شكر وتقدير
تمهيد
1 - مقدمة
الجزء الأول: التطور: الأساس الجيني للسعي
2 - الوحدة والتنوع في الكائنات الحية
3 - النباتات والجراثيم: أصل الرؤية
4 - الحيوانات والإنسان: تطور الصفات البشرية
الجزء الثاني: الهيمنة: عواقب سعي الإنسان
5 - الخروج من أفريقيا: الاستكشاف والتوسع
6 - السلم: المحن والإنجازات
7 - الحضارة 1: المدن والمعابد
8 - الحضارة 2: التواصل والثقافة
9 - التكنولوجيا: الحرب والرخاء
10 - الدين: الإيمان والعقيدة
11 - العلم: التفسير والتجريب
الجزء الثالث: الجدل الدائر: السعي الحالي
12 - التلاعب بالجينات 1: الأطعمة المعدلة جينيا
13 - التلاعب بالجينات 2: البشر المعدلون جينيا
الجزء الرابع: تأمل متبصر: نظرة مستقبلية
14 - انقراض الفضول البشري أم بقاؤه؟
الخاتمة
مسرد المصطلحات
المراجع
شكر وتقدير
تمهيد
1 - مقدمة
الجزء الأول: التطور: الأساس الجيني للسعي
2 - الوحدة والتنوع في الكائنات الحية
3 - النباتات والجراثيم: أصل الرؤية
4 - الحيوانات والإنسان: تطور الصفات البشرية
الجزء الثاني: الهيمنة: عواقب سعي الإنسان
5 - الخروج من أفريقيا: الاستكشاف والتوسع
6 - السلم: المحن والإنجازات
7 - الحضارة 1: المدن والمعابد
8 - الحضارة 2: التواصل والثقافة
9 - التكنولوجيا: الحرب والرخاء
10 - الدين: الإيمان والعقيدة
11 - العلم: التفسير والتجريب
الجزء الثالث: الجدل الدائر: السعي الحالي
12 - التلاعب بالجينات 1: الأطعمة المعدلة جينيا
13 - التلاعب بالجينات 2: البشر المعدلون جينيا
الجزء الرابع: تأمل متبصر: نظرة مستقبلية
14 - انقراض الفضول البشري أم بقاؤه؟
الخاتمة
مسرد المصطلحات
المراجع
جوهر الإنسانية
جوهر الإنسانية
سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
تأليف
تشارلز باسترناك
ترجمة
زينب عاطف
مراجعة
محمد فتحي خضر
إلى جوليا (أوليفيا)، وهيلين، ومارجريت، وأودري، ومادلين، وآيريس، اللاتي دعمن رحلة سعيي على مدار نصف قرن.
شكر وتقدير
أنا ممتن أولا وقبل كل شيء لكل من جون إليس وأرني بيترسون وجيمس روجرز لقراءتهم أجزاء كبيرة من الكتاب ولتعليقاتهم البناءة. راجع كثير من الزملاء الآخرين أقساما معينة من الكتاب وقدموا معلومات مفيدة؛ من بين هؤلاء ليزلي عبديلا وليزلي آيللو وروي أندرسون وفنسينت آنج ووالاس آرثر وريتشارد أسر وفرانسواز باربيرا-فريدمان وليندسي باشفورد ودوت بينيت وباروخ بلومبرج ونايجل براون وستيوارت براون وبول سيسليتيرا وبروفيسي كولز وريتشارد دوكينز ونويل ديلي و(السير) ريتشارد دول وجابريل دوفر ودونالد إدموندز ومارك فيشر وميكي جيتوندي وفرانك هاي وأدريان هيل و(السير) جون كريبس وستيوارت نوتون وروبرت كروشنيسكي وديفيد جونز وكريس ليفر وستيفن مالتن وآن مكلارين و(اللورد) روبرت ماي ودنيس ميتشيسون وريتشارد موكسون وستيف نوسي وجوفينداراجان بادمانابان و(الراحل) روي بورتر ومارك ريدلي وإيان روبنسون وجورج رولاند وريتشارد رادجلي وتشارلز شو وكريستوفر سترينجر وكيث طومسون و(السير) آلان والترز ودنيس فون دير فايد وآن وكريستوفر ويدنل وإنديميون ويلكنسون وديفيد وينتربورن ولويس ولبرت. بطبيعة الحال أنا أتحمل المسئولية كاملة عن أي أخطاء في الحقائق أو أي تفسيرات غفلت عنها.
إلى أنثيا مورتون-سانير من وكالة كورتس براون، وكيرك جينسون من مطبعة جامعة أكسفورد في نيويورك، أشكرهما على إقناعي بعدم تأليف كتاب عن العلم في الدول النامية، وتحويل تفكيري إلى اتجاه آخر. ولقد تحمل ديفيد سميث من وكالة أنيت جرين للمؤلفين وسالي سميث من شركة جون وايلي آند صنز المحدودة تحدي هذا الكتاب، وكانا مسئولين عن خروج الكتاب للنور بمساعدة تحرير ليزلي ونشستر الرائع.
أعبر كذلك عن تقديري لصبر رؤساء القسم المتعاقبين في جامعة القديس جورج - أولا مايك كليمنس ثم ليندسي باشفورد - لسماحهم لي في الاستمرار في استخدام مكتبي، الذي كان من فوائده الأخرى الحصول على اهتمام رائع من ستيفانينا بيلك في أثناء عملي على هذا الكتاب. كما حصلت على مساعدة لا تقدر بثمن من فريق عمل المكتبة البريطانية ومكتبة لندن ومكتبات كنسينجتون وتشيلسي ومكتبة كلية الطب في جامعة القديس جورج ومكتبة الكلية الإمبريالية. وينطبق الأمر نفسه على صيانة نيك رامزي لجهاز الكمبيوتر المحمول العتيق الذي أمتلكه.
أدين بالكثير لهيلين وبيل رامزي؛ لتوفيرهما جوا من الهدوء في منزلهما الإسباني متى احتجت إلى ذلك.
لندن وألمرية، 2003
تمهيد
ألف تشارلز باسترناك كتابا مثيرا للاهتمام يدور حول السعي المستمر، أحد أكثر السمات المحيرة في البشر، وربما الحيوانات الأخرى. وهو يتناول هذا الموضوع من منظور علم الأحياء الحديث، المبني في جزء كبير منه على المبدأ الذي سار عليه طوال القرن الماضي على الأقل؛ وهو أن الأحياء يمكن تفسيرها من منظور كيميائي، وأن الكيمياء يمكن تفسيرها من منظور فيزيائي. لكن من المعروف أن التفسير التحليلي للعمليات التي تتعرض لها العناصر الكيميائية وحده لن يقدم تفسيرا مرضيا أو عمليا يمكنه أن يؤدي إلى التطبيق أو التدخل، فلا بد أيضا من فهم التفاعلات المعقدة التي تحدث بمرور الوقت بين العمليات المنفصلة بعضها مع بعض، وطريقة التفاعل الكامل للكائن مع الثراء الهائل في بيئته ومع الكائنات الأخرى التي يقابلها، تلك التي تشبهه والتي لا تشبهه. يصف جورج بيريك في روايته المثيرة للاهتمام «الحياة: دليل المستخدم» (التي ترجمها دي بيلوس، كولينز هارفيل، لندن 1988) أحجية الصور المقطعة في شكل يعبر على نحو استعاري مفيد عن أخطار وجود علم اختزالي بالكامل؛ فالدراسة المتعمقة لجزء واحد من الأحجية لا تقدم أي دليل مقارنة بدراسة النمط بأكمله، وفقط عند الانتهاء من تكوين الصورة بأكملها ندرك أهمية إسهام كل جزء فردي فيها.
العلم هو وسيلة أساسية في السعي الإنساني الدائم، والممارسة العملية بطبيعتها تضمن ظهور ألغاز يجب حلها؛ فعملية الإجابة عن الأسئلة تؤدي إلى ظهور بيانات جديدة يمكن طرح أسئلة جديدة عنها؛ فعند وضع فرضية، يجب جمع بيانات جديدة من أجل اختبارها، ثم يمكن استخدام هذه البيانات فيما بعد لتقرير إما دعم الفرضية أو رفضها، إلا أن هذه البيانات الجديدة يكون لها استخدام آخر؛ فهي تمتلك خاصية فطرية - بسبب حداثتها - تتمثل في الحث على طرح أسئلة لم تطرح من قبل قط، وعادة تفوق الأسئلة التي تطرح تلك التي يجاب عنها، ومع زيادة المعرفة يماط اللثام عن عدد متزايد من الأمور المجهولة. كان الشعراء والكتاب الرومانسيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يخشون من أن العلم سيزيل الغموض من العالم؛ بسبب قدرته الشديدة على حل المشكلات. لكن ما كان بهم حاجة إلى الخوف؛ فقد كشف العلم وسيظل يكشف عن المزيد من الألغاز في الكون من حولنا - وهو الموضوع الأساسي لسعي الإنسان - بما يفوق قدرة البشرية على الإجابة عنها من عصرنا حتى نهاية وجودها في هذا الكون. لقد ارتكب فيكتور فرانكنشتاين في رواية ماري شيلي الخالدة خطيئة الغطرسة الخلاقة عندما حاول حل لغز الحياة من خلال خلق الوحش، ونجح جزئيا في محاولته هذه. إلا أن رواية «فرانكنشتاين» كانت قصة خيالية، ونحن ما زلنا لا نعلم كيف بدأت الحياة على الأرض أو في أي مكان آخر في الكون، ولا يرجع هذا إلى تقصير في المحاولات.
تكون السبل العلمية للسعي والاكتشاف عادة معقدة وتحدث بها تغيرات مفاجئة غير متوقعة. إنها تتسم بالسمات نفسها التي تجعل قصص المغامرات الخيالية ممتعة وسهلة القراءة. فكر في الأحداث غير المتوقعة التي حدثت في أثناء رحلة عودة أوديسيوس ورجاله من طروادة، وذلك اليوم الحافل المليء بالمعضلات غير المتوقعة، التي واجهها ليوبولد بلوم في أسفاره حول دبلن في نسخة جيمس جويس من مغامرات أوديسيوس. ورغم الخيال الغني والمبتكر للروائيين، فإن القصص الواقعية للاستكشاف والاكتشاف العلمي عادة ما تكون أغرب وأكثر استعصاء على التوقع من أي قصة خيالية. ويعد البحث الذي أجريته مع زملائي على اكتشاف فيروس التهاب الكبد «ب» مثال على هذه الطبيعة غير المتوقعة للبحث العلمي؛ فقد بدأنا البحث ونحن مهتمون بالتنوع الوراثي وغيره من أشكال التنوع الكيميائي الحيوي في البشر؛ الذي يؤثر على نحو متباين في قابلية الإصابة بالمرض، وخاصة في الاستجابات للعوامل الناقلة للعدوى. وكجزء من استراتيجيتنا البحثية، استخدمنا المصل الخاص بالمرضى الذين خضعوا لعملية نقل دم حتى نرى إذا تكون لديهم رد فعل تجاه بروتينات المصل التي حصلوا عليها في عملية نقل الدم ولم يرثوها أو يكتسبوها. وجدنا بالفعل اختلافات، ولكننا استطعنا أيضا التعرف على فيروس التهاب الكبد «ب» الذي كان موجودا في دم المتبرعين، حتى إن كانوا في هذا الوقت لم تظهر عليهم بعد أعراض المرض. أدى هذا الاكتشاف إلى حماية الإمداد بالدم ضد انتقال فيروس التهاب الكبد «ب»، وابتكار لقاح مضاد لهذا الفيروس وبدء أكبر برامج تطعيم في العالم. كما مكن كذلك من تحديد أن فيروس التهاب الكبد «ب» هو السبب الرئيسي في سرطان الكبد الأولي، وهو نوع من السرطان شائع للغاية خاصة في آسيا والدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى (يعتبر التهاب الكبد الفيروسي «ج» سببا مهما أيضا ). يعتبر لقاح فيروس التهاب الكبد «ب» أول لقاح يقي من السرطان، كما أن برنامج التطعيم العالمي قد بدأ بالفعل من أجل تقليل حالات الإصابة بهذا السرطان المميت. لم يكن من الممكن توقع مثل هذه النتيجة الطيبة في بداية هذه المغامرة العلمية كثيرة التعرجات.
يشير باسترناك إلى أن كثيرا من الحيوانات باحثة، بينما يقول في الوقت نفسه إن البحث هو ما يميز الإنسان عن الشمبانزي والحيوانات الأخرى. ما حل هذا التناقض الواضح؟ يأتي الاختلاف، على حد قوله، من قدرة الجنس البشري على السعي الذي لا ينتهي. يظهر هذا بوضوح في العلم الحديث؛ فوجود أدوات على درجة عالية من الدقة والثقة، مع وجود قياسات بالغة السرعة، يسمح بتراكم فعال لكميات كبيرة من البيانات. وبرنامج علوم الفضاء مثال جيد للغاية على قدرة البشر على زيادة قدرتهم على السعي المستمر؛ فقد شهدت العقود القليلة الماضية إطلاق أقمار صناعية وسفن فضاء ذات استخدامات عديدة لم يكن من الممكن تخيلها من قبل، ومن المزمع إطلاق أنواع أكثر إثارة. كذلك زارت بعثات روبوتية كافة كواكب مجموعتنا الشمسية عدا بلوتو، كما هبط البشر على القمر وأحضرت كيلوجرامات من العينات إلى الأرض من أجل دراستها، كما أرسل العديد من الأقمار الصناعية لتدور حول المريخ، وهبطت أخرى عليه، وأعادت إلينا صورا وقياسات. ومن المقرر إجراء برنامج مكثف للهبوط على المريخ يتمثل الهدف الأساسي منه في تحديد وجود مياه وحياة على هذا الكوكب حاليا أو ما إذا كانت موجودة في الماضي البعيد. هذا وتجري حاليا دراسة إرسال بعثة بشرية إلى المريخ رغم أن البعثة الفعلية تنظر نتائج الأبحاث التي ستجعل هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر آمنة، كما أن الأقمار الصناعية التي تراقب الأرض أمدتنا بفهم مفصل على نحو استثنائي لديناميكا المناخ وأحوال الأرض والبحار. لقد تواجد البشر في المدار القريب من الأرض منذ عدة سنوات على متن محطة الفضاء الروسية/السوفييتية مير، وحاليا على متن محطة الفضاء الدولية. وسيضم مشروع ناسا «الحياة مع نجم» أسطولا صغيرا من الأقمار الصناعية من أجل دراسة الشمس؛ نجمنا، وتحديد تأثيرها على مناخ الأرض ووسائل الاتصال، والأخطار التي قد تمثلها العواصف الشمسية على الأقمار الصناعية وشبكة الطاقة الكهربائية، والبشر في الرحلات الفضائية القريبة والبعيدة. من المذهل التفكير في هذا بوصفه خطوة عظيمة إلى الأمام في رغبة الإنسان في فهم طبيعة مركز الإمداد بالحياة في مجموعتنا الشمسية؛ الشمس التي لا تقهر، التي أعلن الإمبراطور أوريليان في عام 274 أنها رمز الألوهية العالمي.
أطلق ثلاثة من مراصد ناسا الكبرى، هي: تليسكوب هابل الفضائي المذهل (بل سيطلق تليسكوب فضائي أكبر حجما منه؛ هو تليسكوب جيمس ويب الفضائي، في خلال عقد أو أكثر)، ومرصد كومبتون لأشعة جاما، ومرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية. ومن المقرر إطلاق تليسكوب فضائي للأشعة تحت الحمراء في مداره في عام 2003. كل هذه، وغيرها الكثير، من أدوات الملاحظة العلمية التي كانت مستحيلة قبل هذا الوقت، تعتبر أمثلة على قدرات البشر على توسيع نطاق المغامرة. تسمح هذه الأدوات بتدفق هائل للأفكار الجديدة من أجل إجراء مزيد من الدراسة المبنية على مشاهدات غير مسبوقة من قبل. لم تكن هذه المشاهدات ممكنة في أي وقت من قبل بسبب عدم توافر مثل هذه المنصات المرتفعة.
ما الحافز وراء عمليات البحث والسفر الحالمة والمكلفة هذه؟ بالطبع توجد نتائج جانبية تجارية مهمة؛ فبث الرسائل والصور والبيانات عبر الأقمار الصناعية، والملاحة باستخدام نظام تحديد المواقع الجغرافية، ومراقبة المرضى عن بعد في وحدات الرعاية المركزة، تعتبر كلها أمثلة على التطبيقات المهمة لبرنامج الفضاء. ومن المرجح أن تتولى الدول المهتمة بالفضاء قيادة عالم التجارة في هذا القرن والقرون القادمة. ورغم أن المساعي الفضائية عليها أن تركز على الهندسة والمشكلات الفنية حتى يمكن للأجهزة أن تحلق، فإن الهدف هو إثراء الفهم العلمي للطبيعة وإنجاز مشروعات علمية أساسية لم تكن ممكنة من قبل. إلا أن ثمة هدفا رئيسيا لبرنامج الفضاء، وغيره من البرامج المشابهة، يتمثل في إشباع قوة الفضول الدافعة التي تحرك البشر المتسمين بالسعي الذي لا نهاية له، وربما تعمل، كما يقول المؤلف، على تمييزهم عن الكائنات الحية الأخرى التي تتشارك معهم في كوكب الأرض.
باروخ إس بلومبرج (الحاصل على جائزة نوبل)
يونيو 2003
الفصل الأول
مقدمة
نحن جميعا فئران تجارب في مختبر الرب؛ فالبشر هم مشروع لم ينته بعد. (تينيسي ويليامز)
1
لقد أماط العلماء اللثام عن الجينوم البشري، وحان الآن وقت تدبر النتائج؛ فما الذي يجعلنا بشرا؟ تجادل الفلاسفة والعلماء طويلا بشأن هذا الأمر، وأومن أن ما يجعلنا بشرا هو ميلنا الفطري تجاه السعي بلا توقف.
إن كلمة سعي بالإنجليزية
quest
مشتقة من الفعل اللاتيني
quaerere
بمعنى البحث والتنقيب، ومن هذا الفعل اشتقت كلمة تساؤل
query
وحب الاستطلاع
inquisitiveness
من ناحية، وكلمة غزو
conquest
من ناحية أخرى. تصف هذه الكلمات كلها الصفات التي جعلتنا سادة الحياة على الأرض؛ فنحن نبحث عن آفاق جديدة، وننقب عن تفسيرات للظواهر من حولنا، لكننا نسعى أيضا للسيطرة على الكائنات الأخرى.
إلا أن البحث سمة أساسية في كافة الكائنات الحية؛ فهو جزء أساسي في الحياة تماما مثل النمو والتكاثر؛ فالنباتات تبحث وكذا الجراثيم. وكما نعلم جميعا تميل النباتات إلى النمو في اتجاه الضوء، فتمثل الشمس مصدر الطاقة الوحيد لها، كما تسبح بعض الجراثيم نحو مصدر غذائها؛ لذا لا عجب أن تمارس الحيوانات أيضا، التي لها سلف مشترك مع النباتات والجراثيم، البحث عن الغذاء وعن زوج في الأساس، وعن ماء ومأوى أيضا في حالة الحيوانات غير المائية. ومع تطور الحيوانات أكثر على مدى نصف مليار سنة مضت، تطورت أيضا قدرة الحيوانات على البحث، ووصلت إلى ذروتها لدى الإنسان العاقل؛ فنحن لا يقتصر بحثنا على الطعام والماء والزوج والمأوى، وإنما نبحث أيضا دون وجود سبب واضح على الإطلاق؛ فالفضول وحده، وليس الحاجة، هي التي دفعت الإنسان إلى البحث عن منبع النيل والكشف عن أصل النجوم.
ربما يقول المتحذلقون إنني أستخدم كلمة «بحث» بمعنيين مختلفين؛ فالنباتات والجراثيم تستجيب للضوء والغذاء بطريقة لا إرادية ومبرمجة مسبقا؛ فهي تنجذب فحسب لمصدر الضوء أو مصدر تركز العناصر الغذائية. أما بحث الإنسان فيكون إراديا ومتنوعا؛ فبعضنا يكون لديه فضول بشأن أصل العواصف الرعدية والزلازل، بينما لا يهتم آخرون بأسباب هذه الأشياء تماما مثل عدم اهتمامهم بطريقة عمل السيارة أو جهاز الكمبيوتر، ولكنهم ربما يهتمون بمعرفة سبب ترك أشهر نجمة شعبية في هذا الوقت لصديقها، وما توقعات أبراجهم لهذا الشهر، فيبحثون في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت عن إجابات. وأنت نفسك تبحث عن شيء ما - عن تسلية أو معرفة - في هذه اللحظة ذاتها التي تمسك فيها بهذا الكتاب.
رغم هذا، أخبرنا علماء الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية أنه لا يوجد اختلاف أساسي كبير بين الفعل اللاإرادي مثل خفقان القلب، والفعل الإرادي مثل رفع أحد الحاجبين، وبين شعور لا إرادي مثل الخوف، وشعور إرادي مثل اتخاذ قرار قراءة هذا الكتاب؛ فالآليات الأساسية هي نفسها تقريبا. لن أتحدث في هذه المرحلة عن التفاصيل إلا بغرض الإشارة إلى أن الحياة بأكملها، سواء كانت حياة جرثومة أو نبات أو حيوان أو إنسان، تعتمد على التفاعلات الكيميائية بين الوحدات الأساسية للمادة التي تسمى الجزيئات.
يتمثل أهم نوعين من الجزيئات في أي كائن حي في: الجينات، التي يعرفها علماء الكيمياء الحيوية أيضا باسم الدي إن إيه، والبروتينات. علاقة الجينات بالبروتينات تماثل تماما علاقة تصميم المهندس المعماري بالبناء الذي سيبنيه؛ فهو يحدد شكله وحجمه. فالجين هو مجموعة من التعليمات الخاصة بتكوين أحد البروتينات؛ فهو يحدد حجمه وشكله. وظيفة البروتينات هي إمداد المادة بالحياة؛ بالحركة والنمو والتكاثر وإدراك بيئتها والقدرة على البحث. فالبروتينات هي أساس الاستجابات الإرادية واللاإرادية لدى الحيوانات المتشابهة. بالإضافة إلى هذا، نعرف أيضا أن بعض الجينات المتعلقة باستجابات النباتات والجراثيم؛ مثل بحثها عن الضوء والغذاء، توجد بالتكوين نفسه لدى الحيوانات والإنسان، بعبارة أخرى: بعض البروتينات التي تمكننا من البحث ترتبط في تكوينها بالبروتينات التي تملكها أشكال للحياة أكثر بساطة وقدما.
إذا كان ثمة استمرار في الوظيفة، وفي الجزيئات الأساسية من البكتيريا القديمة وحتى الأسماك والطيور والثدييات، فما الذي يميز إذن أحد الرئيسيات، الإنسان العاقل، عن كافة الكائنات الأخرى، خاصة عن أقرب أقاربه: «بان تروجلوديت»، النوع الشائع من الشمبانزي، و«بان بانيسكوس»: البونوبو أو ما يعرف بالشمبانزي القزم؟ هل يمكن أن يكون الاختلاف شيئا بسيطا مثل الرغبة المتزايدة في السعي المستمر؟
طوال 150 عاما، منذ عهد داروين، حاول علماء الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان) تحديد الصفات التي تميز السلوك الفريد للإنسان، لكنهم فشلوا. فعند البحث عن كل صفة مقترحة لدى الرئيسيات غير البشرية، كان يعثر عليها؛ مثل استخدام الأدوات البسيطة، والقدرة على التفكير، والشعور بالألم والسعادة، والإدراك والوعي للذات، وفهم الفكاهة، وفهم الكلمات واللغة.
2
ربما تكون الصفة مستخدمة بأقل قدر ممكن، ولدى بعض الأنواع تكون مكتسبة من البشر، لكن هذا يجعلنا غير قادرين على تحديد سمة محددة للإنسان. ولم تكن محاولات كتاب معاصرين مثل كينان مالك (2000) في كتابه «الإنسان والوحش والزومبي»، لفعل هذا الأمر - مقنعة، فما كان منهم إلا تجنب الموضوع من خلال إرجاع تفرد الإنسان إلى بعض السمات السلوكية غير الجينية، مثل ظهور «الميمات»، وهو موضوع سنتحدث عنه في الخاتمة.
لذا، في كتاب «ازدهار الشمبانزي الثالث وتدهوره» يصف عالم الأحياء جارد دياموند الإنسان وصفا صادقا أنه مجرد فرد آخر في مجموعة الرئيسيات، ويجب تصنيفه في النوع نفسه مع البونوبو والشمبانزي الشائع، وللاستفزاز يطلق على هذا النوع «هومو» بدلا من «بان». فعل ديزموند موريس الأمر نفسه في كتابه «القرد العاري» قبل ذلك بثلاثين عاما.
3
فعلى ما يبدو لا توجد سمة تميز الإنسان العاقل؛ فالحكمة بالتأكيد ليست سمة مميزة. وإذا لم تكن توجد صفة محددة تفسر الاختلاف الجوهري بين الشمبانزي والإنسان، فلا بد لنا من البحث عن عدد من السمات، التي ليست حكرا على الإنسان، التي نتج عنها بطريقة ما عند اجتماعها سلوكه المعدل، وقدرته المتزايدة على السعي. ماذا يمكن أن تكون هذه الصفات؟
ثمة مئات الصفات التي تميز الإنسان عن الشمبانزي، ربما أكثرها وضوحا للمشاهد العادي وجود شعر أقل على الجسم، واختلاف شكل الوجه، وقصر طول الذراعين، والمشية المنتصبة. أما المتخصص فإن الصفات التي يركز عليها هي التي ترتبط بمجال تخصصه؛ فسيصف اختصاصي علم التشريح بالتفصيل شكل الفك والحوض وكل عظمة أخرى في الجسم، أما اختصاصي التغذية فسيدرس النظام الغذائي من حيث استهلاك البروتين الحيواني في مقابل البروتين النباتي، أما المتخصص في الأنثروبولوجيا فسيركز على الظهور المبكر للقدرة الإنجابية وقصر متوسط العمر المتوقع، في حين سيلاحظ المتخصص في علم الاجتماع سلوك التزاوج من حيث طول فترة الرغبة الجنسية وعدد الأزواج، وسيلاحظ الخبير في الإحصاء الفروق النسبية في الطول بين الذكر والأنثى، وربما يعلق على كبر حجم الثدي لدى أنثى الإنسان، وطول العضو التناسلي لدى الذكور.
4
سنركز نحن على أربع صفات فقط صاحبت تطور الإنسان عن الرئيسيات الأخرى. تتمثل الصفة الأولى في حدوث تغير في العمود الفقري جعله يسير منتصبا. يعمل هذا على زيادة رؤيته للأفق ويحرر يديه في الوقت نفسه؛ فتستطيع مسح العرق من فوق جبينك وتقشير موزة وأنت تسير، لكن الشمبانزي يجلس حتى يفعل هذا. أما الصفة الثانية فتتمثل في حدوث تغيير في الطول النسبي للإبهام والأصابع الأخرى وفي العضلات التي تتحكم في حركتها؛ فنحن نستطيع ثني إبهامنا وتحريكها كي نمس بها أطراف أصابعنا الأربع الأخرى على نحو أفضل من الشمبانزي، فتسمح لنا القبضة الدقيقة المحكمة بالشعور بشكل الأشياء والتعامل معها على نحو مميز، فيستطيع بعضنا تعلم العزف على الكمان، أو استئصال الزائدة الدودية، في حين أن أداء الشمبانزي في كلتا هاتين المهمتين يكون غير متقن. أما السمة المميزة الثالثة فتتمثل في الأحبال الصوتية؛ فهي توجد داخل الحنجرة، التي تتنفس من خلالها كافة الرئيسيات، في مكان منخفض لدى البشر، وتوجد داخل صندوق صوت معقد بين قطعتين صغيرتين من الغضاريف، وقد نتج عن هذا قدرتنا على إصدار كم هائل من الأصوات المتنوعة - استمع فقط إلى المدى الصوتي للمغني لوتشيانو بافاروتي وتسجيلات ماريا كالاس - بينما لا يستطيع الشمبانزي إصدار صوت عدا النخير. ورغم هذا فإننا نولد بأحبال صوت بدائية في مكان مرتفع من الحنجرة، تماما مثل القرد، فلا يستطيع الأطفال الرضع إلا البكاء والأنين، رغم أنهم مثل الشمبانزي يستطيعون التنفس والبلع في الوقت نفسه؛ أما البشر البالغون فلا يمكنهم هذا؛ فالانخفاض البسيط في مكان الأحبال الصوتية في السنة الأولى تقريبا من عمر الإنسان هو ما يمده بالقدرة على الكلام. أما الصفة الرابعة فتتمثل في ملايين العصبونات والخلايا العصبية المسئولة عن التفكير والذاكرة، وعن القدرة على التفكير المنطقي. توجد هذه الخلايا في منطقة من الدماغ تسمى القشرة، وفي الواقع هي تؤدي الوظيفة نفسها لدى الشمبانزي والبشر؛ فالاختلاف الوحيد أننا نملك ثلاثة أضعاف العدد الموجود لدى الشمبانزي.
أعتقد أن اجتماع هذه الصفات الأربع هو الذي مكن الإنسان من توسيع نطاق بحثه، جسديا وذهنيا، أكثر من أي حيوان آخر. في تأكيدي على أن ما يميز الإنسان هو مجموعة من الصفات، أعمل بذلك على تطبيق تعريف التفرد الذي وضعه اختصاصي المناعة بيتر مدور على هذا النوع: «يختلف فرد عن غيره ليس بسبب امتلاكه صفة فريدة، وإنما بسبب امتلاكه خليطا فريدا من الصفات.»
5
من ناحية أخرى، تعتمد قدرة الإنسان المضاعفة على البحث كثيرا على استخدامه للغة التي ربما أكون قد استخدمتها للتركيز على صفة الكلام وحدها. في كتابه المذهل «التهيؤ والثرثرة وتطور اللغة» فعل عالم الأنثروبولوجيا هذا بالضبط، فهو يقول إن الثرثرة بين البشر هي امتداد لعملية التنظيف بين القردة، وإن الثرثرة هي التي أدت إلى تطور اللغة؛ ومن ثم إلى سلوك الإنسان المعقد. لكن في حين يسهم الكلام دون شك في قدرة الإنسان المتفوقة على السعي الدائم، فإنه لا يفسر وحده ظهور الحضارات وتطور الثقافة؛ فالثرثرة لم تشيد هرم خوفو الأكبر، ولم تؤد إلى رسم الموناليزا أو اكتشاف النظرية النسبية، وإنما هذا كله نتاج لسعي مستمر لا نهاية له.
ظهرت الفروق التشريحية الأربعة بين الإنسان والشمبانزي التي ركزت عليها؛ المشية المنتصبة، واليد سلسة الحركة، والأحبال الصوتية المتطورة، والكم الهائل من العصبونات في قشرة الدماغ، بالتدريج على مدار 5 ملايين سنة مضت أو ما شابه. حدث ظهورها بالصدفة المحضة، وكان فقط نتيجة لحقيقة أن أصحابها، أنواعا متعاقبة من الرئيسيات، أنجبوا آخرين من النوع نفسه. لا تعبر أي صفة عن تغير مفاجئ وكبير في الشكل، تماما مثلما حدث عند تطور الأسماك إلى حيوانات أرضية، وتطور الزواحف لتصبح طيورا. وتتحدد كل صفة تشريحية من هذه الصفات الأربع بعدد من الجينات. حتى الآن لم تكتشف كافة هذه الجينات، ولكن من المحتمل أنها تنتمي إلى عائلات متشابهة لدى البشر والشمبانزي. وكما سنرى في الفصل الرابع، تشبه الجينات المسئولة عن الصفات البشرية الجينات المحددة لوظائف مشابهة في الرئيسيات الأخرى، فيما يتعلق بموضوع البحث ربما يبدو من غير الضروري افتراض وجود جينات «بشرية» من أجل تفسير الفروق الأساسية بين الإنسان والقرد.
ينطبق هذا الاستنتاج على كافة الوظائف الأخرى لدى البشر والشمبانزي أيضا، ويتوافق بسهولة مع حقيقة أن تكويننا الجيني يشبه تكوين الشمبانزي بنحو 95٪،
6
إلا أن وجود اختلاف بنسبة 5٪ ما زال يعني تفرد الإنسان بأكثر من ألف جين في مقابل تلك التي يشترك فيها مع الشمبانزي، ويواصل معتنقو وجهة النظر هذه البحث عن جينات مميزة للإنسان. لا أعتقد أنهم سيجدونها؛ فتفسيري أنا، الذي يشاركني فيه كثير من علماء الجزيئات، مختلف؛ فنحن نرى أن «التشابه بنسبة 95٪» يشير إلى أن كافة جينات الشمبانزي والبشر متشابهة في المتوسط بنسبة 95٪ ومختلفة بنسبة 5٪، فبعض الجينات، مثل سلسلة ألفا التي تدخل في تكوين الهيموجلوبين، تكون متماثلة، بينما تكون بعض الجينات الأخرى، مثل الخاصة بالأنسولين، متطابقة تقريبا، في حين تكون جينات أخرى مختلفة عن بعضها بنسبة تفوق 5٪، لكن حتى هذه الجينات تنتمي إلى العائلة الجينية نفسها، فتحدد الوظيفة نفسها لدى البشر والشمبانزي. فلا توجد جينات «بشرية» تختلف عن جينات «الشمبانزي» على الإطلاق (شكل
1-1 ).
شكل 1-1: التكوين الجيني للشمبانزي والبشر. انظر النص والهامش رقم 26 في الفصل الثاني من أجل الحصول على مزيد من التفاصيل.
إجمالا، يدور هذا الكتاب حول فكرة أن كل الكائنات الحية، بداية من البكتيريا حتى النباتات والحيوانات، تبحث. لدى البشر تكون النزعة إلى السعي ضخمة، في حين تكون قاصرة لدى الرئيسيات الأخرى. وقد دانت للإنسان السيادة على العالم وكل الكائنات فيه، أما الشمبانزي فمعرض الآن لخطر الانقراض.
7 •••
ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة أجزاء؛ في الجزء الأول نتحدث عن الأساس الجيني للبحث، وحتى نفعل هذا علينا التفكير في الطبيعة الجزيئية للحياة. يوجد توحد وتنوع؛ فالكائنات كلها مكونة من النوع نفسه من الجزيئات، لكن لا يوجد كائنان حتى من النوع نفسه متماثلان تماما؛ إذ يختلفان في التكوين الدقيق للدي إن إيه والبروتينات التي تتكون جسماهما منها، ونتيجة لهذا تنمو شجيرة أطول من المجاورة لها، وتسبح أميبا أسرع من قرينتها، ويصبح هديل حمامة أعلى من إخوتها، ويصبح إنسان أكثر فضولا من إنسان آخر. كذلك فإن هذه التفاصيل الدقيقة في التكوين الجزيئي تكون هي المسئولة عن ظهور نوع جديد؛ ظهورنا نحن البشر من البكتيريا القديمة، كما سنشرح في الفصل الثاني.
أشرت من قبل إلى بحث النباتات عن ضوء الشمس وبحث الجراثيم عن الطعام؛ نظرا لكون هذه الأجهزة بسيطة نسبيا، أصبح كثير من الجزيئات المسئولة عن عملية البحث لديها معروفا، فاتضح أن كثيرا منها، كالبروتينات وجزيئات أخرى أصغر حجما مثل الفيتامينات، يلعب دورا أيضا في العلميات الفسيولوجية التي تتحكم في البحث لدى كائنات أكثر تعقيدا. وكما سنرى في الفصل الثالث، فإن الرؤية، الأساسية في قدرة الحيوانات على البحث، تعتمد على آلية يرجع أصلها إلى استجابة النباتات وجراثيم معينة للضوء.
مع تحول الكائنات البحرية إلى الحياة على سطح الأرض منذ 400 مليون سنة، اتسع نطاق البحث، وعندما حلت الثدييات محل الزواحف منذ 65 مليون سنة اتسع نطاق البحث مرة أخرى، ومع بدء تطور أسلاف الإنسان الحديث من الرئيسيات الأخرى منذ نحو 5 ملايين سنة، زادت القدرة على البحث بدرجة أكبر، فتظهر بوضوح مميزات الصفات التي تحدثت عنها عند البحث عن الطعام والماء، أو مفترس محتمل، أو بيئة جديدة للاستقرار فيها. تظهر فوائد نجاح البحث جلية في البقاء ونقل جينات الفرد؛ ونعني بهذا مفهوم الجين الأناني.
8
وسنتحدث عن الجزيئات التي اكتشفت مؤخرا وتتعلق بسعي الإنسان في الفصل الرابع.
يتتبع الجزء الثاني من الكتاب سعي الإنسان الحديث؛ الإنسان العاقل. إنه يتحدث في الأساس عن قصة آخر 100 ألف سنة وتحليلها من منظور بحث الإنسان المستمر. كل موضوع أتحدث عنه هو مقياس للفروق السلوكية بين الإنسان والشمبانزي؛ فينبع كل منها من الأسلوب المتفوق للإنسان في ممارسة فعل السعي البدائي، فعقله يطرح الأسئلة ويبتكر تحديات جديدة، فتستجيب يديه؛ إذن ماذا كانت عواقب ذلك؟ أخذ الإنسان بحثه عن بيئات جديدة إلى أبعد من موطنه الأصلي في أفريقيا؛ إلى آسيا وأوروبا ثم إلى جميع أجزاء العالم، وقد قرر بعض أفراد هذا النوع الاستقرار في معظم الأماكن باستثناء الغطاء الجليدي القطبي والصحراء القاحلة والجبال المغطاة بالثلوج، وفي كثير من الحالات لا يزال أحفادهم موجودين فيها حتى يومنا هذا. وسنتحدث بأمثلة توضيحية عن النزعة الاستكشافية لدى البشر، بداية من خروجهم من الوادي المتصدع الكبير في شرق أفريقيا وحتى هبوطهم على القمر، في الفصل الخامس.
منذ عشرات الآلاف من السنين بدأ البشر يشعرون بأمان أكثر عند الابتعاد عن الحيوانات المفترسة، فبدءوا يزرعون محاصيل خاصة بهم ويستأنسون الحيوانات من أجل الحصول على الطعام ولتأدية بعض الأعمال. ومع التخلي عن حياة الترحال في سبيل إنشاء مجتمع مستقر، لم تقنع بعض المجموعات بالبقاء في المكان نفسه، فبحثت عن أماكن جديدة يمكنها الاستقرار فيها، وبدأت في البحث عن أساليب جديدة تقضي بها حياتها اليومية؛ ليس فقط بتحقيق المزيد من الراحة بالحياة في المباني والأماكن المصنوعة من الحجارة، وليس بمجرد جعل الحياة صحية أكثر، باستخدام أنابيب المياه والمصارف، وإنما أيضا من خلال إحاطة أنفسهم بأشياء مبهجة؛ فظهرت الحضارات. وسنتحدث عن ميلاد الحضارات ودور الوراثة في صنع القادة والبشر المثقفين في الفصل السادس.
سنعقد مقارنة بين الإنجازات المرتبطة بهذه الحضارات، التي نشأت في بلاد الرافدين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، وفي وسط أمريكا وجنوبها، والندرة النسبية لمثل هذه الإنجازات في أماكن أخرى في الفصل السابع. أما الفصل الثامن فيدور حول تطور اللغة، الذي سبق الكلام المكتوب، وأساس المعرفة العلمية والفن.
عمل الإنسان بيديه منذ تشكيله لأول حجر صوان وإشعاله النار منذ أكثر من مليون سنة مضت، فقد حددت التقنيات المستخدمة في العصر الحجري في الصين ولدى المسلمين طريقة ممارستنا لحياتنا، إلا أن كل تطور يحدث يصحبه ظهور أداة حربية جديدة. وقد خصصنا الفصل التاسع للحديث عن هذه الموضوعات ولتقييم العلاقة بين التكنولوجيا والثراء، ونختتمه بالحديث عن اختراعات رجل واحد؛ وهو ليوناردو دافينشي، فلم يضاه أحد دافينشي قط في الجمع بين المهارة اليدوية والإبداع العقلي.
لا بد أن الإنسان البدائي كان يخاف من العالم الطبيعي من حوله؛ من البرق والرعد، ومن الأعاصير والفيضانات، ومن الانفجارات البركانية والزلازل، وقد بحث عن تفسيرات لها. وكان أفضل تفسير توصل إليه البشر جميعا، سواء في بلاد سومر أو في مصر أو الهند أو الصين أو جزيرة كريت أو وسط أمريكا وجنوبها، هو الدين؛ الإيمان بقوى خارقة للطبيعة تكون هي المسئولة في النهاية عن الأحداث التي لا يستطيع البشر فهمها والتحكم فيها. أثبتت هذه التفسيرات أنها مرضية نظرا لكون الأديان التي ظهرت - الهندوسية والبوذية واليهودية، ثم المسيحية والإسلام - ما زالت تمارس في جميع أنحاء العالم إلى يومنا هذا، من ملايين الرجال والنساء المتعلمين، وفي كافة المهن، في المعابد والأضرحة والمساجد والصلوات، وفي الكنائس والمنازل. لكن مع الإلحاح يعترف قليل من الناس أنهم لم يعودوا ينسبون الظواهر الطبيعية إلى قوى إلهية. فما الذي يبحثون عنه؟ سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل في الفصل العاشر.
