وتجد - في ذلك اليوم من يناير - حمزة واقفا كعادته ينتظر الترام الذي يترك الصف الطويل من العربات المكدسة في أول الخط ويأخذ طريقه إلى «العتبة»، ينتظر وهو يتنفس بارتياح، فتلك المحطة كانت أيضا مركز تفاعل مستمر بين الحياة الخانقة التي يحياها في الصباح في المعاطف البيض وأحواض الصبغة وأنابيب الاختبار، وبين الحياة الرحبة والواسعة التي كانت تبدأ حين يضع قدمه على رصيف المحطة.
كان واقفا وقد أغمض عينيه قليلا خلف نظارته ليستطيع الرؤية بوضوح، وكان يرقب الناس ويتململ قلقا، وكانت الوجوه التي تقع عيناه عليها جادة صارمة، يخيل إليه أن بريقها شرر رغبات كامنة تتحرر، وانطلاق ثورة، وعندما كانت تتناهى إليه الأصوات كان يحسبها دائما حفيف مظاهرات أو جئير إضرابات، ورغم البرودة والغيوم التي تحجب وجه الشمس؛ فالدنيا كلها كان لها رائحة، رائحة خاصة ينتفض لها الجسد كرائحة فوهة بندقية حديثة الإطلاق.
واندفع ترام من أول العربات بادئا رحلته الطويلة، وبالكاد قفز إليه حمزة واحتل مكانا بين الناس الكثيرين الواقفين، وما انتهى الكمساري من بيع التذاكر حتى كان الناس قد تآلفوا تماما ورفعت من بينهم أحجبة التحفظ والغربة، واستمع حمزة إلى أحاديثهم وهو يرهف آذانه، لا مشادات ولا اعتذارات أو نكات: الإنجليز، الإنجليز، والكتايب والفدائيين وكفر عبده والدبابات، أرسكين والعساكر المصريين، أربعة إنجليز اتقتلوا، محطة المية اتنسفت، ليهم يوم ولاد الكلب، والله لنطلعهم من مصر بزفة، لو فيه سلاح، لازم السلاح، نجيبه منين؟ منين؟ م الدنيا الواسعة؟ بس لو كانوا يطلعوا لنا واحد لواحد!
وجاءت محطة حمزة بعد ثلاث محطات من بداية الخط في منتصف المسافة بين القاهرة وشبرا البلد، وحين هبط لم تكن هناك منازل ولا عمارات، مساحات واسعة من الأرض المخضرة وأعمدة تليفون وعشش مصنوعة من الصفيح وأكوام هائلة من القمامة.
ومشى قليلا في أرض مهجورة حتى وصل إلى المكان الممهد الذي نصبت فيه خيمة، وصنعت في طرف منه «تبة» ضرب نار، وأقيمت في طرف الآخر موانع من الخشب أمامها خندق محفور، وعند الخيمة وجد أيضا اليافطة المكتوب عليها بخط صغير: اللجنة العامة للكفاح المسلح، وأسفلها وبخط كبير: معسكر تدريب شبرا، ووجد اليافطة معوجة فعدلها، وأشار بيده محييا، ورد تحيته شاب أسمر ضخم يرتدي بنطلونا طويلا أصفر وفانلة لها رقبة وأكمام، وكان الشاب قد رآه قادما فغادر جلسته على التبة وأقبل ناحيته، وسلم عليه حمزة ثم دخلا إلى الخيمة يحتميان من الزمهرير، وجلس حمزة على صندوق له مقابض على جانبيه، وجلس الشاب على الأرض بجواره، وفرك حمزة كفيه ليدفئهما ونفخ في يديه دون جدوى، فقال وأسنانه تصطك: الدنيا برد. - أوي. - يا سلام على كباية شاي يا حسن! - عاوز تشرب شاي؟ - يا سلام يابو علي. - شاي، نعملولك شاي.
ومضى الشاب إلى وابور غاز برجلين اتنين، وكوز صفيح وإبريق فخار كبير مملوء بالماء وعلبة فيها سكر، وأخرج من جيب بنطلونه باكو شاي نصف أوقية، وبينما كان يشعل الوابور سأله حمزة: حدش جه؟ - ولا نفاخ النار. - فيه واحد كان مواعدني الساعة اتنين ودلوقتي وربع، ما جاش يا حسن ؟ - ما جاش. - غريبة. - ما غريب إلا الشيطان.
ثم نظر إليه الشاب وابتسم وأضاف: أنا موش مصدق. - إيه يا حسن؟ - إن حنعملو معسكر تدريب. - ليه يابو علي؟ - مش باين. - بكرة هيبان، فاهمني ازاي.
وهب الوابور وملأ الخيمة لهبا ودخانا وكاد يأتي على سقفها، فسب الشاب «ديك» الوابور وأصحابه، وبعد أن هدأت العاصفة قال لحمزة: تحبه تقيل؟ - لأ، نص نص. - بس يا أستاذ حمزة شوية السلاح اللي عندنا دول كرب قوي، دول ماينفعوش ببصلة. - ماتخافش، البرتا عندك، وريهالي. - ليه؟ - وريهالي بس.
وقام الشاب إلى صندوق آخر وفتح قفله وأخرج «برتا» لها ماسورة تلمع، وتناولها حمزة وتفحصها وأغمض عينا ونظر في ماسورتها بالعين الأخرى وهو يغمغم: مليانة وساخة، اديني شوية جاز وحتة اسطبة، دي طلياني، خدوها الانجليز من الطلينة، واحنا خدناها من الانجليز.
وغادر الصندوق الجالس فوقه، ورفع غطاءه وعسعس حتى وجد «مفك»، وأغلق الصندوق وجلس ومضى يعبث بمسامير «البرتا» ويفكها.
Página desconocida