بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
مقدمة الطبعة الثانية
لمختصر السيوطي "جهد القريحة في تجريد النصيحة"
لكتاب ابن تيمية
نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين:
أما بعد: فقد سبق أن حقق أستاذي الدكتور علي سامي النشار كتاب "جهد القريحة في تجريد النصيحة للإمام السيوطي (المتوفى عام ٩١١ هـ). والكتاب- كما يذكر السيوطي نفسه في مقدمته- هو تلخيص- يكاد يكون حرفيا لكتاب الإمام تقي الدين تيمية (المتوفى عام ٧٢٨ هـ) "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" وقد أثبت الدكتور النشار في تصديره للطبعة الأولى لكتاب: "صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" أن كتاب "جهد القريحة" هو كتاب مستقل تماما عن كتاب صون المنطق والكلام. ولكنه قام بتحقيق الكتابين ونشرهما في مجلد واحد، وقد رأى أستاذ الكبير الدكتور عبد الحليم محمود أن ينشر كتاب "جهد القريحة في تجريد النصيحة" منفصلا، وفي صورة جديدة.
2 / 3
وقد رأينا أن نقوم- أنا وأستاذي الدكتور علي النشار بمراجعة جديدة للكتاب على المخطوط الأصلي، ولدي صورة فوتوغرافية منه. ثم قمت بمراجعة دقيقة لمختصر السيوطي على الكتاب الكبير "الرد على المنطقين" ولم يكن هذا الكتاب قد ظهر حين نشرت الطبعة الأولى لكتاب "جهد القريحة" وقد كان صدور مختصر السيوطي لكتاب ابن تيمية هو الحافز على نشر الكتاب الكبير "الرد على المنطقين أو نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" في بمباي عام ١٣٦٨ هـ- ١٩٤٩ م. ولقد استفاد ناشره الفاضل الأستاذ عبد الصمد شرف الدين بالمختصر الذي حققه أستاذي من قبل، وأصلح الكبير من عبارات النص الكبير بهذا المختصر، كما نقل من هوامشنا في كتابه. أما نحن في طبعتنا هذه الثانية، فقد استفدنا من نشرته وأصلحت ما استدركه علينا محقق الكتاب الكبير في بعض المواضع.
وكما قمت بتنظيم كتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، قمت بتنظيم هذا الكتاب أيضا، من تقسيم للفقرات الطويلة المسترسلة في الطبعة الأولى، ومن وضع عناوين جديدة، كما أنني أضفت بعض الهوامش الجديدة.
ولا شك أن للكتاب الكبير قيمته، ولكن نلاحظ كثرة الاستطرادات فيه، والخوض في مسائل ميتافيزيقية وكلامية، مما يجعل الكتاب مملا في بعض الأحيان، وبخاصة لمن يتطلعون إلى قراءة كتاب في نقد المنطق الخالص. أما مختصر السيوطي، فقد خلا من هذه الاستطرادات. وقد ذكر السيوطي أنه حذفها. وقد فعل هذا فعلا ببراعة نادرة.
والمختصر قطعة علميه نادرة: قدمت لنا أولا: آراء علماء المسلمين في
2 / 4
نقد المنطق اليوناني في أقسامه المختلفة: الحد، والقضية، والقياس، أي الجانب السلبي في نقد المنطق، ثم آراء ابن تيمية نفسه في نقد هذه الأقسام المختلفة وكان هذا النقد أول نقد تعرفه الحياة العقلية الإنسانية في نقد المنطق الأرسططاليس نقدا منهجيا يقوم على العقل وحده. وكان نقد منطق أرسطو- قبل نقد ابن تيمية- موزعا في الكتب المتعددة. ثم قدم لنا ابن تيمية ثانيا " منطق المسلمين" أي الجانب الإنساني من منهج المسلمين الفكري. وقد سبق علماء السنة- من قبل- ابن تيمية في إقامة هذا المنطق، ولكن ابن تيمية عرضه في صورة أخاذة رائعة، ثم أضاف إليه عناصر جديدة.
