كانت قد انتهت مرحلة التسرع واللهفة وبدأت مراحل الاطمئنان، لم يقل لها هذه المرة أحبك ولم تقلها له؛ إذ لم يعد ما بينهما كلمة تقال، بل استحالت المعاني إلى أعمال وإدراكات يمليها الحب المصفى.
كانت أفكار كهذه تدور في عقل حمزة وهو ينظر بشغف، ويتابع حركات فوزية وتقلصات وجهها وطريقتها في إعادة النظام إلى شعرها حين توقفت فجأة عن كل ما تفعله وعضت شفتها السفلى، فسألها: مالك؟ - أتاريني بقول م الصبح أنا ناسية ايه؟ يا سلام على مخي! تصور النمرة ردت النهارده ونسيت أقول لك!
واعتدل حمزة في الحال وكأن نافورة نشاط ضخمة قد تفجرت فيه، وسألها: صحيح؟ طلبتيها إمتى؟ وقال لك ايه؟ صحيح ردت؟ ازاي ساكتة م الصبح؟ ازاي تنسي؟ دي مسألة مهمة جدا، ازاي تنسي؟ قال لك إيه بالظبط؟ - الأول كان متشكك، فلما قلت له أنا خطيبتك اداني ميعاد النهارده الساعة واحدة قدام محطة السيدة، معلش، مش عارفة نسيتها ازاي!
ونظر في ساعته بلهفة، كانت الثانية عشرة والثلث، واندفع يرتدي ثيابه على عجل وقلبه يدق بالحماس؛ إذ قطعا سيعاود صلته بلجنة الكفاح المسلح عن طريق زكريا، وسألها وهو منهمك في ارتداء الجورب: وما خلتيش الميعاد بالليل ليه؟ - حاولت، قال لي إنه لازم يسافر النهاردة الساعة تلاتة، وإن دي هي الفرصة الوحيدة. - يسافر فين؟ - ما اعرفش، ما سألتوش.
وسكتت فوزية قليلا ثم قالت: آه، يا سلام على مخي! وقال لي حاجة كمان، قال لي إنك تقطع صلتك حالا برشدي؛ لأنه ثبت انه بيشتغل دلوقتي مع البوليس السياسي. - إيه! رشدي؟ - آه، دانا فضلت طول السكة اقول رشدي ، رشدي، رشدي، عشان ما انساش اسمه.
وفي ومضة اختلط وجه رشدي الدائم الاحتقان المنتفخ بالسمنة، وعيناه الصغيرتان المدسوستان في ملامحه، وابتساماته الخجلة يوم ذهب إليه في العباسية ومعه حقيبة الديناميت واعتذر وتحجج بالأولاد، اختلط هذا بأيام أن كان يعمل معهم جنبا إلى جنب في اللجنة، ولسبب ما أحس حمزة بالارتياح حين علم بتلك النهاية، كان لا يرتاح أبدا إلى شك رشدي في الآخرين، وإلى كلماته الضخمة الجوفاء، وحبه اللزج المفرط لأولاده حتى إنه كان يحمل معه صورهم دائما ويطلع عليها كل من يصادفه، ولا يتركه إلا بعد أن ينتزع منه كلمة إعجاب أو صيحة ثناء، أجل! إنه الآن مستريح؛ فمن المستحسن دائما أن نمد الخطوط إلى نهاياتها.
وقال لفوزية حين انتهى من ارتداء ثيابه: أنا ماشي، حكاية رشدي دي حمست الواحد اكتر، لازم تروحي لسعد، بعد شوية، قهوة ماتاتيا في العتبة، ورا الأوبرا، الميعاد هنا الساعة تلاتة ونص، ما تنسيش! - ما تخافش، بس الدنيا نهار وحاسب انت على نفسك، فاهمني ازاي؟
وخرجت «فاهمني ازاي» من فمها حلوة لذيذة كمذاق الآيس كريم في قيظ يونيو.
وحين غادر المدفن كان أنفه لا يزال يتنفس رائحة شعرها، وكان يحس بلوعة لفراقها مع أنه كان متأكدا أنه سيلقاها بعد ساعات.
وكان قد ذهب ما بينهما من غربة وحلت الألفة والتعود، وأصبحت في نظره عادة حيوية متجددة لا يستطيع عنها استغناء أو فراقا.
Página desconocida