ثانيا: متحاولش التنكر لأن عيبك إنك كداب فاشل ومش معقول، يعني إنسانيتك تحبك دلوقتي وتهتم بواحد صاحبك ومشكلته الساعة اتنين، فقوللي بتحب مين بقى سعادتك؟ - والنبي بلاش الحداقة دي ياخي، واللا إيه يعني؟ افرض حتى الشخص ده هو أنا، افرض إن أنا بحب واحدة وعايز أعرف إن كانت بتحبني واللا لأ، افرض. - ما افرضش، بتحب واحدة فعلا واللا لأ؟
فسكت بدير طويلا وأطبق أجفانه على عينيه ثم حملق في السقف وقال: أظن كده. - بتحب مين؟ - واحدة، حلوة، قوي قوي، بحبها، جدا.
ونام.
ولم يكتشف حمزة أن بدير كان نائما وهو يحدثه إلا بعد فترة، فأطفأ النور وظل جالسا يحلم وأحيانا يضحك وأحيانا أخرى يفكر جادا في إيقاظ بدير وقضاء بقية الليلة في الحديث.
9
وفي السابعة من صباح اليوم التالي كان بدير لا يزال نائما أيضا، وكان حمزة يقوم باحتياطاته اليومية، ففتح نافذة حجرة المكتب قليلا وتمم على البوابين الموجودين في العمارة المقابلة، واطمأن إلى أن عددهم لم يزد مخبرا، ثم فتح النافذة كلها بحيطة وطل برأسه وراقب أبواب البيوت الممتدة أمامه كلها والمكوجي والبقال، ثم أخرج رأسه كثيرا ليتمكن من رؤية صف المنازل الذي توجه فيه العمارة واطمأن أخيرا إلى أنه لا جديد هناك وأنه لا تزال أمامه بحبوحة من أمان، وراح يتجول في الشقة.
لم تكن به حاجة إلى التجول؛ فالصباح كان له برودة الثلج، والشقة كانت مظلمة ونوافذها مغلقة والبرد يفرخ في ظلامها ويتكاثر، وهو قد اكتفى «بالبلوفر» الذي ارتداه فوق البيجامة، وكان يأبى أن يرتدي أحد أرواب بدير الصوف ذات الدفء الفاخر المعلقة فوق الشماعة؛ فقد سمعه يقول مرة إنه لا يحب أن يستعمل أحد أشياءه، ولهذا فمن لحظة أن وضع قدمه في الشقة لم يتطفل على شيء من أشيائه حتى الفوطة، لم يكن لديه فوطة وجه فكان يجفف رأسه ووجهه في «جاكتة بيجامته» النظيفة ثم يغسلها ويعلقها حتى تجف.
ورغم البرودة فلم يكف عن تجواله، كان هناك شيء يؤرقه فلا يستطيع معه أن يستقر على قرار أو مكان، فتح حجرة المكتب، كان مزيج من النور والظلام يغطي المكتب ذا السطح الزجاجي اللامع والفوتيل الذي أمام المكتب، هناك جلست مرارا، ثم حجرة النوم، بدير لا يزال يغط في نومه وقد اختلى بالسرير ومد أطرافه كلها إلى آخرها ليستمتع بالفراش، هرم الحقائب موجود تنقصه الحقيبة الكبيرة، ترى أين ذهبت بها؟
وغادر حجرة النوم واتجه إلى المطبخ، المنضدة الرخامية البيضاء والفريجيدير، والبوتاجاز لا يزال يحمل سطحه آثار القهوة التي كان يصنعها بالأمس، القهوة، ما أجملها حين تشرب القهوة ويحمر وجهها وتبتسم وتتسع عيناها الضاحكتان بالتساؤل وبالدهشة! ودق جرس الباب وفتحه وهو نصف ذاهل، وتسلم اللبن وأخذ الجرائد التي دسها البائع منذ الصباح الباكر أسفل الباب وراح يعد الإفطار؛ فقد كان من العبث أن ينتظر حتى يصحو بدير، وغلى اللبن وأعد الشاي وحفلت المائدة الراقدة في ركن من الصالة بأدواته، وأيقظ بدير وجلسا أخيرا يتناولان الطعام ويتبادلان الجرائد.
وقال له بدير وهو يغادره إلى المكتب: إن الخادمة العجوز ستأتي وأعطاه نقودا لكي تعد لهما «صينية» في الفرن.
Página desconocida