز تقول إن نفسك يعني أمانة لدى نفسك، إيه ياخويا الكلام ده؟ - بعدين نبقى نتناقش في المسألة دي، بس المهم دلوقتي إنك توافقني على أننا لا يمكن أن نتخلص من الوزارات الخاينة دي إلا باستئناف الكفاح المسلح ضد الإنجليز؛ لأن هم العدو الأساسي. - والله ما اعتقدش. - ليه؟ - ما اعتقدش. - ليه بس؟ - مزاجي كده! الله! أنا حر يا أخي في مزاجي . - طيب أمال تعتقد ايه؟ - أصل شوف، علي ماهر ده راجل ناصح قوي، دا انا اعرفه معرفة عائلية واحنا حتى نسايب، رجل ناصح قوي، لازم تلقاه موضب مقلب محترم، مش ده المهم، الواحد جعان قوي، الله يخرب بيتك يا أم عبده، يكونشي الولية غلطت وبدل ما تروح الفرن راحت جهنم.
Página desconocida