وبعد قليل، خرج حبيب من الغرفة ومعه والدة سلمى. ومرا بها دون أن يشعرا بوجودها هناك، وانتحيا ناحية وقفا يتهامسان فيها، فزادها ذلك شكا في براءة العلاقة بين حبيب وسلمى. ولم تطق البقاء في مجلسها فنهضت محنقة ودخلت غرفة الجلوس، وجلست متجلدة في ناحية منها تجاه أبيها، دون أن تنبس بكلمة.
ولم تمض دقائق حتى وافتهما والدتها، ثم والدة سلمى ومعها حبيب، وجلس الجميع يتبادلون الحديث عن مرض سلمى وتمنياتهم لها بعاجل الشفاء. ثم نهض حبيب وانصرف بعد أن حياهم مودعا. ولاحظت أدما أنه لم ينظر إليها ولم يوجه لها أية كلمة، فتحققت صحة ظنونها واتهاماتها؛ فغلا الدم في عروقها، ولم تستطع صبرا على كبت غيظها وحزنها، فتظاهرت بتوعك صحتها واستأذنت والديها في أن تسبقهما إلى المنزل لتعتكف وتستريح، ثم حيت والدة سلمى وانصرفت مسرعة لا تلوي على شيء. •••
كان حبيب قد وصل إلى منزله في حلوان ومعه والدة سليم، ففوجئا بأن سليما غادر المنزل عند الأصيل ليتمشى بعض الوقت في الحديقة العامة، لكنه لم يعد.
ونزلت المفاجأة نزول الصاعقة على قلب أمه وعلى قلب حبيب، وعبثا حاولت والدته وشقيقته أن تهونا الأمر على والدة سليم، وأن تقنعاها بأنه عوفي من مرضه ولعله عاد إلى القاهرة لأمر عاجل يتعلق بعمله ولا يلبث أن يعود. وأخيرا رضيت أن تنتظر هناك ريثما يعود حبيب إلى القاهرة ويأتي بسليم منها.
وسارع حبيب إلى القاهرة، وتوجه إلى غرفة سليم فلم يجده فيها، لكنه علم بأنه أمضى فيها الليلة السابقة، فانصرف من هناك إلى البحث عنه، فلم يجده في المكتب ولا في غيره من الأمكنة التي يغشاها. ثم لاح له أن يسأل عنه في منزل سلمى، فمضى إلى هناك وهو في منتهى القلق والاضطراب، وحسبت والدة سلمى أنه جاء ليسأل عن صحتها، وقادته إلى غرفتها كي يعودها، ففوجئ بوجود أدما، ولم يستطع لشدة اضطرابه أن يحسن لقاءها، فتشاغل بالحديث مع سلمى والاستفسار عن صحتها. ثم انتهز فرصة خروج أدما وخرج ومعه والدة سلمى مودعة، فسألها عن سليم ولما علم بأنه لم يزرهم منذ أيام، لم يشأ أن يخبرهم بأمر مرضه واختفائه لئلا يزيد في قلقهم، وزعم أنه يبحث عنه لشأن خاص، ولعله سافر إلى خارج القاهرة لعمل يتعلق بمهنته. ثم غادر المنزل لمواصلة البحث عن سليم وقد اشتد قلقه عليه خشية أن يكون يأسه قد دفعه إلى الانتحار. ولم تكن أدما تدري شيئا من ذلك كله فتوهمت أن حبيبا تعمد تجاهلها واتخذت من ذلك قرينة تعزز اتهامها إياه.
ولما يئس حبيب من وجود سليم في القاهرة، عاد إلى حلوان راجيا أن يجده سبقه عائدا إلى هناك، لكنه ما كاد يصل إلى المحطة حتى لمح والدته ووالدة سليم في انتظار القطار، فسقط في يده. ولم يجد هو ووالدته تعليلا مقنعا لاختفاء سليم. وخيل لوالدته أن حبيبا ووالدته يعلمان سبب اختفاء ولدها لكنهما يكتمانه إشفاقا عليها، فازداد جزعها ولم تعد تستطيع صبرا وتجلدا، فأخذت تلطم وجهها وتصرخ مولولة لعظم فجيعتها بفقده، وهمت بيد حبيب محاولة تقبيلها وهي تقول: «لا تكتم عني شيئا، قل إن سليما مات أو انتحر. آه يا ولدي وفلذة كبدي! لقد كنت أنا سبب فقدك، فليتني مت قبل هذا، أو ليتني لم أعارض رغبتك.» والتف حولهم جمهور كبير من الهابطين من القطار والصاعدين إليه. واستمرت في لطمها وندبها وعويلها حتى تحرك القطار عائدا إلى القاهرة فتعلق به حبيب وهو يقول لها: «ها إني راجع إلى القاهرة للبحث عنه ولن أرجع إلا وهو معي إن شاء الله.»
ولم يسع والدة سليم إلا أن تعود إلى منزل حبيب مع والدته في انتظار ما يكون. ولكنها لم تنقطع عن النواح، ولم ترض أن تذوق أي طعام. •••
وصل سليم إلى الإسكندرية وهو في حالة يرثى لها من الضعف والاضطراب، وكان كلما حاول أن يتناسى سلمى وتصور ما وقف عليه من علاقتها بصديقه حبيب هاجت أشجانه وسخط على الحب والصداقة، غير أنه كان لا يلبث قليلا حتى يعود بذاكرته إلى سابق عهده بسلمى وحبيب، وما لمسه فيهما من التفاني في المودة والوفاء. وهكذا لبث طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية نهبا لهذه العوامل المتضاربة حتى كاد عقله أن يطير من رأسه لفرط تحيره وتردده.
واستقل عربة أوصلته إلى المنزل الذي تقطنه والدته مع شقيقه فؤاد وقرينته. فلما قرع الباب فتحته خادم لا يعرفها وسألته عمن يريد، فحسب أن والدته وشقيقه انتقلا من ذلك المنزل، وسأل الخادم: «أليس هذا منزل الخواجة فؤاد؟» فقالت: «نعم، ولكنه خرج منذ قليل ولن يعود قبل ساعتين.»
فقال لها: «أليست والدته أو قرينته هنا الآن؟»
Página desconocida