Jóvenes y Antiguos: Estudios, Crítica y Debates
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Géneros
ولكن فرح أنطون أغرب جدا في الاستنباط، وكان أعظم من الله في «الخلق»، فرجل مثل متى حاروم - ابن ثغر نشأ على سيف البحر وفي صيدا الحامية كالتنور - لا يستطيع أن يحيا في رأس القضيب شهرا واحدا فكيف بالسنين! فهذا ما يعجز عنه ابن بقعكفرا وهي أعلى ضيعة في لبنان، الوحوش ترحل عن تلك الأرض في الشتاء لتشتي بالأقاليم المعتدلة، فهل يستطيع تاجر مرفه كمتى هذا أن يعيش هناك كما وصفه لنا فرح: «فعلما - أي سليم وكليم - أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه؛ فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحو الظلم والشر، ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا، وقد افتقد كليم وسليم كوخه ومعيشته فوجدا أنه يعيش في أسوأ الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش المعتدية التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام يظل فيها مخبوءا في كوخه الحقير، لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل، وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير زلقا لا مشيا كأنه سائح فوق ثلوج القطبين» (51).
قرأنا عن سليم وكليم أنهما لم يطيقا برد جبل الأرز صيفا، أفلا تكون الحياة في الشتاء معجزة المعجزات؟! وقول فرح «وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات» لا يجعل الأمر ممكنا، ولكن الأستاذ أراد أن يتبع خطة ديماس، فأغرب كبونسون دي ترايل.
أما شخصية مخلوف المجنون الثاني فأجاد في خلقها كل الإجادة، كمخلوف أبرز أشخاص القصة، طبيعي في كل شيء، في حواره وتفكيره، وحركاته وسكناته، ونفسيته وحكماته، ومشهده مع حبيبته، حين رآها في الأرز من أروع المواقف.
وقد لحظت في هذه القصة وفي أورشليم الجديدة إجادة فرح في تصوير المعتوهين وإنطاقهم، وتركه هذا المجنون يطوف في البلاد واقعي جدا في أرضنا، وهذا ما عرفناه عن المجانين، وليس في حديث مخلوف وأطواره أدنى غرابة، فقد رأينا بأعيننا وسمعنا بأذننا معتوه حمانا، فيلسوف الشاغور، يكتب آياته على الصخور بالقلم العريض، بل بالفحمة الغليظة، وأبرزها قوله: من خلق علق، إنها لحكمة جموح يتمنى الفلاسفة الكبار أن تكون لهم.
كان اجتماع إميليا بأبيها قريبا من التصديق لولا هذا الجو الذي وضع فيه متى حاروم، يتراءى لي أن فرح أنطون أحب الأرز حتى العبادة، فأراد أن يجترح فيه عجيبة تصديقا للتسمية، أفليس هو أرز الرب؟
أما بقية الأشخاص فطوع قلم فرح، وإن تعقد الحوار أحيانا، ففرح ابن مدينة أراد أن يصف أطوارا قروية رآها مرة أو مرتين - وهذا لا يكفي - فجاء عمله أحيانا مطابقا للواقع وأحيانا لا، ففي الحوار ما هو جيد كقول كلدن للوقا طمعون: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم.
فعندي أن استعمال «مستر» للوقا وخواجة لمتى فيه تدقيق وفن، وكذلك قول إميليا للوقا: يا ظالم، تخرب بيته، وتميت زوجته، وتهرب ابنته، وتبيع منزله وتمحو آثاره ... إلخ.
ثم بالعكس قولها له بعدئذ: «قل فأملأ فاك درا» فهذه نابية، وكان على الأستاذ أن يقول: «فمك» بدلا من «فاك» على الأقل، فهي أقرب إلى حديثنا من تلك.
وأشنع من هذه سؤال كليم للمكاري: هل ظهر نجم الصباح يا جرجس؟ فأجابه المكاري بأبشع: سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فيقول كليم: فلنعجل إذن، فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارا من الحر. فوطيسها تركية في أذن المكاري اللبناني، ومثل هذا قول كليم أيضا لرفيقه سليم: هل نركب يا سليم، فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولا.
فكيف غفل فرح عن هذا وهو يعلم أن في الحوار كل جمال القصة، وهناك طفيليات علقها فرح كالقراد في جسم قصته، كبعض حكايات من العقد الفريد، لا يتسع المجال لسردها كلها، وفي الحدث يقلد فرح الشدياق ولكنه لا يوفق، يقول المستر كلدن: يس يس سنأمل يوم كلدن في الهرز، يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز (ص53)، ثم في اليوم الثاني يرينا المستر كلدن فصيحا كأنه بدوي لا لكنة ولا رطانة.
Página desconocida