بدأ التشكيك في الأصول الإلهية للأحداث المادية على يد الفلاسفة الإغريق؛ بحثا منهم عن تفسيرات بديلة منذ نحو ألفي عام. توقفت بعد ذلك محاولات التفكير العلمي حتى بدأت تظهر تفسيرات لأحداث، مثل تحول النهار إلى ليل والشتاء إلى ربيع، في القرن السادس عشر (رغم أننا ما زلنا نستخدم مصطلحات مثل «غروب الشمس» و«شروق الشمس»). يختلف التفسير العلمي عن غيره من كافة التفسيرات الأخرى في طبيعته العالمية؛ فمفهوم أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، هو نفسه في روما كما هو في كراكوف؛ فالعلم - المتمثل في التحقيق في المعتقدات عبر إجراء التجارب التي تؤدي إلى وضع فرضية، أو وضع فرضية ثم إتباعها بإجراء تجارب - واحد أينما يمارس، ويعتبر العلماء مستكشفين أيضا؛ فهم يبحثون عن نجوم تبعد عنا تريليونات السنين الضوئية، وعن جسيمات أصغر بمليارات المرات من جزيء السكر، وعن بقايا حيوانات انقرضت منذ ملايين السنين، وعن سلالات من الفيروسات لم تظهر إلا في عصرنا الحالي. نذكر في الفصل الحادي عشر إسهامات بعض العلماء العباقرة، ونطرح سؤالا بسيطا: هل سنكتشف قريبا كل ما يمكن معرفته، أم أن البحث لا نهاية له؟
يركز الجزء الثالث من هذا الكتاب على النقاش الحالي حول العلم والتكنولوجيا؛ فالمعرفة التي حصلنا عليها في العقدين الماضيين بشأن التلاعب في جينات - جينات النباتات والحيوانات والإنسان أيضا - تؤدي إلى تغيرات هائلة في مجالي الزراعة والطب، فالبحث من أجل إنتاج محاصيل مقاومة للجفاف، أو البرد أو الآفات، أو محاصيل تنتج غلة أكبر من القمح أو الذرة أو بنجر السكر أو البطاطا؛ يؤدي إلى فوائد اقتصادية واضحة ذات أهمية بالغة لدول العالم المتخلفة. ومع ذلك يوجد نقاش محتدم حول تعديل الطعام جينيا، كما وصل الجدل حول تطبيق الأمر نفسه على البشر إلى حد الغليان؛ هل يجوز السماح باستنساخ البشر؟ وهل يجوز أن نستبدل بالجينات المسببة للمرض جينات صحية؟ وهل علينا تشجيع زرع أعضاء مأخوذة من الحيوانات؟ وهل يجوز السماح للناس بتجميد خلايا جسمهم من أجل الحصول عليها إذا اقتضت الحاجة؟ وهل فوائد العبث مع الطبيعة تفوق مخاطره؟ وهل سعي العلماء غير المقيد يكون مقبولا؟ نحاول عرض وجهة نظر موضوعية عن هذا في الفصلين الثاني عشر والثالث عشر.
نلقي في الجزء الأخير من الكتاب نظرة على المستقبل، إلى أين سيقود السعي الإنسان خلال السنوات المائة القادمة، وإلى أين في خلال مليون سنة قادمة؟ بالطبع لا يسعنا سوى التكهن. على المدى القصير أتوقع أن تراجع حب الاستطلاع، «تراجع المستوى الفكري» الذي يوجد حاليا في المجتمعات الغربية، سيؤدي إلى تدهورها مقارنة بالثقافات في شرق آسيا. ومع ذلك، بوجه عام سيصبح البشر على القدر نفسه من الغباء والإبداع، ومن الطيبة والقسوة التي هم عليها حاليا؛ فقد أثبتت التجربة أن أحداث الماضي يكون لها تأثير ضئيل على سلوك الإنسان، كما أن التغير الذي يحدث في جيناته على مدار قرن من الزمن يمكن بالكاد إدراكه. فحتى يمكننا دراسة التغير التطوري الذي يتعرض له البشر علينا التفكير في الأمر على مدار ملايين السنين، وليس القرون. على مدار هذا الوقت، هل سيؤدي سعي الإنسان إلى ظهور نوع جديد من البشر، أم ستكون أبحاثه سببا في دماره؛ بحيث ينقرض «الإنسان الباحث عن المعرفة» قبل حدوث هذا؟ نعرض توقعا لما سيحدث في الفصل الرابع عشر. •••
مع نمو فكرة تأليف هذا الكتاب في ذهني، بدأت أفكر في سبب عدم تفكير أي شخص آخر في «السعي» بوصفه صفة مميزة للبشر ومع ذلك أساسية في كافة أشكال الحياة. هل هي فكرة عديمة الأهمية أم أنها بديهية؟ تحدثت مع زملائي المتخصصين في مجال العلوم ومع علماء الأنثروبولوجيا، فاستمعوا إلي في تهذيب وابتسموا واقترحوا علي التحدث مع أشخاص آخرين نظرا لكون هذا خارج مجال تخصصهم. جاء رد فعل آخرين على النحو نفسه. المهم في الأمر أن أحدا لم يستطع إرشادي إلى مقال أو كتاب تناول هذا الأمر بأكمله من قبل، على الأقل كان هذا أمرا مشجعا.
ثم جاء ريتشارد دوكينز لإنقاذي؛ إذ كان يعتقد أن السير أليستر هاردي، أستاذ علم الحيوان في أكسفورد منذ نصف قرن، اقترح أمرا مشابها؛ كان يذكر وجود مقال في مكان ما، لكنه لم يستطع تذكر المرجع بدقة، هل يمكن لآرثر كين، أحد زملاء هاردي السابقين الذي انتقل إلى ليفربول لكنه تقاعد الآن، المساعدة؟ لكن عندما تمكنت من معرفة مكانه كان مع الأسف قد توفي. واصلت بحثي، واعتقد متخصص آخر في علم الحيوان في أكسفورد، مارك ريدلي، أن هذا المقال المحير ربما يوجد في إحدى محاضرات جيفورد التي ألقاها هاردي بعد وقت قصير من تقاعده. وبالفعل نجحت! وكما يظهر في الاقتباس التالي لم تكن فكرتي حمقاء أو بديهية، على العكس، فيبدو أن تأليفي لهذا الكتاب يجيب عن السؤال الذي طرحه هاردي. إليك الكلمات التي أقتبسها عنه:
رغم ذلك، من عملية التطور هذه، من مكان ما، جاء الدافع، أو حب المغامرة، لدى الإنسان الذي قد يدفعه إلى المخاطرة بحياته بتسلق جبل إيفرست، أو الوصول إلى القطب الجنوبي أو إلى القمر. هل - إجمالا - من السذاجة الاعتقاد بأن هذه النزعة الاستكشافية، وهذا الفضول، ترجع أصولهما إلى جزء راسخ في السلوك الحيواني يلعب دورا أساسيا في تدفق الحياة؟
9
حتى أتمكن من كتابة هذا الكتاب اخترت التبحر في موضوعات مثل الدين والأنثروبولوجيا والتاريخ والفن، وهي موضوعات لم أحصل فيها على تدريب رسمي، فأنا مجرد عالم كيمياء حيوية بسيط، إلا أن السعي للتعبير عن أفكاري أمر متأصل في جيناتي؛ ألم يكن جدي فنانا وزوجته موسيقية وخالي كاتبا ووالدتي فيلسوفة؟! وعلى القارئ أن يسامحني عن الأخطاء التي سيجدها فيما يلي؛ فقد كنت أكتب بوصفي عالما، لكني سمحت لأفكاري بأن تتحرك في كافة الاتجاهات.
أتخيل الآن في ذهني مجموعة من أسلافنا القدامى يسيرون منتصبين على طول منطقة أولدوفاي جورج في شمال تنزانيا بحثا عن الطعام، وأرشميدس في سرقوسة يفكر في طريقة لقياس الكميات التقريبية للذهب والفضة في تاج الملك هيرون، وكريستوفر كولومبوس وهو يقف في مقدمة السفينة سانتا ماريا يحدق في الأفق الغربي باحثا عن الأرض، وكلود مونيه في حديقته في قرية جيفرني وهو يحاول تصوير ضوء الشمس وهو يسقط على زنابق الماء، وأدولف هتلر وهاينريش هلمر في مستشارية الرايخ يبحثان عن أسرع الطرق لإبادة شعب بأكمله، والأم تيريزا في أحياء كلكتا الفقيرة وهي تحاول الاعتناء بالمحتضرين من الجوع وجعلهم يموتون بكرامة، ومجموعة من العلماء ذوي المعاطف البيضاء في مختبرهم يحاولون إدخال جين مقاوم للبرودة داخل نبتة الطماطم. أعرف أن هؤلاء جميعا ما هم إلا بشر، لكني أعلم أيضا أن هذا كله ما هو إلا تعبير عن صفة أساسية في المادة الحية؛ القدرة على البحث. منذ بداية تأليفي لهذا الكتاب، اكتشف تسلسل الجينوم البشري، وما زال أمامنا وقت طويل حتى تتضح وظيفة كافة البروتينات التي تحددها جيناتنا، والإشارات الداخلية المعقدة التي تنتقل بينها، لكن إذا اعتقدت، مثلي تماما، أن مثل هذه التفاعلات الجزيئية هي أساس سلوكنا المعقد، ورغبتنا القوية في السعي، فإنك ستنضم إلي في رحلة مدتها 3 مليارات ونصف مليار سنة سأحاول استعراضها في أقل من 400 صفحة.
هوامش
الجزء
التطور: الأساس الجيني للسعي
الفصل الثاني
الوحدة والتنوع في الكائنات الحية
(1) الأساس الجزيئي للحياة
تتألف الحياة كلها، وفي الواقع الكون بأكمله، من جزيئات؛ جزيئات الهيدروجين والهيليوم الموجودة في الشمس والنجوم الأخرى، وجزيئات الماء في الأنهار والمحيطات الموجودة على سطح كوكبنا، وجزيئات سيليكات الألومنيوم الموجودة في قشرته الخارجية، وجزيئات النيتروجين والأكسجين الموجودة في غلافه الجوي، وجزيئات الحمض النووي (الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (دي إن إيه)، والحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه))، والبروتين والكربوهيدرات والدهون الموجودة داخل كل كائن حي يعيش على سطحه. تسمى المجموعة الأخيرة من الجزيئات أحيانا الجزيئات العضوية؛ تمييزا لها عن الجزيئات غير الحية وغير العضوية التي تتكون منها الصخور والرمال والبحار والهواء، ولا تزيد الجراثيم والنباتات والحيوانات عن كونها مجموعة من الجزيئات العضوية مع بعض الأملاح والماء.
تتسم الجزيئات بأنها متناهية الصغر؛ فجزيئات مثل الماء أو الأكسجين أو ثاني أكسيد الكربون تقل في حجمها بأكثر من مليار مرة عن حجم رأس الدبوس، والكربوهيدرات مثل الجلوكوز، والدهون مثل الكوليسترول أكبر منها بعشر مرات، والبروتينات والكربوهيدرات مثل النشاء أكبر منها بمائة مرة، والدي إن إيه، الذي يعتبر أكبر جزيء في المادة الحية، أكبر منها بمليون مرة (لكن يظل من المستحيل رؤيته إلا باستخدام مجهر إلكتروني).
نظرا لأن الكائنات الحية لا تتكون إلا من الجزيئات، فمن البديهي وجود أعداد كبيرة للغاية منها في أي جرثومة أو نبات أو حيوان؛ نحو ألف مليون مليون مليون مليون (10
27 ) جزيء ماء، ومائة ألف مليون مليون مليون (10
23 ) جزيء بروتين، وعشرة آلاف مليون مليون (10
16 ) جزيء دي إن إيه لدى الإنسان البالغ. تكون هذه الجزيئات الأعضاء، مثل الكبد والكلى والمخ؛ والأنسجة، مثل العضلات والدهون والعظام، التي تتكون منها أجسامنا.
تنقسم الأعضاء (وبعض الأنسجة) إلى تكوينات أصغر حجما تسمى الخلايا، يحيط بكل منها غشاء، يتكون بالطبع أيضا من جزيئات، تتألف في الأساس من بروتينات ودهون مع بعض الكربوهيدرات. تتسم خلايا النباتات والحيوانات بأن لها الحجم نفسه (يبلغ قطرها تقريبا واحدا على مائة من المليمتر، فهي صغيرة للغاية بحيث تستحيل رؤيتها بالعين المجردة)، وهذا بصرف النظر عما إذا كانت جزءا من زهرة أقحوان أو من خنفساء، أو من شجرة السيكويا العملاقة أو من فيل، أو من جنين عمره شهر واحد، أو من رجل عمره 20 عاما. والجراثيم كائنات أحادية الخلية، وتكون خلاياها حتى أصغر حجما؛ أقل من واحد على عشرة من حجم خلية النبات أو الحيوان. تستطيع مئات البكتيريا المسببة للعدوى، مثل «المتفطرة الجذامية»، الحياة داخل خلية بشرية واحدة، ومع ذلك فإن الفيروسات أصغر حجما منها؛ فهي تنمو داخل البكتيريا وتستطيع عشرات الآلاف منها الحياة داخل خلية حيوانية واحدة قبل انطلاقها.
يعتمد عدد الخلايا الموجودة في الكائن الحي على حجمه؛ فالإنسان البالغ يحتوي جسمه على مائة مليون مليون (10
14 ) خلية. وتظهر لنا عملية حسابية سريعة أن أي خلية تحتوي على نحو عشرة ملايين مليون (10
13 ) جزيء من الماء، ومائة مليون (10
9 ) جزيء بروتين، ونحو مائة (10
2 ) جزيء دي إن إيه.
هكذا، فإن الجزيئات أصغر وحدة تتكون منها كافة المواد، ويختلف بعضها عن بعض ليس في الحجم فقط، وإنما في التكوين أيضا؛ فالماء، على سبيل المثال، يتكون من ذرتي هيدروجين
H
تربطهما ذرة واحدة من الأكسجين
O:H
2
O . أما جزيء الجلوكوز فيتكون من ست ذرات من الكربون
C ، و12 ذرة من الهيدروجين وست ذرات من الأكسجين:
C
6
H
12
O
6 (شكل
2-1 ). لا توجد الذرات ككيانات منفصلة (باستثناء حالة درجات الحرارة المرتفعة للغاية)، فالجزيئات والتفاعلات القائمة بينها هي التي تشكل كيمياء الحياة. تكون هذه التفاعلات معقدة لأن بعض الجزيئات تكون معقدة. يظهر هذا جليا في البروتينات والدي إن إيه؛ فعلى عكس جزيئات الماء أو الجلوكوز، التي تكون واحدة أينما وجدت، تختلف جزيئات البروتينات والدي إن إيه من كائن لآخر.
شكل 2-1: تتمثل الجزيئات، التي تكون واحدة لدى كافة الكائنات، في: (أ) الماء، (ب) الجلوكوز، (ج) الحمض الأميني، (د) النيوكليوتيد. يسمى الحمض الأميني الواضح في الشكل الجلوتامات، وتظهر الروابط التي تربطه بالأحماض الأمينية المجاورة داخل البروتين في شكل خطوط متقطعة. أما النيوكليوتيد الموضح في الشكل فيسمى أدينين ديوكسي نيوكليوتيد: تمثل الحلقة العليا التي تحتوي في تكوينها على ذرات النيتروجين
N
جزء الأدينين، أما الحلقة السفلى فتسمى ديوكسي ريبوز، وتسمى مجموعة الذرات الموجودة على يسارها، التي تحتوي على ذرة فسفور، فوسفات. تحتوي كل الديوكسي نيوكليوتيدات (تسمى أحيانا نيوكليوتيدات للاختصار) على ديوكسي ريبوز وفوسفات؛ الحلقة التي تحتوي على النيتروجين هي التي تختلف بين أنواع النيوكليوتيدات الأربعة، التي يشار إليها للتبسيط برموز
A (الموضح في الشكل) و
C
و
G
و
T . تظهر الروابط التي تصل نيوكليوتيد الأدينين بالنيوكليوتيدات المجاورة داخل جزيء الدي إن إيه في شكل خطوط متقطعة. كل النيوكليوتيدات سالبة الشحنة (ويظهر هذا من علامة السالب (−) الموجودة بجوار ذرة الأكسجين المتصلة بذرة الفسفور). تكون المجموعة الأمينية
NH
2
أحيانا موجبة الشحنة، وفي أحيان أخرى لا تكون كذلك، وهي تظهر هنا في شكل عديم الشحنة. تكون بعض الأحماض الأمينية موجبة الشحنة، ويكون البعض الآخر منها غير مشحون (محايدا)، في حين يكون بعضها، مثل الجلوتامات في الشكل (ج)، سالب الشحنة. (2) البروتينات والدي إن إيه
تتألف البروتينات من مئات ذرات الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين
N
وبعض الكبريت
S ، ترتبط كلها معا في سلاسل طويلة، تتألف كل منها من سلسلة من وحدات أصغر حجما تسمى الأحماض الأمينية (شكل
2-1 ). تخيل سلسلة حلقية معدنية تحتوي على مئات الحلقات؛ إذا كان البروتين في سلسلة، فإن الأحماض الأمينية تمثل كل حلقة فيها. وتماما كما يمكن ثني السلسلة الحلقية لتكون تكوينات أصغر حجما، عن طريق وضعها في دلو مثلا، يمكن ثني البروتين أيضا على النحو نفسه في شكل ملفوف يتمثل في الخلايا (شكل
2-2 ). لا تكون الأحماض الأمينية التي يتكون منها البروتين متشابهة؛ فيوجد 20 نوعا مختلفا من الأحماض الأمينية، ويستطيع أي منها الارتباط بالآخر. يتفاوت طول السلسلة أيضا؛ فبعض البروتينات تتكون من سلاسل قصيرة نسبيا، بينما تتكون بروتينات أخرى من سلاسل أطول. يعتبر الأنسولين مثالا على النوع الأول، والهيموجلوبين مثالا على النوع الثاني؛ لذلك عندما يوصف جزيء بأنه بروتين، فإن هذا يحدد تكوينه؛ فيتكون من كثير من الأحماض الأمينية المرتبطة معا في سلسلة . يختلف التكوين الدقيق من بروتين لآخر،
1
ولأن تكوين الجزيء يحدد وظيفته، فإن البروتينات يمكنها أداء أنشطة متنوعة للغاية؛ فالبروتينات في الواقع هي وسطاء الطبيعة.
شكل 2-2: جزيئات مختلفة اختلافا يسيرا لدى الكائنات كافة. يظهر الشكل نوعين من البروتينات: (أ) الأنسولين البشري. و(ب) الهيموجلوبين البشري. تعبر الخطوط عن الروابط بين الذرات كما في شكل
2-1 ، بدرجة تكبير أقل (الذرات الفعلية حذفت). هذه الأشكال نماذج ثلاثية الأبعاد قائمة على تصوير البلورات بالأشعة السينية. يبدو الهيموجلوبين متناسقا لأنه يتكون فعليا من أربع سلاسل منفصلة من الأحماض الأمينية؛ سلسلتي ألفا وسلسلتي بيتا. أعيدت طباعة هاتين الصورتين من قاعدة بيانات سويس بروت (الأنسولين:
http://ca.expasy.org/cgi-bin/niceprot.pl?1308 ) و(الهيموجلوبين:
http://ca.expasy.org/contact.html ) من بنك بيانات البروتين. انظر إتش إم بيرمان وآخرين، «بنك بيانات البروتين»، مجلة نيوكليك أسيدس ريسيرش العدد 28: 235-242، 2000.
يحتوي جسم الإنسان على أكثر من 100 ألف نوع مختلف من البروتينات، كل منها له وظيفته المحددة؛ فيساعد الأنسولين على امتصاص السكر من مجرى الدم في العضلات والكبد، ويحمل الهيموجلوبين الأكسجين عبر مجرى الدم، ويشكل الأكتين والميوسين الشعيرات القابضة والباسطة للعضلة، وتحفز بروتينات أخرى عملية التمثيل الغذائي؛ فتساعد في تفكيك الطعام الذي نتناوله؛ ومن ثم تمكننا من استخدام الطاقة الناتجة في ضخ الدم في جميع أنحاء الجسم، وفي الركض والقفز والقتال، في حين تكون بروتينات أخرى مسئولة عن جعل أعيننا زرقاء أو داكنة، وشعرنا أشقر أو أسود، مجعدا أو أملس، وقامتنا كبيرة أو صغيرة، وأفكارنا حزينة أو سعيدة، وقدرتنا العقلية يقظة أو بطيئة الاستيعاب؛ فكل صفة لدينا تحددها البروتينات. كيف تنتقل إذن هذه الصفات من جيل لآخر، كما يحدث بوضوح لكثير منها؟ لا تكون البروتينات نفسها المسئولة عن هذا، وإنما الجزيء الذي يمثل مخططا تمهيديا لكل بروتين في أجسامنا، ذلك الجزيء الذي يسمى الدي إن إيه.
يتكون الدي إن إيه من ذرات الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين والفوسفور
، والتي ترتبط معا في سلسلة أطول من البروتينات. مرة أخرى، تتكون هذه السلسلة من وحدات أصغر، تسمى في هذه الحالة النيوكليوتيدات (شكل
2-1 )، ويتكون الحمض النووي من أربعة أنواع فقط من النيوكليوتيدات: نيوكليوتيد الأدينين (يسمى
A
اختصارا)، ونيوكليوتيد السيتوسين
C ، ونيوكليوتيد الجوانين
G ، ونيوكليوتيد الثيامين
T . إن مدى ما تصل إليه سلسلة الدي إن إيه مذهل للغاية؛ فقد يصل طول جزيء الدي إن إيه البشري، عند بسطه، إلى نحو المترين، ومع ذلك فهو موجود داخل خلية يبلغ اتساعها 10 ميكرومترات. ونظرا لكون الميكرومتر يساوي واحدا على مليون من المتر، فإن هذا يعني تصغيرا للحجم بنحو 500 ألف ضعف. وحتى يتحقق هذا يلتف الدي إن إيه داخل الخلية حول نفسه مرارا وتكرارا عدة مرات، ليس هذا فحسب وإنما في أثناء انقسام الخلية يخزن الدي إن إيه داخل الكروموسومات، الأصغر حجما؛ مقارنة بوضعه المضغوط للغاية داخل الكروموسومات، بينما «يفك» الدي إن إيه نسبيا في أثناء الطور البيني (الفترة بين الانقسامات المتعاقبة للخلية). يمثل كل جزيء من الدي إن إيه في الواقع دائرة مغلقة، تماما مثل العقد المكون من خرزات صغيرة.
حتى نوضح الطول الهائل للدي إن إيه، تخيل أن يكون العقد أرفع من شعر الإنسان بمائة مرة (سلسلة الدي إن إيه أرفع من هذا في الحقيقة)؛ لكنه يعادل في الطول مضمار سباق دائريا يبلغ طوله ميلا. يكون الكروموسوم في حجم رأس الدبوس، وكل خرزة في العقد - النيوكليوتيدات المنفصلة - حجمها واحد على ألف من حجم رأس الدبوس. توجد أربعة ألوان فقط لهذا الخرز؛ الكهرماني للأدينين
A ، والكريمي للسيتوسين
C ، والأخضر للجوانين
G ، والفيروزي للثيامين
T . في الواقع يتكون العقد (الدي إن إيه) من شريطين ملتفين أحدهما حول الآخر، بحيث تكون كل خرزة كهرمانية
A
أو فيروزية
T
على أحد الشريطين مقابلة لخرزة فيروزية
T
أو كهرمانية
A
على الشريط الآخر، وكل خرزة خضراء
G
أو كريمية
C
على أحد الشريطين تقابلها خزرة كريمية
C
أو خضراء
G
على الشريط الآخر. لا يسعني تصوير عقد بهذا الشكل؛ لأن هذا الكتاب لا يحتوي على صور ملونة، ولكني متأكد من أن أي قارئ محب للسعي والتحدي ويستطيع إعداد صورة لمثل هذا العقد، سيجد أن ناشري النصوص الكيميائية الحيوية والأقراص المدمجة سيتهافتون عليه لشراء ابتكاره.
ربما نتعجب من طريقة اصطفاف شريطي الدي إن إيه بمثل هذه الدقة أحدهما أمام الآخر. يرجع هذا لكونهما متكاملين؛ فيجذب كل منهما الشريط الآخر. يمكن تشبيه الوضع بانجذاب قضيبين من المغناطيس أحدهما إلى الآخر؛ فالقطب الشمالي في أحد القضيبين ينجذب للقطب الجنوبي في الآخر، والقطب الجنوبي في القضيب الأول ينجذب للقطب الشمالي في الثاني. يكون الانجذاب بين هذين القضيبين مغناطيسيا، أما الانجذاب بين شريطي الدي إن إيه فهو كيميائي، ويتطلب وجود قوة ضعيفة نسبيا تعرف باسم الرابطة الهيدروجينية.
2
لا يمكن للحياة أن تبدأ على كوكبنا إلا عندما تنخفض درجة الحرارة بالقدر الكافي الذي يحافظ على سلامة الروابط الهيدروجينية التي تربط أجزاء الدي إن إيه معا.
يحدد التسلسل الذي ترتب فيه نيوكليوتيدات الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين على طول جزء من شريط الدي إن إيه، التسلسل الذي ترتبط به الأنواع العشرين المختلفة من الأحماض الأمينية للبروتين معا. ربما تتساءل كيف يمكن لأربعة كيانات مختلفة أن تحدد 20 نوعا آخر؛ فيجب على الأقل وجود 20 نيوكليوتيدا مختلفا في الدي إن إيه من أجل تحديد 20 نوعا مختلفا من الأحماض الأمينية؟ إجابة هذا السؤال هي أن كل حمض أميني لا يتحدد بفعل نيوكليوتيد واحد، وإنما بمجموعة تتكون من ثلاثة نيوكليوتيدات؛ فتكون الشفرة التي تحدد بها نيوكليوتيدات الدي إن إيه أحماض البروتين الأمينية شفرة ثلاثية. يمكن لأي من النيوكليوتيدات الأربعة شغل ثلاثة أماكن في هذه الشفرة الثلاثية؛ ومن ثم يوجد 4 × 4 × 4 = 64 احتمالا مختلفا، أكثر مما يكفي لعشرين حمضا أمينيا. تحدد بعض الشفرات الثلاثية إشارات إضافية، مثل «ابدأ» و«توقف»؛ وهي علامات الترقيم في الدي إن إيه التي تخبر آلية الخلية أين يبدأ البروتين وأين ينتهي؛ ومن ثم فإن الشفرة «أدينين، ثيامين، جوانين»، على سبيل المثال، تشير إلى «بداية بروتين جديد»، بينما الشفرة «جوانين، أدينين، جوانين» تشير إلى حمض الجلوتامات الأميني، والشفرة «جوانين، ثيامين، جوانين» تشير إلى حمض الفالين الأميني، بينما الشفرة «ثيامين، جوانين، أدينين» تشير إلى «نهاية البروتين»، وهكذا. (3) الوراثة
ربما تبهر الجزيئات عالم الكيمياء الحيوية أو المتخصص في علم الصيدلة العصبية طوال حياته، لكنها تكون صعبة بعض الشيء على المسافر الذي اشترى هذا الكتاب في المطار (خاصة إذا كان لديه انطباع أن عنوان الكتاب هو شكل مبتكر من عناوين وكالات المواعدة)، ومع ذلك، فإن القارئ الذي ما زال يقظا حتى الآن قد يلاحظ وجود تناقض، فكيف يستطيع جزيء من الدي إن إيه تحديد شفرة بروتين معين بينما لا يوجد إلا نحو 100 جزيء للدي إن إيه داخل الخلية، في حين يوجد أكثر من 100 ألف، وربما 300 ألف، بروتين مختلف للاختيار من بينها داخل الخلية الواحدة؟ والإجابة عن هذا السؤال هي أن جزيء الدي إن إيه الواحد لا يحدد شفرة بروتين واحد، وإنما عدة آلاف من البروتينات المختلفة. فيحدد جزء من الدي إن إيه شفرة أحد البروتينات، ويحدد الجزء التالي شفرة بروتين آخر، وهكذا؛ فجزيء الدي إن إيه أطول بمليون مرة من البروتين.
3
يسمى جزء الدي إن إيه الذي يحدد شفرة بروتين واحد بالجين؛ ومن ثم يوجد أكثر ألف جين، مجاورة لبعضها على امتداد كل جزيء من الدي إن إيه.
4
يسمى جزيء الدي إن إيه أيضا كروموسوم، ويوجد 23 كروموسوما مختلفا، تضم أشرطة دي إن إيه ذات أطوال مختلفة، في كل خلية بشرية. في الواقع إن العدد الإجمالي للكروموسومات هو 46، نظرا لوجود كل كروموسوم في شكل زوج (شكل
2-3 ). عندما تكون الخلية على وشك الانقسام، يتضاعف عدد جزيئات الدي إن إيه، أو بعبارة أخرى عدد الكروموسومات، ليصل إلى 92؛ بحيث تصبح كل خلية وليدة، بعد انقسام الخلية إلى نصفين، تحتوي مرة أخرى على 46 كروموسوما (23 زوجا)؛ ومن ثم يصبح عدد ال 100 جزيء دي إن إيه التقريبي داخل الخلية، الذي اقترحناه في بداية هذا الفصل، غير بعيد عن الصواب. لماذا توجد الكروموسومات في شكل أزواج؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة؛ فالإنسان يرث مجموعة تتكون من 23 كروموسوما من والدته، ومجموعة أخرى تتكون من 23 كروموسوما من والده.
شكل 2-3: الكروموسومات. يعرض الشكل أزواج الكروموسومات في خلية بشرية لذكر في الطور الوسيط (قبل انقسام الخلية مباشرة). صبغت الكروموسومات بصبغة مشعة ورتبت بحسب حجمها. أعيدت طباعة الصورة من كتاب «الكروموسومات البشرية : مبادئ وتقنيات» لرام إس فايرما وأرفيند بابو، الطبعة الثانية، ماكجرو هيل، نيويورك، 1985، بإذن من شركات ماكجرو هيل.
يرجع سبب الالتباس الذي يحدث في أسماء مثل «الجين» و«الكروموسوم» إلى حقيقة أن ابتكار هذه الأسماء حدث قبل سنوات من معرفة تكوينها الكيميائي (الدي إن إيه)؛ فكلمة «جين» تشير إلى وحدة وظيفية للوراثة (من الكلمة الإغريقية واللاتينية بمعنى «ولادة»)، أما كلمة «كروموسوم» (الكلمة الإغريقية بمعنى «الجسم الملون») فتشير إلى تكوين يرى باستخدام المجهر الضوئي داخل الخلايا المصبوغة بصبغة معينة قبل تهيؤها للانقسام مباشرة. يعود الفضل في ظهور مفهوم الجين إلى جريجور مندل، راهب من مورافيا، الذين عمل في صمت على تهجين سلالات مختلفة من البازلاء في حديقة أحد الأديرة في مدينة برون (التي تعرف حاليا باسم برنو في جمهورية التشيك) منذ 100 عام. لقد أجرى أول تجربة علمية على عملية التهجين، التي مارسها الإنسان منذ 10 آلاف سنة، فلم يكن يبحث عن شيء عدا الآلية التي تنتقل بها صفات معينة من جيل إلى آخر، وقد اكتشف أن صفات نبتة البازلاء، مثل الطول أو القصر، ووجود لون أو غيابه في الزهور، وتجعد البذور أو ظهورها بمظهر أملس، تورث منفصلة عن بعضها، بطريقة يمكن توقعها. واستنتج من هذا أن الصفات تنتقل كعناصر منفصلة، وأطلق عليها الجينات. وبفخر شديد يعترف النمساويون (أو التشيكيون) أن جريجور مندل أحد أكبر علمائهم حتى وقتنا الحالي. لقد اكتشفت مشاركة الكروموسومات في توريث صفات معينة منذ وقت اكتشاف الجينات تقريبا، لكن لم تكتشف الطبيعة الكيميائية للكروموسومات إلا في وقت لاحق، في خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وتحدد أن الجينات المكونة لها هي ببساطة شريط طويل من الدي إن إيه.
5
بعد ذلك، في عام 1950، ظهر اتفاق عام على أن تكوين المادة الوراثية - الكروموسومات والجينات المكونة لها - هو عبارة عن كيان كيميائي واحد يسمى الدي إن إيه. اكتشفت طريقة عمل الدي إن إيه مصادفة، نتيجة للتعرف على تكوينه؛ ففي كامبريدج ابتكر ويليام براج وابنه لورنس تقنية تصوير البلورات بالأشعة السينية من أجل تحديد تركيب البلورات . وقد استطاعا توضيح تكوين الملح
NaCl ، الذي يعتبر أحد أبسط المواد الكيميائية في الطبيعة. هل يمكن تطبيق التقنية نفسها على الدي إن إيه، أكثر الجزيئات تعقيدا على وجه الأرض، الذي لا يعتبر حتى بلورة فعليا؟ تشجع عالم شاب في كامبريدج، يدعى فرانسيس كريك، لمحاولة ذلك، وراودت الفكرة نفسها زميلا باحثا شابا يجري أبحاث ما بعد الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية يدعى جيمس واطسون، كان يعمل في القسم نفسه في هذا الوقت، وبدا تحديد تكوين الدي إن إيه مشروعا مناسبا لتعاونهما المشترك، وإن كان ينطوي على تحد كبير. في الواقع لم يكن كريك قد حصل بعد على درجة الدكتوراه؛ لأن دراساته توقفت بسبب الحرب، ففي الواقع كان من المفترض أن يعمل على أطروحته عن تركيب الهيموجلوبين تحت إشراف ماكس بيروتس، في حين عرض على واطسون مكان في المختبر نفسه لينضم إلى جون كندرو في دراساته للميوجلوبين. يخبرنا هذا الكثير عن سماحة بيروتس وكندرو، وعن المناخ الخالي من التوتر الذي كانا يعملان فيه - في مختبر كافندش، أشهر قسم للفيزياء في بريطانيا - الذي سمح لواطسون وكريك بإشباع حماسهما للدي إن إيه، بدلا من تكريس طاقتهما لدراسة تركيب البروتينات. إلا أن أهمية الدي إن إيه بوصفه المادة الوراثية المحتملة كان معترفا بها بالفعل، ويقال إن لينوس باولنج في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أظهر أن أساس كثير من البروتينات يكون في شكل لولب ألفا، كان على وشك التوصل إلى تركيب الدي إن إيه (كان يعتقد أنه ذو تركيب لولبي ثلاثي). بالتأكيد لم يكن كندرو وبيروتس ورئيس القسم، الذي أصبح في هذا الوقت السير لورنس براج، ضد احتمال توصل هذا الثنائي الشاب الذي تظهر عليه علامات الذكاء لهذا الاكتشاف ونسبته لإنجلترا.
أصبحت بقية القصة معروفة تماما مثل صيحة أرشميدس الشهيرة «وجدتها!» وهو يقفز خارجا من حوض الاستحمام؛ إذ قصها جيمس واطسون على نحو رائع في كتابه «اللولب المزدوج». ورغم عدم وجود دليل فعلي على ركض أرشميدس عاريا في شوارع سرقوسة، فإن التفاصيل المذكورة في كتاب «اللولب المزدوج » جميعها حقيقية على وجه الدقة. إذن هل استطاع واطسون وكريك بلورة الدي إن إيه؟ لا، لم يحاولا حتى فعل هذا. بدلا من ذلك، فقد بحثا عن صور أشعة سينية أعدها آخرون خاصة بالدي إن إيه البلوري الزائف، بحيث يمكنهم شرح تركيبه. وقد عثرا على هذه الصور على مسافة ساعة ونصف، في كلية كينجز في لندن؛ إذ تمكن ثنائي بحثي شاب آخر؛ روزاليند فرانكلين وموريس ويلكنز، من الحصول على صور يمكن أن تكفي لمحاولة شرح تركيبه. اتضح أنها كذلك بالفعل، ونشر واطسون وكريك النتائج في عام 1953. وقد وصف مقالهما الدي إن إيه بأنه تركيب لولبي زوجي، يبقى وحدة واحدة بفعل الروابط الموجودة بين الأدينين والثيامين، وبين السيتوسين والجوانين.
6
في نهاية مقالهما توجد ملحوظة عابرة: «لم يغب عنا أن التزاوج المحدد الذي افترضناه يشير على الفور إلى احتمال وجود آلية لنسخ المادة الوراثية.» ظهرت على الفور أهمية هذه الجملة، وحظي واطسون وكريك، مع موريس ويلكنز، بالتكريم في كل اجتماع علمي. أما روزاليند فرانكلين، الشخص الوحيد الذي تعامل فعليا مع الدي إن إيه، والتي فصلت المادة التي عرف منها تركيبه، فلاقت تجاهلا شديدا، وعندما حصل كريك وواطسون وويلكنز (لكن ليس تشارجاف) على جائزة نوبل في عام 1962، كانت قد سقطت فريسة لمرض السرطان، وكانت في السابعة والثلاثين من عمرها.
يمكن أن يشبه الطفل والديه في صفات وطباع معينة، لكنه لا يكون نسخة طبق الأصل من أي منهما. تكون آلية عملية الوراثة في الواقع نفسها لدى الكائنات كافة - في النباتات والجراثيم والحيوانات أيضا - لذا يمكننا استمرار استخدام البشر في شرح هذه العملية. لماذا إذن لا تكون الطفلة نسخة من والدتها، والطفل نسخة من والده؟ هذا لأن الكروموسومات - المخزون الكامل من الجينات، الذي يشار إليه أحيانا بالجينوم - التي تورث من كل من الوالدين لا تكون متطابقة طوال الوقت؛ فكل مجموعة من الجينات تتوافق مع جزء من كل زوج من الكروموسومات؛ أحدها من الأم والآخر من الأب، ويحدد زوج من الجينات شفرة زوج من البروتينات له الوظيفة نفسها. تكون بعض أزواج الجينات متطابقة؛ ونتيجة لهذا تكون أزواج البروتينات التي تحدد شفرتها متطابقة أيضا. ومثال على هذا الجين الخاص ببروتين الأنسولين؛ فيكون متشابها في كروموسوم الأم والأب؛ ولهذا لا يصنع إلا نوع واحد من الأنسولين. تكون أزواج أخرى من الجينات غير متطابقة، وإنما تكون بالكاد متشابهة؛ ومن ثم تحدد شفرة بروتينات يوجد بينها اختلاف طفيف؛ فبينما يؤدي كلا البروتينين الوظيفة نفسها، قد يؤديها أحدهما بشكل أفضل أو أسوأ من الآخر؛ ونتيجة لهذا يكون تعبير هذا الزوج من الجينات خليطا من نشاطين. سنعطي مثالا على هذا بعد قليل. لكن أولا، لا بد أن نركز على ما يسبق اختلاط كروموسومات الأم والأب في أثناء عملية تخصيب الحيوان المنوي للبويضة.
حتى تحتوي كل خلية لدى الجنين الآخذ في التكون على العدد المطلوب من الكروموسومات - مجموعتين من 23 كروموسوما - يجب أن ينقسم العدد الموجود في كل بويضة أو حيوان منوي إلى النصف؛ بحيث يحتوي كل منهما على مجموعة فردية، وليست زوجية، من الكروموسومات. يحدث انقسام أزواج الكروموسومات هذا في أنسجة الخلايا الجنسية؛ البويضات لدى النساء، والخصيتين لدى الذكور. في أثناء هذه العملية تحتوي الخلايا، التي ستنضج لتصبح بويضات أو حيوانات منوية، على مزيج من 23 كروموسوما. بعض الكروموسومات الموجودة في الخلية الجنسية يرثها الفرد من والده، والبعض الآخر يرثه من والدته.
7
وحتى يتضح لك الأمر ما عليك إلا النظر في التجمعات العائلية؛ «جيمس لديه عينا والدته، لكنه طويل مثل والده.» «حقا، لكن انظر إلى أنفه، فهو نسخة طبق الأصل من أنف جده فريدريك.» «صحيح، لكنه يشبه أكثر جده ليونارد في أسلوب تفكيره.» إذن فالجينات لا تتغير في حد ذاتها من جيل لآخر، كما اكتشف مندل، وإنما تحفظ داخل تجمعات عائلية. وعند تطبيق هذا بتوسع على تجمع كامل من السكان، فإننا نجد إجمالا أن مجموعة الجينات تظل إلى حد ما كما هي على مدار مئات وآلاف الأعوام. (4) ظهور تنويعات الجينات
تفسر الآلية التي شرحتها للتو عملية الخلط بين الجينات في كل جيل. لكن كيف تظهر تنويعات الجينات المختلفة في المقام الأول؟ تتغير الجزيئات الموجودة داخل الكائن - البروتينات والدي إن إيه والليبيدات وغيرها - باستمرار بسبب تفاعلها مع الجزيئات الموجودة في البيئة؛ الطعام الذي نتناوله، والهواء الذي نتنفسه، والجزيئات التي تكونها أشعة الشمس والإشعاعات الأخرى التي تسقط على جلدنا. فالحياة هي عملية تفاعل مستمر بين الجزيئات التي نرثها وتلك التي نكتسبها. تكون بعض الجزيئات من النوع الأخير من نوع يعرف باسم «الجذور الحرة»، التي تميل إلى أكسدة الجزيئات التي تحتك بها. وإذا دمر جزيء من البروتين (أو الليبيد) على هذا النحو، فلا مشكلة في ذلك؛ إذ يوجد نحو 10 آلاف نسخة من أي بروتين داخل الخلية الواحدة، ويكفي 9999 جزيئا لم يتأثر للحفاظ على وظائف هذه الخلية. وحتى إن تأثرت جميع الجزيئات التي تقدر بنحو 10 آلاف جزيء داخل الخلية، فإن العواقب قد تظل غير خطيرة؛ نظرا لوجود مليارات (10
12 ) الخلايا داخل أي عضو، مثل الكبد.
لكن عندما تعتمد الوظيفة على مجموعات من الخلايا أصغر من ذلك بكثير، كما في مسارات حسية معينة في المخ أو في عضلات «تنظيم ضربات القلب» في القلب، فإن التدهور الوظيفي يصبح واضحا (فنادرا ما تتحسن وظيفة البروتينات). يكون هذا أساسا لبعض الأمراض المعينة، وجزءا من عملية الشيخوخة. ورغم العدد الكبير الذي يتلف من البروتينات في أجسامنا، فإننا لا ننقل هذا الخلل لذريتنا؛ ليس فقط بسبب حدوث عملية الإنجاب قبل حدوث تلف واضح، وإنما بسبب وجود عدد قليل للغاية من البروتينات التي ذكرناها للتو داخل الحيوان المنوي أو البويضة. على أي حال، فإن البروتينات لا تستنسخ ذاتيا؛ ومن ثم فإن جزيء البروتين المصاب الموجود في جسم الجنين سرعان ما يضعف تأثيره بسبب ملايين جزيئات البروتين الجديدة التي تصنع.
8
أما الدي إن إيه، من ناحية أخرى، فيستنسخ مع كل انقسام للخلية، سواء في جسم إنسان بالغ أو في البويضة المخصبة؛ ومن ثم فإن أي تلف يصيب الدي إن إيه فإنه يستمر. وربما تؤدي طبيعة التلف إلى تحول في أحد النيوكليوتيدات؛ فعلى سبيل المثال، قد يتحول السيتوسين إلى ثيامين. يسمى هذا التغيير الطفرة. وإذا حدث داخل منطقة من الدي إن إيه تحدد شفرة أحد البروتينات؛ بعبارة أخرى داخل أحد الجينات، فإنه يؤدي إلى إنتاج ملايين الجزيئات المعدلة من البروتين في ملايين الخلايا. يمكن ألا يتأثر عمل البروتين المعدل، أو ربما يقل، لكنه نادرا ما يتحسن، وبناء على المكان المحدد للنيوكليوتيد الطافر قد لا يجري تصنيع أي بروتين على الإطلاق، كما يحدث مثلا عند إصدار الأمر «توقف» في بداية تسلسل البروتين.
