لم يأت سليم على آخر خطاب سلمى حتى هاجت عواطفه وتناثر الدمع من عينيه، وأخذ يعيد قراءته في تدبر وإمعان، ثم تذكر ما لمسه في سلمى من صدق المحبة والوداد وكمال الخلق والعقل، ثم يقارن ذلك بالأسباب التي بنى عليها اتهامها واتهام حبيب، فلاح له أنه ظلمهما، وأن داود القبيح الوجه لا يمكن أن تحبه فتاة مثل سلمى، كما أن دعواه ضدها وضد حبيب، باعترافه هو نفسه، ليس في يده عليها أي دليل !
وأخذ يتذكر الورقة التي وجدها في رواية حبيب، فلاح له أيضا أن خطها مختلف عن خط سلمى قليلا. فاستبدت به الوساوس وبقي وقتا غير قصير وهو شارد الذهن حائره. ثم أفاق من ذهوله وهم بقراءة خطاب سلمى مرة أخرى، لكنه أشفق على رأسه أن يتصدع من تضارب العوامل المختلفة فيه، فطواه ووضعه في جيبه، ثم تناول من بين الخطابات خطابا آخر كتب بخط يشبه الخط الذي كتبت به خطابات والدته إليه، فتذكر أن السيدة وردة أخبرته بأن والدته كانت قد أرسلت إليه خطابا طلبت إليه فيه الحضور من القاهرة. وما كاد يفضه ويقرأ أول سطر فيه حتى أخذته الدهشة، إذ وجد أنه موجه إلى شخص آخر سواه. فأعاد النظر إلى العنوان المكتوب على الظرف فإذا هو عنوانه كاملا غير منقوص.
ثم لاحظ أن الشخص الموجه إليه الخطاب من الداخل اسمه داود، فتذكر ذلك الرجل القبيح الوجه الذي علم منه بخيانة سلمى وحبيب. ومضى يقرأ الخطاب لعل فيه ما يكشف سر إرساله إليه فإذا فيه:
عزيزي الأجل الماجد الخواجة داود
بعد السؤال عن صحتك الغالية، نخبرك بأننا تلقينا خطابك الذي أرسلته عقب وصولك إلى القاهرة، وسررنا كثيرا لنجاح حيلتك اللطيفة مع الشخص المعروف، حتى إنه صدق الحكاية التي اخترعتها عن خيانة الفتاة، وبدت في وجهه أمارات الغيظ والقلق.
كما أننا تلقينا خطابك التالي الذي بشرتنا فيه بنجاح سعيدة في سرقة الخطاب الذي أرسلناه إليه باسم والدته محذرة إياه أن يستمر في علاقته بالفتاة وتتهمها وأسرتها بالمكر والخداع. ثم نجاح سعيدة في إطلاع الفتاة على ذلك الخطاب، الأمر الذي أثارها وحملها على مقاطعته وإحلاله مما بينهما من العهود.
ولكن مضت مدة غير قصيرة دون أن تتلقى أم صاحبنا أي رد على خطاباته إليه، وأنت تعلم أن الانتظار يكلفنا مشاق ونفقات جسيمة في التقرب إلى والدته وغير ذلك، ولولا أن إميلي ميالة إليه ما تكبدنا كل ذلك العناء. وعلى كل حال أخبرك بأنني أغريت والدته بالكتابة إليه لكي يحضر إلى هنا. وقد كتبت بنفسي مع خطابي هذا إليك خطابا إليه على لسانها، فعليك أن تستمر في مراقبته لترى ما يصنع بعد أن يتلقى خطاب والدته المذكور. ولك أزكى تحياتي وأشواقي وحبي ...
وردة
انقشعت الغشاوة بعد ذلك عن عيني سليم، ووقف على سر المؤامرة التي دبرتها وردة مع داود وسعيدة للتفريق بينه وبين سلمى. ولم يتمالك عواطفه بعد ذلك، فانهمرت دموعه حزنا وندما على ما جعله يفرط في حق سلمى ويتهمها ظلما وعدوانا. ثم انقطع فجأة عن البكاء وأخذ في الضحك بصوت عال فرحا بظهور براءة سلمى وحبيب، ونجاته من الفخ الذي نصبته لإيقاعه وردة وصاحبها اللعين داود.
وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدته، فما كاد يراها حتى قال لها: «أغلقي باب الغرفة من الداخل وتعالي.»
Página desconocida