ولقد كان المنطق الإسلامي التجريبي هو الروح الحقيقي المميز للحضارة الإسلامية. وقد انبثق في جوهرة عن علم إسلامي أصيل هو علم أصول الفقه. وقد عرض له في صورة تركيبية- أستاذي الدكتور علي سامي النشار في كتابه "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" وسأبين في بحث لي سيظهر قريبا إن شاء الله- ومستندة على وثائق جديدة- انتقال هذا المنطق خلال مسالك متعددة إلى العالم اللاتيني، وتأثيره الكبير في فلاسفة عصر النهضة، ثم انتقل هذا الأثر إلى الفلسفة الحديثة. لقد كان للمسلمين الفضل العظيم في اكتشاف المنهج التجريبي، وكانوا أول من تنبه في تاريخ رواد الفكر الإنساني إلى جوهره، واتخذوه أساسا لحضارتهم "وبهذا كانوا أساتذة الحضارة الأوروبية الحديثة الأولين" ولقد انبثق المنطق اليوناني عن "العقل وحده" عن العقل اليوناني المجرد، وظن الباحثون لمدة طويلة من الزمن أنه في أفق معصوم، فوق الخطأ والصواب، وجاء المسلمون- مستندين على كتابهم العظيم، وسنتهم المطهرة، فحطموا هذا الصرح، وأقاموا مستندين على السمع- أولا- منطقا آخر، ثم صدقهم العقل في منهجهم السمعي الديني
2 / 5
وتلقفه روجر بيكون، وكامبانلا، وفرنسيس بيكون، وديكارت، وسبينوزا وماليرانش، وهيوم، وجون استيورت مل.
والكتاب الذي نقدمه اليوم، هو تاريخ لمحاولة المسلمين الكبرى في إقامة هذا المنطق.
وبعد: فإني أشكر أستاذنا الكبير الدكتور عبد الحليم محمود- فقد كان له الفضل الكبير في ظهور هذا الكتاب مرة ثانية في هذه الصورة وأسأل الله أن ينفع به المسلمين والمسلمات.
١٨ محرم ١٣٩٠ هـ- ٢٦ مارس ١٩٧٠ م
سعاد علي عبد الرازق
2 / 6
كتاب جهد القريحة في تجريد النصيحة
ذكر ما لخصته من كتاب ابن تيمية
الذي ألفه في نقض قواعد المنطق
للفقير إلى عفو ربه، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي لخصته من كتاب: "نصيحة أهل الإيمان".
في الرد على منطق اليونان للعلامة: تقي بن تيمية ﵀.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل الرسل الكرام بالشرائع المطهرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بالمعجزات الواضحة النيرة، وعلى آله وأصحابه الطيبين الخيرة، وبعد فما زال الناس قديما وحديثا يعيبون من المنطق ويذمونه، ويؤلفون الكتب في ذمه وإبطال قواعده ونقضها وبيان فسادها. وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام أحد المجتهدين: تقي بن تيمية، فله في ذلك كتابان: أحدهما صغير ولم أقف عليه، والأخر مجلد في عشرين كراسا سماه: "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" وقد أردت تلخيصه في كراريس قليلة تقريبا على الطلاب، وتسهيلا على أولى الألباب. فشرعت في ذلك، وسميته "جهد القريحة في تجريد النصيحة" والله الهادي للصواب.
قال شيخ الإسلام أحد المجتهدين تقي بن تيمية في صدر كتابه الذي سماه "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان".
2 / 9
مقدمة
أما بعد: فإني كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد. ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأينا من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئًا. ولما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ولم يكن ذلك من همتي، لأن همتي كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات وتبين لي أن كثيرًا مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات مثل ما ذكروه من تركيب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانية بل ما ذكروه من الحدود التي بها تعرف التصورات بل ما ذكروه من صور القياس ومواد اليقينيات. فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنت في ذلك، لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته. فاعلم أنهم بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه، والقياس البرهاني ونوعه. قالوا: لأن العلم إما تصور وإما تصديق؛ فالطريق
2 / 10
الذي ينال به التصور هو الحد، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس فنقول الكلام في أربع مقامات، مقامين سالبين، ومقامين موجبين. فالأولان في قولهم إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد، والثاني أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس والآخران في أن الحد يفيد العلم بالتصورات وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات.