يحتوي جسم الفرد الذي تحدث لديه مثل هذه الطفرة على نسختين من هذا البروتين؛ النسخة الأصلية غير المعدلة، والنسخة المعدلة. إذا حدثت الطفرة داخل خلية لا توجد في نسيج الخلايا الجنسية، فإن الأمر ينتهي عند وفاة الفرد، ولا يجري توريث الطفرة.
9
أما إذا حدثت الطفرة داخل الحيوان المنوي أو البويضة، فيوجد احتمال 50٪ لانتقال الجين المعدل إلى الجيل التالي. وربما يتفاوت وضع الذين يرثون النسخة المعدلة، بالإضافة إلى نسخة غير معدلة من الوالد الآخر، من حيث وظيفة هذا البروتين على وجه الخصوص، بين عدم التأثر على الإطلاق، أو ربما تسوء حالتهم قليلا، أو تتحسن قليلا.
إن مصطلحي «تسوء» و«تتحسن» مصطلحان نسبيان؛ فالنسخة «الأسوأ» من أحد البروتينات ربما تكون في الواقع مفيدة في ظروف معينة؛ فعلى سبيل المثال، امتلاك شكل مختلف من الهيموجلوبين يدعى الهيموجلوبين «المنجلي»
10
يعطي ميزة للذين يعيشون في بيئة موبوءة بالملاريا؛ إذ إن الجرثومة الطفيلية «المتصورة المنجلية»، التي تدخل إلى مجرى دم الإنسان الذي يتعرض للدغة بعوضة تحمل هذه الجرثومة، تقل نسبة بقائها على قيد الحياة في خلايا الدم الحمراء التي تحتوي على 50٪ هيموجلوبين منجلي و50٪ هيموجلوبين عادي. ربما يتعرض مثل هذا الإنسان لمشكلات وعائية بسيطة؛ لأن الهيموجلوبين المنجلي يتسبب في تشوه خلايا الدم الحمراء؛ إذ تصبح منجلية الشكل؛ ومن ثم تمر بصعوبة أكبر عبر الشعيرات الدموية، لكنه يكون أقل عرضة للوفاة بسبب الملاريا. لكن عندما يصبح الهيموجلوبين في جسم الإنسان من النوع المنجلي بنسبة 100٪، فإن المشكلات الوعائية تفوق أي مميزات لها علاقة بمقاومة الملاريا . إذن تصبح الجينات المتغيرة متركزة لدى السكان في مناطق جغرافية معينة. ومع تغير البيئة على مدى آلاف السنين، يمكن لمثل هذه الطفرات الاختفاء تدريجيا، أو أن تصبح مركزة، لدى مجموعة معينة. هذه هي الآلية التي تصبح بها النسخ المختلفة من أحد البروتينات مرتبطة بمجموعات عرقية مختلفة؛ ويعتبر لون الجلد أوضح مثال على هذا؛ ببساطة لأن الاختلافات الأيضية، مثل امتلاك هيموجلوبين منجلي، لا يمكن التعرف عليها من المظهر الخارجي للإنسان. (5) ظهور أنواع جديدة
إن القوقازيين والآسيويين والأفارقة والسكان الأصليين لأستراليا كلهم أشكال مختلفة من النوع نفسه؛ «الإنسان العاقل». ينتمي الشمبانزي إلى نوع مختلف؛ «بان تروجلوديت» أو «الشمبانزي القزم». مم يتألف النوع، وكيف ينشأ نوع جديد؟ الغريب في الأمر أن الإجابة عن السؤال الأول أقل وضوحا من الإجابة عن الثاني.
بوجه عام يمكن عزو كائنين إلى نوعين منفصلين إذا كانت الذرية التي تنتج عن تزاوجهما عقيمة؛ فعند حدوث تزاوج بين فرس وحمار، فإن ذريتهما، البغل، تكون عقيمة؛ ومن ثم فإن الفرس والحمار ينتميان إلى نوعين منفصلين.
11
من ناحية أخرى، تنتمي الذئاب والقيوط والكلاب إلى أنواع منفصلة، رغم أن الذرية التي تنتج من تزاوجها تكون في معظم الأحيان قادرة على الإنجاب.
12
يبدو أن معيار قضية عدم القدرة على الإنجاب لا يعبر بدقة عن الأمر. إذن هل علينا اعتبار أن الذئاب والقيوط والكلاب تنتمي لنوع واحد؟ وهل هذه الأنواع الثلاثة من الحيوانات مجرد أشكال مختلفة وحسب؟ ليس بالضرورة. فالفكرة أن الذئاب والقيوط والكلاب تصادف امتلاكها للعدد نفسه من الكروموسومات؛ 39 زوجا، بينما يختلف العدد الموجود لدى الأحصنة عن الموجود لدى الحمير؛ ومن ثم فإن الانقسام الاختزالي
13
14
الذي يحدث لدى الذرية التي تنتج عن التزاوج الداخلي في عائلة الكلبيات يحدث بسهولة أكبر منه في ذرية الفرس والحمار. ربما يكون أدق تعريف للنوع هو التالي: «مجموعة من الأفراد يوجد بينها تدفق جيني».
15
يغفل هذا التعريف الآليات الجزيئية ولكنه يضع في اعتباره الأسباب الجغرافية والسلوكية لغياب التدفق الجيني. لا يزال المتخصصون في علم الحيوانات مختلفين حول هذه القضايا . وما يعنينا في هذا أن التمييز بين الأنواع المختلفة والأشكال المتباينة داخل النوع نفسه ليس دقيقا. حتى داروين نفسه كان متحفظا؛ فلم يحدد في أي موضع من كتابه «أصل الأنواع» ما يقصده بالضبط بالنوع.
ذكرت من قبل تضاعف جينات معينة؛ ويحدث هذا عندما ينسخ جين معين مرتين بدلا من مرة واحدة في أثناء عملية تصنيع الدي إن إيه. يعني مثل هذا الحدث وجود جينين متطابقين، أحدهما بجوار الآخر، على الكروموسوم نفسه. تصحح هذه العيوب، تماما مثل الطفرات داخل الجينات، بوجه عام في أثناء عملية تعرف باسم «تصحيح الأخطاء». لكن إذا كانت آلية تصحيح الأخطاء هذه هي نفسها تالفة، فقد تظل الأخطاء موجودة وتنتقل إلى الجيل التالي (إذا حدثت الطفرة في خلية جنسية). يولد امتلاك نسخ متعددة من الجينات فرصة لإنتاج بروتينات ذات تأثير متفاوت عن طريق الطفرات التالية.
16
من ثم يؤدي تضاعف الجينات وطفورها باستمرار إلى إنتاج أشكال مختلفة من البروتينات، وإذا عانى الذين يمتلكون هذه البروتينات من ظروف معيشية صعبة، فإن الجينات الطافرة ستختفي بالتدريج من تجميعة الجينات؛ لكن إذا كان لهذه البروتينات فائدة، فإنها ستظل باقية، ومع تراكم المزيد من مثل هذه الأشكال الطافرة لدى تجمع من السكان، فإنها ستمد أصحابها في النهاية بصفات تميزهم عن أسلافهم. وهذه، بإيجاز، الكيفية التي يظهر بها نوع جديد.
لا يظهر النوع الجديد، سواء لإنسان أو قرد أو فيل أو فراشة، ببساطة في وقت ما؛ فجميع الكائنات
17
تتغير باستمرار بالطرق غير الملحوظة التي شرحتها. ومن بين كافة الأشكال المتغيرة التي تظهر، قد يجد بعضها أنه أكثر ملائمة للبيئة في هذا الوقت من غيره؛ ومن ثم يتكاثر أسرع. تواصل الكائنات الأكثر تكيفا الازدهار، بينما تختفي الكائنات الأخرى بالتدريج؛ ويعني العدد الهائل من الكائنات الناجحة فوزها في المنافسة على الطعام والمأوى والماء والتزاوج، وربما تكون لديها قدرة أفضل أيضا على تجنب المفترسات. هذا في الأساس ما كان يعنيه تشارلز داروين والعالم المعاصر له الذي ينساه كثيرون، ألفريد راسل والاس،
18
حين اقترحا أن تطور الأنواع يحدث من خلال الانتقاء الطبيعي، عبر آلية «البقاء للأقوى»، على حد قول هيربرت سبنسر، المصلح الاجتماعي الذي ظهر في القرن التاسع عشر، وكان أحد أنصار نظرية داروين التطورية. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، بدأت مبادئ التغير الجغرافي البطيء - مثل تكون الأودية من خلال عملية التعرية التي تحدث بسبب الأنهار الجليدية والأنهار العادية - تظهر ويقرها كثير من العلماء في هذا الوقت.
19
لكن الأمر الذي لم يخطر على ذهن أحد عدا داروين ووالاس في إنجلترا، وجان باتيست لامارك قبل نصف قرن في فرنسا، أن الكائنات الحية قد تتغير ببطء أيضا بمرور الوقت. اختلف لامارك عنهما في اعتقاده بأن الصفات التي يكتسبها الكائن طوال حياته تنتقل إلى ذريته؛ أما داروين ووالاس فقد اختارا الاعتقاد بأن الطبيعة تطرح عددا من الأشكال المختلفة، لا يبقى منها إلا الأكثر ملاءمة للبيئة في هذا الوقت. أثبت فيما بعد أن وجهة نظر لامارك غير صحيحة، رغم إعادة إحيائها في الحقبة السوفييتية على يد عالم الأحياء تروفيم دينيسوفيتش ليسينكو؛ فقد لاقت نتائجه التي كانت تهدف لإظهار وراثة الصفات المكتسبة استحسان جوزيف ستالين؛ فهكذا تنتقل قيم الماركسية بين الناس عبر الأجيال. بالإضافة إلى ذلك، سعد ستالين على وجه الخصوص بزعم ليسينكو أن البذور التي تتعرض لدرجة حرارة منخفضة ستكون أكثر قدرة على إنتاج محاصيل في الطقس البارد؛ إذ كان من شأن هذا أن يغير المحاصيل الزراعية في جميع أنحاء سيبيريا. كانت النتيجة مختلفة تماما؛ فقد مات الملايين من الجوع (لكن ليسينكو أصبح مديرا لمعهد علم الوراثة ورئيس أكاديمية لينين للعلوم الزراعية التي تشمل كل الاتحاد السوفييتي). المهم في الأمر أنه في عام 1850، سواء في إنجلترا أو فرنسا، لم يكن يوجد إلا عدد قليل من الناس الذين لا يقرون بأن أصل كل أنواع الحيوانات والنباتات هو حدث إلهي لم يتكرر.
لم يعلن داروين عن نتائجه، التي استوحاها من الاختلافات الطفيفة بين طيور البرقش التي وجدها على جزر جالاباجوس التي تقع غرب الإكوادور، طوال أكثر من 15 سنة، وعندما أدرك أن والاس كان يفكر على النحو نفسه، أسرع في نشر كتابه «في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة» مع الناشر جون موراي، في 24 من نوفمبر عام 1895. أرسل موراي أجزاء من المسودة من أجل مراجعتها، ورغم ما حصلت عليه هذه الأجزاء من تعليقات لاعنة من البعض، فإن عددا كافيا من العلماء ذوي المكانة الرفيعة - عالم الجيولوجيا السير تشارلز لايل، وعالم النباتات السير جوزيف هوكر، وآخرين غيرهما - دعم آراء داروين بقوة تكفي لتجعل موراي يقدم على مثل هذه المخاطرة. طبع 1250 نسخة من الكتاب، بيعت كلها على الفور، وطبعت طبعة ثانية تبلغ 3000 نسخة من أجل تلبية الطلب عليه. أصبح الكتاب حديث الدوائر الثقافية في جميع أنحاء إنجلترا، وسرعان ما نشر في أمريكا، وتبع ذلك ترجمته إلى الألمانية والفرنسية. ورغم ذلك كان رد الفعل العام عليه متباينا؛ فلم يفهم إلا عدد قليل ما كان يحاول داروين أن يقوله، والذين اعتقدوا أنهم فهموا قصده، أدانوه لأسباب دينية. أضيفت السخرية أيضا إلى الهجوم: «سيد هكسلي: أود أن أعرف من أي جانب تدعي أنك انحدرت منه من نسل القرود؛ من جانب جدك أم جدتك؟» هكذا حاول الأسقف صامويل ويلبرفورس إحراج توماس هكسلي، عندما كان هذا الرجل المحترم يؤيد فرضية داروين عن أصل الأنواع في اجتماع للجمعية البريطانية لتقدم العلوم في أكسفورد عام 1860.
20
أغضبت هذه المزحة الساخرة من «سام المتملق» ويلبرفورس - ابن المصلح الاجتماعي ويليام ويلبرفورس، الذي أدت حججه القوية في البرلمان إلى إلغاء العبودية في بريطانيا قبل 25 عاما - هكسلي كثيرا. من ناحية أخرى، أعطى افتقار هجوم ويلبرفورس للمنطق فرصة لهكسلي للرد سريعا بعنف قائلا: «أنا لا أخجل من أن يكون أسلافي من القردة؛ ولكني أخجل من معرفة رجل استخدم الهدايا الكبيرة لإخفاء الحقيقة.» لاقى كلام هكسلي استحسان الجميع، بينما حصل ويلبرفورس على الازدراء.
بخلاف التحيز الفطري لدى الناس ضد فرضية التغير المستمر للأنواع، كانت المشكلة تتمثل في عدم قدرة داروين على تقديم تفسير منطقي لطريقة تحقق هذا التنوع. لم يظهر الدليل اللازم لتفسير هذا الأمر إلا بعد مرور أكثر من قرن من الزمن؛ فعندما بدأت دراسة الكائنات الحية من الناحية الجزيئية، بدأت تظهر الآلية التي تحدث بها هذه التغييرات الخفية في الشكل والوظيفة. كم كان داروين سيقدر الاكتشافات العلمية التي حدثت في فترة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، والسهولة الفطرية لتضاعف الدي إن إيه والشفرة الثلاثية!
إذا كانت عملية ظهور نوع جديد تحدث ببطء، فإن عملية انقراض نوع موجود بالفعل، أقل قدرة على التكيف، تكون عادة أكثر بطئا؛ فعلى مدار مليار سنة مضت تقريبا، كان ظهور الأنواع الجديدة أسرع من عملية انقراض الأنواع الموجودة على قيد الحياة؛ مما أدى إلى حدوث تنوع متزايد في الكائنات الحية، وحاليا يوجد نحو 10 ملايين نوع مختلف من النباتات والحيوانات في العالم، لم يرد وصف إلا مليون ونصف مليون نوع فقط منها حتى الآن. تتعايش الأنواع التي ستتعرض للانقراض في النهاية مع الأنواع التي ستنجو؛ فعلى سبيل المثال، بعد وقت طويل من ظهور الإنسان الحديث، ظلت أنواع من القردة العليا الأقدم تعيش معه. إن المدى الزمني الذي يستغرقه التغير التطوري حتى يصبح واضحا، في حالة الرئيسيات مثل القردة العليا والإنسان، يقدر بمئات الآلاف من السنين. بالطبع أحيانا يحدث الجزء الثاني من العملية، المتمثل في انقراض الأنواع، بسرعة أكبر.
على سبيل المثال، غير الارتطام المحتمل لمذنب من الفضاء الخارجي منذ 65 مليون سنة البيئة؛ بحيث أدى إلى انقراض الديناصورات في خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا.
21
يعتقد أن عرض هذا المذنب كان يقدر بنحو 6 أميال، وأن ارتطامه بالأرض كان بقوة تساوي انفجار مليار قنبلة نووية؛ ونتيجة لهذا أحدث حفرة، في خليج المكسيك، يبلغ عرضها 100 ميل. أدى هذا إلى ظهور سحابة من الغبار ربما استمرت لفترة تتراوح بين عدة أشهر إلى ما يقرب من عقد؛ مما أدى فعليا إلى توقف عملية التمثيل الضوئي بالكامل. وبالتدريج أصبح لنقص النباتات الخضراء تأثير هائل على السلسلة الغذائية؛ إذ كان له إما تأثير مباشر على الديناصورات، التي كان كثير منها نباتيا، أو تأثير غير مباشر، من خلال نقص عدد الحيوانات التي كانت تتغذى عليها. كان أحد الآثار الأخرى لهذا الحدث الاحترار العالمي؛ حيث أدى توقف التمثيل الضوئي إلى عدم امتصاص أوراق الأشجار لثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو، ونتيجة لهذا تكون الكمية الزائدة من ثاني أكسيد الكربون في الجو حاجزا عازلا حول الأرض، وهو المعروف بتأثير «الصوبة الزجاجية»، وربما يكون مثل هذا الاحترار قد أثر بالسلب على قدرة الديناصورات على التكاثر؛ هذا لأنه كما نعلم فإن جنس مواليد بعض أنواع الزواحف (فئة من الفقاريات من أقارب الديناصورات) يتحدد جزئيا بدرجة الحرارة التي ينمو فيها داخل البيضة. إذا كان هذا ينطبق أيضا على بيض الديناصورات فربما تكون نسبة الذكور للإناث تغيرت كثيرا؛ بحيث تعذر على أي نوع من الديناصورات البقاء على قيد الحياة، كذلك من المحتمل أن يكون انبعاث أدخنة سامة من الحفرة هو ما أفناها.
مع ذلك، قبل انقراض الديناصورات بالكامل، بدأت أنواع معينة في التطور بالفعل لتصبح أسلاف الزواحف الموجودة في عصرنا الحالي، مثل التماسيح والسلاحف؛ بينما تطور البعض الآخر، على الأرجح، ليشكل فئة الطيور الموجودة في عصرنا الحالي. يوجد اتفاق عام على فكرة أن عصر الزواحف انتهى منذ نحو 65 مليون سنة، مع الحلول التدريجي للثدييات محل الديناصورات؛ إذ بدأت الثدييات تظهر في ظل أخطار محدقة قرب نهاية عصر هيمنة الديناصورات. استمر عصر الثدييات الذي نتج عن هذا حتى يومنا هذا. اختفت كائنات أخرى، مثل المنخربات،
22
من على سطح الأرض مع الديناصورات. ويمكن أن تدفعنا حقيقة وجود السلاحف والتماسيح على الأرض لأكثر من 100 مليون سنة إلى اعتبارها حققت نجاحا باهرا من الناحية التطورية. بدلا من ذلك، يمكننا التفكير في قياس النجاح بعدد الأنواع المختلفة التي تعبر عن أي فئة. في هذه الحالة، قد تتفوق الحشرات (التي تضم أكثر من مليون نوع معروف، وربما أكثر من 9 ملايين نوع آخر لم تكتشف بعد) بسهولة على كافة الفئات الأخرى؛ على سبيل المثال، الثدييات التي تضم أقل من 5 آلاف نوع منفصل.
منذ ظهور الإنسان أصبحت الأنواع تتعرض للانقراض على نحو أسرع نتيجة لأفعاله؛ بسبب الصيد والزراعة والتعدي المستمر على الغابات وحقول السافانا؛ إذ أصبحت أعداد البشر تزيد على حساب النباتات والحيوانات الموجودة حولهم. تشير التقديرات إلى أنه في خلال آخر 300 سنة زاد معدل انقراض الطيور والثدييات من 5 إلى 50 ضعف المعدل «الطبيعي»؛ بمعنى انقراض نوع كل 4 سنوات تقريبا. بعبارة أخرى: يكون إجمالي عمر أي نوع، في المتوسط، نحو مليون سنة تقريبا. في أثناء العقود الأخيرة من القرن العشرين ارتفع معدل الانقراض 20 ضعفا مرة أخرى؛ فقد أصبحنا الآن نفقد تقريبا نوعا من الحيوانات أو النباتات كل يوم،
23
فبطريقة أو بأخرى انقرض أكثر من 99,9٪ من الأنواع التي ظهرت على سطح هذا الكوكب. (6) ظهور جنس جديد
إذا كان ظهور نوع جديد لا يتطلب أكثر من مجرد تراكم جينات طافرة، فهل ينطبق الأمر نفسه أيضا على ظهور جنس جديد، مثل جنس الهومو (الإنسان) الذي ظهر من جنس البان (الشمبانزي)؟ تشبه جينات الإنسان جينات الشمبانزي بنسبة 95٪. ما الذي يعنيه هذا فعليا، وكيف حصلنا على هذه النسبة؟
تعني نسبة الشبه الكبيرة أن الدي إن إيه البشري يتكون تقريبا، وليس بالكامل، من العدد نفسه من الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين على طول شريطيه.
24
ورغم أن إجمالي طول الدي إن إيه لدى الشمبانزي هو نفسه لدى الإنسان، فمن قبيل المفاجأة أن عدد الكروموسومات ليس واحدا؛ إذ يوجد لدى الشمبانزي 24 زوجا من الكروموسومات، بينما يمتلك الإنسان 23 زوجا. يبدو أن ما حدث في مرحلة ما من تطور الإنسان أن أحد الكروموسومات الأربعة والعشرين المأخوذة من أسلافنا اندمج مع الكروموسوم 11؛ مما جعله أطول لدى البشر منه لدى الشمبانزي. إذن فعدد أزواج الكروموسومات في أي كائن - على سبيل المثال، 18 لدى الثعلب الأحمر، لكنها 25 لدى الثعلب القطبي، و32 لدى ثعلب الصحراء، و37 لدى الثعلب الأشيب الذي يوجد في شمال شرق البرازيل
25 - لا تكون له أهمية كبيرة مقارنة بإجمالي عدد الجينات الموجودة داخلها.
عرفنا وجود تشابه بنسبة 95٪ باستخدام طريقة تدعى التهجين.
26
كما ذكرنا في الفصل السابق فإن تفسيري للاختلاف الجيني الموجود بنسبة 5٪ تقريبا بين الإنسان والشمبانزي أنه يعكس درجة التنوع في الجينات التي تنتمي لفصائل متشابهة لدى كائنين؛ ومن ثم تؤدي تقريبا الوظائف نفسها، فلا توجد جينات تميز البشر في مقابل جينات تميز الشمبانزي.
27
يختلف رأيي في هذه النقطة عن علماء مثل جارد دياموند، الذي يبدو أنه يعتقد أننا نستطيع العثور على الجينات التي تميز الإنسان في هذا الاختلاف الجيني بينه وبين الشمبانزي الذي يقدر بنسبة 5٪.
28
مع ذلك يجب علي توخي الحذر؛ فرغم أننا أصبحنا الآن نعرف التسلسل الدقيق لمعظم الدي إن إيه البشري، فإن جينوم الشمبانزي لم يعرف تسلسله حتى الآن (فالمشروع الآن قيد التنفيذ)؛ وعليه فلا يمكننا التأكد من وجود تماثل حقيقي بين الجينات؛ إذ يكون بعضها متطابقا، والبعض بينه تطابق تقريبي، والبعض الآخر بينه مجرد تشابه، على طول كامل تتابعات الدي إن إيه الخاصة بها.
أما عن الوظيفة التي يحددها كل جين عند ترجمته إلى بروتينات، فإننا لا نعرف هذا حتى في حالة الإنسان، فلا يمكننا في الوقت الحالي استنتاج وظيفة أحد البروتينات من مجرد تسلسل الأحماض الأمينية التي يتكون منها، التي تمثل كافة المعلومات التي يحتوي عليها الجين؛ فقد اتضح أن بعض البروتينات ذات التسلسل المتشابه تؤدي وظائف مختلفة، وبعض البروتينات ذات التسلسل المختلف تؤدي الوظيفة نفسها. استغرقت معرفة تسلسل الدي إن إيه البشري أقل من عقد من الزمن، ومن المحتمل أن يستغرق فهم وظائف كافة البروتينات التي تحددها هذه الجينات على الأقل الفترة نفسها. وحتى تتضح وظائف كافة البروتينات لدى الشمبانزي والإنسان لا يمكننا التأكد مما إذا كان أحدها يؤدي دورا مختلفا تماما لدى الشمبانزي عن دوره لدى الإنسان أم لا. ومع ذلك، أيا كانت النتيجة، يمكننا التأكد إلى حد ما أن الآلية التي شرحناها مسبقا عند الحديث عن ظهور الأنواع الجديدة من حيث التراكم التدريجي للجينات الطافرة؛ تنطبق أيضا على ظهور الأجناس الجديدة.
إذا أردنا توسيع نطاق تطبيق هذه الحجة، فيمكنني توقع عدم وجود جينات خاصة بالرئيسيات في مقابل جينات خاصة بالقرود، وجينات خاصة بالثدييات في مقابل جينات خاصة بالطيور أو الزواحف، وجينات خاصة بالفقاريات في مقابل جينات خاصة باللافقاريات، وهكذا؛ فنحن لا نستطيع التعرف على إنسان أو شمبانزي، قرد أو حمامة، تمساح أو دبور، من خلال جيناته فقط؛ فلا يمكن تحديد انتماء الكائن إلا كوحدة واحدة لأحد الأنواع أو الأجناس أو الفصائل أو الرتب أو الفئات أو الشعب. ظللت طوال أكثر من 40 سنة أخبر الطلبة الذين يدرسون الكيمياء الحيوية والطب أنه في حال وجدت لدينا خلايا كبد متجانس مذابة في محلول فسيكون من الصعب علينا تحديد إذا كان هذا الكبد لفيل أم لإنسان؛ فتحليل الجزيئات التي يتكون منها لا يكشف عن مصدره، لكن إذا دخل الكائن صاحب هذا الكبد إلى الغرفة، فسيكون من السهل تمييزه عن غيره. في الواقع إن حقيقة أننا نشترك مع الموز في 50٪ من جيناتنا تدعم نقطة التشابه هذه في التكوين الجزيئي بين كافة أشكال الحياة؛ إنه لا يوجد سوى تغير تدريجي بين الجرثومة الأولى والإنسان. (7) تنوع الشكل والوظيفة
تنمو خارج نافذة مكتبي شجرتان متناسقتان من نوع كستناء الحصان (أيسكولوس هيبوكاستانوم). في أواخر فصل الصيف لا يمكن رؤيتهما؛ إذ تكون كل منهما مليئة بالفاكهة التي كنا نطلق عليها ونحن صغار اسم «كونكيرس»، ومع ذلك لاحظت في فصل الربيع تأخر ظهور الأوراق، ومن ثم الأزهار، في الشجرة الموجودة على جهة اليسار لعدة أسابيع عن الشجرة الموجودة على اليمين. على الأرجح كلتا الشجرتين قطعتا من الجذع نفسه؛ فهما شجرتان أختان، لكن الشجرة على اليسار «متأخرة النمو». أشرنا من قبل إلى حقيقة عدم وجود تطابق كامل بين أي فردين من ذرية الكائن نفسه. فحتى في التوأم المتطابق تظهر علامات الاختلاف البسيط مع بدء تأثير البيئة في جيناتهما على نحو مختلف (بحيث يصاب أحدهما، على سبيل المثال، بالسرطان بينما لا يصاب الآخر به).
هكذا في حالة وجود مجموعة تتكون مثلا من 100 فرد ينحدرون كلهم من نفس الوالدين، فإن هؤلاء الأفراد سيتفاوتون ليس فقط في مظهرهم الخارجي، وإنما أيضا سيتصرفون بعدد كبير من الطرق المختلفة؛ فسيكون عدد قليل منهم أكثر عدوانية من البعض الآخر، وسيكون عدد قليل منهم أكثر خضوعا؛ سيكون بعضهم أكثر ذكاء، وآخرون أكثر غباء؛ سيبرع بعضهم أكثر في صنع أشياء بأيديهم، بينما سيكون آخرون أقل براعة؛ سيكون بعضهم أكثر فضولا، بينما يكون آخرون أقل فضولا. إن طيف السلوكيات والمهارات هائل.
29
تشتمل هذه الصفات بالطبع على الصفات التي ذكرنا في الفصل السابق المميزة للبشر؛ مثل القدرة على العمل باليدين، والقدرة على الكلام، وزيادة وظيفة الدماغ. إذن سيوجد أفراد تزيد لديهم الرغبة في البحث؛ والرغبة في صنع أدوات جديدة، واستكشاف آفاق جديدة، والإفصاح عن أهدافهم على نحو أكثر وضوحا، والبحث عن حلول للمشكلات بحماس وفاعلية، وسيتولى أفراد هذه المجموعة الذين يمتلكون واحدة أو أكثر من هذه الصفات قيادة الآخرين في المغامرات الجديدة؛ فسيصبح هؤلاء هم المسئولين عن عواقب السعي البشري التي سنتحدث عنها في الجزء الثاني.
إذا قارنا مثل هذه المجموعة من 100 إنسان بمجموعة تتكون من 100 شمبانزي تنحدر من نفس الوالدين، فعلى الأرجح سنجد بعض التداخل؛ فلن نجد فقط أن بعض الشمبانزي أكثر خضوعا من إنسان عدواني، وإنما يمكننا أن نقابل شمبانزي أكثر ذكاء من إنسان متخلف عقليا. وهذا بالضبط ما أظهرته التجارب التي أجراها علماء مثل سو سافاج رومبوه؛ فقد ربت سو وزملاؤها قرود شمبانزي منذ ولادتها في بيئة موجودة في مركز أبحاث اللغة في أتلانتا، في جورجيا، حيث علموها كلمات بسيطة، تماما مثل تعليم طفل صغير، وكانت النتيجة أن استطاع أحد قردتها نطق كلمات بطريقة تشبه الطفل المعاق. وإذا كانت أجرت هذه التجربة على 100 شمبانزي، فلربما وجدت واحدا يفوق فعلا في قدرته على التعلم الطفل المعاق. بالطبع على الأرجح يكون الشمبانزي أفضل في تقشير الموز من مريض يعاني من شلل سفلي يواجه مشكلة في استخدام يديه. أؤكد هنا على نقطة ذكرتها مسبقا؛ أن جينات الشمبانزي والإنسان متشابهة للغاية، بحيث يجب علينا ألا نتفاجأ عندما يحدث تداخل أحيانا في الوظائف التي تحددها، مثل القدرة على تنفيذ بعض المهام، فكلانا في النهاية أحفاد لسلف مشترك وتوجد بيننا صلة قوية؛ فقد أثبت بعض أفراد هذا النوع، منذ نحو 6 إلى 8 ملايين سنة، أنهم أفضل في تسلق الأشجار وتطوروا ليصبحوا الشمبانزي الشائع أو الشمبانزي القزم؛ بينما أثبت أفراد آخرون أنهم أفضل في السير منتصبين والبحث عن المفترسات أو الفرائس، وتطوروا ليصبحوا الإنسان العاقل، بينما اتضح أن آخرين
30
أقل كفاءة في ممارسة أي من هاتين المهارتين وانقرضوا. إن ما يميز الإنسان عن الشمبانزي هو اجتماع كثير من الصفات؛ اختر صفة واحدة فقط وربما تجد تداخلا بينها وبين صفة أخرى.
هوامش
الفصل الثالث
النباتات والجراثيم: أصل الرؤية
(1) بداية الحياة
بدأت الحياة على سطح الأرض من نحو 3,5 مليارات سنة، وقبل هذا بمليار سنة بدأت مادة غازية منبعثة من الشمس تتجمع لتكون كوكبنا هذا
1
بالإضافة إلى الكواكب الأخرى الموجودة في مجموعتنا الشمسية. والشمس نفسها أخذت تتوهج منذ نحو مليار سنة قبل هذا، ورغم أن عمرها يقرب منذ نحو 5 مليارات سنة، فإنها ليست على الإطلاق أقدم نجم في الكون؛ فيشير معظم علماء الفيزياء الفلكية إلى أن الانفجار العظيم، الذي تكونت بفعله كل المادة الموجودة، حدث منذ فترة تتراوح بين 10 و20 مليار سنة. بمجرد تكون الأرض، رغم تعرضها للقصف المستمر من النيازك، انخفضت درجة حرارتها تدريجيا في فترة تقل عن مليار سنة لتصل إلى درجة حرارة تكون فيها المياه في صورة سائلة، وتكون فيها الجزيئات العضوية مستقرة. ويوجد جدل حول طريقة تكون هذه الجزيئات.
2
على مدار فترة طويلة من الوقت بدأت الجزيئات العضوية تتجمع في شكل بوليمرات توجد داخل غشاء دهني، وبالصدفة استطاعت بعض هذه التجمعات مضاعفة نفسها.
3
عثر على بقايا متحجرة من مثل هذه التكوينات، الخلايا الأولى، في صخور ترجع إلى 3,5 مليارات سنة مضت.
4
تبدو الجراثيم التي تعيش في المياه ذات نسبة الملوحة المرتفعة أقرب شبيه لهذه الجزيئات؛ ومن ثم سميت بالبكتيريا القديمة، أو العتائق اختصارا؛ لتمييزها عن معظم البكتيريا الحديثة الأخرى.
5
تعيش بعض من البكتيريا الحديثة في الينابيع الحارة والفتحات الحرارية المائية، وقد حافظت على قدرتها على التكاثر في درجة الحموضة القصوى (
pH 0 ) وفي درجات حرارة تفوق 90 درجة مئوية، التي كانت موجودة عند أسلافها.
6
لا تستطيع معظم البكتيريا الأخرى، فضلا عن النباتات والحيوانات، البقاء في مثل هذه الظروف.
بعد ظهور أول الكائنات الحية منذ 3,5 مليارات سنة مضت، استغرق ظهور الكائنات المتعددة الخلايا أكثر من ملياري سنة؛ النباتات أولا ثم الفطريات ثم الحيوانات (اللافقاريات منذ نحو 600 مليون سنة، ثم تبعتها الفقاريات).
7
توجد نظرية أخرى بشأن تصنيع الجزيئات العضوية الأولى؛ فقد أيد عالم الفيزياء الفلكية الراحل فريد هويل وزميله شاندرا ويكراماسينج فكرة أن الجزيئات الذاتية التكاثر، مثل الدي إن إيه، لم تصنع في الأصل على سطح الأرض، وإنما في الفضاء الخارجي - ربما قرب المذنبات - ووصلت إلى الأرض في شكل جسيمات (حتى إنهم يستخدمون كلمة «خلية»)، انطلقت بعد ذلك لتكون البكتيريا القديمة. يشيران بعد ذلك إلى أن هذه الجسيمات تنهال باستمرار على الأرض، ومن ثم تدخل إليها، مثل الفيروسات، أمراضا معدية جديدة. ربما تكون فرضيتهما الأولى صحيحة جزئيا؛ إذ رصدت هذه المادة العضوية (باستخدام تقنيات القياس الطيفي) في الفضاء الخارجي، فيحتمل أن تكون مثل هذه الجزيئات، التي تحتوي على الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين، أمدت الأرض بأسلاف الأحماض الأمينية والمكونات الأساسية للأحماض النووية. أيضا من الصحيح أن النيازك وجسيمات الغبار الموجودة في مجموعتنا الشمسية وجد أنها تحتوي على مركبات عضوية ربما تكون أسهمت في تطور الجزيئات لدى الكائنات الحية.
8
ما يصعب فهمه هو كيف يمكن للمادة الكونية إصابة البشر في عصرنا الحالي، فإن خلايانا مأخوذة من صور الحياة البدائية، وتحتوي على الجزيئات نفسها التي كانت موجودة فيها.
9
كما ترتبط جيناتنا بكل الأشياء التي سبقتها، فهل يحتمل فعلا أن يكون تطور هذه الجزيئات حدث في الفضاء الخارجي؛ في مذنبات وغبار النجوم، على مدار فترة ثلاثة ونصف مليارات سنة بالتوازي تماما مع تطورها على سطح الأرض؟ لن نستطيع معرفة هذا حتى نعثر على حياة على كوكب آخر، لكن في اعتقادي أنه عند عثورنا عليها، فإن الجزيئات، بصرف النظر عن الكائنات الفعلية، لن تشبه الموجودة على سطح الأرض على الإطلاق. لكن استمع إلى الجمل الختامية في واحد من آخر المقالات التي كتبها فريد هويل قبل وفاته: «من ثم، فإن التركيبات الجينية لا بد أنها أحضرت إلى الأرض، في مادة المذنبات في اعتقادنا أيضا، التي تربط الحياة هنا بأصلها الكوني؛ فالتطور هنا على وجه الأرض عبر الانتقاء الطبيعي لا يعمل إلا على ضبط نظم النشأة الكونية بمجرد استقرارها هنا.»
10 (2) اعتماد الحياة على الضوء
منذ ظهور البكتيريا القديمة لأول مرة، إن لم يكن قبل ذلك، كان ضوء الشمس أساسيا للحياة على سطح الأرض؛ فهو وحده يوفر الطاقة التي تمكن النباتات وبعض البكتيريا من إجراء عملية التمثيل الضوئي؛ ومن ثم تنمو، وعن طريق تناول النباتات تستخدم الحيوانات بعضا من هذه الطاقة في نموها وحركتها؛ ومن ثم تعتمد هي الأخرى، على نحو غير مباشر، في بقائها على ضوء الشمس. تكون أشعة الشمس ضرورية أيضا لأسباب أخرى؛ فالحرارة التي تصدرها تحافظ على بقاء المياه في معظم أنحاء الكوكب في صورة سائلة، ويعتبر الماء المذيب العالمي الذي تحدث بداخله كافة تفاعلات المادة الحية، ولا تستطيع الحيوانات التي تعيش في درجات حرارة تحت الصفر البقاء على قيد الحياة إلا لأن الحرارة الناتجة من عملية الأيض لديها تمنع الماء الموجود في خلاياها من التجمد.
11
إلا أن أشعة الشمس تصطدم بالأرض في أثناء النهار فقط، وربما يتساءل البعض عن سبب عدم انخفاض درجة الحرارة سريعا في أثناء الليل؛ فهي لا تنخفض أكثر من 30 إلى 40 درجة مئوية في أحسن تقدير، مقارنة بفارق يزيد عن ألف درجة مئوية على سطح القمر بين النهار والليل. والسبب الأساسي في هذا هو نفسه الذي يمنع درجة الحرارة من الارتفاع كثيرا طوال النهار؛ فثمة طبقة من الغازات في الغلاف الجوي تحمي القشرة الأرضية من التعرض للحرارة والبرودة الشديدتين، وأهم هذه الغازات هو غاز ثاني أكسيد الكربون.
12
وهذا الاستقرار النسبي في درجة الحرارة، سواء بالقرب من القطبين أو عند خط الاستواء، هو الذي سمح للحياة بالتطور والاستمرار في هذا.
توجد سمات مشتركة بين التمثيل الضوئي وعملية الإبصار لدى الحيوانات؛ فالرؤية لها أهمية قصوى في قدرة الحيوانات على البحث؛ فالحيوانات الضريرة، مثل الأسماك القوبيونية الضريرة «تيفلوجوبيوس كاليفورنينسيس»، التي تعتمد على جمبري البرغوث «كالياناسا» ليحفر لها حفرا تعيش فيها، لم تحقق نجاحا كبيرا في عملية التطور. من ناحية أخرى، تعتمد حيوانات أخرى، مثل البوم وبعض أنواع الوطاويط
13
التي تصطاد في الليل، على حاسة بصرية حساسة للغاية في العثور على فرائسها. يمارس الإنسان سعيه، حتى في ظل التكنولوجيا الموجودة حاليا، في الأساس في أثناء النهار؛ فمعظمنا يقضي الليل في النوم. صحيح أن كثيرا من الحيوانات يدرك وجود فريسة (أو مفترس) من الرائحة، كما أن الزواحف، مثل الثعابين، تتمتع بكاشفات حرارة بالغة الحساسية أيضا، إلا أن معظم الحيوانات لديها عينان تسمحان لها بالتعرف على الأشياء كجزء من سعيها للحصول على الطعام والتكاثر.
لم يشرح كثيرون أهمية الرؤية لسيطرة الإنسان على أشكال الحياة الأخرى بوضوح مثل جون ويندهام في رواية الخيال العلمي «يوم نباتات التجارب».
14
تمر كرة لهب كبيرة من الفضاء الخارجي بجوار الأرض، فيعمي ضوءها الجميع على الفور، ومع فقدان الناس لقدرتهم على الرؤية فقدوا تفوقهم على النباتات الضارة، وتمثل أحد هذه النباتات في نسخة عملاقة آكلة للبشر من نبات مصيدة فينوس؛ نباتات التجارب. انتشرت هذه النباتات سريعا إذ كانت تلتهم الفاقدين لقدرتهم على الإبصار، الذين لم يتمكنوا من تجنب الاصطدام بها، وبالتدريج بدأ البشر يبادون من على سطح الأرض، ومع ذلك لم ينعدم الأمل؛ فثمة رجل يرتدي عصابة كثيفة حول عينيه، كان يجري عملية في المستشفى في وقت مرور كرة اللهب، احتفظ ببصره، وكذا بعض الأشخاص الآخرين، بدءوا جميعا في تدمير هذه النباتات، وهكذا أنقذ البشر. (3) التمثيل الضوئي
تستخدم النباتات طاقة الضوء في تصنيع جزيئات عضوية. إن التفاعل الذي يحدث؛ عملية التمثيل الضوئي، هو عكس التفاعل تماما الذي يحدث في عملية التنفس، التي تؤكسد فيها الحيوانات الجزيئات العضوية حتى تحصل على الطاقة اللازمة لحركة العضلات وتوصيل الأعصاب والنمو والعمليات الأخرى،
15
وبعدما تستخدم النباتات طاقة الضوء في تصنيع الكربوهيدرات في أثناء النهار ، تعمل بعد ذلك على أكسدة بعض منها في أثناء الليل، بالطريقة نفسها التي تستخدمها الحيوانات، المعروفة بالتنفس. رغم أن النباتات تحتاج كما يبدو إلى طاقة أقل من تلك التي تحتاج إليها الحيوانات نظرا لأنها لا تتحرك، فإنها تظل بحاجة إلى قدر منها من أجل النمو وعمليات أخرى؛ مثل تحريك العناصر الغذائية من التربة إلى الأعلى لتصل إلى الأوراق، الذي لا يكون مطلبا هينا في حالة شجرة السيكويا التي يصل ارتفاعها إلى 300 قدم.
