Jóvenes y Antiguos: Estudios, Crítica y Debates
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Géneros
فالشعر الذي هو «جمال التأليف» بعينه منتشر في أورشليم فرح انتشار الشرايين في الجسد، والخيال الذي هو أبو الفن وواهب الوحي والقياس للفنان كما قال بودلير، والخيال الذي يصور لنا الحياة بأبهى الألوان حتى يجعل المداس «شعريا»، الخيال الذي يحفظ للحب الذي فسد عطره الإلهي - كما في مريم فرح، وسلمى ومرتا ووردة جبران - يعزي عن يأس القلب والجسد ويحقق ظفر الروح.
الخيال الذي لا يضل؛ لأنه منبثق من الحقيقة انبثاق الروح القدس من الآب والابن، هو ملاك أورشليم هذه، ففرح القوي الخيال، المغذى بالقراءة الدسمة، خلق إستير أورشليمه مزيجا من أتالا وفرجيني، فكما حال «النذر» دون أتالا، كذلك حال الدين دون حب إستير، وماجريات القصة وما حدث في الطريق - من الدير إلى كوخ أرميا - أشبه بما جرى لفرجيني وبولس، ولكن فرجيني فطرية وإستير بنت تقاليد ضيقة وعقيدة صارمة أقلقت الدنيا ولا تزال، أما حمل إستير في ثوب كما يحمل النعش فغريب مضحك، يشبه تنبؤ الشيخ سليمان عن مصير ملك العرب، الذي يشبه «نبوءة التبعي الملك اليماني» في قصة الزير، ولو كان فرح حيا لقلت أكثر من هذا.
إن فرح أنطون مبتلى بحمى رومنتيكية أوقدت نارها القروح الاجتماعية، فعالج موضوعا واحدا - ككثير من كبار قصصي العالم - لذلك تشابهت أبطاله في ملامحها ومشاكلها، فأرميا ومخلوف توأمان، والمزرعة في «أورشليم» وفي «الدين والعلم» واحدة، ومؤسسها واحد هو الشيخ سليمان الذي هو فرح أنطون بعينه.
أما خطة القصة فيديرها فرح كقائد محنك يعرف كيف يربح المعركة الفاصلة، يسير جيوشه زحفا، أما إذا عثر بحجارة القضايا الاجتماعية فيقف ويطيل الشروح، ويثير أبحاثا عنيفة بين أبطاله تكاد تملها لولا أسلوبه الحي واندفاع قلمه المحموم، وعاطفته المتقدة الصادرة عن قلب مقروح، فإذا كنت تقرأ لتتسلى فعليك بغير فرح، تأخذ المؤلف نوبة الوعظ ولكنه وعظ حار غير مملول، ولا عجب ففرح قصصي عالج المسائل العظمى كتولستوي وغيره في «أورشليم» روايته هذه، وفي رواية «الدين والعلم والمال» و«مريم قبل التوبة»، والمسائل الصغرى في «الحب والوحوش»، وإذا جاءت عقدة الوحش كعقدة الإسكندر، فعقدة أورشليم أنشوطة - شالوطة - أما الخيط فيمسكه فرح ولا يفلته حتى النهاية، وقد يتركه معلقا - كما في الحب - ثم لا يغفل عن صغيرة مهما دقت فيعود بك إليها.
إن قصصه جميعها وخصوصا رائعته «أورشليم» غنية جدا بالأفكار، ولكنها أفكار كردستها المطالعة، وإعجابه بكل جديد.
رأى فقر الأدب العربي في زمانه فكان كمن دخل مخزنا كثيرة أصنافه وأنواعه فتحير؛ ولذلك جاءت قصصه معرضا «أمميا»، فكل المسائل التي دوخت رأسه - كانحطاط الشعوب في الدين والأخلاق والسياسة - آثارها في أورشليم - وأورشليم سبب كل علة - ولهذا جاءت بعض شخوصه حية كأنك تحدثها وتراها - إيليا، أرميا، البطرك، إستير، خالد، عمر - وبعضها تشعر بنقلها وأنها ليست بشرا بل خيالات وأشباح كأبي عبيدة، فشخصيته «باهتة» أما الباقون فبين بين، فأرميا وإن حضر كل ساعة كذاك «الذي يبقى وحده» في سفر أيوب ليحمل بشائر النحس إلى ذاك الصديق المبتلى، فحركاته طبيعية، وهو أهبل حلو يذكرني بكثيرين من الموسوسين.
يصور فرح لواعج أبطاله تصويرا بارعا، فهو خبير إلى حد بعيد بالتفاعل الداخلي، كما يظهر من وصفه انقلاب إيليا، ولكن الوصف المشهدي قليل عنده ولا سيما في أورشليم التي جاءت كصورة جميلة بلا إطار، فقارئ لم يزر القدس يجهل ساحة حرب أبطاله، أظن فرح أن كل مسيحي يعرف القدس وبيت لحم، وكل مسلم يعرف المسجد الأقصى والصخرة؟ أم ترك للمسيحي أن يتخيلها كما يتخيل المسيح؟ أم توهم أن بعض رسوم طبعها في أول الكتاب تقوم بحاجة القارئ الملحة، وتستر عورة الفن ؟
هب أن هذا ممكن فأين تقع المزرعة وهي من مشاهد القصة الكبرى؟ فوصفها الوجيز المبهم يطابق لبنان لا فلسطين، «يظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القحلة الجافة في النواحي، أن صاحب المزرعة أتى ضروب المعجزات ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة» (ص68).
إن أورشليم الجديدة رواية غنائية في أسلوبها الذي يرتفع وينحط، عملية واقعية في تفكيرها، أما مأساتها فمبتذلة، ولكن البشرة التي نشرها فرح على هيكلها جعلتها زينة بين عرائس الأدب، عالج فيها مسألة خطيرة جدا، مسألة الرهبان، فجاءت كأنها كتبت عنا، ولا يشين فرح أن آراءه فيهم مستعارة من منتسكيو، فالجماعة هم هم قديما وحديثا وفي كل زمان ومكان، عشق فرح المثل الأعلى عشقا جنونيا وحاول إصلاح الإنسانية بعنف، فصار نصحه تحاملا وتوبيخه صراعا، وكما حمل يسوع خطايا العالم - كما قالوا لنا - حمل فرح آلام المساكين ونصب نفسه وكيلا مسخرا، وإذا لم يجد من يصلبه صلب نفسه.
ففرح كاتب يمثل عصرا بل شعور شعب أثقل ظهره الكتبة والفرينسيون بالأحمال الثقيلة ولم يحركوها بإحدى أصابعهم، فبينما يكون أشخاصه منهمكين في الحب، إذا به يحولهم إلى شئونه وشجونه؛ ولهذا تراه لا يمتزج بهم ولا يتحد الاتحاد الكلي المطلوب من القصصي الكامل، إنه يحب التغلغل في أحشاء الماضي مفتشا عن «الكمال» الضائع بين الأمس واليوم، فالذي يطلب من رجال الدين ألا يتحولوا كالذي يطلب من الفضة ألا تتسخ وتزرق، فالنخالة نخالة دائما.
Página desconocida