Genocidio: La Tierra, la Raza y la Historia
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Géneros
بعد زوال نشوة النصر وعودة الحياة إلى طبيعتها لم تكن الأوضاع الاقتصادية للمدينة على ما يرام؛ فالحرب أثرت على طريق التجار الذي كان يمر من وان، فأدى ذلك إلى شحة في توافر الاحتياجات الضرورية للسكان، وقلت العملة بيد الناس، وارتفعت أسعار السلع إلى ضعفين أو أكثر، كانت الجهة الغربية والجنوبية للمدينة موصدة في وجه التجار الأرمن؛ لأنها تحت سيطرة العثمانيين، وفي الجهة الأخرى روسيا كانت تمر أيضا بأزمة اقتصادية بسبب الحرب الكبرى، فلا تستطيع توفير ما يسد رمق الناس تحت ظل سيطرتها، بل العكس كانت تعمل على تصدير خيرات المدن التي سقطت بيدها نحو مدن روسيا لتخفف الغضب الشعبي من تردي الأوضاع المعيشية.
بدأ السكان يتحسرون على أيام العثمانيين في الخفاء، شعروا بأنهم كانوا في نعيم من العيش لم يدركوها. سمع أرتين في المقهى قرب الخان أحدهم يقول لصاحبه: لقد كانت أحلام الحزب والثوار وردية إلى حد كبير، هل كانوا يظنون أن حكم البلاد أمر يسير إلى هذا الحد؟! وأن غاية الناس أن يعود الحكم للأرمن مهما كانت النتيجة؟! هذا الغباء بعينه، إن الناس لا يهمهم من يحكمهم إن كان أرمنيا أم تركيا بقدر ما يهمهم من يوفر لهم سبل العيش، وكثرة الموارد، وتوفر العمل. لربما لا تصدقني إن أخبرتك منذ سيطرة الروس على المدينة وتنصيب مانوكيان حاكما عليها لم يدخل بيتنا ليرة واحدة؟! انظر إلى تلك الدكاكين المحترقة على امتداد السوق، إنها لتجار الأكراد والأتراك كانت تغذي المدينة بكل ما تحتاجه، وتوفر العمل للكثير من أبنائها، ولم يكن أولئك الأتراك أو الأكراد يفرقون بين أرمني وكردي أو تركي. رد صاحبه: صدقت والله، لقد كنا جيرانا منذ أمد بعيد ولم يحصل بيننا إلا كل خير، ما لنا ولهذا الأمر كله، هم يتنعمون بالخيرات مع الروس، ونحن لا نحصد سوى الجوع والعوز، وإن عاد الجيش العثماني فسنكون نحن الضحية، وهم سيفرون مع من أتوا بهم.
كان هاجس الخوف بين الأهالي في وان يدور حول ما سيحصل بمصيرهم إذا انتهت الحرب الكبرى بهزيمة الحلفاء، وبالأخص «الروس»، كيف سنواجه الوعيد العثماني بعدما وضعونا في قائمة الخيانة العظمى للأرض والوطن؟
لربما لم يفكروا بهذه المخاوف إلا بعد السيطرة على المدن ونزوح قاطنيها من الأتراك والأكراد والمذابح التي جرت للباقين منهم، فتحولت جراءها القضية في تلك المناطق إلى بقاء الطرف الأقوى على الأرض، لا يمكن العودة إلى التعايش المشترك بين الطرفين مرة أخرى وكأنهم عبروا نقطة اللارجوع، لا يمكن أن يعيش على هذه الأرض الأرمن مع الأتراك والأكراد من جديد. •••
كان المختار تلمكيان طريح الفراش، غير راض بما آلت إليه أوضاع البلاد، على الرغم من أن القرية لم تتأثر كثيرا بالأوضاع الاقتصادية المتردية في المدينة بسبب اعتمادهم على الزراعة وتربية الحيوانات، إلا أن المختار تلمكيان كانت له نظرة بعيدة ولم يؤثر في رأيه السابق انتصار الثورة وبلوغ الغاية بالحكم الذاتي.
قبل رأسه أرتين وطلب رضاه، ثم جلس قربه على كرسي خشبي، كانت غرفة المختار دافئة بالرغم من البرد القارس في الخارج، ورائحة حساء الفطر المجفف تملؤها، أقبلت أمه وهي تحمل وعاء فخاريا بيدها وملعقة خشبية، سكبت لهما وجلست قرب النار تتمتم بأدعية، وتدعو يسوع بأن يشفي زوجها ويعيد له صحته.
تناول أرتين ملعقتين من الحساء وهو يراقب والده الذي كان يأكل ببطء شديد، وشعر أنه غير آبه بوجوده بعدما علم بعمل أرتين مع الثوار سنوات طويلة دون علمه ورضاه. - أبي، ها قد انتصرت الثورة وبلغنا الغاية.
ارتسمت على وجه المختار ابتسامة صغيرة ورد هازئا: انتصار! أمتأكد من ذلك يا بني؟ - بعد شفائك سآخذك إلى المدينة لترى بعينك، لربما هنا في القرية لا يمكن تمييز ذلك، لقد وضعوا مانوكيان الأرمني حاكما على وان بدلا من واليها العثماني، وتم بناء قوات أرمنية لتحافظ على أمن المدينة، وتحول الثوار من مقاتلين إلى جنود منظمين، وهذه حال الدول الفتية يا أبي، تبدأ ضعيفة متكئة على حليف قوي حتى تقوى ساعدها وتبني مؤسساتها وتقف وحدها وتستمر. - لكن الحرب لم تنته بعد، والعثمانيون ينتهزون الفرصة ليعيدوا هذه المدن تحت سيطرتهم، ومن اتكأتم عليها تفكر في مصالحها قبل كل شيء، وإن حصل تعارض بينكم وبين تلك المصالح فسيتركونكم لقمة سائغة للضباع. عندما كنت طفلا صغيرا يا بني حدثت حرب بين الدولتين، واستطاع الروس بلوغ مشارف الآستانة، وفرح الأرمن بتلك الانتصارات واستبشروا خيرا بأن روسيا ستعيد لهم حقوقهم المسلوبة بإقامة دولة أرمينيا المستقلة، لكن فجأة جلسوا على طاولة المفاوضات ووقعوا معاهدة بينهما، حصدت روسيا منها ما تريد وبقيت الأرض للعثمانيين.
ساد صمت بينهما، تذكر أرتين كلام السيد كيفورك في يريفان بالمركز التدريبي، عندما ذكر لهم أحداث الحرب وتلك المعاهدة الغريبة في توقيتها، الروس لا يؤتمنون وليس لهم صديق دائم ولا عدو دائم، الصديق الدائم هو مصالحهم فقط، سرى فيه شعور بالخوف وأحس أن كلام والده فيه من الخطورة الكثير، إن صدق ما يلمح إليه فإن حياة الأرمن على المحك، لكن ما من سبيل ولا خيار آخر، ولا يمكن العودة إلى الوراء، الذي حصل بين الأرمن والعثمانيين كعقارب الساعة يستحيل أن تدور للخلف وتعيد أيام الألفة والتعايش.
الفصل الحادي والأربعون
Página desconocida