على الأرجح، يكون ترتيب التغيرات الجزيئية الأساسية في عملية التمثيل الضوئي، التي تتطلب أكثر من عشرة تفاعلات كيميائية منفصلة، عكس تماما التفاعلات المطلوبة في عملية التنفس، لكن الأنزيمات التي تحفز كثيرا من هاتين المجموعتين من التفاعلات تكون في الأساس واحدة. في الواقع يكمن الاختلاف في اتجاه تدفق المادة؛ تحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى كربوهيدرات وأكسجين في الحالة الأولى، وتحويل الكربوهيدرات والأكسجين إلى ماء وثاني أكسيد الكربون في الحالة الثانية. ويمكن تشبيه الأمر بمقصورتي سكك حديدية على مسار شديد الانحدار، إحداهما صاعدة والأخرى هابطة؛ بحيث تحصل المقصورة الصاعدة تدريجيا على طاقة كامنة، في حين تفقدها الهابطة بالتدريج. ربما يكون مصدر الطاقة الأساسي هو الكهرباء أو ربما يكون مجرد الكتلة، كما في سكة حديد لينتون ولينموث في ديفون الشمالية في إنجلترا؛ إذ يضاف الماء إلى خزان تحت المقصورة الموجودة في المحطة العليا التي تقع على جرف في لينتون، بقدر يزيد على وزن المقصورة وركابها الموجودة في الأسفل في لينموث. تبدأ المقصورتان في التحرك كل منهما تجاه الأخرى، وعندما تصل المقصورة التي كانت في الأعلى إلى الأسفل، يفرغ منها الماء وتكرر العملية. يحرك هذه العملية بأكملها فقدان الماء من القمة، تماما كما يحرك فقدان الطاقة الضوئية من الشمس كافة صور الحياة على الأرض، الذي يكون متناهي الصغر بالطبع مقارنة بامتصاص المواد الأخرى لضوء الشمس داخل المجموعة الشمسية.
لا تستطيع الحيوانات استخدام طاقة الضوء في تصنيع الجزيئات العضوية، لكنها تمتص الضوء وتحوله إلى نبضة تنتقل من الجزء الخلفي من الشبكية في العين إلى مركز الإبصار في المخ؛ حيث يسجل الإحساس بالضوء؛ ومن ثم الأشكال. يشبه الجزء الأول من هذه العملية؛ امتصاص الضوء، بطرق كثيرة امتصاص النباتات للضوء. يوجد تشابه أكبر مع نوع معين من الجراثيم؛ وهو نوع من البكتيريا القديمة تجري عملية التمثيل الضوئي، تستمد جزءا من طاقتها من الضوء وجزءا آخر من أكسدة الجزيئات العضوية. تعيش هذه البكتيريا في بيئات عالية الملوحة، مثل الموجودة في البحيرة المالحة الكبرى في يوتاه، والبحر الميت الذي يقع بين إسرائيل والأردن؛ ومن ثم تسمى أليفة الملح (محبة للملح)، ومن الأمثلة النموذجية على هذا النوع بكتيريا الملحاء العصوية الملحية.
في هاتين الحالتين - الحيوانات وبكتيريا الملحاء العصوية الملحية - يسمى الجزيء الحساس للضوء رودوبسين. يتكون هذا الجزيء من وحدتين؛ جزيء صغير يسمى رتينول يشبه في تكوينه فيتامين «أ» (المشتق منه)، وبروتين يدعى أوبسين. يرتبط الرتينول بالأوبسين تماما مثلما يرتبط الهيم ببروتين الجلوبين في جزيء الهيموجلوبين. إن التركيب الكيميائي لصورته المتأكسدة - الريتينال - يمكنه من امتصاص الضوء، وعند فعل هذا يتغير شكله (ولونه) قليلا. يحدث هذا التغيير تحولا طفيفا في تركيب الأوبسين. في حالة بكتيريا الملحاء العصوية الملحية، يبدأ التغير التركيبي سلسلة من التفاعلات الجزيئية التي تنتهي بتصنيع جزيء محول للطاقة؛ ثلاثي فوسفات الأدينوسين، الذي يستخدم في كل من نمو البكتيريا وقدرتها على السباحة نحو مصدر الضوء. في شبكية العين عند الحيوان، يؤدي التغير في الأوبسين إلى إرسال نبضة كهربائية إلى المخ. هذه النبضة تشبه تلك التي تصدر من اللمس أو الحرارة أو الصوت أو الرائحة؛ فلا يصنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين على الإطلاق. على العكس، فإن ثلاثي فوسفات الأدينوسين يستهلك في أثناء عملية توصيل العصب. ومن الواضح أن الأوبسين لدى الحيوانات ليس مطابقا للموجود في بكتيريا الملحاء العصوية الملحية، لكن بينهما من التشابه ما يكفي لجعلهما يؤديان الوظيفة نفسها المتمثلة في تحويل نبضة ضوئية إلى تفاعل كيميائي.
لا تستخدم النباتات والبكتيريا الأخرى التي تقوم بعملية التمثيل الرتينول الموجود لدى الحيوانات أو بكتيريا الملحاء العصوية الملحية في جمع الضوء؛ ففي النباتات تتمثل صبغات امتصاص الضوء الأساسية في الكلوروفيل والكاروتين واللوتين، التي يرتبط كل منها ببروتين يترجم طاقة الضوء إلى طاقة كيميائية (في شكل ثلاثي فوسفات الأدينوسين)؛ نظرا لانفصال البكتيريا القديمة منذ أكثر من 700 مليون سنة قبل ظهور الجد المشترك للنباتات والحيوانات في الحياة، فإن امتلاك بكتيريا الملحاء العصوية الملحية للرودوبسين أمر شاذ. يقدم هذا مثالا على التطور التقاربي أكثر من التطور التباعدي. المهم هنا أن الوظيفة العامة - المتمثلة في القدرة على امتصاص الضوء وإحداث تفاعل كيميائي - تكون واحدة في الأساس في النباتات، وفي البكتيريا المستخدمة للتمثيل الضوئي، وفي أعين كل نوع من الحيوانات بما في ذلك الإنسان.
بالطبع يؤدي كثير من الجزيئات وظيفة مشابهة في عدد من الكائنات، ويعتبر ثلاثي فوسفات الأدينوسين أحد الأمثلة على هذا؛
16
فجزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين يوجد بالصورة نفسها لدى الجراثيم والنباتات والحيوانات، كما أن البروتينات المستخدمة في العمليات المتنوعة لتحويل الطاقة، حتى إن لم تكن متطابقة فيوجد بينها من التشابه ما يمكنها من أداء الدور نفسه في كافة الكائنات؛ وبهذا يتضح السبب وراء وجود هذا القدر من التشابه بين جينوم الجراثيم والنباتات والحيوانات.
حتى نتعرف جيدا على التغيرات الجزيئية التي تشكل الاستجابة الضوئية لدى النباتات، نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا ببعض العمليات الفيزيائية والكيميائية التي تكمن وراء امتصاص الكائنات الحية للضوء.
17
يمتص الرودوبسين موجات ضوء يتراوح طولها بين 450 و600 نانومتر، في منتصف الطيف الضوئي، تكفي لتحفيز استجابة لدى بكتيريا الملحاء العصوية الملحية أو في شبكية الحيوانات، لكنها لا تفسر كيف تتمكن الحيوانات أيضا من تمييز لون عن الآخر. في الواقع كثير من الحيوانات لا يستطيع فعل هذا، ويتمثل السبب في قدرة الرئيسيات، مثلنا نحن البشر، على معرفة أن هذا الضوء أزرق أو أخضر أو أصفر أو أحمر في امتلاكنا، بالإضافة إلى مستقبل الرودوبسين الذي يحتوي على الرتينول، لجزيئات تمتص ضوءا بأطوال موجات أخرى؛ فيمتص جزيء ضوءا بحد أقصى 420 نانومترا، ويمتص جزيء آخر 530 نانومترا، ويمتص ثالث 560 نانومترا، وتمكننا هذه الجزيئات معا من تمييز لون عن آخر .
18
لا تستخدم النباتات ضوء الشمس في عملية التمثيل الضوئي فقط؛ فهي تبحث عنه بنشاط يشبه حماس الذين يحصلون على حمام شمسي على شواطئ البحر المتوسط. تفعل النباتات هذا بطريقتين؛ الانتحاء الضوئي والانتحاء الشمسي. لا تقدم هاتان الكلمتان معنى دقيقا عن التغذية (الانتحاء) بفعل الضوء أو الشمس؛ ففي كلتا الحالتين يكون الضوء الموجود في البيئة الطبيعية هو ضوء الشمس (شكل
3-1 ). تستخدم كلمة الانتحاء الضوئي في وصف عملية «نمو» النباتات نحو الضوء، في حين تستخدم كلمة الانتحاء الشمسي في وصف عملية «اتجاه» النباتات نحو الضوء. بالنسبة للنبات يكون إدراك الضوء في أهمية الرؤية للحيوان؛ فهو يخبر النبات بمكانها في الفراغ (في الظل أو في مساحة مفتوحة) وبالوقت (ظلام الليل أو ضوء النهار).
شكل 3-1: بحث النباتات عن الضوء. أشكر الأستاذ كريستوفر ليفر على هذه الصورة لنباتات عباد الشمس التي تنمو في اتجاه الشمس. (4) الانتحاء الضوئي
تتحكم عدة آليات في عملية الانتحاء الضوئي؛ في وقت مبكر يرجع إلى عام 1881 أظهر تشارلز داروين أن الاستجابة الكبرى في النبات تكون عند النهاية الزرقاء في الطيف الضوئي، ومضت أكثر من 100 سنة قبل اكتشاف المستقبل الضوئي الأساسي فيها؛ وهو عبارة عن مكون حساس للضوء متصل ببروتين، تماما مثل الرودوبسين، وأطلق على هذا المركب اسم فوتوتروبين.
19
أما الجزء الحساس للضوء فهو عبارة عن جزيء أصفر يدعى فلافين.
20
يحول جزء البروتين تأثير الضوء على الفلافين إلى استجابة جزيئية، تؤدي في النهاية إلى النمو في اتجاه الضوء.
21
تسمى مجموعة أخرى من البروتينات الحساسة للضوء الأزرق كريبتوكروم.
22
إنها تحتوي على المكون نفسه الحساس للضوء، الفلافين، مثل الفوتوتروبين، لكن الأجزاء البروتينية فيها تكون مختلفة. تلعب الكريبتوكروم دورا كبيرا في ضبط الدورات اليومية للنباتات.
يوجد مستقبل ضوئي آخر يشارك في الاستجابة الانتحائية الضوئية للنباتات يتكون من مجموعة من البروتينات تدعى فايتوكروم،
23
ويتمثل الجزء الحساس للضوء في جزيء يدعى فيتوكروموبيلين، لا يمتص الضوء عند النهاية الزرقاء من الطيف الضوئي مثل الفوتوتروبين أو الكريبتوكروم، وإنما عند النهاية الحمراء؛ بين 600 و700 نانومتر. يرجع السبب في هذا إلى أن الضوء الذي ينعكس من أوراق إحدى الأشجار على أوراق شجرة مجاورة لها يكون في الغالب ضوءا أحمر (ولهذا تبدو الأوراق خضراء اللون)، يعمل الفيتوكروم على تحقيق أقصى امتصاص ممكن للضوء في ظلة الغابة عن طريق دفع إحدى الشجيرات أو الأشجار إلى النمو بعيدا عن النباتات المجاورة له، مثل الاستجابة التي يحدثها الفوتوتروبين؛ فهو رد فعل «تجنب الظل». ومثلما يحدث مع الفوتوتروبين، توجد نتائج إضافية لتفعيل الفوتوكرومات؛ منها تسريع الإزهار والإنتاج المبكر للبذور؛ فالفوتوكرومات هي التي تخبر النبات بمكانه مقارنة بالنباتات الأخرى.
بعدما تعرفنا على التكوينات الجزيئية في النباتات التي تستشعر الضوء، سنستعرض بإيجاز العمليات التي تؤدي من خلالها هذه المستقبلات الضوئية إلى تكاثر الطرف النابت للنبات في اتجاه الضوء، بعيدا عن الظل. يتمثل أحد المكونات المهمة في هرمون نباتي يدعى أوكسين. يتسبب هذا الهرمون في زيادة طول الخلايا التي يفوق تركيزه فيها أقصى مقدار له. توجد هذه الخلايا في الجزء البعيد عن الشمس في الطرف النابت، إلا أن المستقبلات الضوئية التي تستشعر الضوء، سواء كان الضوء الأزرق الساقط على الفوتوتروبين أو الضوء الأحمر المنعكس الذي يصطدم بالفيتوكرومات، توجد على الجانب المضيء من الطرف النابت. ينتج عن تفعيل الفوتوتروبين والفيتوكروم تقليل تركيز الأوكسين، ونتيجة لهذا يوجد مقدار أكبر نسبيا من الأوكسين في الخلايا على الجانب البعيد عن الشمس في الطرف النابت من الموجود على الطرف المضيء؛ ومن ثم فإن هذه الخلايا هي التي يزيد طولها. ونظرا لأن انقسام الخلية يحدث في الوقت نفسه في الخلايا التي زاد طولها والأقصر منها، ونظرا لعدم قدرة الخلايا المتجاورة على الانفصال بعضها عن بعض، تكون النتيجة النهائية انحناء الطرف النابت بعيدا عن الخلايا الأطول، بعبارة أخرى: بعيدا عن الظل وفي اتجاه الضوء. (5) الانتحاء الشمسي
تعتبر أوراق النباتات والأشجار المواقع الرئيسية لإجراء عملية التمثيل الضوئي؛ فأي شيء أخضر اللون بسبب احتوائه على مادة الكلوروفيل من المرجح أن يمتلك أيضا البروتينات اللازمة لعملية التمثيل الضوئي. ومن أجل إجراء هذه العملية على النحو الأمثل، ظهرت لدى كثير من النباتات القدرة على توجيه أوراقها في اتجاه الشمس؛ حتى تسقط أشعتها على أكبر مساحة ممكنة من الأوراق. يحدث هذا في الصباح وفي فترة ما بعد الظهيرة، عندما تكون أشعة الشمس ضعيفة نسبيا. أما في فترة الظهيرة، عندما تكون أشعة الشمس قوية، فتحرك نباتات الانتحاء الشمسي أوراقها بحيث تكون أطرافها فقط هي المواجهة للشمس وليس الورقة بأكملها، ويحدث هذا من أجل الحد من مساحة الورقة المعرضة للأشعة المباشرة للشمس؛ فالإشعاع الزائد يدمر خلاياها (تماما مثل خلايا الحيوانات). يمتص القدر الكافي من الضوء حتى عند التعرض بزاوية للأشعة في منتصف النهار من أجل إجراء عملية التمثيل الضوئي على أعلى مستوى. هذا في الأصل المقصود بمصطلح الانتحاء الشمسي:
24
بحث الأوراق عن الضوء. تختلف آلية الانتحاء الشمسي عن الانتحاء الضوئي إلى حد ما؛ إذ لا تتطلب إطالة - نموا - غير قابل للتغيير في اتجاه معين، بل عوضا عن ذلك تتحرك الأوراق في أحد الاتجاهات نتيجة لتغيرات يمكن عكس تأثيرها لما يحدث من امتلاء (ضغط) داخلها. لم تتضح بعد التفاعلات الجزيئية الكامنة وراءها؛ لذلك لا نعرف طبيعة المستقبل الضوئي أو البروتينات المرتبطة به. ونظرا لأن عملية الانتحاء الشمسي عملية متكررة، ربما تشترك في بعض الخصائص مع الدورات اليومية؛ ومن ثم ربما تلقي المعلومات الموجودة لدينا عن هذه الأفعال الضوء على الآلية المحركة للانتحاء الشمسي. (6) الدورات اليومية
تشبه النباتات الحيوانات في قيامها بأفعال متكررة يوميا، فكما ذكرنا مسبقا، في أثناء ساعات النهار تجري عملية التمثيل الضوئي، وفي الليل تحول جزءا من الكربوهيدرات التي صنعتها مرة أخرى إلى ثاني أكسيد الكربون وماء في عملية عكسية.
25
في أثناء النهار تفتح كثير من الأزهار، وفي الليل تغلق. تتطلب الآلية التي تستخدمها النباتات في استشعار وجود ضوء النهار الكريبتوكرومات. يؤدي المحتوى البروتيني للمستقبلات الضوئية هذه عدة وظائف، أهمها «ضبط» الساعة البيولوجية. لن أتطرق إلى التفاصيل، ولكني سأشير إلى وجود الكريبتوكرومات لدى الحيوانات أيضا، فاتضح حتى الآن وجود الجينات التي تحدد شفرات هذه العائلة من البروتينات لدى ذبابة الفاكهة والفئران والبشر ، ولا شك أنها توجد لدى كافة الحيوانات التي تظهر في دورات يومية.
توجد الكريبتوكرومات، مثل الرودوبسين ومستقبلات رؤية الألوان، لدى الحيوانات في الشبكية، التي تنقل منها رسائل جزيئية من خلال تفعيل جينات معينة وإيقاف عملها. يوجد المركز المتحكم بالكامل في الدورات اليومية داخل الوطاء، وهو جزء متخصص داخل المخ. يعمل هذا المركز على تفعيل ساعة تعمل على مدار 24 ساعة، ويضبط التأثير البصري الواقع على الشبكية هذه الساعة وفقا لفترات النهار والليل. وعندما ينتقل حيوان أو إنسان إلى منطقة زمنية مختلفة، فإن الإشارات التي تنتقل من الكريبتوكروم في الشبكية إلى منطقة الوطاء تعمل على إعادة ضبط الساعة،
26
وتعتبر الدورات اليومية مثالا آخر على الاستجابة الجزيئية للضوء التي ورثها الإنسان من النباتات القديمة. (7) حركة الجراثيم (7-1) البكتيريا
لا تشبه البكتيريا التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي النباتات فقط في استخدامها للطاقة الضوئية، وإنما تسعى إلى الحصول عليها؛ لذلك يوجد لدى كائن قديم مثل بكتيريا الملحاء العصوية الملحية نوعان من الرودوبسين؛ واحد لتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية،
27
والآخر يستشعر شدة الضوء ويجعل البكتيريا تسبح باتجاهه.
28
فالنوع الأول من الرودوبسين يصدر استجابة تمثيل ضوئي، والنوع الآخر يتسبب في الانجذاب الضوئي (التحرك في اتجاه الضوء). هذا وتتوفر الطاقة اللازمة للانجذاب الضوئي من بعض مركبات ثلاثي فوسفات الأدينوسين التي نتجت في أثناء عملية التمثيل الضوئي.
تبحث البكتيريا التي لا تقوم بعملية التمثيل الضوئي عن الغذاء وليس الضوء؛ فهي تسبح في اتجاه مصدر الأكسجين (الانجذاب الهوائي) أو إلى العناصر الكيميائية (الانجذاب الكيميائي، الذي يشتمل على آليات استشعار الطاقة). في الواقع لا تكون الحركة دوما في اتجاه واحد، إن تركيز الأكسجين المرتفع للغاية يكون ساما على بعض البكتيريا (تماما مثل تأثيره على الحيوانات؛ تذكر التأثير الضار للجذور الحرة التي قد تتولد نتيجة للتركيز المرتفع للغاية للأكسجين)؛ ومن ثم فإنها تسبح بعيدا عن مصدره، لذلك في بركة مياه أو أي بيئة أخرى يوجد فيها تدرج في الأكسجين من السطح إلى الأسفل تستقر البكتيريا في المستوى الأفضل لعمليات الأيض لديها. كذلك تفضل الأنواع المختلفة تركيزات مختلفة. على سبيل المثال، تنجذب البكتيريا العصوية الرقيقة إلى تركيز من الأكسجين لا يقل عن تشبع السائل بالهواء، بينما يكون التركيز الأمثل للبكتيريا الإشريكية القولونية من الأكسجين 25٪، بينما يتمثل التركيز الأمثل لبكتيريا أزوسبيريلم برازيلنس في 2٪،
29
وفي حالة المركبات العضوية، تنجذب بعض الأنواع وتنفر أنواع أخرى. توجد عادة عوامل الجذب الرئيسية في الطبيعة المتمثلة في السكريات والأحماض الأمينية (شكل
3-2 )، في مناطق النباتات المتعفنة وبقايا الحيوانات.
30
في الواقع إن أي مركب يستطيع نوع معين من البكتيريا تمثيله غذائيا - تحويله إلى الدي إن إيه والآر إن إيه والبروتينات والدهون والكربوهيدرات التي تحتاج إليها في النمو، بالإضافة إلى استخدام الطاقة الصادرة من عملية التمثيل الغذائي في توفير الطاقة لعمليات التصنيع هذه - يحتمل أن يكون عامل جذب لها، في المقابل، فإن المركبات التي لا يمكن تمثيلها غذائيا؛ مثل الفينول وأحماض أخرى تنفر البكتيريا (بالطبع باستثناء البكتيريا المحبة للأحماض).
شكل 3-2: الانجذاب الكيميائي البكتيري لدى سالمونيلا تيفيموريم. يفرز العديد من السوائل من طرف قطارة (أنبوب زجاجي ضيق) في سائل معلق من البكتيريا. يتحرك هذا النوع من البكتيريا إما في اتجاه طرف القطارة أو بعيدا عنه. الصورة (أ) توضح الانجذاب للطعام (الحمض الأميني سيرين)، والصورة (ب) توضح النفور بسبب المواد الكيميائية الضارة (الفينول). ينتهج شكل طافر معين من السالمونيلا تيفيموريم سلوكا عكسيا؛ فينجذب للفينول وينفر من السيرين، لاحظ أن السالمونيلا تيفيموريم هي قريب غير ضار للنوع الممرض للغاية السالمونيلا التيفية، إلا أنهما انفصلا منذ أكثر من 100 مليون سنة، وهو الإطار الزمني الذي تطورت فيه بالكامل فصيلة الثدييات. ظهرت هذه الصورة في الأصل في بحث نشره بي إيه روبيك ودي إي كوشلاند، في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، الولايات المتحدة الأمريكية، العدد 75، 2820-2824، 1978، التي أعيدت طباعتها منها بإذن.
أشرت طوال حديثي هذا إلى أن البكتيريا لديها القدرة على السباحة في أي اتجاه. سأوضح فيما يلي كيف يحدث هذا. توجد لدى البكتيريا المتحركة زائدة شبيهة بالسوط تدور؛ ومن ثم تدفع الخلية إلى الأمام، فلا يختلف هذا كثيرا عن مروحة محرك الدفع الخارجي أو مروحة باخرة عملاقة. يوجد مع ذلك اختلاف واحد أساسي؛ فالزائدة الشبيهة بالسوط، المتحركة لدى بكتيريا مثل الإشريكية القولونية (التي أذكرها فقط لأنها من أفضل أنواع البكتيريا التي خضعت للدراسة) تدور أولا في اتجاه (لنقل في اتجاه عقارب الساعة)، ثم بعد فترة تغير حركتها إلى الاتجاه المقابل (عكس عقارب الساعة)، وينتج عن هذا حركة عشوائية، مثل ورقة شجر تدور على سطح الماء، يدفعها الهواء أولا في أحد الاتجاهات ثم في اتجاه آخر. يتمثل أحد الاختلافات الأخرى بالطبع في أن الطاقة اللازمة لدوران الجزء الدوار المحرك للبكتيريا لا تأتي من احتراق وقود معين، وإنما من المحول الكوني للطاقة الكيميائية؛ ثلاثي فوسفات الأدينوسين. لكن لا تعتقد أن هذه المحركات البكتيرية بطيئة؛ فهي تدور بمعدل نحو 18 ألف دورة في الدقيقة، وهذا ليس سيئا مقارنة بمروحة قارب بخاري صغير (1800 دورة في الدقيقة) أو مروحة سفينة حربية (300 دورة في الدقيقة).
31
إذا كانت الحركة بفعل هذه الزائدة الدوارة عشوائية، فكيف يمكن للبكتيريا التحرك في اتجاه أحد عوامل الجذب وبعيدا عن عامل منفر؟ يرجع هذا إلى منع الحركة العكسية لهذا الدوار أو الحث عليها، ونتيجة لهذا في الحالة الأولى تكون الحركة المفضلة في اتجاه المصدر، وفي الحالة الثانية بعيدا عنه.
لا يقتصر حدوث الانجذاب الكيميائي على البيئات المائية فحسب، وإنما يحدث أيضا في التربة. تدخل البكتيريا الجذرية، التي توجد علاقة تكافل بين كثير منها وجذور النباتات، تحت هذه الفئة. يحدث التكافل بسبب قدرة البكتيريا على «تثبيت» النيتروجين؛ أي أكسدة غاز النيتروجين الموجود في الجو وتحويله إلى أيون النترات، الذي يستخدمه النبات كمصدر للحصول على النيتروجين.
32
في المقابل، يصنع النبات مركبات عضوية، تنمو عليها هذه البكتيريا. فهذه المركبات العضوية تمثل المحفزات الجذابة للانجذاب الكيميائي.
يحدث نوع آخر من الحركة بفعل مغناطيسية الأرض، فتسبح بكتيريا مثل ماجنيتوسبيريلم ماجنيتواكتيكوم على طول الخطوط المغناطيسية، فتسبح في نصف الكرة الأرضية الشمالي في اتجاه القطب الشمالي، ونصف الكرة الجنوبي في اتجاه القطب الجنوبي؛ فيتسبب المجال المغناطيسي في تحويل حركتها العشوائية إلى سباحة في اتجاه واحد فقط، لكنها أيضا تبحث عن تركيز الأكسجين الذي له أهمية بالغة في نموها؛ ومن ثم نجدها في بحيرة أو محيط تتجمع في الطبقة الموجودة تحت السطح مباشرة التي يكون تركيز الأكسجين فيها بمستوى مناسب. ولذلك أطلق على حركة هذا النوع من البكتيريا اسم الانجذاب الهوائي المغناطيسي. وعليه نجد هنا علاقة أخرى بين بحث الجراثيم والحيوانات؛ فالطيور مثل الحمام، والأسماك والنحل، كلها تشبه البكتيريا الانجذابية المغناطيسية في استخدامها لبوصلة داخلية - جزيئات فعلية من أكسيد الحديد (الماجنيتيت) - في توجيه أنفسها في أثناء رحلات كل منها.
تبحث كثير من أنواع البكتيريا أيضا عن شيء آخر؛ سطح تنمو عليه. أحد الأمثلة على هذا العتائق التي تعيش في المياه الساخنة المالحة على جزء معين من الشاطئ في أستراليا الغربية؛ فهي تشكل حرفيا سلسلة من الحصائر الواحدة فوق الأخرى، في هذه الحالة يكون سطحها هو نفسه الحافز. ويوجد مثال آخر على هذا في البكتيريا التي تصيب الجزء السفلي من أمعائنا؛ لا تكون كلها مسببة للمرض، وإنما على العكس من ذلك، فإن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية يكون له أحيانا تأثير عكسي بالقضاء على البكتيريا غير الضارة التي تمنع طبيعيا إنشاء مستعمرات ممرضة، ويتمثل السطح الذي تتعلق به البكتيريا المعوية في الطبقة المخاطية للخلايا الظهارية. ويجري العلماء حاليا أبحاثا من أجل التوصل إلى طرق تشجع البكتيريا غير الضارة، مثل معظم سلالات الإشريكية القولونية، على التعلق بهذه الطبقة؛ ومن ثم منع التصاق الأنواع الممرضة مثل الإشريكية القولونية 0157.
33 (7-2) الطلائعيات
34
أحد الأمثلة البارزة على الانجذاب الذاتي تظهر لدى كائن يدعى أميبا ديكتيستيلم القرصية. يعرف هذا النوع من الفطر باسمه الشائع؛ العفن الغروي. تتكون دورة حياة هذا الكائن من مرحلتين؛ في المرحلة الأولى تنمو خلايا فردية وتتضاعف، مثل البكتيريا، لكن عندما ينفد مصدر طعامها تبدأ المرحلة الثانية، فيجذب محفز انجذاب كيميائي الخلايا الفردية حتى تكون بوغا واحدا عملاقا من خلايا غير منقسمة (شكل
3-3 ). يتعرض هذا البوغ لعدة تغيرات في الشكل حتى يتفكك في النهاية إلى خلايا منفردة، التي بمجرد وصولها إلى بيئة يتوافر فيها الغذاء، تبدأ عملية انقسام خلوي مرة أخرى. يتمثل محفز الانجذاب الكيميائي هذا في جزيء يدعى أحادي فوسفات الأدينوسين الحلقي. إن هذا الجزيء مشتق من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ويلعب دورا في مسارات الإشارات، مثل التي تنقل تأثير الهرمونات إلى الخلايا المعرضة للخطر، في كل نوع من الكائنات العليا، بداية من الفطر حتى النباتات والحيوانات.
شكل 3-3: بحث الطلائعيات. (أ) الانجذاب الذاتي للديكتيستيلم القرصية (نوع من الأميبا يسمى أيضا العفن الغروي). (أ)-(ج) مع نفاد العناصر الغذائية من الكائنات التي تنمو على وسط صناعي، تتوقف عن الانقسام وبدلا من ذلك تبدأ في التجمع، وتكون في النهاية كرة واحدة من الخلايا، تظهر من أعلى في الشكل (د). إذا نظرنا إليها من الجانب نرى أن هذه الكرة تتكون من منطقتين؛ ساق وجزء علوي أو جسم مثمر (وهو الذي يخرج في النهاية أبواغا مستعدة لتبدأ في النمو والانقسام في صورة خلايا فردية مرة أخرى). للمزيد من التفاصيل انظر متن الكتاب، وكذلك كتاب سي إيه باسترناك «كيمياء حيوية للتمايز»، مؤسسة وايلي إنترساينس، نيويورك، 1970، التي أعيدت منها طباعة هذا الشكل بإذن.
يكون مصدر أحادي فوسفات الأدينوسين الحلقي الذي يتسبب في تجمع أميبا ديكتيستيلم القرصية الكائن نفسه، فتبدأ أول خلايا تتعرض لنقص العناصر الغذائية في إفراز أحادي فوسفات الأدينوسين الحلقي. يجعل هذا الخلايا الأخرى تذهب إليها، وفي النهاية يتحول هذا التجمع المتزايد من أميبا الديكتيستيلم القرصية إلى تكوين تطغى عليه الأبواغ. تشيع المواد الكيميائية التي تجذب الكائنات بعضها إلى بعض في عالم الحيوان، تعمل عدة جزيئات، تعرف إجمالا باسم الفيرومونات، كوسيط في الانجذاب بين الذكر والأنثى في معظم الحيوانات؛ بداية من الحشرات وحتى القطط والكلاب، والنمور والأسود، حتى البشر (على الأقل حتى اختراع مزيلات العرق والغسيل المستمر للأعضاء الجنسية). تمثل الرؤية عامل جذب على القدر نفسه من قوة جذب الرائحة؛ مثل تجمع المفترسات حول إحدى الفرائس أو حول فتحة مياه، أو تجمع البشر عند رؤية حادث أو مهرج في الشارع، كما أن صوت مغن في الشارع أو حفل في الهواء الطلق يكون له التأثير نفسه على البشر ليجتمعوا، تماما مثل تأثير قرع أجراس الكنائس أو نداء المؤذن؛ فبالتأكيد يوجد الكثير من القواسم المشتركة بين سلوك البشر وسلوك العفن الغروي.
شكل 3-4: (ب) تفادي الستنتور (نوع من البروتوزوا ذات الأهداب) للسمية. (أ) عند تناول الطعام يثبت الستنتور نفسه على سطح ما باستخدام ساقه، وتدخل الأهداب التي تمتد على طول الجزء الخارجي منه الجسميات إلى داخل منطقة الفم. (ب) إذا وضع معلق من جسيمات صبغة الكارمين من قطارة، فإن هذا الكائن يستدير مبتعدا عن هذا المحفز البغيض. (ج) إذا استمر وضع المحفز، فإن الأهداب تعكس حركتها بحيث تطرد الماء. (د) إذا فشلت هذه المناورة أيضا في التخلص من الجسميات الضارة، فإن الكائن ينكمش ويفصل ساقه عن السطح ويسبح (ه) إلى موقع آخر. أعيد رسم هذه الصور بإذن من مؤلف كتاب «تحركات الخلية» دينيس براي، جارلاند، نيويورك، 1992.
تؤدي أنواع أخرى من الطلائعيات صورا أخرى من البحث؛ فتسعى البروتوزوا مثل الستنتور إلى تجنب المحفزات الضارة بالأسلوب الذي تتبعه البكتيريا؛ فهي تستخدم أهدابها في تحريك نفسها بعيدا عن الخطر والانتقال إلى موضع جديد (شكل
3-3 ،
3-4 ). في أثناء سعيها هذا يتغير شكل طلائعيات معينة. تفعل خلية تشبه الأميبا تدعى العفن الغروي أصفر اللون هذا في أثناء بحثها عن الطعام. وقد وصل الحد بأصحاب إحدى المقالات ذات الصلة إلى استنتاج أن «هذه العملية المذهلة من الحساب الخلوي تشير إلى أن المادة الخلوية يمكن أن تظهر عليها علامات ذكاء بدائي.»
35 (8) وحدة الجزيئات
شرحت عملية البحث عن وسائل النمو التي تتبعها الكائنات التي ننحدر منها، سواء أكانت هذه الوسائل جزيئات الضوء أم الجزيئات العضوية. بقيت الجزيئات المستشعرة للضوء مثل الريتينول والفلافين طوال عملية التطور، وانطبق الأمر نفسه على كثير من البروتينات. يوجد داخل البروتين الضوئي للنباتات تسلسل من نحو 270 حمضا أمينيا توجد أيضا في بروتينات كائنات أخرى. في حالة البكتيريا التي تنفذ عملية التمثيل الضوئي، التي يرتبط فيها بروتين يحتوي على التسلسل المكون من 270 حمضا أمينيا بالفلافين كما في حالة الفوتوتروبين، تكون نتيجة تفعيل الفوتوتروبين بفعل الضوء حركة الكائن نحو مصدر الضوء. أما في حالة البكتيريا التي لا تقوم بعملية التمثيل الضوئي، فإن هذا التسلسل من 270 حمضا أمينيا نفسه يشارك في استجابتها لمصدر الطعام؛ الجزيئات العضوية والأكسجين.
إن البكتيريا ليست هي الكائنات الوحيدة التي تستشعر الأكسجين؛ فالحيوانات تستجيب لتركيز الأكسجين في أنسجتها،
36
وهي أيضا لديها بروتينات تحتوي على تسلسل من 270 حمضا أمينيا. يستجيب بعض من هذه البروتينات لتركيز الأكسجين، بينما تتأثر أخرى بفرق الجهد على امتداد غشاء خلاياها، فتلعب قدرة الغشاء دورا مهما في نقل النبضات العصبية من منطقة لأخرى في الجسم؛
37
لهذا السبب يطلق على التسلسل المكون من 270 حمضا أمينيا لجزيء الفوتوتروبين الشائع لدى البكتيريا والنباتات والحيوانات اسم نطاق «إل أوه في»؛ بمعنى القادرة على استشعار الضوء والأكسجين والجهد، ومؤخرا استبدل بهذا الاختصار حروف «بي إيه إس».
38
يشتمل المحتوى البروتيني للفيتوكرومات أيضا على نطاق بي إيه إس، ولا يقتصر هذا فقط على الفيتوكروم الموجود في النباتات والبكتيريا التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي، وإنما يوجد أيضا في بروتينات البكتيريا والفطر التي لا تقوم بعملية التمثيل الضوئي؛ حيث يستشعر نطاق بي إيه إس المكونات العضوية؛ كلا من العناصر الغذائية والسموم، بالإضافة إلى درجة الحرارة ودرجة الحموضة والظروف البيئية الأخرى. حتى الآن لم ترد تقارير عن وجود البروتينات التي تشبه الفيتوكروم لدى الحيوانات، لكن بما أننا تمكنا حتى الآن من تحديد تسلسل الجينوم لأربعة حيوانات؛ دودة تسمى الربداء الرشيقة، وسمكة دانيو مخطط، والفأر، والإنسان، أصبح من الممكن اختبار مثل هذا الاحتمال.
لقد تعرفنا إجمالا على أكثر من 200 بروتين تحتوي على نطاق بي إيه إس،
39
وتكون عواقب تفعيل هذه البروتينات واحدة، سواء كانت تؤدي وظيفتها في بكتيريا أو نباتات أو حيوانات. في كل حالة يرتطم محفز بمستقبل يكون البروتين الذي يحتوي على نطاق البي إيه إس. قد يكون هذا المحفز ضوءا (وهو الذي يستشعر وجوده مبدئيا في هذه الحالة المكون المستقبل للضوء) أو أي حالة من الحالات التي ذكرت للتو ، وربما تظهر مع ذلك محفزات إضافية؛ ومن ثم يتبع ذلك تغير طفيف في شكل بروتين بي إيه إس. في بعض الحالات يعمل بروتين بي إيه إس مثل الإنزيم؛ فيضيف مجموعة فوسفات إلى بروتين آخر، يدعى المستقبل. في حالات أخرى يرتبط بروتين بي إيه إس المفعل ببساطة بالمستقبل. في كلتا الحالتين يتعرض المستقبل الآن إلى تغير طفيف في الشكل، ويبدأ الاستجابة الحيوية. يلعب مثل هذا التفاعل بين بروتين وآخر دورا مهما في نقل كل نوع من الإشارات الحيوية فعليا. في كثير من الحالات يشكل تفعيل جينات معينة أو إيقافها، ومن ثم تغيير تركيز البروتينات المتعلقة بها، أساس هذه الاستجابة. وفيما يخص علاقة هذا بالآليات التي تنفذ بها الكائنات عمليات بحثها عن الضوء والعناصر الغذائية باستخدام الرؤية، فإن نطاق بي إيه إس يمثل تكوينا جزيئيا يكمن في صلب موضوع هذا الكتاب؛ شيوع السعي بداية من الجراثيم حتى الإنسان.
خاتمة
تظهر بوضوح الميزة الجينية للقدرة على الاتجاه نحو الضوء، عندما تكون أشعة الشمس هي المصدر الوحيد الذي تستمد منه الطاقة، فستنمو النباتات التي لديها القدرة على تنفيذ الانتحاء الضوئي والانتحاء الشمسي أكثر من مثيلاتها التي تفتقر إلى هذه الآليات، فتنمو أسرع، وتنتج المزيد من الأزهار والبذور؛ ومن ثم تتنافس بنجاح أكبر على الضوء والمساحة. وكذلك فإن الجراثيم التي يمكنها استشعار مصدر الغذاء أو الضوء ثم دفع نفسها في اتجاهه تتفوق في التكاثر على تلك التي لا تنمي لديها هذه القدرات جيدا. وفي كل حالة تؤدي سرعة النمو والتكاثر إلى احتفاظ انتقائي بالجينات المناسبة. ينطبق الأمر نفسه على الرؤية؛ فالحيوانات التي تتمتع بقدرة أفضل على لمح المفترسات أو الفرائس تكون فرصتها للبقاء على قيد الحياة أفضل من التي تعاني من ضعف في حاسة البصر، وتمثل القدرة على رؤية الألوان الموجودة لدى الرئيسيات ميزة إضافية. إن حقيقة وجود تشابه بين البروتينات التي تكمن وراء القدرة على إدراك الضوء، من بكتيريا الملحاء العصوية إلى نبات الكركديه، ومن سمك الرنجة حتى الإنسان، توضح شيوع السعي بين الكائنات .
يمكن تفسير كافة الآليات التي شرحتها تقريبا على أنها استجابات سلبية لمحفزات معينة، مثل الضوء والطعام، وأنها لا تمثل بحثا نشطا بمعنى ما تقوم به الحيوانات والإنسان، لكننا يجب ألا نتقيد بكلمات مثل نشط وسلبي التي أصبحت مرتبطة بأفعال عالم الحيوان، فهل يمكننا بالفعل وصف التقاط مصيدة فينوس (خناق الذباب) لذبابة بأنها عملية سلبية؟ تذكر أن هذا النبات لا يصد فحسب هجمات الذباب، وإنما ينقض عليه تماما مثلما ينقض أسد على غزال، ولا يحفز أي جماد، مثل حصاة صغيرة أو فرع شجرة، عملية الاصطياد هذه؛ فيميز النبات بين الأشياء الحية والميتة؛ فهو مفترس أصيل آكل للحم يبحث عن فريسته. ربما تجيب عن هذا بأن الأسد يبحث فعليا عن فريسته قبل الانقضاض عليها، لكن الذبابة لن تأتي لترتاح على إحدى أوراق النبات إن لم يفرز النبات في المقام الأول رحيقا يجذبها. يذهب نوع فريد من نبات جرة بورنيو، النابنط أبيض الحواف، إلى أبعد من هذا؛
40
فعلى العكس من أنواع النابنط الأخرى، يميز النابنط أبيض الحواف بين مصادر الطعام؛ فلا يمس النمل أو الخنافس أو الذباب، بينما يفترس النمل الأبيض بالآلاف في مرة واحدة. كيف يستطيع النبات فعل هذا؟ هذا لأنه يقدم للنمل الأبيض مصدرا من الغذاء لا يستطيع مقاومته، على عكس الحشرات الأخرى؛ شعيرات الحافة البيضاء الموجودة في ملامظ أو «فم» النبات. بعد تناول هذه الشعيرات يفقد النمل الأبيض توازنه ويصبح غير قادر على التسلق خارج النبات؛ فيسقط داخل وعاء النبات وتهضمه إنزيمات النبات القوية. بعبارة أخرى: يبادل نبات الجرة بعضا من شعيراته في مقابل وجبة مغذية من النمل الأبيض.