2 / 11
المقام الأول: التصور لا ينال إلا بالحد
في قولهم إن لتصور لا ينال إلا بالحد. الكلام عليه من وجوه
الأول: لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية، لا بد لها من دليل، وأما السلب بلا علم، فهو قول بلا علم، فقولهم لا تحصل التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية، فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه فكيف يكون القول بلا علم أساسًا لميزان العلم ولما يزعمون أنه آله قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكرهه؟
الثاني: أن يقال الحد يراد به نفس المحدود وليس مرادهم هنا. ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا. وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال. فيقال إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد، فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول. وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني بطل سلبهم، وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد.
الثالث: أن الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات وأهل الأعمال والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه
2 / 12
من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي زيادة في م، ولا نجد أحدًا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطلب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات عليهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.
الرابع: إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان زيادة من م وحده بالحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة. وكذا حد الشمس وأمثاله، حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود، ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدا، وكلها معترضة على أصلهم، والأصوليون ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدا، وكلها أيضًا معترضة وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل. فلو كان تصور الأشياء موقوقا عل الحدود، ألم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئًا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور فإذا لم يحصل تصور، لم يحصل تصديق، فلا يكون عند ابن آدم علم من عامة علومهم، وهذا من أعظم السفسطة.
الخامس: أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة، وهو المركب من الجنس والفصل، وهذا الحد إما متعذر أو متعسر، كما قد أقروا بذلك، وحينئٍذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائمًا أو غالبًا، وقد تصورت الحقائق، فعلم استغناء التصورات عن الحد.
السادس: أن الحدود عندهم إنما تكن للحقائق المركبة، وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما لا تركيب فيه، وهو مالا يدخل مع غيره تحت جنس كما مثله بعضهم بالعقل، فليس له حد وقد عرفوه، وهو من التصورات
2 / 13
المطلوبة عندهم، فلم استغناء التصور عن الحد، بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد، فمعرفة تلك الأنواع أولى، لأنها أقرب إلى الحس وأشخاصها مشهودة وهو يقولون: إن التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي. بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة، وتصور العقل من هذا الباب وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي.
السابع: أن سامع الحد إن لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات ألفاظه دلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فيهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى الموضوع له مسبوق بتصور المعنى. وإن كان متصورًا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه. امتنع أن يقال إنما تصوره بسماعه.
الثامن: إذا كان الحد قول الحاد، فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد تصور ما يقوله بدون لفظ والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية فكيف يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد.
التاسع: أن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والرائحة والأجسام التي تحمل هذه الصفات أو الباطنة كالجوع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهة وأمثال ذلك وكلها غنية عن الحد.
العاشر: أنهم يقولون: للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض
2 / 14
تارة وبالمعارضة أخرى ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود، عم انه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب.
الحادي عشر: أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وحينئٍذ فيقال كون العلم بديهيا أو نظريا من الأمور النسبية الإضافية فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن، والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتًا لا ينضبط فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيا لذلك أيضًا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا، ولا يحتاج إلى حد.
2 / 15
المقام الثاني: (الحد يفيد تصور الأشياء)
وهو الحد يفيد تصور الأشياء، فنقول: المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود، وتعريف حقيقته. وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليونانيون، أتباع أرسطو، ومن سلك سبيلهم تقليدًا لهم من الإسلاميين وغيرهم. فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا. وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني. وأما سائر النظار ن جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم، فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحق وابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن
2 / 16
وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي علي وأبي هاشم، وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم.
ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعًا وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم. وهم إذا تدبروا أنفسهم، وجدوا أنفسهم يعملون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية، ثم إن هذه الصناعة الوضعية زعموا أنها تفيد حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها، وكلا هذين غلط. ولما راموا ذلك، لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض، إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيًا، فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم، وما ليس كذلك، فأدى ذلك إلى التفريق بين المتماثلات، حيث جعلوا صفة ذاتية دون أخرى، مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات ممتنع. وبين المتقاربات عسر. فالمطلوب إما متعذر أو متعسر. فإن كان متعذرًا بطل بالكلية. وإن كان متعسرا، فهو بعد حصوله ليس فيه
2 / 17
فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله، فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه وعلى التقديرين، فليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد، وإن كان قد يفيد من تميز المحدود ما تفيده الأسماء.
وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه آثمة الكلام وقرر في محصلة وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة. وهذا هو حقيقة قولنا: إن الحد لا يفيد تصور المحدود.
وهذا مقام شريف ينبغي أن يعرف، فإنه لسبب إهماله دخل الفساد في العقول أو الأديان على كثير من الناس، إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جعلت بها الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى وسائر العلوم، كالطب والنحو وغير ذلك، وصاروا يعظمون أمر الحدود ويزعمون أنهم هم المحققون لذلك: وأن ما ذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية، لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم، ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهادئة، وليس ذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها، بل قد يصدها مما لا بد منه. وإثبات [الجهل] الذي هو أصل النفاق في القلوب، وإن ادعوا أنه أهل المعرفة والتحقيق. وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه، وإن كان الذي ينهي عنه السلف خيرا وأحسن من هذا إذ هو كلام في أدلة وأحكام:
2 / 18
ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين ظنوا ذلك من التحقيق. وإنما هو زيغ عن سواء الطريق. ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها، لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام، يسمونهم أهل الكلام. وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل، فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق، فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين.
والدليل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق من وجوه:
أحدها. أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فقوله مثلا حد الإنسان حيوان ناطق، قصة خيرية مجرد دعوى خلية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما يصدقها بدون هذا القول وإما أن لا يكون، فإن كان الأول، ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد، وإن كان الثاني عنده، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله، فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود، فإن قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسئول عنه مثلا أو غيره، قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماة. وهذا تحقيق ما قلناه من أن دلالة الحد كدلالة الاسم ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع فكذلك الحد.
2 / 19
الثاني: أنهم يقولون: الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل، وإنما يمكن إبطاله بالنقص والمعارضة: فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد، أمتنع أن يعرف المستمع المحدود به، إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد بقوله، وقوله محتمل الصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله. ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصل العلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب. ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أ، خبر الواحد لا يفيد العلم، وخبر الواحد وإن لم يفد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد، فإنه خبر واحد لا دليل على صدقه. بل ولا يمكن عندهم إقامة الدليل على صدقه. فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود. ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد، وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده، وحينئٍذ فلا يكون الحد أفاد التصور وهذا بين.
وتلخيصه: أن تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الحد، فلا يعلم المحدود بالحد.
الثالث: أن يقال: لو كان الحد مفيدًا لتصور المحدود، لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن يعلم المعروف المحدود قبل العلم بصحة المعروف، والعلم بصحة الحد
2 / 20
لا يحصل إلا بعد العلم [بصحة] المحدود، إذا الحد خبر عن مخبر هو المحدود. فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه، قبل تصور المخبر عنه من غير مفيد للخبر. وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر، والمخبر ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة.
والرابع: أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية والعرضية، ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع تصوره. وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد.
فثبت أنه على التقديرين لا يكون قد تصوره بالحد، وهذا بين فإنه إذا قيل: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولا يعلم أنه الإنسان احتاج إلى العلم بهذه النسبة، وإن لم يكن متصور المسمى الحيوان الناطق، احتاج إلى شيئين، تصور ذلك، والعلم بالنسبة المذكورة، وإن عرف ذلك؛ كان قد تصور الإنسان بدون الحد.
نعم، الحد قد ينبه على تصور المحدود، كما ينبه الاسم، فإن الذهن قد يكون غافلا عن الشئ، فإذا سمع اسمه وحده، أقبل بذهنه إلى الشئ الذي أشير إليه بالاسم أو الحد، فيتصوره. فتكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم، وتكون الحدود للأنواع بالصفات كالحدود الأعيان بالجهات، كما إذا قيل حد الأرض من الجانب القبلي كذا، ومن الجانب الشرقي كذا، وميزت الأرض باسمها وحدها، وحد الأرض يحتاج إليه إذا
2 / 21
خيف من الزيادة للمسمى أو النقص منه، فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس به كما يفيد الاسم، وكذلك حد النوع، وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة وبالوضعية أخرى. وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط، وتميز المحدود عن غيره لا تصور المحدود. وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم، والتسمية أمر لغوي وضعي، رجع في ذلك إلى قصد ذلك المسمى ولغته، ولهذا يقول الفقهاء من الأسماء ما يعرف حده بالشرع ومنها ما يعرف حده بالعرف. ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبين مراد المتكلم فهذا يبني على معرفة حدود كلامه. وإذا أريد به تبين صحته وتقريره، فإنه يحتاج إلى معرفة دليل بصحته، فالأول فيه بيان تصوير كلامه أو تصوير كلامه لتصوير مسميات الأسماء بالترجمة تارة لمن يكون قد تصور المسمى، ولم يعرف أن ذلك اسمه وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار إلى المسمى بحسب الإمكان إما إلى عينه، وإما إلى نظيره. ولهذا يقال الحد تارة يكون للاسم وتارة يكون للمسمى.
وآثمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا، كما ذكره الغزالي في كتاب المعيار الذي صنفه في المنطق، وكذا يوجد في كلام، ابن سينا والرازي والسهر وردي وفي غيرهم أن الحدود فائدتها من جنس فائدة الأسماء وأن ذلك من جنس الترجمة
2 / 22
بلفظ عن لفظ، ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما، بل تفسير القرآن وغيره من أنواع الكلام، هو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء وبذلك الكلام. وهذا الحدهم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة بل في قراءة جميع الكتب بل في جميع أنواع المخاطبات. فإن من قرأ كتب النحو أو الطب أو غيرهما لا بد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله "صم" ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية. ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله: "الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله".
والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبا بالنسبة إلى المستمع كلفظ ضيزي وقسورة وعسعس وأمثال ذلك. وقد يكون مشهورًا لكن لا يعلم حده بل يعلم معناه على سبيل الإجمال كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج فتبين أن تعريف الشئ إنما هو بتعريف عينه أو ما يشبهه فمن عرف عين الشئ لا يفتقر في معرفته إلى حد، ومن لم يعرفه فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه، فيؤلف له من الصفات المشبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف. ومن تدقق هذا، وجد حقيقته، وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من
2 / 23
الملائكة واليوم الآخر وما في الجنة والنار من أنواع النعيم والعذاب. وبطل قولهم في الحد.
الخامس: أن التصورة المفردة تمنع أن تكون مطلوبة؛ فيمتنع أن يعلم بالحد لأن الذهن إن كان شاعرا بها أمتنع الطلب، لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإن لم يكن شاعرًا بها أمتنع من النفس طلب مالا تشعر به فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور: فإن قيل: فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها، قيل: قد سمع هذه الأسماء، فهو يطب مسماها، كما يطلب من سمع ألفاظا لا يفهم معانيها تصور معانيها. وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلا بد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم إذ لو تصور حقيقة، ولم يكن ذلك الاسم فيها لم يكن تصور مطلوبة، فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا، وهذا ليس تصورًا بالمعنى فقط بل للمعنى ولاسمه. وهذا لا ريب أنه يكون مطلوبا.
ولكن لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبًا، وأيضا فإن المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد، بل لا بد من تعريف المحدود بل الإشارة إليه أو غير ذلك، مما لا يكتفي فيه بمجرد اللفظ. وإذا ثبت امتناع الطلب للتصورات المفردة، فأما أن تكون حاصلة للإنسان، فلا تحصل بالحد، فلا يفيد الحد التصور. وإما أن ى تكون حاصلة، فمجرد الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها، ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم. المقصود هو التسوية بين فائدة الحد وفائدة الاسم.
2 / 24