من وجهة نظر اختزالية، تلك التي يحب العلماء مثلي رؤية العالم من خلالها، يصبح الاختلاف بين الأفعال النشطة والسلبية، والاستجابات الإرادية واللاإرادية غير واضح. أنا لا أنكر وجود إرادة حرة؛ فنحن نشترك مع معظم الحيوانات في اختيارنا للأفعال التي نقوم بها. ما أتحدث عنه هو التفاعلات الجزيئية التي تكمن وراء هذه الأفعال، التي يتطلب كثير منها استخدام نطاق بي إيه إس نفسه الموجود داخل البروتينات ذات الصلة. إن النبات يشعر بالضوء وينمو في اتجاهه، وتحدث هذه الاستجابة بفعل نوع من الجزيئات (الأوكسين). كما يشعر الطير ببزوغ الفجر ويستيقظ، وتحدث هذه الاستجابة بفعل هرمون آخر (الميلاتونين) الذي يشارك في عملية الدورات اليومية. أما الشمبانزي والإنسان فيبدآن بحثهما عن الطعام عند شعورهما بالجوع، وتحدث هذه الاستجابة بسبب حدوث تغير في تركيز جزيء يسمى اللبتين. تبحث الحيوانات والبشر عن زوج، وتحدث هذه الاستجابة بفعل هرمونات (التيستوستيرون لدى الذكور، والإستروجين لدى الإناث). حتى البحث المدفوع بالفضول لدى الإنسان يكون في الغالب لا إراديا؛ فبعض الناس لا يستطيعون التحكم في رغبتهم في حل أحجية الكلمات المتقاطعة بمجرد فتح جريدة أو مجلة، بينما يبحث آخرون آليا في جيب كل ما يرتدونه عندما يدركون أنهم لم يروا مستندات سفرهم منذ فترة (وتكون في حافظة نقودهم في النهاية)، بينما يضغط البعض تلقائيا على كل قناة في التليفزيون بمجرد دخولهم إلى إحدى الغرف في فندق،
41
في حين يجبر آخرون أنفسهم على أن يستعرضوا في أذهانهم كل سؤال محتمل يمكن أن يطرح عليهم في مقابلة الغد (ولا يتمكنون من الحصول على قسط مناسب من الراحة في هذه الليلة نتيجة لذلك). هل تختلف حقا استجابات البشر للمحفزات عن استجابات النباتات؟
هوامش
الفصل الرابع
الحيوانات والإنسان: تطور الصفات البشرية
رأينا في الفصل السابق أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بين الرؤية لدى الحيوانات - التي تعد الرؤية مكونا أساسيا في قدرتها على السعي - وعملية استشعار الجراثيم والنباتات للضوء. يوجد تطابق بين بعض المستقبلات الضوئية، كما أن البروتينات التي تحول تأثير الضوء إلى إشارة تؤدي إلى نمو مختلف (في حالة النباتات) أو إلى حركة مختلفة (في حالة الجراثيم) تنتمي إلى فصائل البروتينات التي توجد أيضا لدى الحيوانات. في حالة البكتيريا، تمكنها بعض هذه البروتينات من البحث عن الطعام بالإضافة إلى الضوء، أما لدى الحيوانات فتلعب دورا في عمليات مثل توصيل الأعصاب التي لها دور محوري في سلوكها. باختصار، إن الجينات التي تحدد شفرة مثل هذه البروتينات «المستشعرة» انتقلت بالوراثة من الجراثيم المبكرة حتى وصلت إلى الإنسان. على مستوى الجزيئات تعمل البروتينات على النحو نفسه، وتتفاوت نتائج أفعالها من كائن لآخر؛ فتتمثل لدى النباتات في البحث عن الضوء، ولدى الجراثيم في البحث عن العناصر الغذائية وتجنب الجزيئات الضارة، ولدى الحيوانات في رؤية الأشياء الموجودة حولها.
مع هذا، لا تعتبر الرؤية إحدى السمات التي تميز البشر عن الشمبانزي. في هذا الفصل سنعود إلى هذه الصفات التي تميزهما، والتي ترتكز عليها قدرة الإنسان الفريدة على البحث: المشية المنتصبة، واليد السلسة الحركة، والقدرة على الكلام، وعدد أكبر من العصبونات في القشرة الدماغية. وأريد في البداية لفت الانتباه إلى عادات الهجرة لدى الحيوانات؛ فقد أدت هذه العادات إلى انتشار البشر في جميع أنحاء العالم، وهو موضوع سنتحدث عنه في الفصل التالي. (1) الهجرة
تتطلب الهجرة بحثا، فتستطيع الحيوانات التنقل والبحث، فرادى أو في جماعات، عن مصادر جديدة للطعام والماء عندما تنفد الموارد الحالية أو تضمحل؛ فيبحث الجراد عن أرض جديدة بمجرد قضائه على النباتات الموجودة في منطقة ما؛ فبسرب يصل إلى 40 مليار جرادة يمكن القضاء على 100 ألف طن من الطعام في هجمة واحدة. أما حيوان الرنة في القطب الشمالي أو الظبي الأفريقي
1
في أفريقيا فلا ينتظران كل هذا الوقت؛ فهي تنتقل طوال الوقت. تؤدي عادة الظروف المناخية إلى العودة إلى أرض مألوفة، فيتكاثر الظبي الأفريقي بالقرب من برك الماء في سيرينجيتي في شرق أفريقيا الاستوائي (في جنوب شرق تنزانيا) في الفترة من ديسمبر إلى أبريل، ومع جفاف البرك، تتجه إلى الشمال الغربي نحو بحيرة فيكتوريا؛ حيث تظل هناك حتى شهر يوليو، ثم ترتحل بعد هذا إلى الشمال الشرقي إلى حدود كينيا حيث تنتظر أول هطول للأمطار، وفي شهر نوفمبر تكون مستعدة لبدء رحلة عودتها إلى الجنوب. تتبع الحمير الوحشية وغزال طومسون والفيلة والأسود وحيوانات أخرى توجد في منطقة سيرينجيتي استراتيجيات مشابهة عندما تنضب برك الماء في نهاية أحد المواسم وتمتلئ مرة أخرى في بداية موسم آخر. في نصف الكرة الشمالي والجنوبي، تحدث الهجرات نتيجة حلول الخريف والربيع؛ فالحوت الرمادي، على سبيل المثال، يسبح 12 ألف ميل من مياه القطب الشمالي في ألاسكا، ليصل إلى حافة ولاية باها كاليفورنيا ليتكاثر في المياه الدافئة لخليج المكسيك في أثناء أشهر الخريف، وفي رحلة العودة في الربيع تكون الإناث حوامل، ولا يلدن إلا عند عودتهن إلى المياه الدافئة في العام التالي (تستغرق فترة الحمل 13 شهرا). تهاجر أنواع كثيرة من الطيور إلى الجنوب حتى تتجنب المناخ الشمالي البارد في فصل الشتاء (وتفعل طيور نصف الكرة الجنوبي العكس)؛ فيسافر بعضها، مثل طيور السنونو والسمامة، من أوروبا إلى جنوب أفريقيا في الخريف وتعود في الربيع. هذا وتفعل طيور الخرشنة القطبية الأمر نفسه؛ إذ تطير أكثر من 12 ألف ميل في كل مرة تذهب فيها من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي والعكس، أما طيور أخرى، مثل الكركي والوقواق، فلا تطير المسافة كلها؛ فتقضي الشتاء في مناطق معتدلة في جنوب أوروبا أو شمال أفريقيا. تواصل بعض الطيور الطيران لفترة قد تزيد عن العام، وتستطيع طيور السمامة قضاء عامين وهي تحلق في الهواء، كما يعرف طائر القطرس بقدرته على الطيران 200 ألف ميل بمتوسط سرعة 40 ميلا في الساعة.
2
تهاجر الحشرات أيضا؛ وتعتبر الفراشة الملكية أحد الأنواع التي تطير أبعد من معظم الأنواع الأخرى، تقضي هذه الفراشة البرتقالية اللون المخططة باللون الأسود فصل الصيف في كندا، في تورونتو الملكية، التي اشتق منها اسمها؛ إذ سماها المستعمرون الاسكتلنديون المشيخيون على اسم ملكهم المفضل؛ الملك ويليام البروتستانتي من أورانج. تعمدت أن أقول فصل الصيف وليس فصول الصيف؛ هذا لأنها لا تعيش إلا لفصل واحد فقط، فمع دخول ليالي الخريف تترك الفراشة الشابة كندا وتبدأ في هجرة طويلة نحو الجنوب، إلى غابات الصنوبر على طول جبال سان أندريس في ولاية ميتشواكان في المكسيك، التي تبعد 3 آلاف ميل.
3
تعرف الفراشة الاتجاهات عن طريق استخدام بوصلة مغناطيسية داخلية وتتبع الشمس، وتطير مسافة تصل إلى 100 ميل في اليوم؛ ونظرا لكون هذه رحلتها الأولى، يكون عليها العثور على المكان الذي ستقضي فيه الشتاء إلى حد كبير بالغريزة فقط. ومع اقترابها من الغابات، تبدأ البحث عن أعضاء آخرين من نوعها، وتعثر عليهم، فتجد نحو 50 مليونا من نوعها، كلها تقضي الشتاء في هذا المكان وهي ملتصقة على لحاء أشجار الصنوبر في نوع من السبات الشتوي، حيث تتوقف عن تناول الطعام. عند حلول شهر فبراير تبدأ رحلة عودتها إلى الشمال. ستكون هذه الفراشات قد تزاوجت في طريقها إلى الجنوب، وتحمل كل أنثى الآن ما يصل إلى 400 بيضة، عند وصولها إلى تكساس، يبدأ أهم بحث على الإطلاق؛ فعليها أن تعثر على نبات حشيشة اللبن، الذي ستضع فيه بيضها. إن أوراق هذا النبات هي المكان الوحيد الذي سينمو فيه البيض ليصبح يرقات. تواصل الفراشات رحلتها إلى الشمال، وتضع البيض أينما عثرت على حشيشة اللبن بين مروج الربيع؛ ففي شمال تورونتو تموت حشيشة اللبن، ويضع هذا حدا لسفر هذه الفراشة المبهرة، لكنها على أي حال أصبحت في نهاية حياتها؛ فقد أتعبتها الرحلات الطويلة من المكسيك وإليها، فتسقط ضحية لأي مفترس يهجم عليها. أما بالنسبة لذريتها، فرحلتها على وشك أن تبدأ؛ فبمجرد أن تفقس تتغذى اليرقات على أوراق حشيشة اللبن، وتتحول في النهاية إلى فراشات. وتبدأ هذه الفراشات وقتئذ الرحلة إلى تورونتو في الشمال، وتتكرر دورة الهجرة.
تقدم لنا هجرة العوالق من إحدى طبقات المحيط إلى أخرى وفقا لنقاء الماء (فهي تستمد طاقتها من ضوء الشمس عبر التمثيل الضوئي)، مثالا جيدا على تداخل سلوك النباتات والحيوانات؛ فكل العوالق تهاجر، إلا أن بعضها يصنف على أنه من النباتات (العوالق النباتية)، بينما توجد أخرى ضمن مملكة الحيوان (العوالق الحيوانية). من ناحية أخرى، يوجد من يعتقدون أنه حتى النباتات الأرضية تقوم بنوع من الهجرة من أجل الوصول إلى مواقع إنبات جديدة،
4
ومع ذلك لم يهاجر أي نوع من الحيوانات على نطاق واسع مثل الإنسان؛ فقد جاب العالم بأكمله، فعلى عكس حوت العنبر في المحيط الهادئ، أو الظبي في منطقة سيرينجيتي، أو السنونو الذي يطير بين أوروبا وجنوب أفريقيا، لا يهاجر الإنسان لأسباب مناخية ؛ فالفضول يمثل حافزه الأساسي. كما توجد دوافع أخرى، مثل الهروب من الاضطهاد والرغبة في تحسين الوضع الاقتصادي. ويدور الفصل التالي حول هذه الأشياء مجتمعة.
ربما تقول إن بعض هذه الهجرات المذكورة لا تعتبر بحثا بشكل فعلي؛ لأن الحيوانات مبرمجة مسبقا، بفعل جيناتها، على الاحتشاد أو السباحة أو الطيران من مكان لآخر في الوقت المناسب. أنا أورد مثل هذه الاستجابات للظروف البيئية - الدوافع للبحث - على النحو ذاته الذي فسرت به استجابات النباتات والجراثيم للحوافز البيئية كأحد أشكال متابعة البحث؛ فالكائنات تسعى لزيادة فرصها في البقاء والتكاثر إلى أقصى حد. في حالة الحيوانات والإنسان، تكون الرؤية قاسما مشتركا.
5
بالإضافة إلى ذلك، يوجد بالتأكيد عنصر البحث النشط في هجرة الحيوانات. أولا: لا بد أن تكون أسلافها قد توصلت إلى الرحلات المناسبة التي تخوضها؛ فتبقى الأنواع التي نجحت على قيد الحياة، بينما تهلك الأنواع الأخرى. ثانيا: عند تغير الظروف المناخية، تستجيب الأنواع المهاجرة وفقا لهذه التغيرات؛ فتغير استراتيجيتها. ثالثا: تعثر معظم الأنواع المهاجرة على طريق للعودة بالضبط إلى موطنها الأصلي؛ فيعود السنونو إلى الركن نفسه في المنزل الريفي نفسه الذي تركه منذ 6 أشهر، وتشتهر السلاحف بأنها تترك أستراليا، وتسبح إلى كاليفورنيا وتعود منها (مسافة تبلغ 15 ألف ميلا)، ومع ذلك يظل بإمكانها العثور على الشاطئ نفسه الذي تركته منذ 30 سنة.
6
من الصعب تقبل فكرة أن آليات تحديد المواقع لديها بمثل هذا المستوى من الدقة؛ فيبدو من المقبول أكثر افتراض أن الجزء الأخير من رحلة عودتها يشتمل على عملية بحث نشط عن موطنها السابق. بالطبع، تفشل الحيوانات أحيانا في العثور عليه؛ إذ تجرفها بعيدا عن مسارها عاصفة شديدة أو تيار شديد. توجد آليات نسخ في أدمغة الحيوانات؛ تماما كما توجد في أدمغتنا، تساعد في تذكر الأنواع التي نجحت في هجرتها بالمكان الذي كانت فيه. ربما تبدأ الذرية في البداية في اتباع والديها، لكنها تتذكر أيضا فيما بعد طريق رحلاتها. ونحن نطلق على هذا اسم الذاكرة؛ تذكر الأماكن والأحداث والأفكار .
لا تنتقل الذاكرة بالطبع إلى الجيل التالي . تقدم دراسة حديثة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية - ليس عن التعرف على وجهات الهجرة، وإنما عن تحديد المفترسات المحتملة - مثالا جيدا على حاجة كل جيل إلى التعرف على المفترسات من جديد، تماما مثل حاجة أطفال البشر إلى تعلم تجنب المواقف الخطيرة مثل لمس المواقد الساخنة أو الأشياء الحادة، أو أكل التراب أو شرب المياه غير نظيفة. إنه النظير الحيواني للانتقال الثقافي من الوالد إلى الذرية عبر اللغة. تمثل ما فعله العلماء في مقارنة استجابة حيوان الموظ في حديقة يلوستون الوطنية باستجابة الموظ في ألاسكا. في حديقة يلوستون لم يعد إدخال المفترسات الطبيعية، الدب الرمادي والذئب، للموظ إلا بعد غياب 50 عاما، أما في ألاسكا فهذه المفترسات توجد باستمرار. واكتشف العلماء أن حيوان الموظ في حديقة يلوستون يزيد احتمال قتله على يد الدب الرمادي أو الذئب بخمسين مرة عن ذلك الموجود في ألاسكا؛ فقد نسيت هذه الحيوانات كيف تتعرف على أعدائها. ونظرا لعدم حدوث أي تغير جيني في مثل هذه الفترة القصيرة من الوقت، مجرد بضعة أجيال، يصبح من الواضح أن الموظ يحتاج إلى تعلم الأخطار التي تمثلها المفترسات من جديد في كل جيل. لذلك من المحتمل أن تكون المعرفة بشأن طرق الهجرة يتعلمها الصغار من والديهم أو من الحيوانات الأكبر سنا، التي ذهبت في الرحلة من قبل؛ فهذه المعرفة ليست فطرية. (2) تطور الإنسان
توجد أدلة دامغة على تطور الإنسان من سلف مشترك للقردة العليا؛ فقد رأينا أن 95٪ من تكويننا الجيني هو نفسه الموجود لدى الشمبانزي الحالي. عاش هذا السلف منذ نحو 6 إلى 8 ملايين سنة، على الأرجح في مكان ما في أفريقيا؛ فلم يعثر على أي بقايا حفرية إلا مؤخرا. ومع ذلك، في عام 2001، قرر فريق مشترك من فرنسا وكينيا أن العظام التي عثروا عليها في تلال توجن في كينيا، وحددوا تاريخها بأنها ترجع إلى 6 ملايين سنة، تنتمي إلى هذا المرشح، وأطلقوا على الجنس اسم أورورين وعلى النوع اسم توجنسيس.
7
رغم أن الأورورين توجنسيس هو بالفعل السلف المحتمل للإنسان، فإن الأدلة على أنه كان أيضا سلفا للقردة الأفريقية الحالية أقل قوة. الأمر الذي لا جدال فيه أنه منذ ذلك الوقت تقريبا بدأت السلالتان اللتان تؤديان إلى الإنسان من ناحية، وإلى الشمبانزي الحالي من ناحية أخرى (بان تروجلوديت وبان بانيسكوس) في الانفصال، وانتهى الحال بانفصال سلالتي الغوريلا الحديثة والأورانجوتان في وقت مبكر؛ فالإنسان أكثر قربا للشمبانزي من الغوريلا أو الأورانجوتان. (2-1) أساليب التأريخ
كيف يحدد عمر قطعة من العظام أو أداة حجرية؟ في حالة البقايا المتحجرة يحدد عادة تاريخ الطبقات الصخرية المحيطة بها أو الحجر الجيري الذي عثر على العينة فيه، وليس الحفريات نفسها، فمع ترسب الغبار والنباتات الميتة على الأرض، تصبح بعض البقايا الحيوانية متحجرة، شريطة ألا يحركها شيء من مكانها، ثم تتكون طبقة جديدة فوقها، وهكذا. يحدث تحجر الحفريات، الذي يحفظ الكائنات النافقة، نتيجة للأملاح المعدنية الموجودة في المياه التي تجري فوق سطح الأرض، ومع تبخر المياه، تترك وراءها طبقة بلورية تحتفظ بشكل البقايا العضوية مثل العظام. هذا وقد عثر على معظم حفريات الإنسان الأول على طول مجاري الأنهار أو في كهوف؛ بينما الجثث التي تترك في الأراضي المفتوحة لا تظل في مكانها فترة طويلة تسمح لها بالتحجر.
أما البقايا العضوية التي تحتوي على الكربون، مثل الخشب (الذي ربما استخدم في صنع إحدى الأدوات)، أو الفحم (من الحرائق)، أو العظام (من بقايا الهياكل العظمية)، أو الأصداف (من الحيوانات البحرية والأرضية)، أو الخث (من النباتات السابقة)، فيمكن تحديد تاريخها من خلال قياس نسبة أحد النظائر المشعة للكربون، ويطلق عليه الكربون
14
ومقارنته بنسبة النظير المستقر الكربون
12 ، الموجودة بها.
8
وعندما تكون النباتات والحيوانات على قيد الحياة، فإن نسبة الكربون الموجود في صورة كربون
14
تعكس النسبة الموجودة في الجو المحيط. يرجع هذا إلى أن محتوى الكربون
14
في ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء يعادل ثاني أكسيد الكربون الموجود داخل خلايا النباتات والحيوانات الحية. عند نفوق هذه النباتات والحيوانات، يتوقف هذا التوازن وتقل نسبة الكربون
14
تدريجيا مع تحلل النظير المشع ؛ فكلما قلت نسبة الكربون
14
الموجودة، زادت الفترة التي مرت على وفاته. يمكن استخدام هذه الطريقة في تأريخ أشياء يتراوح عمرها بين 200 سنة إلى 50 ألف سنة، بهامش خطأ من 1 حتى 5٪؛ ومن ثم بالنسبة لشيء يؤرخ عمره بخمسين ألف سنة، تتراوح نسبة الدقة من 500 إلى 2500 سنة زائدة أو ناقصة. إلا أن عملية التأريخ بالكربون لا يصلح استخدامها لأشياء يصل عمرها إلى مليون سنة أو أكثر، وكذا لا يمكن استخدام تحليل الدي إن إيه، بفرض إمكانية فصل عينة مناسبة؛ إذ يصبح الجزيء غير مستقر بعد نحو 100 ألف سنة،
9
رغم أن التحلل الذي يحدث بفعل الإنزيمات عقب الوفاة لا يترك عادة إلا قدرا قليلا من المادة السليمة لتحليلها على أي حال.
فيما يتعلق بالصخور التي تحتوي على الحديد، فيمكن تأريخها من خلال تحديد اتجاه المجال المغناطيسي داخل العينة؛ والسبب في ذلك أن المحور المغناطيسي للأرض يغير الاتجاه في كل مرة يتغير فيها مكان الحديد المنصهر الموجود عميقا داخل الأرض، ومن خلال معرفة متى تحدث مثل هذه التغيرات في المحور المغناطيسي، ومن خلال قياس الاتجاه داخل عينة من الصخور، يمكن تأريخ هذه العينة في حدود «إطار» زمني معين،
10
ومن أجل تحديد الإطار المعين الذي حدث فيه حفظ الصخرة، يجب تطبيق أساليب تأريخ أخرى. وإحدى هذه الطرق التي لاقت قبولا، وتكون مفيدة في الفترات الزمنية منذ نحو 300 ألف سنة حتى أكثر من 10 ملايين سنة مضت، تعتمد أيضا على تحلل نظير مشع، لكنه في هذه الحالة نظير البوتاسيوم
K .
11
توجد طريقة أخرى لقياس الإشعاع، تغطي الفجوة بين التأريخ بالكربون المشع (المفيد حتى 50 ألف سنة مضت) والتأريخ بالبوتاسيوم المشع (المفيد من 300 ألف سنة مضت فصاعدا)، تعتمد على نسبة اليورانيوم
238
المشع إلى اليورانيوم
235
المستقر في قطع الصخور التي تحتوي على اليورانيوم (سيتذكر القارئ أن فصل اليورانيوم
238
عن هذه المواد الخام هو الذي أدى إلى إنتاج أول قنبلة نووية في عام 1945)، ومع تحلل اليورانيوم
238
يترك أثرا في عينة الصخور، يكون طول هذا الأثر معبرا عن مقدار اليورانيوم
238
الذي كان موجودا عند حفظ الصخرة. تعتبر الطريقتان المستخدمتان في قياس الإشعاع اللتين شرحناهما للتو فعالتان إلى حد كبير في تأريخ الصخور في المناطق ذات النشاط البركاني العالي (الذي يعاد معه في كل مرة ضبط «الساعة» إلى صفر). ونظرا لأن هذه المواصفات تنطبق على منطقة الوادي المتصدع الكبير، فإن هذه الطرق أثبتت فاعليتها في تأريخ طبقات الصخور التي عثر فيها على معظم بقايا حفريات الهومو وأسلافه.
تعتمد الطرق المذكورة
12
على تحليل عينة فعلية، وبدلا من ذلك، يمكن الاستدلال على التاريخ الذي ظهر فيه أي كائن حي لأول مرة من التحليل الجزيئي لذريته. وتتمثل إحدى طرق فعل هذا في تحليل امتدادات الدي إن إيه. وثمة طريقة أخرى تتمثل في تحديد تسلسل بروتينات معينة. وتوجد طريقة ثالثة؛ وهي طريقة التهجين المشروحة في الفصل الثاني (الهامش 26). تعتمد كل طريقة على مقارنة دي إن إيه أو بروتين أحد الأنواع بالخاص بنوع آخر، وكلما زاد اختلافهما، زادت الفترة التي مضت على انفصالهما. ونظرا لأن الاختلافات تكون بسبب الطفرات، يمكن لمعرفة نسبة حدوثها أن تعطي المرء نطاقا زمنيا فعليا، ومن خلال طرح افتراضات معينة، هذا بالضبط ما تمكن العلماء المتخصصون في الجزيئات من فعله. وكان ثمة تشابه ملحوظ بين النتيجة، التي رسمت في شكل شجرة ذات أغصان تعبر عن التفرعات داخل المملكة، والشعبة، والفئة، والرتبة، والفصيلة، والجنس، والنوع، وأشجار الحياة التي رسمت منذ 100 سنة اعتمادا بالأساس على الحدس وحده. في كلا النوعين يوجد الإنسان العاقل في القمة، لكن إذا كانت نهاية الفرع من المفترض أن تشير إلى مدى حداثة تطور هذا النوع، ألا ينبغي أن يحتل فيروس مثل فيروس العوز المناعي البشري مركز الصدارة؟ (2-2) الأوسترالوبيثكوس
بدأ سلفنا المباشر في السير منتصبا لأول مرة على نحو مستمر منذ أكثر من 5 ملايين سنة؛
13
إذ فقد أصابع القدم المفلطحة للرئيسيات المتسلقة للأشجار، وبدلا من ذلك حصل على تقوس في أسفل قدمه. توجد مميزات واضحة للسير باستقامة على طرفين، بدلا من الانحناء على أربعة أطراف؛ مثل الحصول على رؤية أفضل من أجل البحث عن مفترسات أو فرائس عبر الحشائش الطويلة (زيادة بأربعة أضعاف في مساحة الأفق المرئي)، وحرية اليدين من أجل حمل الأشياء مثل الطعام أو الأطفال الرضع، كما أن الزيادة في حساسية اليدين والطرف العلوي تعني قدرة أصحاب المشية على قدمين على الاستكشاف في الظلام وفي أماكن لا تستطيع أعينهم الرؤية فيها؛ فالقدرة على الإحساس بالملمس والوزن تلعبان دورا مهما في التقدم الاستكشافي للإنسان. هذا وذكرت القدرة على حمل الأدوات أو الأسلحة بوصفها فوائد جينية أخرى للسير على قدمين، لكن من غير المحتمل أن تكون أحد العوامل؛ نظرا لأن السير على قدمين سبق استخدام الأدوات بنحو مليوني سنة. والواضح أنه بمجرد تحرر الأطراف الأمامية من حمل وزن الجسم، أصبح ظهور الحرف اليدوية ممكنا. ولهذه الأسباب أعتبر المشية المنتصبة إحدى السمات الأربع التي مكنت من تحقيق سعي الإنسان وراء التكنولوجيا الحديثة؛ فطالما كان ذراعاه يستخدمان في دعم حركته، لم يكن باستطاعة أصابعه التطور إلى لواحق قادرة على صنع الأدوات. وتمثل البديل لظهور السير على قدمين بدلا من السير على أربع في بطء الحركة؛ فالحيوانات التي تسير على أربعة أقدام، مثل الغزال والفهود والخيل والكلاب، تتحرك أسرع من الإنسان، لكن مقارنة بالرئيسيات الأخرى، لم يفقد الإنسان كثيرا من سرعته؛ فيمكنه بسهولة أن يسبق الغوريلا أو الشمبانزي.
عثر على البقايا الحفرية لكائن منتصب القامة، أطلق عليه أوسترالوبيثكوس أفارينيسيس ويسمى اختصارا لوسي (فقد كانت لأنثى)، منذ ربع قرن في وادي أواش الأوسط في إثيوبيا، ويرجع عمرها إلى 3,2 ملايين سنة، لاحظ أن مصطلح أوسترالوبيثكوس لا يشير إلى أصل أسترالي؛ فهو يعني فحسب «قردا جنوبيا». كان اكتشاف لوسي مهما لسببين؛ أولا: لأن نحو 40٪ من هيكلها العظمي كان من الممكن إعادة تجميعه بدقة. وثانيا: لأنه عند الانتهاء من عملية إعادة التجميع هذه، أظهر الهيكل النهائي أنها سلف الإنسان الحديث (رغم وجود شك حاليا لدى بعض علماء الحفريات البشرية بشأن انحدار نوع الهومو مباشرة من الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس نفسه)، ومنذ بضعة سنوات، عثر على سليل محتمل للوسي، يدعى أوسترالوبيثكوس جارحي، في الوادي نفسه، وأرخ إلى 2,5 مليون سنة مضت، كان أطول من لوسي (التي كانت قصيرة على نحو استثنائي)، وكانت أسنانه تشبه البشر أكثر، لكن ما زالت لديه أذرع طويلة إلى حد ما ودماغ صغير نسبيا. عثر على بقايا من هياكل عظمية لكائنات أخرى يحتمل أن تكون أسلاف الإنسان على طول الوادي الفسيح المعروف باسم الصدع الأفريقي الشرقي، الذي يمتد من إثيوبيا والبحر الأحمر في الشمال، ويمر عبر أوغندا وكينيا، وصولا إلى تنزانيا والدول الأخرى التي تقع على حدود بحيرة مالاوي في الجنوب (بحيرة مالاوي هي تسمية خاطئة؛ فقد أخطأ المستكشف ديفيد ليفينجستون، الذي أطلق هذا الاسم عليها، في فهم إشارات السكان المحليين الذين أشاروا إلى المياه وقالوا «مالاوي»؛ فهذه الكلمة تعني ببساطة «بحيرة»).
14
وفي هذا الوادي الطويل أيضا، عثر على أقدم بقايا لجنس جديد، ينتمي إلى الهومو، وتحدد تاريخه بأنه يصل إلى نحو 2,5 مليون سنة مضت.
في وقت تأليف هذا الكتاب، تحدد سلف آخر محتمل للهومو على أساس جمجمة عثر عليها في الصدع الأفريقي الشرقي، هذه المرة بالقرب من بحيرة توركانا في شمالي كينيا. أظهرت القطع المتحجرة عند إعادة تجميعها أن صاحبها كان لديه دماغ في حجم دماغ الشمبانزي، لكن وجهه كان مفلطح أكثر وأسنانه كانت أصغر، أقرب للشبه بأسنان الإنسان. وتحدد تاريخها بين 3,5 ملايين سنة و3,2 ملايين سنة مضت. بعبارة أخرى في خلال فترة الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس. دفعت السمات المميزة المتمثلة في الوجه المفلطح والضروس الصغيرة الفريق، الذي ضم فردين من أسرة ليكي التي اشتغلت بالبحث عن الحفريات في هذا الجزء من أفريقيا لأكثر من جيل، إلى اعتبار هذه البقايا لا تعبر فحسب عن نوع جديد، ولكن تنتمي أيضا إلى جنس مختلف عن الأوسترالوبيثكوس؛ ومن ثم أطلقوا عليه اسم إنسان كينيا (كائن ذو وجه مفلطح يشبه الإنسان من كينيا)،
15
رغم أن إنسان كينيا عاش في نفس وقت الأوسترالوبيثكوس، يعتبرهما البعض أسلاف الهومو؛ وقد يشير هذا ضمنيا إلى أن إنسان كينيا سليل الأوسترالوبيثكوس (أو العكس)؛ فقد أدت حقيقة أن كليهما ظهرت لديه القدرة على المشي منتصبا إلى إدراج كلا الجنسين في فصيلة القردة العليا، مع جنس الهومو. (2-3) أنواع الهومو المبكرة
ثمة صفات كثيرة تميز الهومو عن أسلافه. على سبيل المثال: شكل الفك والأسنان، التي كانت أصغر لدى الهومو (أخف وأصغر حجما)، والتي كانت أقوى لدى الأوسترالوبيثكوس (أثقل وزنا وضخمة). تتمثل إحدى الصفات الأخرى في حجم الدماغ وتعقيده، تلعب هذه الصفة دورا أساسيا في قصتنا؛ فدونها كان الهومو سيظل مجرد جنس آخر من الرئيسيات، ومع وجودها استطاع صقل قدرة الفضول الفطرية وتحويلها إلى بحث عقلاني، وهي قدرة بدأت مع أول نوع من أمثاله واستمرت في النمو حتى أصبحت إحدى الصفات المميزة للإنسان في عصرنا الحالي.
توجد لدى ليزلي إيلو، من جامعة لندن، فرضية مثيرة للاهتمام حول تطور دماغ الهومو، وفي الواقع تطور الهومو نفسه، مفادها أن أحد أشباه البشر (سواء كان إنسان كينيا، أو الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس، أو أي نوع من الرئيسيات يثبت أنه السلف المباشر للهومو)، عثر مصادفة على هيكل عظمي لفريسة، ظبي مثلا، قتلها للتو والتهمها أحد الحيوانات المفترسة، لم يعد يوجد أي لحم متبق، لكن انتظر، ربما يوجد في الرأس شيء يمكن أكله؛ لذا يأخذ قطعة من الحجارة ليكسر بها الرأس ويفتحه، وبالفعل يجد بدخلها نسيجا لينا يمتصه بشراهة، تكون هذه أول مرة يتذوق فيها اللحم ويعجب بطعمه؛ فاللحم يشعره بالشبع أسرع من الفاكهة والتوت التي اعتاد على تناولها، فيستمر مثل الطير الجارح في البحث عن الحيوانات النافقة. أدى تحول مجموعة من الرئيسيات هكذا إلى نظام غذائي عالي الدهون وعالي البروتين إلى زيادة سرعة نموها وتكاثرها، وتطور مخها على نحو أفضل؛ مما أدى بدوره إلى صنع أدوات أفضل واستخدامها في الصيد، الذي أدى بدوره إلى الحفاظ على نظام غذائي أغنى، وهكذا؛ ومن ثم يحدث التحول من كونها كائنات جامعة للنباتات (رغم أنها كانت على الأرجح تأكل أيضا الثدييات الصغيرة والحشرات، تماما مثل الشمبانزي في عصرنا الحالي) إلى كائنات تأكل كافة أنواع الطعام الذي تجمعه أو تصطاده، وهكذا يحدث تطور كائنات الهومو من أسلافها المباشرة ببطء.
16
لا تعني حقيقة أن بعضا منا ربما عاد إلى نظام غذائي نباتي صارم تلف وظيفة أدمغتنا،
17
فبمجرد اختيار عملية التطور لوظيفة معينة، تظل موجودة؛ فالجينات التي تقوم على أساسها هذه الوظيفة لا تحتاج إلى «تغذية» من المحفز الأصلي؛ فعلى سبيل المثال، نحن نشترك مع معظم الثدييات غير المجترة في عدم استخدامنا للزائدة الدودية، ومع ذلك فإن الجينات المسئولة عن تكوينها لم تختف، كذلك توجد حلمات لدى الذكور من الثدييات، رغم عدم وجود غرض منها.
توجد سمات أخرى تميز الهومو عن أقاربه من الرئيسيات، يمكن أن نذكر من بينها استخدامه الشائع ليده اليمنى، وحقيقة أنه في المتوسط يكون الذكور أطول من الإناث، وتعرض النساء لسن انقطاع الطمث.
18
يتمثل أكثر السمات ارتباطا بموضوع هذا الكتاب في تطور اليد سلسة الحركة. فمنذ نحو 2,5 مليون سنة تقريبا، بدأ ظهور الإبهام كامل الدوران. ولا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية البراعة اليدوية في تطور الإنسان.
19
ونظرا لكون 2,5 مليون سنة هي أيضا عمر أقدم المصنوعات الحجرية التي صنعها كائن حي، فإن هذا النوع الجديد من الرئيسيات سمي هومو هابيليس (الإنسان البارع أو الماهر). هذا وتحدد تاريخ نوع آخر من الهومو، ربما مشى على نحو منتصب أكثر من الإنسان الماهر (الذي كانت قامته أكثر استقامة من الأوسترالوبيثكوس) وسمي الإنسان المنتصب، إلى ما بعد ذلك بنحو نصف مليون سنة؛ أي منذ 1,8 مليون سنة مضت. عثر على أكثر بقايا مكتملة لهيكل عظمي لفرد من هذا النوع منذ 15 سنة على يد ريتشارد ليكي، ابن عالمي الأنثروبولوجيا لويس وماري ليكي، على الضفة الغربية من بحيرة توركانا في شمالي كينيا، ويرجع تاريخها إلى 1,5 مليون سنة. عند تجميع أجزاء الجمجمة والعديد من قطع العظام الأخرى، أصبح واضحا أن صاحب هذا الهيكل كان صبيا، توفي تقريبا في التاسعة من عمره، وقد أدى صغر سنه ومكان وفاته إلى إطلاق اسم صبي توركانا على هذه العينة من الإنسان المنتصب.
على الأرجح تعايش كل من الأوسترالوبيثكوس وإنسان كينيا والهومو معا في الوادي المتصدع الأفريقي الشرقي، وفي أماكن أخرى لعدة آلاف من السنين . ومن نوعية الأدوات الحجرية التي عثر عليها بجوار بقايا الهياكل العظمية، يبدو أن بعض الأوسترالوبيثكوس كانت لديهم القدرة على الإمساك بأيديهم بأدوات حجرية بدائية. إن الاختلاف الوحيد بين الأوسترالوبيثكوس والهومو أن الأول كان يستخدم فقط ما يجده حوله، بينما كان الثاني يشكل فعليا الحجارة بحجارة أخرى؛ ليستخدمها في قطع أو تقطيع الأغصان واللحم، بالإضافة إلى قتل الفرائس؛ فقد بدأ بذلك بحث الإنسان عن تكنولوجيا جديدة. لكن علينا الاعتراف بأن معظم التفاصيل بشأن أصلنا قائمة على التكهنات إلى حد كبير.
أولا: على القارئ أن يعلم أن الربط بين استخدام الأشياء وبقايا هيكل عظمي معينة عثر عليها بالقرب منها لا يعتمد على أكثر من حقيقة أن كلاهما يوجد في الطبقة نفسها من الأرض أو الصخور تحت سطح الأرض، وكلما زاد عمر العينات، زاد العمق الذي تدفن عليه، كما شرحنا آنفا.
ثانيا: إن نسبة بقايا هيكل عظمي - تتمثل عادة فيما لا يزيد عن بعض العظام وجمجمة إن حالف المرء الحظ - إلى أحد الأجناس، مثل الهومو أو الأوسترالوبيثكوس أو إنسان كينيا، ناهيك عن نسبتها إلى نوع معين مثل الإنسان الماهر أو الإنسان المنتصب؛ ليس علما دقيقا، ويتأثر كثيرا بتحيز المكتشف. حقق المتخصص الكندي في علم التشريح ديفيدسون بلاك، الذي عين أستاذا بقسم الأعصاب والأجنة في كلية اتحاد بكين الطبية المؤسسة حديثا في عام 1919، شهرة واسعة بعد هذا بثماني سنوات؛ من خلال العثور على سن واحدة ادعى بأنها تنتمي إلى أقدم حفرية شبيهة بالبشر في آسيا، وأطلق على صاحبها القديم اسم سينانثروبوس بيكينسيس أو إنسان بكين. ربما كان محقا في افتراضه القدم البالغ، وعثر على دستة من العظام المتحجرة الأخرى منذ ذلك الحين في المنطقة نفسها؛ مما دفع علماء الأنثروبولوجيا إلى نسبة إنسان بكين إلى نوع الإنسان المنتصب، بعمر يصل تقريبا إلى 500 ألف سنة. باءت المحاولات الحديثة من حفيد ديفيدسون بلاك لرؤية عظام إنسان بكين بالفشل. حفظت العظام في البداية في كلية اتحاد بكين الطبية، لكن عند غزو اليابان للصين في عام 1937 تقرر نقلها إلى مكان آخر لحفظها في أمان. يقال إنها نقلت إلى السفارة الأمريكية، وكانت ضمن حمولة من الأشياء التي نقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك ببضع سنوات، عندما اندلعت الحرب بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ومن الواضح أنها لم تصل إلى وجهتها قط. ثمة رواية أخرى للأحداث تفيد بأنها أخذت إلى اليابان بناء على أوامر الإمبراطور، لكن مساعي حفيد ديفيدسون بلاك لتحديد موقعها هناك فشلت، وربما ما زالت في الصين بعد كل هذا، أو ربما يكون شخص ما تخلص ببساطة من المحتويات المغلفة بعناية في صندوق بني صغير؛ اعتقادا منه بأنها قمامة، وهو التفسير الأسوأ ولكنه الأكثر احتمالا. وهكذا أحاط بعظام أقدم إنسان في الصين الغموض الذي يحيط بلوحة مفقودة رسمها فنان عظيم، أو مخطوطة مفقودة من مكتبة أحد الأديرة القديمة.
إجمالا، منذ نحو 2,5 مليون سنة مضت عاشت معا رئيسيات مختلفة يتراوح شكل تكوين هيكلها العظمي بين الشمبانزي والبشر في عصرنا الحالي. ونتيجة لقدرتها على الإمساك بأيديها الحجارة والمواد الأخرى التي وجدوها حولهم، تعلم بعض من أشباه البشر الأول هؤلاء صنع أدوات بدائية. مر أكثر من مليوني سنة قبل ظهور الإنسان بصورته التي نعرفها الآن. لا يمكن تحديد التواريخ بدقة نظرا للأسباب التي ذكرناها بالفعل. على أي حال لا يسع المرء إلا تأريخ الأشياء التي عثر عليها، وتوجد ندرة في البقايا، ويكون نسبة شيء من صنع الإنسان، أو بقايا مجزأة من حيوان مذبوح، أو رسمة على جدار أحد الكهوف، إلى أحد أنواع الهومو؛ معتمدا إلى حد كبير على التخمين، خاصة أن تطور نوع من نوع آخر يكون عملية تدريجية للغاية، مع استمرار وجود النوعين معا لوقت طويل؛ ومن ثم يوجد جدل كبير بين علماء الحفريات البشرية بشأن هوية اكتشافاتهم، ويتجادلون أيضا، بنفس حدة علماء اللاهوت في العصور الوسطى، بشأن حق كل منهم في التنقيب في منطقة معينة على الإطلاق؛ فكانت المكائد والنهب والقضايا التي تدعي التعرض لاعتقال غير قانوني، والحبس ظلما، والتعدي البغيض ؛ أمورا شائعة بين صائدي الحفريات في الصدع الأفريقي الشرقي، فكل منهم يسعى إلى إفساد مساعي منافسيه بقدر سعيه لاكتشاف عظام أسلافه. (2-4) أنواع الهومو الحديثة
في أغسطس عام 1856، في الوقت نفسه تقريبا الذي كان تشارلز داروين يضع لمساته النهائية على كتاب «أصل الأنواع»،
20
تسلم مدرس في إحدى القرى يدعى الدكتور يوهان كارل فولروت جمجمة وبعض عظام أحد دببة الكهوف؛ فقد عثر العمال الذين يستخرجون الحجارة على طول ضفاف نهر الدوسل في وادي نياندر، الذي يصل إلى نهر الراين بالقرب من مدينة دوسلدورف، على هذه البقايا في أثناء تفجير أحد الكهوف التي تقع على بعد 60 قدما فوق النهر. وعلما منهم بأن هواية الدكتور فولروت كانت التاريخ الطبيعي، فكروا أنه ربما يهتم بالحصول عليها، وكانوا محقين في ذلك. أدرك هذا المدرس على الفور أن هذه العظام لم تكن لدب، وإنما لإنسان بدائي من نوع ما، فكانت الجمجمة تشبه جمجمة الإنسان أكثر من أي شيء عثر عليه من قبل. في الواقع كان الدماغ أكبر من دماغ الإنسان المعاصر، رغم أن الأجزاء الأخرى كانت أثقل وزنا إلى حد ما. عاد الدكتور فولروت مسرعا إلى الكهف وبدأ الحفر فيه من أجل العثور على مزيد من الآثار التي تدل على وجود بشري، لكن في هذا الوقت كانت أجزاء الحجر الجيري والحطام طمست كل آثار الساكن السابق لهذا الكهف الصغير. خمن فولروت أنه في سبيله إلى اكتشاف شيء مهم واستشار هيرمان شافهاوزن، أستاذ التشريح في جامعة بون. وافق شافهاوزن على أن العينات يبدو أنها للقردة العليا (التي تأرخت منذ ذلك الحين ب 40 ألف سنة)، وأعلن الاكتشاف بعد 6 أشهر في اجتماع لجمعية التاريخ الطبيعي والطب لدول أسفل الراين في بون. لم ينتج عن هذا أي اهتمام أو إثارة كالتي كان إصدار داروين على وشك إحداثها، وظل اكتشاف فولروت غير ملحوظ لعدد من السنوات.
لم يحدث الربط بين بقايا الهيكل العظمي التي وصفها فولروت وشافهاوزن وحفريات أخرى عثر عليها في أوروبا إلا في وقت لاحق، ضمت هذه الحفريات جمجمة اكتشفت في محجر فوربس على صخرة جبل طارق في عام 1848. من البداية، تشكك علماء مثل توماس هنري هكسلي في أن هذه الهياكل العظمية تعبر عن «الحلقة المفقودة» المحيرة بين القرد والإنسان، وأكدت اكتشافات تالية في الشرق الأدنى ووسط آسيا وجهة النظر هذه. ومن أجل الإشارة إلى الاكتشاف الألماني، أطلق على أشباه البشر هؤلاء إنسان نياندرتال (وتعني كلمة «تال» وادي بالألمانية)، أو هومو نياندرتالنسيس.
21
ظهر هذا النوع من الهومو منذ نحو 250 ألف سنة، وظل يعيش حتى وقت قريب منذ 30 ألف سنة، بعد ظهور الإنسان العاقل، الذي كان في هذا الوقت وصل هو نفسه إلى أوروبا. ونظرا لأن ظهور إنسان نياندرتال تزامن مع العصر الجليدي الأخير، يوجد سبب جيد للاعتقاد في أن إنسان نياندرتال أتقن فن التدفئة من خلال الاحتماء في الكهوف، وصنع ثيابا من جلود الحيوانات، مثل الثور الأمريكي أو الدب. لم يعثر على أي بقايا لإنسان نياندرتال في شمال الخط الذي يشير إلى امتداد سطح الأرض الدائم التجمد في هذا الوقت، كما لم يعثر عليه في أفريقيا ولا في جنوب آسيا، ورغم تحفظات بعض علماء الأنثروبولوجيا، توجد أوجه تشابه مذهلة بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل لدرجة جعلت كثيرين يعتبرون الاثنين شكلين مختلفين للنوع نفسه (هومو سيبيان نياندرتالنسيس وهومو سيبيان سيبيان). ويذهب البعض إلى أبعد من هذا، واقترحوا أن إنسان نياندرتال هو سلف الإنسان الحديث. ومع ذلك تخبرنا الأحياء الجزيئية بقصة أخرى، سنشرحها بعد قليل.
الواضح لنا أن إنسان نياندرتال كان يمتلك ثلاثا من الصفات الضرورية للسعي الإنساني؛ المشية المستقيمة، واليدين ذاوتي الحركة السلسة، ودماغ حجمه مناسب. لا نعلم ما إذا كانت حنجرته متطورة بالشكل الكافي لتمكنه من الحديث أم لا. تكمن المشكلة في التشريح التفصيلي للبلعوم؛ وهو الأنبوب الذي يبدأ من آخر الفم ثم ينقسم: إلى الحنجرة، التي تتنفس عبرها الحيوانات بما في ذلك الإنسان، والمريء، الذي تتم من خلاله عملية البلع لدى الحيوانات بما في ذلك الإنسان. توجد داخل الحنجرة الأحبال الصوتية، التي تتكون من غشاءين مرنين يمتدان عبرها من الداخل. يهتز الغشاءان عند خروج الهواء من الرئتين عبرهما؛ مما يصدر صوتا. يعمل هذان الغشاءان إلى حد ما مثل أوتار الكمان؛ فيمكن تقصيرهما وإطالتهما من خلال انقباض وانبساط عضلات متناهية الصغر تتحكم أيضا في فتح المساحة بينهما وإغلاقها. يثبت هذه العضلات تكوينان غضروفيان؛ الغضروف الدرقي في طرف، والغضروف الطرجهالي في الطرف الآخر. إن الوضع الدقيق لكل هذه القطع من الغضاريف والأنسجة المرنة والعضلية في الحنجرة هو الذي يسمح لأحد الكائنات بتعديل الأصوات عبر نطاق هائل من الاحتمالات، بينما لا يستطيع كائن آخر أكثر من مجرد النخير. على عكس العظام، فإن كل التكوينات التي ذكرناها؛ الغضاريف والنسيج المرن والعضلات، تتحلل عند وفاة الحيوان؛ ومن ثم لا توجد بقايا لها، متحجرة أو غير متحجرة، لتحسم الأمر بشأن امتلاك صاحبها لأحبال صوتية متطورة أم لا. توجد قطعة صغيرة من العظم (العظم اللامي) تتصل عن طريق العضلات إلى حد ما على نحو مختلف بالجزء الخلفي من الفم لدى الإنسان والشمبانزي، ويسهم هذا التكوين في قوة الصوت الصادر، حتى إذا كان العظم اللامي يكتشف مع العظام الأخرى عادة، وهو ما لا يحدث بوجه عام، فإن هذا لا يساعد كثيرا نظرا لتشابه شكله كثيرا لدى النوعين، وستكون أدوات ربطه الخاصة قد تحللت. ولهذه الأسباب نحن لا نعرف إذا كان الهومو نياندرتالنسيس قد تمتع بالقدرة على الكلام البشري أم لا.
22
شكل 4-1: المشية المنتصبة. مقارنة بين هيكل إنسان (يسارا) وهيكل غوريلا (يمينا). وضع الهيكل العظمي الثاني في وضع السير على قدمين، رغم أن الغوريلا تسير عادة على أربعة. أعيد طبعها بإذن من متحف التاريخ الطبيعي، لندن.
بعد مرور بضع مئات الآلاف من السنوات على ظهور إنسان نياندرتال في أوروبا، وصل نوع جديد من الهومو إلى سهول شرق أفريقيا، كان يسير منتصبا بسهولة وبإجادة (نتيجة لتغيرات في الحوض وعظم الفخذ والقدمين، شكل
4-1 )، وكان لديه إبهام متحركة وأصابع أقصر (شكل
4-2 )، سمحت له بالإمساك بالأدوات على نحو أفضل من أي من أسلافه، ليس فقط بقبضة القوة (الإمساك بالشيء بين الإبهام والأصابع المغلقة بإحكام عليها)، بل بقبضة الدقة الأفضل (الإمساك بالشيء بين الإبهام وأطراف الأصابع المفرودة). الأهم من ذلك أن دماغه كان أكبر كثيرا
23 - ثلاثة أضعاف حجم دماغ الأوسترالوبيثكوس جارحي - وتطور لديه صندوق الصوت الذي تحدثنا عنه للتو (شكل
4-3 )، الذي تمكن من خلاله الحديث مع الآخرين من نوعه بطريقة أكثر تعقيدا، وكانت الطبقة العليا من دماغه، القشرة، تحتوي على عصبونات (خلايا عصبية) أكثر بثلاث مرات من الموجودة لدى الشمبانزي الحديث (شكل
4-4 )، فكان أكثر فضولا وذكاء وبراعة وإبداعا وطموحا من أسلافه؛ فكان الكائن الذي نطلق عليه حاليا اسم الهومو سيبيان، أول ممثل للنوع الذي ينتمي له كل البشر الذين يعيشون على وجه الأرض. يتفق الاختلاف الطفيف نسبيا بين مشية الإنسان ويديه وحنجرته ودماغه والغوريلا (شكل
4-1 ) أو الشمبانزي (الأشكال من
4-2
إلى
4-4 ) مع تأكيدي من قبل على غياب جينات خاصة بالإنسان؛ فهذه الجينات هي مجرد أشكال مختلفة للجينات التي امتلكها السلف المشترك للبشر والشمبانزي. وعبر طفرات داخل امتدادات متشابهة من الدي إن إيه، نتجت بروتينات ذات وظيفة معدلة؛ فمجرد تغير في توقيت صنع بروتين معين ربما يكون مسئولا عن اختلافات، مثل طول أصابع الشمبانزي والإبهام الطويل لدى البشر.
شكل 4-2: مقارنة طرف أمامي للإنسان (أ) مع طرف أمامي للشمبانزي (ب). قلل طول الشكل الثاني لسهولة المقارنة. مأخوذة من كتاب جون زاكري يونج «مقدمة لدراسة الإنسان»، وأعيدت طباعتها بإذن من مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، 1971.
شكل 4-3: صندوق الصوت. مقارنة حنجرة الإنسان (أ) بحنجرة الشمبانزي (ب). ل = لسان المزمار، ح = الحنجرة، ت = تجويف الأنف، س = سقف الحلق، ن = اللسان، ص = الأحبال الصوتية. تمتد الحنجرة إلى الأسفل حتى القصبة الهوائية، التي تؤدي إلى الرئتين. يقع البلعوم (غير الموضح في الشكل) خلفها (يمينا) ويمتد إلى الأسفل حتى المريء، الذي يؤدي إلى الجهاز المعدي المعوي. انظر النص لمزيد من التفاصيل. مأخوذة بإذن من كتاب روجر ليوين «تطور الإنسان: مقدمة مصورة»، الطبعة الثالثة، إصدارات بلاكويل العلمية، أكسفورد، 1993.
شكل 4-4: عصبونات القشرة الدماغية. مقارنة بين مخ الإنسان (أ) ومخ الشمبانزي (ب). المناطق المختلفة في المخ ووظائفها كما هو موضح. تقع في المنطقة غير المظللة (القشرة غير المتصلة) العصبونات (الخلايا العصبية) التي تدخل في التفكير والذاكرة والوعي والحالة المزاجية. وتمثل القشرة المخية الجديدة (انظر الفصل الثامن) الجزء العلوي اليساري (الأمامي) من القشرة الدماغية. مأخوذة من كتاب جون زاكري يونج «مقدمة لدراسة الإنسان» وأعيدت طباعتها بإذن من مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، 1971.
منذ فترة طويلة أشار علماء الأحياء إلى التشابه بين مراحل تكون الجنين ومراحل التطور. يظهر هذا على وجه الخصوص في تكون حنجرة الإنسان؛ فحنجرة الطفل حديث الولادة تكون من نفس نوع حنجرة الشمبانزي؛ فلا تستطيع إلا إصدار أصوات بدائية ومحدودة، ومع ذلك يمكنه، مثل الشمبانزي البالغ، البلع والتنفس في الوقت نفسه. منذ بلوغ عام ونصف إلى عامين تقريبا فصاعدا يحدث تغير طفيف في حنجرة البشر؛ فينمو الطرف العلوي تدريجيا إلى الأسفل مبتعدا عن فتحة المريء. ونتيجة لهذا يكون من الضروري غلق الحنجرة في أثناء بلع مواد صلبة أو سوائل لمنع دخولها إلى القصبة الهوائية (ومن ثم الرئتين)؛ ومن ناحية أخرى يصبح من الممكن حاليا إصدار تنوع أكبر من الأصوات. تستمر الحنجرة في الانخفاض حتى تصل إلى موقعها النهائي في سن الرابعة عشر تقريبا.
24
ونظرا لوجود تشابه كبير على نحو مذهل بين حنجرة الشمبانزي وحنجرة الإنسان (انظر شكل
4-3 )، من المحتمل أن تكون الجينات التي تتحكم في تكوينها جميعها أشكالا مختلفة من جينات كانت موجودة بالفعل لدى سلفهما المشترك منذ 6 ملايين سنة. لم يتطلب الأمر أكثر من مجرد تغير طفيف في بضعة بروتينات، ونتج عنه اختلاف هائل في الوظيفة بين الشمبانزي والإنسان.
توجد نتيجة هائلة لامتلاك صندوق صوت قادر على إخراج كلام، متوافق مع المعالجة العصبية؛ فكما أشرنا مسبقا يعتبر علماء أنثروبولوجيا معينون هذا أنه أهم صفة للبشر. منذ بضع سنوات اكتشف أنه من 2 إلى 5٪ من كل الأطفال يعانون من اضطراب حاد في اللغة، فتكون قدرتهم النحوية ضعيفة للغاية، ويجدون صعوبة في نطق الكلمات، ولا تكون لديهم القدرة على التحكم في عضلات فمهم جيدا. تكون هذه الحالة وراثية ، وتستمر طوال الحياة. وتحدد أن جين
FOXP2
هو المسئول عن مثل هذه الحالة. وأظهرت مجموعة من العلماء من مدينة لايبزيج وأكسفورد أن جين
FOXP2
لدى الشمبانزي والقرود الأخرى يكون مختلفا عن ذلك الموجود لدى البشر.
25
لكن كان هذا الجين متطابقا لدى كافة البشر الأصحاء الذين خضعوا للدراسة، بما في ذلك أفراد من أصول أفريقية وآسيوية وأوروبية وجنوب أفريقية وسكان أستراليا الأصليين ومن بابوا غينيا الجديدة. بالإضافة إلى هذا، بدا أنه لم يتعرض لطفرة طوال فترة وجود الإنسان العاقل على وجه الأرض (200 ألف سنة). باختصار، هذا الجين هو أول علامة جزيئية تكتشف لتطور الكلام واللغة؛ ومن ثم يمكن للمرء افتراض أن البروتين الذي يتكون بفعل جين
FOXP2
يكون مختلفا كثيرا لدى الشمبانزي عن البشر.
26
في الواقع، ربما تكون جينات مثل
FOXP2
مسئولة عن كثير من التفاوت البالغة نسبته 5٪ بين جينومات الشمبانزي والبشر. على العكس من ذلك؛ فإن التفاوت في جين
FOXP2
بين الشمبانزي والبشر تصل نسبته فقط إلى 0,03٪، كما أن بروتين
FOXP2
يختلف لدى البشر عن نظيره لدى الشمبانزي بمجرد حمضين أمينيين من إجمالي 715.
27
فإن التفاوت الأكبر يحدث في البروتينات التي تؤدي وظائف متماثلة في الأساس لدى الشمبانزي والبشر.
28
تتوافق نتائج تحليل بروتينات
FOXP2
بالكامل مع الفرضية الواردة في الفصل الأول؛ عدم وجود جينات «بشرية» في مقابل جينات «الشمبانزي»؛ فالاختلاف بنسبة 5٪ بين الجينومين المعنيين لا يشير إلى وجود عدد من الجينات المختلفة جوهريا لدى الشمبانزي والبشر؛ فربما يقتصر تأثيرها على إظهار عدد الطفرات «الصامتة» التي تراكمت لدى الشمبانزي والبشر، منذ كان سلفهما المشترك على قيد الحياة منذ 6 إلى 8 ملايين سنة. نحن نضلل أنفسنا بالمساواة بين الفروق الجينية والتغيرات في الوظيفة. إن التشابه بين بروتين
FOXP2
لدى الشمبانزي والبشر يدعم وجهة نظر حجتي، بارتكاز القدرة المتزايدة لدى البشر على السعي المستمر على تغيرات طفيفة للغاية، فتماما مثلما يرتكز التشابه بين قدرة الجراثيم والنباتات والحيوانات على البحث على نطاق بي إيه إس، يوضح بروتين
FOXP2
أحد الاختلافات بين قدرة الشمبانزي والبشر على ممارسة عملية البحث. ستظهر اختلافات أخرى بالتأكيد، خاصة مع البدء في عملية تحديد تسلسل جينوم الشمبانزي.
29
ونحن ننتظر بفارغ الصبر عملية تحديد الجينات التطورية المسئولة عن تكوين الإبهام والحنجرة والتي تحدد عدد عصبونات القشرة الدماغية التي تنتج.
30
من بين الفروق الأربعة التي ركزت عليها، ربما تكون طريقة الوقوف أكثرها تميزا (قارن بين شكل
4-1 ، والأشكال من
4-2
إلى
4-4 ). هذا أمر متوقع؛ نظرا لأن المشية المنتصبة سبقت ظهور الصفات الأخرى بعدة ملايين من السنين؛ ومن ثم كانت توجد فسحة من الوقت لتراكم الطفرات وإبراز التباين. وفي حالة الفروق الأخرى، كان التفاعل بين استخدام اليدين والأحبال الصوتية وعصبونات القشرة الدماغية هو الذي جعل تعديلا طفيفا نسبيا في كل منها يؤدي إلى مثل هذا التغير الهائل في وظائفها مجتمعة؛ إلى اختلاف بين نوع من الرئيسيات الذي أدى فضوله إلى تعديل في جيناته، ونوع آخر لم يسفر فضوله عن تحقيق أي شيء؛ إلى نوع سافر إلى القمر ونوع ظل داخل حدود موطنه في الغابات.
يعبر البعض عن دهشتهم من فكرة أن فردا أفريقيا من جنوب الصحراء الكبرى أو صينيا أو أوروبيا أو من سكان أستراليا الأصليين، الذين تبدو ملامحهم مختلفة تماما بعضهم عن بعض، ينتمون جميعا إلى النوع نفسه. إلا أن المظهر الخارجي مضلل؛ فالمسارات الأيضية، مثل الهضم وأكسدة المواد الغذائية، وتحكم الهرمونات في هذه العمليات، والتغيرات الأيونية التي يقوم عليها الجهاز العصبي، تسهم في تحديد النوع أكثر بكثير من الشكل الخارجي (الذي يتحدد على أي حال بأقل من عشرة جينات من أصل 300 ألف جين موجودة عند البشر). وقد ينتج عن طفرة واحدة في جين واحد أن تنجب أسرة باكستانية تتسم نموذجيا بالجلد الداكن والشعر الداكن والعينين السود، فتاة بيضاء البشرة وشقراء وذات عينين زرقاوين لا يمكن تمييزها عن طفلة سويدية أو نرويجية الأصل.
31
تبدو معظم الفراشات متشابهة في أعيننا؛ ومع ذلك يوجد حاليا بالفعل 20 ألف نوع مختلف منها حول العالم.
الوصف هومو سيبيان الذي يصف نوعنا - وهو اسم لاتيني بمعنى الإنسان «المفكر» أو «الحكيم» - صكه عالم تاريخ طبيعي سويدي يدعى كارل لينيوس في منتصف القرن الثامن عشر، في الوقت الذي اعتبرت الرئيسيات الأخرى غير قادرة على مثل هذا القدر من التفكير الواعي. أصبحنا الآن نعرف أن هذا غير صحيح؛ فحتى إذا كان ذكاؤها بوجه عام أقل من ذكائنا، يستطيع الشمبانزي والغوريلا والأورانجوتان التوصل إلى قرارات منطقية مثلنا تماما، وإن افتقارهم فقط لأحبال صوتية متطورة هو الذي يحول دون التواصل فيما بينها، كما تظهر التجربة التالية. بانبانيشا هي شمبانزي بونوبو تبلغ من العمر 14 عاما، وتعني كلمة بونوبو قزما، لكن لا يمكننا وصفها بالهزيلة نظرا لأن وزنها يبلغ 160 رطلا (انظر شكل
4-5 ). تعيش بانبانيشا في حرم جامعة ولاية جورجيا في مدينة أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي طالبة نجيبة؛ إذ يبلغ عدد مفرداتها اللغوية 3 آلاف كلمة، وعندما سألها مراسل قام بزيارتها إذا كانت تريد شيئا ما، أجابت قائلة: «قهوة وحليبا وعصيرا بالثلج»؛ وتقول عند احتسائها للقهوة «قهوة جيد»، ثم تقول «المزيد». التزاما للدقة هي فعليا لا تقول هذه الكلمات؛ إذ إن صندوقها الصوتي غير قادر على إصدار أصوات من نوع ما يصدره الإنسان، لكنها تستخدم لوح مفاتيح إلكترونيا محمولا به جهاز صوتي (سنثسيزر)، فتظهر مفاتيحه - التي يبلغ عددها 384 مفتاحا منسقة داخل مجلد يشبه ألبوم الطوابع - أشياء مثل: القهوة والحليب والعصير والثلج، بالإضافة إلى مفاهيم مثل: جيد وسيئ ونعم ولا ومع ودون، وهكذا. ولدت بانبانيشا في الأسر، ونشأت كما لو كانت مجرد طفل آخر لسو سافاج رومبوج من مركز أبحاث اللغة.
32
تعلمت بانبانيشا جيدا، وهي الآن تعلم ذريتها. يثير اهتمام الباحثين كثيرا كيف يتناقل هؤلاء البونوبو «الماهرين لغويا» مهاراتهم اللغوية.
شكل 4-5: بانبانيشا: (أ) مع لوحة المفاتيح الإلكترونية المصورة. (ب) وهي تعزف على «البيانو» (لوحة مفاتيح موسيقية). (ج) وهي تعلم ابنها، نيوتا، البالغ من العمر 4 أعوام. انظر النص للحصول على مزيد من التفاصيل. نشرت الصور بموافقة الدكتور جارد تاجليالتيلا من مركز أبحاث اللغة، جامعة ولاية جورجيا، مدينة أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية.
كوكو هي غوريلا سهلية ولدت في حديقة حيوان سان فرانسيسكو منذ 30 عاما، ومنذ ذلك الحين تشرف على تربيتها فرانسين باترسون من مؤسسة الغوريلا في جبال سانتا كروز في كاليفورنيا. تعلمت كوكو باستخدام لغة الإشارة، ولديها القدرة على تحريك أصابعها الصغيرة بالكاد كي تجري حوارا عاديا. توجد لديها حصيلة من المفردات تصل إلى ألف كلمة، وتفهم ألف كلمة أخرى، ويقال إن معدل ذكائها يصل إلى نحو 80؛ المعدل النموذجي لطفل بشري يعاني من تخلف عقلي بسيط. لم تستخدم السنثسيزر الصوتي لأنها كسرت أول جهاز يقدم إليها؛ يصنع واحد أقوى لها، لكن مهارتها في لغة الإشارة تجعل هذا غير ضروري.
33
ماذا يعني كل هذا؟ بخلاف المعلومات التي قد يقدمها لنا بشأن تطور اللغات البشرية، فإنه يؤكد على نقطتين؛ أولا: أن الرئيسيات، مثل الشمبانزي والغوريلا، لديها القدرة التامة على التفكير المنطقي. وثانيا: أنها ذكية بما يكفي لتعلم لغة البشر مثل الإنجليزية. وعلى الأرجح ربما تستطيع تعلم الصينية بالسهولة نفسها؛ فكونها لغة رمزية ربما يجعل تعلمها وكتابتها أسهل عليها. كذلك، يبدو أن استخدام المفردات بذكاء ليس أحد الاختلافات بين القرود والإنسان. يظهر هذا أيضا أن الكاتب هيكتور هيو مونرو (وكنيته «ساكي»)، الذي ظهر في أوائل القرن العشرين كان سابقا لعصره حين كتب:
كان السير ويلفريد يقول: «وهل تطلب منا حقا أن نصدق أنك اكتشفت طريقة لتعليم الحيوانات فن كلام البشر، وأن صديقك العزيز القديم توبرموري أثبت أنه تلميذك الناجح الأول؟»
قال السيد أبين: «إنها مشكلة عملت على حلها طوال سبعة عشر عاما، لكن خلال الأشهر الثمانية أو التسعة الأخيرة فقط جاءت مكافأتي في ظهور بصيص من النجاح ... مع توبرموري، كما تطلق عليه؛ فقد وصلت إلى هدفي ...»
علقت السيدة بليملي قائلة: «ألم يكن من الأفضل أن نرى القط ونحكم بأنفسنا؟»
خيم صمت مفاجئ من الإحراج والارتباك على هذه المجموعة من الأفراد؛ فبدا أن ثمة عنصرا من الإحراج إلى حد ما في الحديث على قدم المساواة مع قط منزلي لديه قدرة عقلية معترف بها.
سألت السيدة بليملي بصوت به قدر من التوتر: «أتريد بعض الحليب يا توبرموري؟»
جاء الرد: «لا مانع عندي.» بنبرة من عدم المبالاة . أصيب المستمعون برجفة مكتومة من الإثارة، ويمكن التماس العذر للسيدة بليملي لسكبها الحليب في الصحن الصغير وهي ترتجف قليلا.
قالت معتذرة: «أخشى أنني أرقت كمية كبيرة منه.»
فجاء رد توبرموري: «على أي حال إنها ليست سجادتي.»
ساد الصمت مرة أخرى على المجموعة، ثم سألت الآنسة رسكر، بأسلوب متطوعات الكنيسة المهذب عما إذا كان من الصعب تعلم لغة البشر! نظر تومبرموري مباشرة إليها للحظة ثم ثبت نظره بهدوء على منتصف المسافة بينهما. كان من الواضح أنه لا يكترث البتة بالأسئلة المملة.
سألته مافيس بيلينجتون بحماقة «ما رأيك في الذكاء البشري؟»
فسألها توبرموري في برود: «عن ذكاء من تحديدا؟»
قالت مافيس بضحكة ضعيفة: «حسنا، ذكائي أنا مثلا!»
قال تومبرموري: «أنت تضعينني في موقف محرج.» لكن لم تكن نبرته أو أسلوبه يوحيان بالتأكيد بأي قدر من الإحراج. «عندما عرض اقتراح ضمك إلى الحفل في هذا المنزل، اعترض السير ويلفريد لأنك أكثر سيدة غبية يعرفها، ولأنه يوجد فرق كبير بين الضيافة ورعاية البلهاء. ردت السيدة بليملي قائلة إن افتقارك إلى القدرة العقلية هو الصفة المحددة التي جعلتك تحصلين على هذه الدعوة؛ لأنك الشخص الوحيد الذي تستطيع التفكير فيه؛ الذي قد يكون غبيا بما يكفي لشراء سيارتهم القديمة.»
34
يحتمل أن تكون ثمة أنواع أخرى من الهومو سبقت الإنسان العاقل على طول السلالة المؤدية إلى ظهوره، بداية من الإنسان الماهر ومرورا بالإنسان المنتصب؛ فثمة اقتراح بأن الإنسان العامل وإنسان هايدلبيرج أنواع وسيطة، رغم أنه ربما يثبت أنهما لم يكونا إلا أشكالا مختلفة، كانت جميعها لديها القدرة على صنع أشياء معقدة على نحو متزايد بأيديها؛ فحجم أدمغتها، خاصة الجزء المرتبط بوظيفة دماغية أعلى (القشرة الدماغية الجديدة)، تزايد تدريجيا.
تحدد عمر الإنسان العاقل داخل نطاق 140 ألف سنة. اعتمدت أول دراسة تحاول تحديد مدى قدمنا على التحليل الجزيئي لمجموعة معينة من الجينات داخل خمس مجموعات مختلفة من البشر الموجودين في عصرنا الحالي؛ من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (المجموعة 1)، ومن الصين وفيتنام ولاوس والفلبين وإندونيسيا وتونجا (المجموعة 2)، ومن سلالة سكان أستراليا الأصليين (المجموعة 3)، ومن شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا (المجموعة 4)، ومن سلالة سكان غينيا الجديدة الأصليين (المجموعة 5). أظهر التحليل ثلاثة أشياء:
35
أولا: أن كل البشر الحاليين، المتمثلين في المجموعات الخمس، مرتبطون ارتباطا وثيقا إلى حد ما. وثانيا: أن أكبر تفاوت ظهر داخل أي مجموعة كان داخل المجموعة 1؛ مما يشير إلى أن الأفارقة ظهروا منذ أطول فترة. ثالثا: من خلال افتراض حدوث معدل ثابت من الطفرات في 2 إلى 4 قواعد نيوكليوتيدية (بقايا الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه) من كل 100 قاعدة كل مليون سنة، فإن نقطة التقاء كل البشر في الماضي يمكن حسابها بحيث تعود إلى نحو 200 ألف سنة مضت. لا بد أن نقول إنه منذ إجراء هذا التحليل، منذ أكثر من عقد، ظهرت بعض الانتقادات له، ويتضح خطأ افتراضات معينة فيه. أدت دراسة أخرى حديثة أكثر إلى ظهور الرقم المعدل 140 ألف سنة بوصفه يعبر عن الوقت الذي عاش فيه سلفنا المشترك. تجدر بنا الإشارة إلى أنه حتى هذا الرقم محسوب في المتوسط فقط؛ فيمكننا القول، بنسبة ثقة مقدارها 95٪ فقط، إن عمر الإنسان العاقل يتراوح بين 63 ألف و383 ألف سنة تقريبا. ما يتفق عليه جميع علماء الأحياء الجزيئية أن النوع الحالي من الهومو لا يصل عمره إلى مليون سنة ولا إلى 30 ألف سنة (تخمين ظهر في أوائل القرن العشرين)، لكنه ظهر في وقت ما بينهما، مع اعتبار 140 ألف سنة الاستنتاج الأكثر منطقية حاليا.
في الواقع لا تقع الجينات التي تقدم هذه المعلومات داخل الكروموسومات الثلاثة والعشرين على الإطلاق؛ فهي تقع داخل مجموعة صغيرة منفصلة من الجينات تسمى الدي إن إيه الميتوكوندري.
36
ينتقل الدي إن إيه الميتوكوندري من جيل إلى التالي عبر الإناث فقط؛
37
ولهذا السبب سمي سلفنا البالغ من العمر 140 ألف سنة «حواء». ومن الجيد أن نعرف أننا يمكننا الوصول إلى هذا الرقم نفسه إذا قسنا الطفرات في دي إن إيه بعض الكروموسومات الثلاثة والعشرين داخل نواة الخلايا. تكمن المشكلة هنا في أنه نظرا لخلط جينات الأم والأب في كل جيل، يصعب الحصول على بيانات ذات مغزى، باستثناء واحد ؛ دي إن إيه الكروموسوم
Y .
38
إذا أمكن فصل الكروموسوم
Y
من كل الكروموسومات الأخرى، فإنه سيقدم سجلا واضحا لنسب الأب، تماما مثلما يحدد الدي إن إيه الميتوكوندري نسب الأم. أصبح هذا يتحقق حاليا، وتؤكد النتائج العلاقة الوثيقة بين المجموعات السكانية البشرية الحالية وأصلهم المشترك من أفارقة جنوب الصحراء الكبرى.
يوجد تضارب واحد فقط؛ فيبدو أن وقت ظهور آدم لأول مرة كان تقريبا منذ 59 ألف سنة، وليس 140 ألف سنة. إذا كان هذا صحيحا، فإنه يعني أن الرجال - المفترض أنهم من نوع الإنسان العاقل - الذين تزاوجت معهم حواء وذريتها طوال نحو 80 ألف سنة لم يتركوا ورثة من الذكور ليواصلوا استمرار سلالة غير منقطعة حتى العصور الحديثة. وربما نتج عن تزاوج حدث مصادفة منذ 59 ألف سنة ابن انحدر منه كل الرجال في عصرنا الحالي. يظهر توقيت ظهور آدم (إذا تأكدت الأرقام) أن أسلافنا الذكور كانوا لا يزالون في أفريقيا منذ 59 ألف سنة؛ ومن ثم فإن هجرتهم إلى أوراسيا حدثت في وقت أكثر حداثة مما كان يعتقد من قبل.
39
عندما نضع في اعتبارنا كافة الأدلة الحالية، بناء على بقايا الهياكل العظمية بالإضافة إلى التحليلات الجزيئية، ربما نستقر على رقم 140 ألف سنة بوصفه الوقت التقريبي الذي ظهر فيه الإنسان الحديث. وبالنسبة لموضوع هذا الكتاب، لا يكون عمرنا الدقيق بمثل أهمية وجهة النظر المتفق عليها بوجه عام بأننا جميعا ننحدر من مجموعة واحدة من الأسلاف، تتكون تقريبا من 10 آلاف فرد، عاشوا في الأصل في أفريقيا.
يكشف تحليل الدي إن إيه الميتوكوندري ودي إن إيه الكروموسوم
Y
المستخرجين من عظام عينات مختلفة من إنسان نياندرتال وجود تشابه طفيف بينه وبين البشر؛ فالإنسان الأوروبي أقرب شبها إلى الأفريقي من جنوب الصحراء الكبرى منه إلى إنسان نياندرتال؛ ومن ثم أصبح من الواضح أن إنسان نياندرتال ليس سلفا للإنسان الحديث. ويقال إن نحو 14 نوعا مختلفا من أشباه البشر (مجموعة تضم جنس الأوسترالوبيثكوس) عاشت على مدار الخمسة ملايين سنة الماضية انقرضت جميعها عدا نحن. لماذا ؟ هل لأن السلالة التي أدت إلى ظهور الإنسان العاقل قتلت الأنواع الأخرى، أم أنها تنافست بنجاح أكبر على الطعام والمأوى، أم لأنها تكيفت على نحو أفضل مع الظروف المناخية في هذا الوقت؟ أم أنه مجرد حظ بوجودها في المكان المناسب والوقت المناسب، بينما قضي على الأنواع الأخرى بفعل اصطدام الكويكبات الصغيرة، كما يعتقد بعض العلماء؟ نحن لا نعلم حاليا؛ فلندع علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الحفريات وعلماء الجيولوجيا وعلماء الفيزياء الفلكية يبحثون عن الإجابة. أما بالنسبة لنا، فسننتقل إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونستعرض كيف مكن السعي الإنسان من السيطرة على العالم الذي يعيش فيه.
هوامش
الجزء
الهيمنة: عواقب سعي الإنسان
الفصل الخامس
الخروج من أفريقيا: الاستكشاف والتوسع
«الفضول قتل القطة»
1
لكنه بالنسبة للبشر مفتاح سلوكهم؛ فبداية من جولات الإنسان الأولى خارج موطنه حتى استكشاف الكواكب، ومن إجراء تجارب على الحجر الصوان حتى زراعة جين، كان سعي الإنسان مدفوعا بفضول فطري. انظر إلى ابنك البالغ من العمر عاما واحدا وهو يفحص كل قطعة من الأثاث في الغرفة، وكل شيء يمكنه التقاطه، واستمع إلى ابنتك ذات الأعوام الثلاثة وهي تسأل باستمرار أسئلة مثل: «لماذا هذا؟» و«لماذا ذاك؟» هل يمكنك القول بصراحة إن الفضول، الذي يعبر عنه عبر اليدين والصوت والعقل، ليس أساسيا في تطورهم؟ وإذا كان الفضول سمة عامة هكذا في سلوك الإنسان، ألا يكون إذن نتيجة لعمل جينات معينة؟ هل تعجلنا كثيرا في تأكيدنا على عدم وجود جينات خاصة بالإنسان؟ أنا لا أعتقد هذا؛ فعلى حد علمنا يتجول الشمبانزي بقدر ما نتجول أنا أو أنت في العالم الموجود حوله، وهو يفتقر فحسب للصفات التي حددناها - اليد سلسة الحركة، والقدرة على الكلام، والشبكة العصبية المعقدة - لإشباع تأملاته. (1) هجرة الهومو الأوائل
منذ فترة تتراوح بين مليون إلى مليوني سنة بدأت مجموعات من الهومو استكشاف ماذا يوجد خارج موطنهم المباشر في الأدغال الأفريقية. على الأرجح كانوا من نوع الإنسان المنتصب، لكن لا يمكننا التأكد من هذا؛ لأن الإنسان المنتصب لا بد أنه عاش لمئات الآلاف من السنوات مع سلفه الإنسان الماهر (على افتراض أنهما كانا نوعين منفصلين، وليسا مجرد شكلين مختلفين من النوع نفسه)، ومع ذلك من وجهة نظر توضيح النزعة الاستكشافية لدى أسلافنا، لا يهم في الواقع إذا كانوا من نوع الإنسان العامل أو الإنسان المنتصب. كما أن المنشأ الجغرافي المحدد لهذه المجموعات المبكرة من الهومو ليس معروفا أيضا، وربما بدأ تكون مجموعات مختلفة من أماكن مختلفة. بالتأكيد لا بد أن تكون مجموعات كثيرة منها ترجع أصولها إلى الأجزاء السفلى للوادي المتصدع الكبير، الذي شهد أغنى اكتشافات لنشاط أشباه البشر. كانت الأدوات التي عثر عليها بجوار بقاياهم ما تزال بدائية للغاية؛ ليس أكثر من مجرد حجارة مدببة صنعت من خلال حك قطعة بأخرى، وهي عملية يسميها علماء الآثار «التقشير»، ولم تركب مثل هذه الأدوات إلا فيما بعد على أعمدة خشبية لصنع فئوس ورماح بدائية.
لا بد أن المتجولين أدركوا منذ فترة مبكرة للغاية أن النيران التي تشتعل أحيانا بفعل البرق لا تمثل خطرا، شريطة أن يبقى المرء على مسافة آمنة منها. وعلى العكس، تبعد النيران المفترسات المحتملة، وتطهو الحيوان الذي تمكن أحد أفراد المجموعة من قتله؛ مما يجعل مضغه أسهل بكثير ويحسن طعمه. لكن كيف يشعل المرء نارا بنفسه؟ لا بد أنه عرف بالملاحظة العرضية أن الشرارة الناتجة من تقشير الأشياء يمكنها إشعال العيدان الجافة والنباتات الأخرى. هذا الفعل الواحد المتمثل في إشعال النار عن عمد يعد إحدى الصفات المميزة للإنسان؛ فلم يشعل أي شمبانزي نارا على الإطلاق. ومع تجول مجموعات من الهومو إلى نقطة أبعد في شمال أوراسيا، لا بد أن الحرارة الناتجة عن ألسنة النار في مدخل الكهف أصبحت إضافة مرحبا بها للغاية لجلود الحيوانات التي تعلموا وضعها على أجسامهم؛ فقد يكون تشوكوتيان في شمال شرق الصين مكانا باردا في الشتاء.
لم يتبع تجول الهومو طريقا واحدا مثل الحيوانات المهاجرة؛ فقد كانت الهجرة تحدث على صورة توسعات، تماما مثل التموجات الدائرية التي تنتج عن قذف حجر في بركة من الماء؛ إذ تتحرك نحو الخارج بالتدريج، ومثل الأمواج في البحيرة، كان كل توسع يتبعه توسع آخر، رغم أن هذا يحدث على مدى نطاق زمني يقدر بآلاف السنوات. وعند انتقال مجموعة إلى أرض جديدة، قد تظل بها لقرون أو أكثر. ثم ربما لأن أفراد المجتمع استنفدوا التوت والفواكه الموجودة على الشجيرات والأشجار في المنطقة المجاورة، وسعوا حدود بحثهم عن الطعام قليلا. كما رأينا في الفصل السابق، أضاف الهومو التهام الحيوانات النافقة، ثم الصيد فيما بعد، إلى مجرد اقتيات النباتات الموجودة حوله. كان هؤلاء الناس صيادين وجامعين للنباتات، فلم تظهر الزراعة حتى عصر الهولوسين منذ 10 آلاف سنة. ربما هددت التغيرات المناخية مصدرهم من المياه فانتقلت المجموعة، أو ربما كان خطر المفترسات أقل في منطقة أخرى. يوجد سبب آخر للتوسع في مناطق جديدة؛ ففي جميع أنحاء المملكة الحيوانية يوجد صراع لا نهائي بين قائد المجموعة - الذي يكون بوجه عام الذكر الأقوى والأكثر عدوانية - والأعضاء الشباب الجدد. إذا فاز أحد المتنافسين في المعركة على الهيمنة على المجموعة، فإنه يتولى القيادة، لكن إذا خسر؟ على الأرجح تكون النتيجة، من الحشرات إلى الثدييات، ترك هذا الفرد للمجموعة. على الأرجح نجد الأطفال والشباب يتجولون وراء نطاق حدود المجموعة. إن مثل هؤلاء المهاجرين هم الذين يعملون على توسيع مناطق تواجد النوع. وكما وصف عالم الأحياء الأمريكي إدوارد ويلسون الأمر قائلا: «على الأرجح يكون هؤلاء المتجولون هم الذين يستقرون في المواطن الجديدة، ويجربون أشكالا جديدة من التكيف، ويتعلمون بسرعة أكبر، ويعدلون القدرة الثقافية للنوع عن طريق التمثل الجيني.»
2
إذا انطبق هذا النوع من الهجرة إلى الخارج على الهومو الأول، فمن شأنه أن يقدم تفسيرا لتوسعه.
انتشر المهاجرون بالتدريج في جميع أنحاء أفريقيا؛ فتوجد بقايا للإنسان المنتصب في ترنيفين في الجزائر، وفي سوارتكرانس في جنوب أفريقيا، لكن كيف توسعوا في الشمال الشرقي داخل أوراسيا؟ بالتأكيد لم يكن لديهم مراكب؛ فبناء المراكب يتطلب معرفة فنية أكبر بكثير من تلك التي كانت موجودة لدى الهومو الأوائل، والإجابة عن هذا أنهم لم يكونوا يحتاجون إلى مراكب؛ فقد جف حوض البحر المتوسط إلى حد كبير خلال العصر الجليدي في هذا الوقت. فعندما تتجمد المياه في القطب الشمالي، يعمل لوح الجليد الذي يتكون فعليا على حجز كثير من المياه الموجودة على سطح الأرض، فيقل منسوب المياه في كل مكان آخر. تظهر العصور الجليدية وتختفي لأن مدار الأرض حول الشمس ليس ثابتا؛
3
ونتيجة لهذا تبرد الأرض أو ترتفع درجة حرارتها على مدى آلاف السنوات. تمثل درجة حرارة نصف الكرة الأرضية الشمالي خلال فصول الصيف المتعاقبة عاملا ذا أهمية بالغة في ضبط مستوى المحيطات. لم يمتلئ البحر المتوسط بالمياه مرة أخرى إلا منذ نحو 450 ألف سنة مضت، في الوقت الذي كان الإنسان المنتصب وصل فيه بعيدا حتى الشواطئ الشرقية لقارة آسيا؛ فقد عثر على بقاياه في العبيدية في إسرائيل (تحدد تاريخها بنحو 1,4 مليون سنة مضت)، وفي جورجيا (جمجمة تحدد تاريخها بنحو 1,75 مليون سنة مضت؛ مما يجعلها أقدم عينة يعثر عليها خارج أفريقيا)، وفي منطقة تقع بين بحر قزوين وبحر آرال، وفي نارمادا في الهند (ربما ترجع إلى 500 ألف سنة مضت) وفي تشوكوتيان ولانتيان في شمال شرق الصين (إنسان بكين يرجع إلى 500 ألف سنة مضت)، وفي جاوة على طول نهر سولو في ترينيل (إنسان جاوة، من 500 ألف إلى 750 ألف سنة مضت)، وفي سانجيران وموجوكرتو (يقال إنها ترجع إلى أكثر من مليون سنة). في هذا الوقت كان جنوب شرق آسيا كتلة كبيرة واحدة من الأرض. وفي اتجاه الغرب توغل حتى بوكسجروف في شمالي إنجلترا (منذ 500 ألف سنة، في الفترة التي كانت فيها بريطانيا ما تزال مرتبطة بأوروبا)، بينما عثر على بقايا أخرى في بيلتسينجس ليبن في ألمانيا (عمرها 400 ألف سنة) وفي سيبرانو في إيطاليا (عمرها من 800 ألف إلى 700 ألف سنة).
كانت الوظائف المخية للهومو منذ مليون سنة لا تزال محدودة؛ فقد استخدم النار والأدوات، لكن على الأرجح لم يكن يتواصل إلا عبر النخير والصيحات، إلا أنه حتى مثل هذه الأصوات البدائية يمكن إصدارها بطرق مختلفة للإشارة إلى سيناريوهات بيئية متنوعة؛ فتصدر قرود الفرفت الشائعة في جميع أنحاء أفريقيا صيحة تحذير مختلفة عند رؤيتها لفهد أو نسر أو ثعبان؛ فيتعرف رفاقها على الصوت ويتخذون الإجراء المناسب. نحن نعرف هذا لأن المتخصصين في علم الحيوان سجلوا صيحات مجموعة منها وأعادوا تشغيلها، دون أن يراهم أحد، لمجموعة أخرى؛ عند سماع الصوت الذي يحذر من فهد ستتسلق المجموعة الأخرى إحدى الأشجار، وعند سماع صوت التحذير من نسر تحاول الاختباء بين الشجيرات، وعند سماع صوت التحذير من ثعبان تقف منتصبة حتى تستطيع رؤية العدو على نحو أفضل بين العشب على الأرض. ومع ذلك ربما لم يكن يحدث إلا نقاش طفيف بين مجموعة الهومو حول وقت تحركهم، وفي أي اتجاه، وبدلا من ذلك كانوا يتبعون قائدهم، فيكون لكل مجتمع أو مجموعة قائد، وبين مجموعات القرود الحديثة يكون بوجه عام الذكر الألفا هو المهيمن، رغم أن قرار وقت التحرك تتخذه أنثى دوما. وفي حالة الهومو الأوائل لا نعرف إلى أي مدى كان التوسع في مناطق جديدة نتيجة تأثير الذكور أو الإناث. على أيه حال، كما ذكرنا سابقا، ربما كانت الهجرة بفعل الخاسرين في المنافسات على القيادة.
أيا كان ما سعى المهاجرون وراءه، فإنهم ذهبوا بعيدا للغاية عن موطنهم أكثر من أي نوع آخر من الرئيسيات في هذا الوقت، أو منذ ذلك الحين. ونظرا لعدم العثور على بقايا من هياكل عظمية لأسلاف الشمبانزي الحالي، داخل أفريقيا أو خارجها، لا يمكننا قطعا أن نقول إن مثل هذه الرحلات لم تحدث؛ فكل ما نستطيع قوله إنها إن حدثت، فإنها لم تكن ناجحة. أنا أتكلم هنا عن وقائع حديثة نسبيا؛ فعلى مدى ملايين السنين، التي تقلبت خلالها الظروف المناخية، انتقلت كثير من الحيوانات من موقع إلى آخر ثم ظلت في موطنها الجديد. كما أن حركة القارات عبر التحرك التكتوني الذي فصل بالتدريج كتلة الأرض الشمالية (أمريكا الشمالية وأرواسيا) عن الكتلة الجنوبية (أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند وأستراليا والقارة القطبية الجنوبية) منذ نحو 135 مليون سنة، وأعقبه اندماج الهند مع آسيا بعد 70 مليون سنة، يعني أن كثيرا من الحيوانات والنباتات صارت منفصلة ؛ ونتيجة لهذا ظهرت أنواع مختلفة في أماكن مختلفة. كانت السعالي أحد الأمثلة على هذا؛ فتختلف القرود في أمريكا الجنوبية (سعادين العالم الجديد، ذات الأنف المفلطح) عن قرود العالم القديم الموجودة في أفريقيا وآسيا (النسناسيات نازلة الأنف، ذات الأنف البارز). وتمثل الفيلة مثالا آخر؛ فيتميز الفيل الهندي عن فيل الأدغال الأفريقية بأنه أصغر حجما، ولا توجد أنياب لدى الإناث. بالطبع يجب ألا يكون الانفصال الجغرافي فادحا مثل الموجود بين القارات؛ فيعيش النوعان الحاليان من الشمبانزي (الشمبانزي الشائع والبونوبو) معا في وسط أفريقيا، كما تعيش أنواع مختلفة من السلاحف وطيور البرقش، كما أشار داروين، على جزر جالاباجوس المختلفة. كل المطلوب من أجل ظهور نوع جديد من الحيوانات (أو النباتات أيضا) هو ألا توجد فرصة لديه للتزاوج مع أحفاد آخرين لأسلافه. ما أريد توضيحه أن عمليات التجول التي قام بها الهومو لم تكن غير مألوفة لدى الحيوانات، فكان الأمر المميز في الإنسان الأول هو توسعه المتعمد خارج مناخ مناسب ودافئ إلى مناخ أقل من هذا؛ فقد سعى إلى التكيف مع الظروف الأكثر برودة بمجرد وصوله إلى وسط آسيا وأوروبا بفضل براعته، وتعطشه للسعي المستمر.
يعتقد عالم الاقتصاد الأمريكي حايم أوفيك أن بعض أشكال التجارة ربما كانت تحدث بين الهومو في وقت مبكر بين 1,5 إلى مليوني سنة مضت. ربما من خلال تبادل حجر صوان بآخر، استطاع أفراد لا تربطهم صلة التواصل بعضهم مع بعض؛ مما أدى إلى تزاوجهم وتبادل الجينات. يرى أوفيك أن التدفق الجيني هذا هو ما يميز أشباه البشر عن الحيوانات الأخرى، ويفسر سبب تعايش أنواع مختلفة أقل من الهومو - نوع واحد على مدار الثلاثين ألف سنة الأخيرة - معا في وقت واحد، وذلك على عكس سلفه الأوسترالوبيثكوس.
4
حدثت الهجرات إلى خارج أفريقيا جميعها، موجة تلو الأخرى، في خلال آخر مليوني سنة، وربما حدثت أولها منذ نحو 1,7 مليون سنة، وتبعها توسعان كبيران منذ نحو 600 ألف سنة (بين 420 ألف و840 ألف سنة) و100 ألف سنة (بين 80 ألف سنة و150 ألف سنة).
5
منذ نحو نصف مليون سنة، كان الهومو قد وسع منطقة وجوده، وإن كان على نحو متناثر، من أقل من 10 آلاف ميل مربع إلى أكثر من مليون ميل مربع. أصبح بعض الذين وصلوا إلى أوروبا والشرق الأدنى أسلاف إنسان نياندرتال (هومو نياندرتالنسيس)، ربما عن طريق إنسان هايدلبيرج (هومو هايدلبيرجنسيس). عاش آخرون في آسيا، أو ظلوا في أفريقيا. لم يبق أي منهم على قيد الحياة. منذ نحو 30 ألف سنة مات الجميع، وحل محلهم نوع جديد من الهومو ظهر منذ 140 ألف سنة بين وادي أواش في إثيوبيا ومصب نهر كلاسيس في جنوب أفريقيا. في هذا الوقت كان الإنسان العاقل في سبيله إلى الخروج من أفريقيا؛ فقد كان البحر المتوسط يمثل حاجزا هائلا، لكن كان لا يزال من الممكن السير عبر البرزخ في نقطة اقتراب البحر الأحمر من البحر المتوسط (في موقع قناة السويس الحالية). وعلى أي حال ربما استطاع الإنسان العاقل بناء قوارب بسيطة.
القصة التي رويتها، التي تعتمد على خليط من الأدلة الجزيئية والحفرية، ليست متفقا عليها عالميا؛ فبعض علماء الآثار، خاصة ميلفورد ولبوف من جامعة ميشيجان في الولايات المتحدة الأمريكية، يعارضونها بشدة،
6
فرغم اتفاقهم على أن أقدم شكل من الهومو ظهر في أفريقيا، فإنهم لا يقرون الأدلة على أن الإنسان الحديث نشأ بالكامل في أفريقيا. بدلا من ذلك يفترضون وجود أصل آسيوي وأوروبي، بالإضافة إلى الأفريقي، في أصول البشر الموجودين حاليا. وهم لا يسلمون بأن جميع أنواع الهومو المبكرة التي كانت تعيش في آسيا وأوروبا انقرضت، على العكس من ذلك يقال إنهم كانوا أسلافنا المباشرين. تشير فرضية «تعدد المناطق» إلى أن الأفارقة الحاليين ينحدرون من سلالة أفريقية من الهومو، مع وجود مزيج من الجينات الآسيوية وغيرها، بينما ينحدر الآسيويون الحاليون من سلالة آسيوية من الهومو، مع وجود جينات أفريقية وغيرها لديهم، وينحدر الأوروبيون الحاليون من سلالة أوروبية من الهومو، مرة أخرى مع وجود جينات غيرها. ويعزى التشابه في التكوين الجيني بين كل البشر الأحياء إلى الاختلاط والتزاوج الداخلي على مدى أكثر من مليون سنة. يوافق مؤيدو «النشأة من أفريقيا وحدها» فيما يتعلق بأصل الإنسان العاقل، أن سلالة المهاجرين من الإنسان المنتصب الأصلي ربما التقوا بأنواع أخرى من الهومو في آسيا وأوروبا، لكنهم لا يوافقون على حدوث تزاوج داخلي بينهم. يمكن حل هذا الخلاف إذا اتضح أن الإنسان المنتصب والإنسان العاقل ليسا نوعين منفصلين وإنما مجرد شكلين مختلفين، أو إذا كانت ذرية الأنواع البشرية المختلفة لديها قدرة إنجابية،
7
وهذه فرضيات لا يمكننا حاليا اختبارها. تجدر بي الإشارة إلى أن مؤيدي فرضية تعدد المناطق يحرصون على عدم إلزام أنفسهم بتحديد أي نوع من الهومو يتحدثون عنه.
8
تشير أحدث دراسة جزيئية،
9
خضعت فيها جينات أخرى بخلاف جينات الميتوكوندريا وكروموسوم
Y
للتحليل،
10
إلى وضع يجمع بين كلتا وجهتي النظر؛ أن جميع البشر المعاصرين من أصل أفريقي إلى حد كبير، لكن ليس بالكامل. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الدليل الجزيئي الذي يشير إلى أن الأوروبيين المعاصرين أقرب صلة للأفارقة المعاصرين من إنسان نياندرتال، لا جدال عليه. (2) تحرك الإنسان العاقل
بطريقة أو بأخرى، كان الإنسان الحديث موجودا في قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا منذ 50 ألف سنة. تتمثل إحدى الحجج المؤيدة لفرضية تعدد المناطق في عدم توفر وقت كاف لديه ليسير من مكان مولده المزعوم في أفريقيا كل هذا الطريق حتى آسيا في الشرق في خلال نحو 90 ألف سنة. أنا لا أفهم هذا الادعاء؛ فبعد عبور الإنسان العاقل من آسيا إلى شمال كندا، ربما على موجتين بين 16 ألف سنة و12 ألف سنة مضت،
11
استغرق أقل قليلا من ألف سنة كي ينتشر في جميع أنحاء الأمريكتين، فترجع البقايا البشرية في باتاجونيا، في الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية، إلى 10500 سنة
12 (رغم أن أصلها، كما سنرى بعد قليل، لا يخلو من الجدل). فإذا استطاع الإنسان توسيع بيئته بمقدار 8 آلاف ميل، من شمال كندا حتى جنوب شيلي، خلال ألف عام أو ما شابه، لماذا لا يمكنه إجراء توسع مشابه، من أفريقيا إلى أوراسيا، في فترة تعادل 100 ضعف هذه المدة ؟
لم يكن نوع الحياة التي يعيشها الإنسان العاقل في هذه الفترة يختلف كثيرا عن حياة أسلافه الهومو؛ فكان لا يزال صائدا وجامعا للأعشاب، ويرتدي جلود الحيوانات في شمال أوروبا وآسيا، لكنه ربما كان يسير عاريا في المناطق الاستوائية في أفريقيا وجنوب آسيا. ليس من الواضح متى ظهر الاحتشام بشأن إظهار الأعضاء التناسلية؛ فمتى عثر المستكشفون في القرن التاسع عشر والعشرين على مجتمع بدائي من الناس الذين انعزلوا عن باقي العالم، في أفريقيا أو غينيا الجديدة أو في غابات الأمازون، كانوا يجدون أن الرجال والنساء يغطون أعضاءهم التناسلية.
13
في حالة الرجال، لا بد أن رباطا من نوع ما، لمنع الخصيتين من التدلي وإعاقة الصيد وممارسة الأنشطة الأخرى، قد سبق ظهور الرداء الذي يرتدى فقط لأسباب اللياقة. ربما وصل الاحتشام لأعلى درجاته بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، لكنه اختفى بسرعة، فأصبحت مستعمرات العراة والعري الكامل في شواطئ معينة إحدى سمات عصرنا. تشير التغيرات الدورية في الملابس إلى سعي الإنسان المستمر للتجديد.
تمثل اختلاف الإنسان العاقل عن الأنواع المبكرة من الهومو في قدرته على الكلام؛ فأدى ظهور أحبال صوتية معقدة إلى تمكن أعضاء إحدى المجموعات من التحدث بعضهم إلى بعض، وعندما استقرت المجموعات وأصبحت منعزلة في أجزاء مختلفة من أفريقيا وأوراسيا التي توسعت فيها، تطورت لغاتهم إلى أشكال مختلفة؛ فعلى عكس التكنولوجيا، التي تتسم بوحدة كبيرة في الشكل والوظيفة لدى شعوب مختلفة، ظلت اللغات منفصلة. وهي تمثل إشارة جيدة على مدى تفاعل المجتمعات المختلفة؛ في كثير من أنحاء أوراسيا من ناحية (تشهد السمات المشتركة لكل اللغات الهندية الأوروبية)، وغيابه تماما في أماكن أخرى (فكر في الألف لغة المستخدمة في غينيا الجديدة، على الأقل 10 منها له أصول مختلفة تماما). سنعود للحديث عن هذا الموضوع في الفصل الثامن.
لم يرض كل الذين استقروا في جنوب شرق آسيا بالبقاء هناك؛ فمنذ 50 أو 40 ألف سنة انتقل البعض إلى أستراليا،
14
ومنذ 30 ألف سنة كانوا قد وصلوا إلى جزر سليمان. في هذا الوقت كان كثير من الجزر الإندونيسية ما زالت متصلة بعضها ببعض (أرض سوندا)، كما كانت غينيا الجديدة وأستراليا وتسمانيا لا تزال كتلة أرضية واحدة (ساهول)، ومع ذلك كان من الضروري المرور على ثمانية معابر بحرية من أجل الانتقال من الطرف الجنوبي الشرقي للقارة الآسيوية إلى ساهول؛ ومن ثم لا بد أن هؤلاء المسافرين قد توصلوا إلى فن بناء المراكب البسيطة. من المحتمل أن هذه المراكب كانت زوارق طويلة خفيفة مصنوعة من جذوع الأشجار المجوفة أو من جلود الحيوانات، مع استخدام كل فرد في الطاقم مجدافا خشبيا مصنوعا خصوصا، مثلما يفعل حاليا بعض سكان جزر بولينيزيا، أو ربما كانت أطوافا مصنوعة من جذوع الأشجار المثبتة معا بالشجيرات الصغيرة. لم تكن مساحات المياه التي تحتم عليهم عبورها كبيرة للغاية؛ فكانت تبلغ أطول مساحة نحو 54 ميلا، أو ضعف عرض القناة الإنجليزية، لكنه مع ذلك كان إنجازا هائلا. تذكر أن هؤلاء كانوا صيادين بسطاء وجامعين للنباتات، خاضوا البحر دون أدنى فكرة إلى أين يذهبون، لأسباب غير معروفة. ورغم أن فرص البقاء على قيد الحياة عند التوسع في مناطق جديدة على الأرض متفاوتة، فإن فرص النجاة في البحر على أمل الوصول إلى الأرض تكون في الواقع ضئيلة. من بين كل المستكشفين الذين عاشوا على وجه الأرض، أظهر أسلاف سكان أستراليا الأصليين وسكان جزر سليمان بالتأكيد أكبر جلد في سعيهم لاستكشاف نطاقات جديدة. ومنذ هذه الفترة في التاريخ فصاعدا، انقرض إنسان نياندرتال في أوراسيا، وكان الإنسان العاقل النوع البشري الوحيد على وجه الأرض؛ وعليه فسأتخلى عن المسميات العلمية المتعبة وسأشير إلى نوعنا بكلمة البشر وحسب.
في الفترة بين 16 ألف سنة و12 ألف سنة مضت، بدأت مجموعات من البشر الذين استقر أسلافهم في سيبيريا منذ آلاف السنين، والذين يجتمعون معا تحت العرق المنغولي، في توسع آخر، فعملوا على توسيع موطنهم في اتجاه الطرف الشمالي الشرقي لسيبيريا. في هذا الوقت كان أحدث عصر جليدي يوشك بالفعل على النهاية، لكن آسيا وأمريكا كانتا مرتبطتين بقطعة من الأرض في هذه المنطقة. ومن هذه المنطقة انتشرت مجموعات من الشعب المنغولي إلى ما يعرف حاليا بشمال كندا، ربما على موجتين. في غضون ألف سنة أو ما شابه، ارتفع منسوب مياه البحر واختفى الجسر البري؛ فكان الرجوع يحتاج إلى مراكب.
15
وفي وقتنا الحالي، بعد 10 آلاف سنة من العصر الجليدي، ما زال شمال كندا مكانا موحشا في الشتاء؛ لذا من غير المفاجئ أن المستوطنين هناك، الذين سأشير إليهم الآن باسم الهنود الأمريكان، سرعان ما بدءوا في التوسع جنوبا. أما الذين ظلوا في الشمال فهم الإنويت الحاليين (الإسكيمو) والأليوتيون الذين يعيشون في ألاسكا وكندا وجرينلاند. انتشر آخرون من النوع نفسه في كل منطقة مما يعرف حاليا باسم الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه المناطق اصطادوا حيوان الماموث الصوفي (حتى انقراضه)؛ فقد عثر على أعداد كبيرة من رءوس الرماح الصخرية القادرة على إصابة الماموث إصابة مميتة في كثير من المواقع. استمر التوسع على يد هؤلاء المستكشفين، الذين أطلق عليهم علماء الآثار شعب كلوفيس،
16
في وسط أمريكا وجنوبها، وفي غضون ألف سنة وصلوا إلى باتاجونيا.
ليست هذه الهجرة وحدها التي طرحت كتفسير لظهور الإنسان في الأمريكتين؛ فقد طرحت ثلاث طرق أخرى، يقتضي كل منها إجراء رحلات بالقوارب.
17
كان أحدها من شرق آسيا إلى غرب كندا، مع التزام الإبحار بجوار الخط الساحلي قدر المستطاع، ربما تكون هذه الهجرة استمرت إلى الجنوب حتى الطرف الغربي من أمريكا الجنوبية. ثمة رحلة أخرى مقترحة من شبه الجزيرة الإيبيرية شمالا، بتتبع الصفيحة الجليدية ووصولا إلى الحافة الشرقية لكندا. أما الرحلة الثالثة (وهي الرحلة الأبعد عن الاحتمال؛ إذ تشتمل على أطول رحلة في المياه المفتوحة) فهي من السواحل الشرقية لأستراليا، عبر جنوب المحيط الهادئ مباشرة حتى الساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية. تتمثل الحجج المؤيدة لهذه الهجرات فيما يلي؛ أولا: أن الأدوات الحجرية التي عثر عليها في بعض المواقع لها شكل مختلف عن تلك التي عثر عليها في مواقع أخرى؛ يشير هذا - على الأقل لبعض علماء الآثار - إلى أن شعوبا غير صيادي الكلوفيس سكنوا أجزاء معينة من العالم الجديد. ثانيا: عثر على بعض المصنوعات في موقع تخييم يرجع تاريخه إلى نحو 15 ألف سنة في مونتي فيردي جنوبي تشيلي، هل توافر بالفعل لشعب كلوفيس الوقت ليشقوا طريقهم نزولا من كندا إلى باتاجونيا في أقل من ألف سنة؟ من غير المحتمل أن يكونوا عبروا جسر يابسة بيرنجيا قبل 15 ألف سنة أو 16 ألف سنة مضت؛ إذ كان لا يزال مغطى بصفيحة جليدية. ثالثا: تظهر حقيقة تمكن المهاجرين من غينيا الجديدة من الوصول إلى أستراليا بالقوارب منذ 50 ألف سنة أو 40 ألف سنة مضت، أن الإنسان أتقن فن بناء القوارب البسيطة في هذا الوقت.
يصعب تفنيد أو إقرار هذه الافتراضات؛ ببساطة بسبب عدم وجود أدلة كافية. تؤكد الدراسات الجزيئية بالتأكيد الأصل المنغولي لكثير من الهنود الأمريكان الحاليين، لكن بسبب التزاوج الداخلي على مر السنين، لا يمكننا إغفال خليط من مجموعات صغيرة منفصلة من الأفراد ربما نشأت في غرب أوروبا أو شرق أستراليا. وبما أن البقايا الأثرية تقتصر إلى حد كبير على أدوات مصنوعة من الحجارة، يصعب تتبع الأنماط البديلة لحياة المجموعات المختلفة، مثل صيد الأسماك بدلا من صيد الطرائد. عثر قطعا على بعض الأدلة على الاستيطان في جنوب جرينلاند، لكن يبدو أن هذه المجموعة من المستوطنين على وجه التحديد انقرضت ولم تصل إلى أمريكا قط. يستمر الجدل حول سرعة الهجرة؛ فيعتبر جارد دايموند ألف سنة أكثر من كافية لإجراء رحلة من ألاسكا إلى باتاجونيا. على أي حال، بما أن السفر على طول الساحل بالزوارق الطويلة أسرع من شق المرء طريقه عبر الغابات المطيرة الكثيفة وعلى طول جبال وسط أمريكا وجنوبها، لماذا لا يمكن أن يكون بعض المهاجرين الأصليين من سيبيريا فعلوا الأمر عينه بأنفسهم؟ فلا بد أنهم صنعوا زوارق؛ إذ توجد إشارات على كون كثير من الأنهار الكبرى في أمريكا الشمالية مأهولة بالسكان على الضفتين. فيما يخص فكرة حجتي الأساسية، فإن هذه التوقعات من شأنها تقويتها فحسب؛ فأينما وجد الإنسان نفسه نتج عن فضوله بشأن ما يوجد بعيدا عنه وبحثه عن التقنية التي توصله إلى هناك ؛ هجرات في جميع أنحاء العالم.
في النهاية الأخرى من العالم، في جنوب شرق آسيا ، كان البحارة يتحركون مرة أخرى؛ فقد بدأت جزر المحيط الهادئ تحتل من أناس من أصل آسيوي. منذ 3600 وصلوا إلى فيجي (على بعد ألفي ميل جنوب شرق غينيا الجديدة)، ووصلوا بعد ألفي عام أخرى إلى هاواي (على بعد 3 آلاف ميل شمال شرق فيجي)، ووصلوا منذ ألف سنة إلى نيوزيلندا (على بعد 1500 ميل جنوب فيجي). لا تعتبر بضعة آلاف من السنوات فترة طويلة لتغير صفات عرقية، فسكان هاواي والفيجيون والماوري في نيوزيلندا تجمعهم جميعا صلة قرابة وطيدة. وحتى الانتهاء من تحليل الدليل الجزيئي للدي إن إيه الميتوكوندري، كان ثمة اعتقاد بأن سكان جزر كوك في تاهيتي، الموجودة شرق فيجي، ناهيك عن سكان جزيرة القيامة التي تقع أبعد حتى من هذا جهة الشرق، وصلوا إليها من أمريكا الجنوبية، وليس من جنوب شرق آسيا. وإن جزيرة الفصح، التي أطلق هذا الاسم عليها مستكشف هولندي يدعى روجيفين لأنه عثر عليها في يوم عيد الفصح في عام 1722، على بعد 2500 ميل فقط من الساحل الغربي لتشيلي، بينما تبعد ضعف هذه المسافة من فيجي وخمسة أضعافها من البر الرئيسي لجنوب شرق آسيا. وبما أن عالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال أظهر إمكانية الإبحار بطوف صغير، الكونتيكي، نحو 6 آلاف ميل في الاتجاه الغربي من الساحل الغربي للبر الرئيسي لأمريكا الجنوبية (من بيرو إلى تاهيتي)، كان من الطبيعي افتراض أن هذا هو الاتجاه الذي جاء منه سكان جزيرة الفصح.
لم يعتقد أحد أن هؤلاء البشر كانوا أذكياء بالقدر الكافي للإبحار أكثر من 10 آلاف ميل ضد الرياح السائدة، فكان هذا بالتأكيد دليلا كافيا على حماقتهم في استنزاف كل مواردهم الطبيعية، بما في ذلك الأشجار التي اعتمدوا عليها في بناء القوارب، التي ربما تركوا على متنها الجزيرة للبحث عن حياة جديدة في مكان آخر (أو على الأقل كانت تستخدم في توفير الطعام من خلال الصيد)، وهو ما قضى على أعدادهم تقريبا إلى حد الانقراض بحلول القرن الثامن عشر. غير أنهم أبحروا بالفعل عبر المحيط الهادئ؛ إذ حلل المتخصص في علم الوراثة في جامعة أوكسفورد براين سايكس الدي إن إيه الميتوكوندري لسكان الجزيرة، مثل دي إن إيه المستوطنين البولينيزيين الآخرين، ووجد أنه يشبه ذلك الخاص بسكان جنوب شرق آسيا، وليس الخاص بالهنود الأمريكان الحاليين الموجودين في أمريكا الجنوبية (أو أمريكا الوسطى والشمالية أيضا).
18
ونظرا لأن الدي إن إيه الميتوكوندري يتعقب العلاقة بين الإناث فقط،
19
من الممكن أن تكون مجموعة مكونة من ذكر واحد فقط من الهنود الأمريكيين هي التي خاضت الرحلة غربا من تشيلي أو بيرو (لكن كيف ومتى وصلت النسوة إلى هناك؟) استبعد سايكس هذه الحالة، على الأقل فيما يتعلق بجزر كوك، من خلال تحليل الدي إن إيه داخل كروموسوم
Y ؛ فرغم وجود خليط من كروموسومات
Y
الأوروبية - فعلى أي حال استكشف الكابتن جيمس كوك كل هذه الجزر في سبعينيات القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الحين يزورها الأوروبيون - فإن السلالة المهيمنة كانت من أصل جنوب شرق آسيوي، مع اختفاء أي أثر لأسلاف من الهنود الأمريكيين. وعليه، يستطيع علم الأحياء الجزيئية الإجابة سريعا على أسئلة جعلت علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين في جدل مع بعضهم لقرون. كان سكان جزيرة الفصح أذكياء لسبب آخر، فتشتهر جزيرتهم بتماثيل لرءوس بشرية يبلغ ارتفاع الواحد منها 10 أمتار، تصطف على طول أحد شواطئها. فمن المذهل كيف استطاع السكان الأصليون، باستخدام أدوات بدائية فقط، نحت هذه التماثيل الضخمة، فضلا عن نقلها لعدة أميال ووضعها على أعمدة؛ فالأساليب التي استخدموها ما زلنا لا نعرفها حتى يومنا هذا.
منذ ألف سنة، انتهت الهجرات المبكرة للبشر إلى حد كبير، فاستقر الإنسان بوجه عام في أي مكان انتهى به الحال فيه، ولم يحدث إلا تبادل بسيط بين مجموعة وأخرى، وبمرور الوقت ظهرت الصفات العرقية - مثل اللغات - للمجموعات المختلفة، كما تظهر حقيقة أن السكان الحاليين لأوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرتبطون جينيا ولغويا وثقافيا، أن هذه المنطقة شهدت كثيرا من التحركات والتزاوج الداخلي. أشرت في الفصل الثاني إلى حقيقة أن الدي إن إيه يتغير قليلا باستمرار نتيجة لحدوث طفرات عشوائية، وهذه الطريقة التي يمكن بها استخدام الدي إن إيه الميتوكوندري ودي إن إيه كروموسوم
Y
تساعد في تتبع التجمعات البشرية. يوجد أيضا تنوع كبير في الجينات، ومن ثم في البروتينات، داخل الجهاز المناعي.
20
تتسم مجموعة أخرى من البروتينات، عمليا هي جزء من الجهاز المناعي، بدرجة مشابهة من التنوع. في هذه الحالة يكون الاختلاف من شخص لآخر، بدلا من الاختلاف في صورة «تحديد جزيء غريب واحد في مقابل جزيء آخر» داخل الشخص نفسه. من بين البروتينات الأساسية في التنوع من شخص لآخر جزيئات (تسمى مستضدات الكريات البيضاء البشرية) يختلف تركيبها قليلا لدى كل إنسان ما عدا التوائم المتماثلة. هذا هو المركب المسئول عن رفض زرع جلد أو عضو من أي شخص إلا من أقرب الأقارب. إنه المركب الذي يمدنا بقدر كبير من تفردنا ويكمن وراء مقاومتنا النسبية للأمراض المختلفة أو قابليتنا للإصابة بها.
توفر الطفرات التي تحدث داخل مركب مستضدات الكريات البيضاء البشرية عددا وفيرا من الجزيئات المختلفة التي لا تميز الأفراد فحسب، وإنما المجموعات العرقية أيضا؛ فربما يثبت أن نسخة معينة من البروتينات مفيدة في نوع معين من المناخ، بينما تكون نسخة أخرى مفيدة في مناخ مختلف، ويوفر شكل من أحد البروتينات وقاية من مرض معد منتشر في إحدى المناطق، بينما يقي شكل آخر منه من جرثومة مسببة للمرض توجد في مكان آخر. بمرور الوقت، سيتكاثر أصحاب التكوينات الجزيئية المناسبة بأعداد أكبر من غيرهم، وسيحمل أحفادهم هذه الجزيئات لعدة أجيال. وبما أننا ذكرنا مميزات امتلاك جزيء بروتين معين دون الآخر، ومن ثم الجين من أجل الحفاظ على استمرار إنتاجه لدى الذرية، علي أن أكرر نقطة قديمة؛ أن كثيرا من الجزيئات، مثل التي تدخل في تكوين الزائدة الدودية، توجد ببساطة دون أن يكون لها أي نفع أو ضرر، فربما ارتبطت فائدتها بفترة مبكرة من حياة البشر، أو في الواقع الثدييات. (3) المستكشفون المعاصرون (3-1) غزاة ورحالة
لم تنقرض الروح الاستكشافية للإنسان سواء منذ 50 ألف سنة أو ألف سنة فقط . ومع ظهور الحضارات في بعض أجزاء من العالم دون غيرها - سنتحدث عن هذا الموضوع في الفصل القادم - أراد حكامها معرفة ما يوجد وراء حدودهم. أرسلت البعثات الاستكشافية، وكانت تفيد على الدوام بوجود مجتمع أجنبي، وبناء على الطبيعة الحربية للحاكم، كان يرسل جيشا من أجل الإغارة على جيرانه وتوسيع أراضيه، أو كان بدلا من ذلك يوسع قاعدته الاقتصادية من خلال تكوين شركاء تجاريين جدد. ويظهر هذان النوعان من التوسع على نحو متكرر على مدار التاريخ البشري.
على سبيل المثال، في حالة الإسكندر الأكبر في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد؛ كان هدفه الأول استعادة الأرض التي أخذها الفرس في الأناضول (تركيا حاليا)، بعد ذلك عمل على توسيع الإمبراطورية اليونانية من خلال هزيمة الفرس في مصر وسوريا وبلاد الرافدين (العراق حاليا)، وبعد ذلك كان هدفه أسر ملك الفرس المراوغ، داريوس الثالث، بنفسه. دخل الإسكندر بلاد فارس واستولى على برسبوليس، العاصمة القديمة للملك خشايارشا. حرق القصر وباقي المدينة، التي كانت الأكثر خصوبة وروعة في العالم في هذا الوقت، وسواها بالأرض، على ما يبدو انتقاما من الهزائم السابقة التي تعرض لها اليونانيون على يد الفرس. كان هذا عملا تدنيسيا لا يتناسب مع القيم اليونانية للسلوك المتحضر. لم يكن بحاجة لأسر داريوس؛ فقد عزل الملك الفارسي، ثم طعن حتى الموت على يد أحد رجاله. أصبح الإسكندر آنذاك حاكما لأكبر إمبراطورية في العالم، «الملك العظيم» و«سيد آسيا»، ومع ذلك واصل الغزو، واتجه نحو وسط آسيا. من هذه المرحلة أصبح الإسكندر مستكشفا أكثر منه قائدا؛ ففي معظم الأحيان لم يكن يعلم إلى أين يذهب، ومع ذلك وسع الدولة اليونانية شرقا وصولا إلى البنجاب، مسافة 2500 ميل. قضى 11 عاما في حملاته، فعليا فترة حكمه بأكملها. كان يقود جيشا يسير معظمه على أقدامه، لكن مثل القادة التالين له - نابليون في 1812 وجنرالات هتلر في 1941 في محاولاتهم على التوالي للاستيلاء على روسيا - فقد أفرط أكثر مما ينبغي في طموحاته. فالأراضي التي تؤخذ بالقوة عادة ما تعود إلى السكان الأصليين؛ ولهذا السبب تنجو الخصائص الثقافية واللغوية لأحد الشعوب عادة من فترات هيمنة قوة أجنبية. لم يعش الإسكندر ليرى إمبراطوريته وهي تنهار، بل لم تتسن له العودة إلى اليونان؛ ففي طريقه إلى بلده توفي على أثر حمى، على الأرجح التيفوس، في بابل، وكان في الثالثة والثلاثين فقط من عمره.
إذا كانت الشعوب التي خاضت البحر في جنوب شرق آسيا منذ 50 ألف عام أعظم المستكشفين في عصرهم، فإن كريستوفر كولومبوس، أو كريستوبال كولون كما كان يحب أن يطلق عليه، كان أحد أكثر المستكشفين إصرارا في العصور الحديثة؛ فإيمانا منه بما قرأ - في كتاب إسدراس الثاني الإنجيلي المشكوك في صحته، وفي كتابات بطليموس
21
والمختص الفلورنسي بعلم دراسة الكون المعاصر له باولو توسكانيلي - بأن الأرض مستديرة وليست مسطحة، وأن المسافة الأرضية من الحافة الغربية للعالم (إسبانيا) إلى الحافة الشرقية (الهند الشرقية وكاثاي) طويلة للغاية، حاول هذا البحار القادم من جنوة إثبات أن المسافة من إسبانيا إلى آسيا في اتجاه الغرب لا بد أن تكون بناء على هذا قصيرة نسبيا؛ 3900 ميل من جزر الكناري، وفقا لحساباته (لم يكن بعيدا للغاية عن الصواب؛ فالمسافة عبر المحيط الأطلنطي من النقطة التي عبر منها تبلغ في الواقع نحو 4 آلاف ميل). وعن طريق الإبحار غربا بدلا من الاتجاه شرقا يمكن للمرء الوصول إلى الأراضي الخرافية التي تمكن ماركو بولو من الوصول إليها فقط بعد رحلة برية طويلة عبر وسط آسيا منذ مائتي عام. كان كولومبوس يبحث عن شيء آخر أيضا؛ جزيرة أنتيليا الأسطورية - التي أسماها أفلاطون أطلنتس، ووصفها بأنها أقدم حضارة على وجه الأرض - والتي يقال إنها تقع «خلف أعمدة هرقل» (مضيق جبل طارق)؛ أي في مسار كولومبوس مباشرة.
ألح على ملك البرتغال، ودوق مدينة شدونة وكونت مدينة سالم، وحكام إسبانيا، والملك فرديناند والملكة إيزابيلا؛ من أجل الحصول على التمويل، فرفضوا كلهم. كان كولومبوس رجلا طموحا؛ فبعد 6 سنوات من التوسل للزوجين الملكين الإسبانيين، استطاع إقناعهما بتغيير رأيهما، وفي الثالث من أغسطس عام 1492 انطلق في رحلته (صورة 1). نحن جميعنا نعلم أن كولومبوس لم يرس على أرض آسيا، وإنما في أمريكا. بالطبع كان يعتقد أنه وصل إلى جزر الهند الشرقية. كذلك لم يعثر على جزيرة أنتيليا، التي يعتقد بأنها في حجم قارة أوروبا، لكن تكريما لسعيه الدءوب سميت بعض الجزر في البحر الكاريبي باسم الأنتيل. الأمر الأقل شهرة أن كولومبوس لم يكن أول أوروبي يعثر على الأمريكتين.
فقد وصل الفايكنج إلى هناك قبله بخمسمائة عام؛ إذ أبحروا هم أيضا، في حالتهم من مضايق النرويج، في اتجاه الغرب. لم يتضح لنا ما كانوا يبحثون عنه؛ هل استنزفت الأراضي التي كانوا يصطادون فيها، أم أنهم كانوا يهربون من الضرائب التي سيثور عليها إخوانهم الأوروبيون في نيو إنجلاند بعد 700 عام؟ استقر إريك الأحمر في جرينلاند في عام 982، بعد ما نفي من أيسلندا لارتكابه جريمة قتل، حاول تشجيع آخرين باتباعه من خلال إطلاق اسم «الأرض الخضراء» (جرينلاند) على هذه الدولة الجديدة (بخلاف المناطق الساحلية في الجنوب، هذا الاسم به قدر من المبالغة). في القرن الحادي عشر أدخل ليف إريكسون المسيحية من النرويج إلى جرينلاند، ووصل نورمانديون آخرون إلى أبعد من ذلك حتى البر الرئيسي لكندا. فأقيم موقع بالقرب من موقع لانس أوه ميدوز في شبه الجزيرة الشمالية لمقاطعة نيوفندلاند؛ وبذا وصل أول أوروبيين إلى الأراضي الأمريكية، ومع ذلك فقد ذهبوا دون ترك أي مستوطنات باقية. وكذلك لم يفعل المستعمرون لجرينلاند، مع أنهم التقوا بالإنويت المحليين في ثول حتى وصل الحال بهم أن أقاموا إبرشية في عام 1126. اتضح أن الظروف بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية قاسية للغاية على هؤلاء البشر من أصل أوروبي؛ فعلى الأرجح ماتوا جميعا من نقص الطعام والمأوى. أما على بعد آلاف الأميال جنوبا فكان المناخ أكثر اعتدالا، وعاش الإسبان ليحكوا عن اكتشافاتهم.
لم تبدأ هذه الاكتشافات على البر الرئيسي، بل على الجزر الموجودة في البحر الكاريبي. ورغم أنه اتضح فيما بعد أنها ليست جزءا من آسيا، فقد سميت المنطقة بأكملها جزر الهند الغربية إشارة إلى اعتقاد كولومبوس؛ فهو إجراء يهدف لإثبات أنه وصل إلى أرض على أي حال، فبعد قضائه شهرين في البحر، بدأ الطعام والماء ينفدان في رحلته الاستكشافية، وكانت الروح المعنوية آخذة في الانهيار. ترجاه الملازمون البحريون في السفن الثلاث التي كان أسطوله الصغير يتكون منها؛ «سانتا ماريا» و«نينا» و«بينتا»، أن يغير مساره ويعود إلى أوروبا، فرفض كولومبوس. حصد ثمار مثابرته هذه في غضون أسابيع؛ إذ رسا على جزيرة أطلق عليها اسما مناسبا هو سان سلفادور. واصل في اتجاه الجنوب الغربي ووصل إلى الساحل الشمالي لكوبا (التي اعتقد أنها اليابان، ثم أطلق عليها سيبانجو). غير اتجاهه وانحرف نحو الشرق، ورسا على جزيرة أطلق عليها اسم إسبانولا أو هيسبانيولا (هي حاليا هايتي وجمهورية الدومينيكان). في هذا الوقت كانت سفينته الأساسية، سانتا ماريا، جنحت وتركها من عليها. ظلت مجموعة من الرجال على إسبانولا بينما عاد كولومبوس إلى إسبانيا في أوائل عام 1493 على متن السفينة نينا ومعه السفينة بينتا، ولقي ترحيبا حافلا.
مع ذلك، لم يتوان وأبحر في شهر أكتوبر من العام نفسه نحو الغرب مرة أخرى، فكانت روح السعي تسري في دمه، لا لسبب إلا الفضول واكتشاف طريق جديد للتجارة مع كاثاي. اكتشف جوادالوبي وأطلق عليها اسمها (جوادلوب)، ثم اكتشف بورتوريكو في طريقه إلى إسبانولا، وهناك وجد رجاله قد ذبحوا، ثم انتقل إلى موقع آخر وأسس مدينة إيزابيلا، أول مدينة أوروبية في الأمريكتين. أبحر غربا ووصل عندها إلى الساحل الجنوبي لكوبا، الذي سار عليه حتى وصل إلى البر الرئيسي لآسيا. وعند اتجاهه نحو الجنوب وصل إلى جزيرة أخرى أطلق عليها اسم سانتياجو (أصبحت جامايكا فيما بعد). عاد في النهاية إلى إسبانيا، على متن أول سفينة بنيت على الإطلاق في الأمريكتين. لم يكن استقباله حماسيا كما أراد، وفي عام 1498 انطلق مرة أخرى. اتخذ هذه المرة طريقا جنوبيا، ورسا على جزيرة سماها ترينيداد. أكد فيما بعد لأنصاره أن مصب النهر الذي كان يقع أمام مينائه هو دلتا نهر الجانج (كان حوض نهر أورينوكو في فينزويلا). في أثناء عودته إلى إسبانولا، بدأت الأمور تسوء بشدة؛ فقد تمرد الرجال وقبض على كولومبوس فرانسيسكو بوباديلا، الذي أرسله فرديناند وإيزابيلا من أجل حل المشكلات الموجودة فيما أصبح يسمى الآن العالم الجديد (مونودس نوفوس)؛ فقد توصل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا إلى استنتاج أن كولومبوس كان قائدا بحريا عظيما لكنه حاكم سيئ. هذه المرة عاد كولومبوس إلى إسبانيا مكبلا بالأغلال.
لم يردعه هذا وتمكن من استرجاع قدر من كرامته ورحل مرة أخرى في عام 1502. ومن إسبانولا أبحر إلى سانتياجو، ثم انحرف نحو الجنوب الغربي ورأى أرضا فيما يعرف حاليا بهندوراس. سار على طول الساحل جنوبا حتى وصل إلى بنما (مقاطعة «المانجو»)؛ حيث أسس مدينة بيلين (بيت لحم). ترك فيها أخاه بارتولومي مع فريق من 80 رجلا، أما هو فتوجه شمالا إلى إسبانولا، وفي عام 1504 عاد إلى إسبانيا، وقد أصبح في الثالثة والخمسين من عمره ويعاني من ألم المفاصل. أصيب كريستوبال في الواقع بخيبة أمل كبيرة؛ فهو لم يحصل على التكريم ولا الثروة التي كان يشعر بأنه يستحقها، وبعد عامين في بلد الوليد لقي حتفه. كان مؤمنا حتى النهاية بأنه عثر على طريق غربي إلى جزر الهند الشرقية (ولولا شريط الأرض الضيق الذي يربط القارتين، أمريكا الشمالية بالجنوبية، ربما تمكن بالفعل من النجاح في هذا). كان أبناء بلده هم من تشككوا فيه، ومع ذلك فقد قدروا اكتشافه عن طريق نقل عظامه إلى إسبانولا، وهي توجد هناك في كاتدرائية سانتو دومينجو حتى يومنا هذا.
ربما كان كولومبوس أكثر المستكشفين فضولا وإصرارا في العصر الحديث، لكنه لم يكن الأول؛ فقد بدأ البرتغاليون استكشاف ساحل أفريقيا قبل قرن من الزمان تقريبا، في 1418، بينما كان الأدميرال الصيني، على الجانب الآخر من العالم، تشنج خه، يبحث في المحيطات الشرقية عن أراض جديدة يتاجر معها.
22
ما استغله كولومبوس كان عزم وإصرار بعض الرجال على العثور على ما يبحثون عنه بالرغم من كل الصعوبات. فتظهر مثل هذه الرحلات أن البحث عن آفاق جديدة لا بد أن يكون مصحوبا بكثير من الإقدام، وهو صفة بشرية لم أركز عليها حتى الآن؛ فضرورة وجود الشجاعة أمر ينطبق بالتأكيد على كافة المستكشفين من قبل أو حتى الآن، على الأرض أو في البحر. ونظرا لأن الشجاعة لا تعتمد على وظائف دماغية عالية - ربما يقول البعض عكس هذا - ولا على استخدام صندوق الصوت ولا البراعة اليدوية، فإنها تقع خارج دائرة الصفات التي حددت أنها خاصة بالإنسان. هل يتسم الشمبانزي بالشجاعة في وقت ما؟ سأترك هذا للمتخصصين في علم سلوك الحيوانات لإثباته.
هل ترتبط الشجاعة بالبحث عن شيء ما؟ أحيانا. فيتصرف عادة المؤمنون بالحياة الآخرة، ويسعون جاهدين إلى دخول الجنة فيها بدلا من النار، تصرفات شجاعة باختيارهم؛ فهم يسعون إلى التخلص الأبدي من خطاياهم الأرضية. لقد تعرض الشهداء الدينيون على مر القرون إلى التعذيب وبتر الأطراف والحرق وضرب الأعناق والشنق بسبب تمسكهم بعقيدتهم، لكن ثمة آخرون يتصرفون تصرفات شجاعة دون السعي للحصول على مكافأة روحانية، فماذا كان دافع الناس في هولندا وفرنسا الذين آووا الأطفال اليهود وطياري الحلفاء من النازيين في أربعينيات القرن العشرين؟ فقد كانوا رجالا ونساء عاديين تصرفوا فقط بدافع الشفقة، بالرغم من علمهم بأنه إذا قبض عليهم - كما حدث لكثيرين - فإنهم سيواجهون التعذيب والموت. توضح تصرفاتهم مدى ما يصل إليه ما نطلق عليه الإنسانية. ومع ذلك، فإن المخاطرة بحياة الفرد من أجل حماية فرد آخر، بما في ذلك أفراد الأسرة بالطبع، هو أمر نشترك فيه مع حيوانات أخرى؛ فالإيثار ليست صفة تميز البشر. في الواقع، يصعب فعليا رؤية فائدة وراثية للإيثار بين البشر
23
على الإطلاق. نشترك مع كثير من الحيوانات
24
في التعبير أحيانا عن الإيثار لدينا عن طريق تخصيص مواردنا لأقاربنا، مثلما يفعل الجد والجدة. فنظرا لتخطيهم سن الإنجاب بكثير، فإنهم يرعون أحفادهم حتى سن التزاوج؛ ومن ثم يضمنون استمرار السلالة. ويستخدم العلماء هذه الحجة لتفسير طول العمر (الحياة لما بعد سن حاجة أطفال المرء للرعاية) بالإضافة إلى الفائدة الوراثية للإيثار. وإذا كان الدافع للشجاعة لدى البشر يتمثل أحيانا في التطلعات الروحانية، فإن نقيضها، الجبن، يكمن في بعض الأوقات وراء الاستغلال المادي ، لدى الذين يستخدمون الآخرين لأداء الأعمال الخطيرة بدلا منهم حتى يحصلوا على الثروة. يعتبر حب الاقتناء بالتأكيد أحد أوجه السعي، كما تشير الكلمة، وسنعود للحديث عن موضوع الثروة في الفصل التاسع. وفيما يتعلق بالشجاعة، فإن امتلاكها يحدد مدى ما يصل إليه فضولنا، ومثل صفات أخرى، كدرجة براعة المرء الفكرية، تعمل الشجاعة على تعديل النتيجة؛ فهي ليست مكونا أساسيا في السعي.
لا يرتبط اسم كولومبوس بأماكن موجودة في أمريكا الوسطى فحسب، بل بمدن وأنهار - وحتى جامعة - داخل الولايات المتحدة الأمريكية. اعترض مؤخرا بعض الأمريكان الأصليين على هذا التبجيل لرجل يعتبرونه مغتصب أراضيهم. إن غضبهم واستخدام اسم كولومبوس كلاهما في غير موضعهما؛ فعلى حد علمنا لم يقع نظر كولومبوس قط على الشريط الساحلي لأمريكا الشمالية، ناهيك عن الذهاب إليها؛ فقد حدث هذا على يد إسباني آخر، خوان بونثي دي ليون، الذي فعل هذا في عام 1513؛ وقد أطلق على الأرض اسم فلوريدا، ليعكس اكتشافه الذي كان في أثناء احتفالات عيد الفصح (باسكوا فلوريدا)، وحقيقة أن الريف كان عامرا بالفعل بالنباتات المزهرة بسبب الأمطار الاستوائية. رسا بونثي دي ليون على الشاطئ الشرقي بالقرب من البقعة التي تطورت لتصبح ميناء مفيدا. أقام الفرنسيون مستوطنة في هذه المنطقة، لكن في عام 1565 طردهم الإسبان، الذين أقاموا مدينة مكتملة في موقع الميناء، وأطلقوا عليها سان أوجستين. رغم أن هذه هي أقدم مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الاسم الفرنسي، سان أوجستين، هو الذي ظل باقيا.
وصل جيش صغير آخر من الإسبان في عام 1528، ولم يكن هدفهم الاستقرار في الأرض، بل كان هدفهم العثور على الذهب، مثل معظم مستكشفي الأمريكتين في هذا الوقت. بدءوا من كوبا وأبحروا أعلى الساحل الغربي لفلوريدا. نزل مجموعة من الرجال ليبدءوا البحث، تجولوا في المستنقعات وتواصلوا مع هنود سيمينول، الذين يعيشون هناك إلى يومنا هذا، لكنهم لم يلتقوا بأبناء بلدهم الذين كانوا يعيشون على بعد أميال كثيرة في الجانب الآخر من شبه الجزيرة؛ ولم يعثروا أيضا على الذهب. ونظرا لمعاناتهم من الحمى وهجمات التماسيح ، تحركوا شمالا للقاء سفنهم، بالقرب من تالاهاسي الحالية. حدثت مشكلة أخرى؛ فقد أبحر الأسطول وتركهم. قررت هذه المجموعة البرية، التي تقلصت آنذاك إلى 300 رجل ويقودها كابيثا دي فاكا، أن يحاولوا الوصول إلى المكسيك، التي اعتقدوا أنها قريبة نسبيا. بنوا قوارب صغيرة وانطلقوا في المياه المضطربة لخليج المكسيك. وبعد قضاء ستة أسابيع في البحر، مات معظمهم خلالها، رسا المتبقون على ما اتضح أنها جزيرة، فلم يصلوا إلى المكسيك، بل جزيرة جالفستون على ساحل تكساس. لم يكن هنود كارانجوا عدائيين، وأقام الناجون هناك لعدة سنوات. في هذا الوقت كان كابيثا دي فاكا فقد الجميع ما عدا ثلاثة رجال؛ فقد مات معظم رجاله بسبب المرض، تماما مثل هنود كارانجوا، وبسبب الافتقار لأي مناعة ضد الأمراض التي جلبها الأوروبيون، انقرضت القبيلة بأكملها على مدار القرنين التاليين. في الواقع، من بين 5 ملايين هندي أمريكي كانوا يعيشون في أمريكا الشمالية والمكسيك وجزر الكاريبي في نهاية القرن الخامس عشر (يقول البعض إنهم كانوا ضعفي أو خمسة أضعاف هذا العدد) مات معظمهم بسبب جراثيم الغزاة، وليس رصاصهم؛ إذ قتلت الحصبة والجدري وحدهما 95٪ من الآزتيك. وفي أمريكا الجنوبية كان الوضع مشابها؛ ويستمر حتى يومنا هذا، مع محاولة الباحثين الطموحين - لكن الحمقى في الوقت نفسه - «تحسين» حياة الهنود الأمريكان المنعزلين الذين يعيشون في غابات الأمازون المطيرة.
على شواطئ تكساس في عام 1530، كان كابيثا دي فاكا ورفاقه يتعلمون لغة الهنود الكارانجوا، ويتبعون أنماط حياتهم. ومن خلال دمج معتقداته المسيحية بمعتقدات الهنود، أصبح كابيثا دي فاكا أشبه بالكاهن، وكان يعظ جيرانه ويحاول علاج أمراضهم. لكنه لم يتخل عن مسعاه الأصلي. وفي النهاية رحل هو ورفاقه، فساروا في اتجاه الجنوب الغربي بحثا عن الذهب. وصلوا إلى المناطق الجبلية في شمال المكسيك، وعثروا على معادن تحتوي على الحديد - البيريت أو الذهب الكاذب - الذي كان الهنود المحليون، الذين يعيشون في القرى والمدن، يذيبونه. ربما كان كابيثا دي فاكا لا يتمتع بذكاء كبير، لكنه كان عنيدا للغاية؛ فقد كان يبحث عن الذهب، وكان يعتزم العثور عليه . اتجهت المجموعة شمالا على طول الآثار التي تبعها على الأرجح المهاجرون الأصليون القادمون إلى الجنوب من ألاسكا قبل هذا بعشرة آلاف سنة، ووجدوا أنفسهم في النهاية يسيرون في طرق مليئة بالأصداف. سلكوا هذه الطرق نحو الغرب حتى أصبحوا يرون البحر؛ فقد ساروا أكثر من ألفي ميل عبر الجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، وكانوا أول أوروبيين يعبرون القارة.
قبل أن يتمكنوا من نزول المياه لأول مرة منذ نحو 5 سنوات، هجمت عليهم دورية إسبانية اعتقدت خطأ أنهم من السكان المحليين، وكانت على وشك إطلاق النار عليهم وقتلهم على الفور؛ فقد وصل كابيثا دي فاكا ورجاله إلى الحضارة الأوروبية. عند عودته النهائية إلى إسبانيا كتب كابيثا دي فاكا قصة أسفاره، وحاول إقناع السلطات بتغيير موقفهم تجاه الهنود ومعاملتهم كبشر عاديين، لكنه فشل في هذا، تماما مثل فشله في بحثه عن الذهب؛ فقد مات كابيثا دي فاكا فقيرا.
بخلاف المستوطنات في فلوريدا، لم يستعمر الأوروبيون أمريكا الشمالية طوال القرن السادس عشر. كانت الصورة مختلفة في أمريكا الوسطى والجنوبية؛
25
فقد رسا إرنان كورتيس في المكسيك في عام 1519، ورسا فرانثيسكو بيثارو في بنما في عام 1531. كان هؤلاء الغزاة، أكثر من مجرد مستكشفين، كما يتضح من وصفهم؛ فقد كان هدفهم سرقة الأرض من سكانها باسم المسيحية، والعودة بالذهب. قال كورتيس لمونتيزوما «أعاني أنا وزملائي من مرض في القلب لا يشفيه إلا الذهب.»
26
وقد هزم كورتيس الآزتيك في المكسيك، وهزم بيثارو الإنكا في بيرو. حين كان السكان الأصليون يبدون استعدادهم للتحول للكاثوليكية، فربما كان يطلق سراحهم، أما حين لم يحدث هذا، فكانوا يذبحون.
اعتبر الغزاة أنفسهم مبشرين، رغم أنه يصعب رؤية أي تشابه بينهم وبين المؤمنين الحقيقيين بالله؛ فالمبشرون مثل القديس أوجستين، الذي أرسله البابا جريجوري في عام 596 لتحويل الإنجليز إلى المسيحية، أو ألبرت شفايتزر، الذي بنى مستشفى إرساليا لعلاج المصابين بالجذام والسكان الأصليين الآخرين المرضى في لامبارين في أفريقيا الاستوائية الفرنسية (الجابون حاليا) في عام 1913، أو الأم تيريزا التي أسست جمعية الإرساليات الخيرية لرعاية المعدمين والمحتضرين في كلكتا في عام 1948، لا يشاركون في إراقة الدماء؛ بالإضافة إلى هذا، في المثالين الأخيرين لم يشمل مسعاهم أي تحول ديني على الإطلاق. يسعى المبشرون الحقيقيون إلى مساعدة الآخرين، ماديا وروحانيا؛ فهم يسعون إلى تحسين حياة البشر، لا تدميرها.
طوال القرن السادس عشر، واصل المستكشفون البحريون من شبه الجزيرة الإيبيرية رسم خرائط للخطوط الساحلية للقارات. استكشف المستكشف البرتغالي فاسكو دا جاما الساحل الجنوبي لأفريقيا في عام 1497، رغم أن بحارا برتغاليا آخر، بارثولوميو دياز، رأى الطرف الناتئ المرتفع لجبل تيبل بالقرب من الحافة الجنوبية قبله في عام 1488. أطلق عليه دياز رأس العواصف (الذي يعبر بالتأكيد عنه)، لكن الاسم تغير فيما بعد إلى اسم أكثر تفاؤلا؛ رأس الرجاء الصالح.
27
بعد تسع سنوات صحب دياز دا جاما في رحلته الاستكشافية الأكثر شمولا. على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، أبحر فرديناند ماجلان، البرتغالي الذي كان يخدم ملك إسبانيا، عبر أرخبيل تيرا ديل فويجو (أرض النار) الواقع عند الحافة الجنوبية للقارة الأمريكية في عام 1519، وتحمل حاليا هذه المياه التي سار فيها اسمه. أصبح ماجلان أول أوروبي يبحر عبر المحيط الهادئ - اجتاز البولنيزيون بالطبع معظمه من الاتجاه المقابل قبل هذا بعدة آلاف من السنين - ورسا في النهاية في الفلبين في عام 1521 (التي سميت على اسم فيليب أمير إسبانيا، الذي أصبح فيما بعد فيليب الثاني). على عكس الغزاة الذين ذهبوا بعد كولومبوس إلى الأمريكتين، لم يكن ماجلان يسعى وراء الأرض أو الذهب؛ فقد كان يبحث عن سلع لها قيمة متساوية اشتهرت بأنها لا توجد إلا على مجموعة صغيرة من الجزر في الشرق؛ التوابل. وصل المستكشفون البرتغاليون السابقون إلى جزر مولوكو، التي أصبحت أسطورية بسبب احتوائها على جوزة الطيب والقرنفل والفلفل، عن طريق الإبحار حول أفريقيا وفي اتجاه الشرق عبر المحيط الهندي. كان ماجلان، مثل كولومبوس، مقتنعا بأن ثمة طريقا أقصر إلى جزر الهند الشرقية يمكن العثور عليه عن طريق الإبحار غربا؛ وفي حالته عثر عليه (رغم ثبوت أنه أطول). قتل ماجلان في شجار مع السكان الأصليين في جزيرة ماكتان الفلبينية، لكن واصل الناجون رحلته الاستكشافية ووصلوا إلى جزر التوابل، وحملوا جوزة الطيب والقرنفل والقرفة وقشرة جوزة الطيب المطحونة، وتمكنوا من العودة إلى إسبانيا. تمثل رحلتهم أول رحلة بحرية تجوب العالم. وكان هذا، بالإضافة إلى أشياء أخرى، الدليل الأخير على أن الأرض مستديرة بالفعل، وليست مسطحة.
كان القرن السادس عشر إذن قرن استكشاف؛ فقبل نهايته بوقت طويل رسمت خرائط شديدة الدقة للشريط الساحلي لمعظم أجزاء العالم، صنع رسام الخرائط الفلمنكي جيراردس مركاتور،
28
الذي كان يعيش في ألمانيا، خريطة على هذا النحو في عام 1569، ورغم أنها أظهرت خطوط الطول موازية بعضها لبعض، وهي بالطبع ليست كذلك، فإن هذا الرسم كان مفيدا للملاحين؛ نظرا لأن خطوط الاتجاهات في البوصلة، مثل الذي يشير شمالا، تكون بالفعل خطوطا مستقيمة. كانت أجزاء من خريطة مركاتور دقيقة بناء على التخمين أكثر من معلومات حقيقية؛ فقد توقع وجود مضيق بيرنج بين آسيا وأفريقيا قبل اكتشافه بنحو 200 عام. ونحن ندين على الأرجح لمركاتور بكلمة «أطلس» (المأخوذة من الاسم الذي أطلقه اليونانيون على أحد عمالقتهم الأسطورية)؛ فقد استخدمه عنوانا لخرائطه عن جزء من أوروبا في عام 1585.
كان من بين الذين بحثوا عن طريق جديد إلى جزر التوابل ملاح إنجليزي مثابر للغاية اسمه هنري هدسون، تمثلت محاولته الأولى في الإبحار جهة الشمال، وفي عام 1607 وصل إلى مكان على بعد عشر درجات من القطب الشمالي؛ حيث ظن أن المياه ستصبح فجأة أكثر دفئا، لكن هذا لم يحدث، وأجبره الجليد على أن يعود أدراجه. ولمعرفتها بإنجازاته في القطب الشمالي، فوضت شركة الهند الشرقية الهولندية هدسون للعثور على «الممر الشمالي الشرقي» الذي كانت هي ونظيرتها الإنجليزية متأكدتين من أنه سيقتطع آلاف الأميال من هذه الرحلة الطويلة حول أفريقيا. لم تصل محاولات سابقة، أحدها لهدسون نفسه، إلى أبعد من نوفايا زيمليا على الساحل الشمالي لروسيا، لكن شعر مديرو الشركة أن مثابرة هدسون ومعرفته بمياه القطب الشمالي ستؤدي إلى نتيجة ناجحة. انطلقت الرحلة الاستكشافية أخيرا في عام 1609. ما لم يكن يعلمه مؤيدوه أنه لا يعتزم الإبحار شرقا على الإطلاق؛ فقد كان هدفه العثور على «ممر شمالي غربي» وليس شرقيا. وصل إلى الساحل الغربي لنوفا سكوشا، لكن دفعته رياح جليدية وثلج متساقط، ناهيك عن ثورة طاقمه، إلى الاتجاه جنوبا. مر على كيب كود، ووصل إلى الفتحة الكبيرة بالقرب من جزيرة أسماها المحليون «مانا-هاتا»، رآها ملاح يدعى جيوفاني دي فيرازانو قبل قرن تقريبا من الزمن. شعر هدسون بأن هذا المجرى المائي سيؤدي به إلى المحيط الهادئ؛ ومن ثم إلى جزر التوابل. للأسف، لم يحدث هذا. أبحر إلى الشمال في المياه الفسيحة حتى وصل إلى مدينة ألباني الحالية، لكنه أدرك في هذه اللحظة أنه كان يبحر فحسب في نهر لا يؤدي إلى أي مكان. استدار عائدا على مضض، ولو كان علم أن السكان اللاحقين لهذه الشواطئ سيطلقون اسمه على هذا النهر، لم يكن هذا ليخفف عنه حزنه؛ فقد كان هدفه العثور على طريق غربي إلى المحيط الهادئ، لا أن يترك اسمه للأجيال القادمة. وعلما منه بأن دافعي راتبه ليسوا سعداء كثيرا بنتائجه،
29
لم يعد هدسون إلى أمستردام وإنما إلى لندن، ومن هناك انطلق مرة أخرى بحثا عن الممر الشمالي الغربي، وهذه المرة بدعم من الملك الإنجليزي جيمس الأول. مر في طريقه على نيوفندلاند، عبر المضيق الواقع بين جزيرة بافن والساحل الشمالي لكيبك، ودخل إلى الخليج، الذي أصبح حاليا هو والمضيق يحملان اسمه. كان الثلج يتساقط بشدة، ومرة أخرى حدث اضطراب على متن السفينة، فقبض فردان من الطاقم على هدسون، ووضعوه مع سبعة من أنصاره بالإجبار على متن قارب صغير من دون إمدادات، ثم تركوهم في عرض البحر، ولم ير هنري هدسون مرة أخرى على الإطلاق.
لم يختلف تصرف معظم الإنجليز والفرنسيين الذين ذهبوا لاستكشاف أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر كثيرا عن تصرف أسلافهم الإسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية؛ فكانت أي محاولة من جانب السكان المحليين لمقاومة استيلاء الوافدين على الأراضي التي يستهدفونها تسحق بوحشية. لم ينطبق هذا على الآباء الحجاج، الذين تركوا إنجلترا في عام 1620 للهروب من الاضطهاد الديني.
30
أبحر هؤلاء من بليموث إلى فيرجينيا، التي استعمرها الأوروبيون في عام 1607، لكن لأنهم ذهبوا دون خرائط بحرية، رسوا أبعد من هذا بأكثر من 400 ميل شمالا عند كيب كود في ماساتشوستس، ومنذ هذا اليوم يفتخر أهالي بوسطن ونيو إنجلاند بسبب موقفهم المتسامح تجاه الأقليات العرقية مثل الهنود الأمريكان وتجاه الأقل ثراء. أسس فرانسيس كابوت أول مصنع للغزل والنسيج في العالم في بداية القرن التاسع عشر، وعلى عكس المصانع في لانكشاير واسكتلندا، كانت ظروف العمل مثالية. استخدم أفراد آخرون من عائلة كابوت ثروتهم في تأسيس مؤسسات مثل مستشفى ماساتشوستس العام وأوركسترا بوسطن السيمفوني. كانت أسرة لويل
31
أسرة خيرية أيضا، لكن الأسر الباقية كانت أقل إيثارا؛ فقد مات أكثر من نصف الأمريكان الأصليين البالغ عددهم 1,5 مليون، الذين كانوا يعيشون في بداية القرن السابع عشر في جميع أنحاء كندا والولايات المتحدة الأمريكية، على يد المستعمرين الجدد؛ الإنجليز والفرنسيين من أوروبا، والإسبان من المكسيك. (3-2) أبطال معاصرون
بمجرد رسم حدود القارات على يد المستكشفين الأوروبيين (والصينيين)،
32
واستعمار المناطق الداخلية بها عبر غزوات من أبناء بلادهم الذين يتمتعون بالقدر نفسه من روح المغامرة، اكتسب سعي الإنسان معاني أخرى أكثر شهامة؛ فلم يعد الإنسان يبحث عن مجرد طرق بحرية جديدة، أو معادن نفيسة، أو مناطق جديدة يستقر فيها، لكن لأن أي مكان في العالم لم يذهب إليه أصبح يمثل تحديا، وكلما تعذر الوصول إليه كان ذلك أفضل. بدأنا بالأراضي القاحلة المتجمدة في الغطاء الجليدي القطبي، وانتهينا بسطح القمر الأقل ملاءمة للحياة.
كانت ثمة صعوبة مزدوجة في الوصول إلى القطب الشمالي؛ فهو يبعد أميالا كثيرة عن أقرب نقطة يمكن الوصول إليها بالقارب، كما أن الجليد يذوب ليصنع برك مياه مما يجعل الذهاب بالمزلجة أمرا صعبا. يوجد أيضا خطر ذوبان الجليد عند الحواف أو تشققه. كل هذا يحدث في الصيف؛ فلم يكن أي شخص بالغباء الكافي ليحاول الذهاب إلى هناك في الشتاء، عندما تنخفض درجة الحرارة إلى −70 درجة مئوية ويستمر الظلام طوال 24 ساعة في اليوم. لم يردع هذا ضابط البحرية الأمريكية روبرت بيري؛ فقد ذهب في ثماني رحلات إلى القطب الشمالي، ونجح في رحلته التاسعة، فادعى أنه وصل مع رفيقه الأمريكي ماثيو هينسون، تجرهما الكلاب، إلى القطب الشمالي في 6 أبريل عام 1909؛ فكانا أول رجلين يفعلان هذا. أنا أتحدث عن القطب الشمالي الجغرافي، أما القطب الشمالي المغناطيسي، الذي تشير إليه كافة البوصلات، فيبعد أكثر من 300 ميل جنوب غرب القطب الشمالي الكندي، ولم يصل إليه أحد حتى عام 1926، وكان هذا على يد ريتشارد بيرد، أمريكي آخر، على متن طائرة، والمستكشف النرويجي روال أموندسن على متن منطاد مزود بمحرك توجيه.
يمثل القطب الجنوبي تحديا آخر؛ فهو أكثر بعدا من الناحية الملاحية وأعلى من مستوى سطح البحر بنحو 9816 قدما (2922 مترا)، مما يجعل تسلق كتل صخرية من الجليد، خاصة مع فريق من الكلاب، أمرا شاقا، لم يخف هذا أموندسن، الذي حاول ونجح بالفعل في 14 ديسمبر عام 1911. ووصلت رحلة استكشافية بريطانية بقيادة روبرت سكوت، انطلقت في العام السابق، إلى القطب الجنوبي في يناير عام 1912، بعد شهر واحد من أموندسن؛ ولك أن تتخيل الإحباط الذي أصابهم.
33
وكان الأسوأ قادما؛ فحاصرت ريح شديدة رحلة العودة، ونفد طعامهم تقريبا، ومات كل أفراد الرحلة الاستكشافية الخمسة.
34
عثرت مجموعة بحثية أرسلت من سفينتهم الأم «ديسكفوري» على بقاياهم بعد 8 أشهر. وكان بين اليوميات التي عثر عليها سلسلة من الرسوم الرائعة بالألوان المائية رسمها طبيب الرحلة الاستكشافية، إدوارد ويلسون.
35
يمثل أعلى جبل في العالم، على ارتفاع 29028 قدما (8848 مترا) تحديا طبيعيا للإنسان؛ أولا: بسبب قلة الهواء للغاية؛ مما يجعل من الصعب الوصول إليه دون إمداد بالأكسجين (رغم أن هذا حدث). والسبب الآخر: أن أسطح الصخور شديدة الانحدار، والمساحات الواسعة من الجليد والصدوع العميقة تجعل الصعود مرهقا وخطيرا؛ فعلى الحدود بين نيبال والصين يقع جبل ساجارماثا (بالنيبالية)، أو كومولانجما (بالصينية)، وهو معروف لدى الأوروبيين باسم مدير قسم المسح الجغرافي في الهند في القرن التاسع عشر، السير جورج إفرست. فشلت كافة محاولات المجموعات لتسلقه في النصف الأول من القرن العشرين. وفي ربيع عام 1953 نجحت مجموعة بريطانية بقيادة العقيد جون هانت، وقد وقف اثنان من الفريق، هما النيوزيلندي إدموند هيلاري وتينسينج نورجاي من شعب شيربا النيبالي، على القمة في 29 مايو عام 1953. بعد أربعة أيام توج ملك جديد على رأس الكومنولث البريطاني، وبدا أن تسلق جبل إفرست كان إيذانا ببدء عصر إليزابيثي جديد من الاستكشاف. كانت المشكلة الوحيدة أنه لم يعد يوجد شيء يكتشف. عزى البريطانيون أنفسهم بأنهم كانوا أول من أبحروا حول العالم دون مساعدة من أحد (فرانسيس شيشستر على متن سفينة «جيبسي موث 4» في عام 1967)، وأول من قام بهذا على الأقدام إلى حد كبير (رانولف فينس وتشارلز بورتن بين عامي 1979 و1982).
36
كانت أهداف الروس والأمريكيين أسمى من هذا؛ فقد كانت للاتحاد السوفييتي الريادة في الوصول إلى الفضاء في عام 1957 بإطلاق القمر الصناعي «سبوتنك 1» في مداره حوله الأرض، وتبعتها الولايات المتحدة بالقمر «إكسبلورر 1» في عام 1958، وكان الروس في الطليعة مرة أخرى في عام 1961 عندما أصبح يوري جاجارين أول رجل يصعد إلى الفضاء. كان أقل حظا بالقرب من الأرض، وتوفي في أثناء اختباره لإحدى الطائرات بعد هذا بعدة سنوات. في عام 1962 انطلق جون جلين إلى الفضاء، وكان أوفر حظا من يوري جاجارين وتمكن من إعادة تجربته الملاحية الفضائية بعد ثلاثة عقود. بالطبع كان الهدف الحقيقي هبوط الإنسان على القمر، لكن يجب ألا نقلل من قدر الإنجازات الفنية المتضمنة؛ أولا: إطلاق كبسولة فضائية بأمان في الغلاف الجوي، وأظهر الروس أن هذا أمر يمكن فعله، وكرر الأمريكان هذا الإنجاز، ثم يأتي تحديد الهدف بدقة على بعد 240 ألف ميل وهبوط مركبة قمرية بهدوء، مع ترك وحدة القيادة تدور حول القمر. وهذا فقط من أجل الوصول إلى هناك. في عام 1969 كانوا مستعدين، وانطلق ثلاثة رواد فضاء إلى الفضاء. عند وصولهم بالقرب من سطح القمر، ظل مايكل كولينز على متن مركبة القيادة، بينما هبط نيل أرمسترونج وإدوين (باز) ألدرين في المركبة القمرية (صورة 1). أنجزوا المهام الموكلة إليهم، التي اشتملت على جمع قطع من الصخور من أجل تحليلها لاحقا؛ وأثبت هذا أن عمر القمر (4,3 مليارات سنة) هو نفسه عمر الأرض تقريبا (4,6 مليارات سنة). وأظهرت التجارب الأخرى حدوث هزات زلزالية تشبه تلك التي تحدث على سطح الأرض. وبخلاف أن كتلته تساوي نحو ثمن كتلة الأرض؛ ومن ثم تبلغ قوة الجاذبية على سطح القمر سدس الموجودة على سطح الأرض، يبدو أن الاختلاف الوحيد الموجود بين القمر والأرض هو غياب أي صورة للحياة على الإطلاق. فمع غياب المياه وتراوح درجات الحرارة بين 100 درجة مئوية في أثناء النهار القمري، و−200 درجة مئوية في الليل، فلا يمكن لأي من التفاعلات الجزيئية التي تتكون منها الكائنات الحية على الأرض أن تحدث. فلم تبدأ الحياة قط على الأرض إلا لأنها كانت محاطة طول 4 مليارات سنة مضت بغلاف جوي من الغازات التي تعزل سطحها عن درجات الحرارة القصوى النهارية.
37
صعد أرمسترونج وألدرين على متن المركبة؛ فهل ستشتعل الصواريخ التي كانوا يحتاجون إليها لترك سطح القمر؟ إن لم تشتعل، فإنه سيحكم عليهم بالموت السريع بمجرد نفاد مخزونهم من الأكسجين، كما ستعمل درجات الحرارة المنخفضة في أثناء الليل القمري على تجميدهم حتى الموت. انتصرت التكنولوجيا الأمريكية، واستطاع أول رجلين على سطح القمر الانضمام لزميلهما والعودة بسلام إلى الأرض. سألت باز ألدرين مؤخرا إذا كانت هذه المهمة تمثل فعليا أكثر لحظة لا تنسى في حياته بأكملها، فجاء رده على الفور: «دون أدنى ذرة شك.» (4) الهجرات الحديثة
دعوني أنه هذا السرد القصير لسعي الإنسان وغزوه من حيث بدأت؛ بالحديث عن غريزة الهجرة لدى الإنسان، وستكفي أربعة أمثلة يوضح كل منها حركة مجموعة مترابطة من البشر في العصور الحديثة.
إن الغجر، الذين يوجد انطباع خاطئ بأنهم جاءوا من مصر، نشئوا فعليا في شمال الهند. ولغتهم الرومانية، التي سميت بهذا الاسم أيضا بسبب إقامتهم لفترة طويلة في رومانيا، مشتقة من اللغة السنسكريتية؛ ومن ثم تقع ضمن مجموعة اللغات الهندوأوروبية. إنهم في الأصل رحالة وتحركوا تدريجيا نحو الغرب إلى أوروبا وشمال أفريقيا، حتى إن بعضهم وصلوا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية. بدأ تجولهم على الأرجح كمتتبعين لمعسكرات الجيوش الهندية؛ فربما كانت الحرف التي ما زالوا يمارسونها حتى يومنا هذا، مثل تجارة الخيول وصنع الأدوات المعدنية ونسج السلال ونحت الأخشاب، مفيدة للجيش في أثناء تحركه. هناك أيضا الموسيقى التي يعزفونها. لتأثرهم برقص الموريش، الذي كان مشتقا في حد ذاته من شمال الهند، أنشأ الغجر الذين عاشوا في إسبانيا في القرن الخامس عشر أسلوبا حزينا لكنه جريء، أصبح معروفا باسم الفلامنكو (بمعنى فلمنكي، تسمية أخرى مغلوطة). كان لديهم سبب للحزن؛ فكانوا يتعرضون دوما، مع المورسكيين، للاضطهاد على يد «حاكميهم الأكثر التزاما بالكاثوليكية»، فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى ملوك إسبانيا. كان الاضطهاد عاملا مميزا في رحلات الغجر على مدى معظم تاريخهم؛ فقد تمكن النازيون من إبادة نصف مليون منهم بين عامي 1933 و1945، ومنذ ذلك الحين وهم مطاردون في دول مثل رومانيا، أولا من الرئيس تشاوشيسكو ثم من خلفائه. ومع ذلك فقد حافظوا على هويتهم؛ فلم يقلل تفرقهم عبر القارات من قيم الأخوة لديهم. ومثل المجموعات الأخرى التي سأتحدث عنها، كانوا لا يسعون إلا إلى السماح لهم باتباع أساليبهم التقليدية.
في القرن السابع عشر قررت مجموعة من المزارعين الهولنديين الهجرة إلى جنوب أفريقيا من أجل الهروب من الاضطهاد الديني الذي تعرضوا إليه في موطنهم؛ فكانوا يؤمنون بعقيدة إصلاحية بشدة وبروتستانتية سميت على اسم جون كالفن، رجل الدين الفرنسي الذي أسس الحركة الإنجيلية المشيخية في جنيف في منتصف القرن الماضي. استقر البويريون، كما أصبح يطلق عليهم (الكلمة الهولندية التي تعني مزارعين)، على الساحل الشرقي لما يعرف حاليا بجنوب أفريقيا في عام 1652. لحق بهم في وقت لاحق أنصار كالفن من ألمانيا وفرنسا، رغم أن لغتهم - الأفريكانس - ظلت هولندية في الأصل. في البداية تزوج البويريون داخليا من الكويكوي (الهوتنتوت)، الذين أجبروهم فيما بعد على ترك أراضيهم واستخدموهم فقط كعمال. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر انطلقت مجموعة من الأفارقة من أصل أوروبي، كما أصبح يطلق على البويريين، في هجرة أخرى شمالا إلى الداخل، وكان هدفهم الهروب من تدخل البريطانيين الذين أقاموا مستعمرة في المنطقة نفسها ، التي عرفت في هذا الوقت بمستعمرة كيب، في عام 1806. في أثناء هذه «الرحلة الكبرى» لم يترددوا في ذبح أي سكان أصليين في طريقهم؛ ففقد 3 آلاف فرد من قبائل الزولو حياتهم في «معركة نهر الدم». وصل المهاجرون إلى ترانسفال؛ حيث أقيمت العاصمة بريتوريا في النهاية على يد مارتينوس بريتوريوس. انتصروا في بعض المعارك ضد البريطانيين، لكنهم خسروا معارك أخرى، أشهرها حرب البوير الثانية في عام 1902. استمرت كراهية الأفارقة من أصل أوروبي لأصحاب الأصول الأخرى الذين يعيشون في محيطهم. وفي قمة كراهيتهم للأجانب، عقب انتخاب الحزب الوطني اليميني في عام 1948، مارس هؤلاء الأفارقة من أصل أوروبي التمييز ضد كافة غير البيض بحماس ديني حقيقي. ومع ذلك يظل معظم الأفارقة من أصل أوروبي حتى يومنا هذا مسيحيين مخلصين. فمع تحولهم من مضطهدين إلى مضطهدين،
38
ما زالوا يحتفظون ببعض الروابط والقيم التي وحدتهم على مدار 350 عاما.
في عام 1830 أسس جوزيف سميث كنيسة يسوع المسيح لقديسي اليوم الآخر في نيويورك. استلهم سميث الفكرة من وحي إلهي، وادعى أنه عثر على كتاب مورمون المفقود، الذي يصف هجرة مجموعة من اليهود إلى أمريكا الشمالية قبل نحو 600 سنة من مولد المسيح، ويعتبر أتباعه، المورمون، أنفسهم ورثة هذه المجموعة من الناس. كان سميث أيضا يعظ بتعدد الزوجات بوصفه أسلوبا للحياة.
39
وفي عام 1847 قرر خليفته، بريجهام يونج،
40
بوصفه زعيما نقل قاعدتهم غربا بحثا عن صهيون الخاص بهم. تبعه 5 آلاف مورموني في رحلة عبر مئات الأميال لمنطقة لم تكتشف إلى حد كبير. عندما وصلت الرحلة الاستكشافية إلى بحيرة مالحة كبيرة فيما يعرف حاليا بيوتا، علم يونج أنه عثر على الوطن الروحي للمورمون، فبنى كنيسة عظيمة ظلت مكان عبادتهم المركزي. والمورمون طائفة ملتزمة تنتشر حاليا في معظم أنحاء القارة الأمريكية وأبعد منها؛ فيقال إن الكنيسة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بها أكثر من 5 ملايين فرد، وثمة عدد مماثل في الخارج. وهم يمارسون ما يعظون به (فلا يوجد لديهم رجال دين)؛ فهم يساعدون بعضهم، ويتبرعون بجزء من دخلهم إلى الكنيسة (بنسبة مرتفعة تصل إلى 15٪)، كما يقومون بأعمال تبشيرية. ظهرت كثير من الحركات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأحد الأمثلة عليها كنيسة المسيح العالم، التي أسستها ماري بيكر إيدي في بوسطن في عام 1879؛ فيوفر مناخها المتقبل للأفكار المبتكرة مكانا خصبا لازدهار الطوائف الدينية.
أقيمت دولة إسرائيل في عام 1948؛ فقد سعى الصهيونيون لإقامة وطن لليهود لسنوات عديدة، ونجحوا جزئيا في عام 1917، عندما أعلن وعد بلفور فلسطين بوصفها وطنا قوميا لليهود. أقول «جزئيا» لأن فلسطين كانت ولاية تحت الحكم البريطاني العام طوال الأعوام الثلاثين التالية. هاجر ملايين اليهود (4,5 ملايين بين عامي 1948 و1994) إلى إسرائيل. لم يكن سببهم هو الحماس الديني، ولا تجنب الاضطهاد بالدرجة الأولى، رغم أنه بالنسبة للذين هاجروا من أوروبا كان الاضطهاد بالتأكيد الدافع الرئيسي. كان السبب المشترك للهجرة أمرا آخر؛ الرغبة في الحصول على نوع من الهوية والانتماء، في حياة يمكن لليهودي أن يقول فيها بصدق إنه يعيش في بلده. لم يخل سعي هؤلاء البشر من الصعاب؛ تمثلت في التخلي طوال الوقت عن وظائف مجزية في بيئة مريحة من أجل بدء الحياة كعامل في مزرعة، أو كمجند في جيش في حالة حرب، أو كمدني يواجه خطر التفجير يوميا. إن القاسم المشترك مع الغجر أن اليهود أيضا تعرضوا للاضطهاد من فرديناند وإيزابيلا، وعانوا من الإبادة على يد النازيين في أوروبا (توفي منهم 6 ملايين شخص).
كان بإمكاني استخدام أمثلة أخرى على الهجرات الحديثة، مثل الهوجونوتيون الذين تعرضوا للاضطهاد من حين لآخر طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد حكامهم الفرنسيين بسبب التزامهم بالبروتستانتية، والمليون أيرلندي الذين تركوا وطنهم في عام 1845 عندما فسد محصول البطاطس بسبب آفة زراعية، والعدد الهائل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب اضطهاد الحكام البريطانيين بسبب اتباعهم للكنيسة المشيخية. كان بإمكاني الإشارة إلى هجرات الجامايكيين إلى بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وإلى طرد الآسيويين خارج أوغندا على يد عيدي أمين في عام 1971، وإلى الفيتناميين الذين هربوا من بلدهم عقب سقوط مدينة سايجون في يد الفيت كونج في عام 1975، وإلى المهاجرين من الصين وشرق أوروبا وشمال أفريقيا إلى غرب أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة (لأسباب اقتصادية وسياسية على حد سواء). إلا أن الأمثلة الأربعة التي اخترتها توضح بالقدر الكافي وجهة النظر التي أريد التعبير عنها؛ أن بحث الإنسان عن حياة أفضل لا ينسحب على الأفراد فحسب، بل ينسحب عادة على مجموعة مترابطة من الناس تدفعها قيم مشتركة. أخرج السعي أولا الإنسان من أفريقيا منذ مليون سنة، ويستمر في تحريكه من بلد لأخرى أمام أعيننا.
هوامش
الفصل السادس
السلم: المحن والإنجازات
دعوني أبدأ بتشبيه لتوضيح كيف أدى تعطش الإنسان لطرق جديدة كي يعيش بها حياته، وما نتج عن هذا من إنجازات، إلى ظهور الحضارات والثقافات. إنه مفهوم بسيط؛ السلم، فمع كل اختراع متعاقب، سواء كان تقدما تكنولوجيا أو شكلا أفضل للحكم، يصعد الإنسان درجة على السلم. وهذه ليست خطوة فردية، بل مجتمعية؛ فربما تكون أذكى شخص وأكثر شخص مبتكر في العالم، لكن إذا كنت تعيش في عزلة تشبه عزلة الناسك على قمة جبل أو في كهف على شاطئ المحيط، فإن إبداعك لن يساعد أحدا، بل إن أحدا لن يلحظه. فحتى تحدث حكمتك تأثيرا لا بد من التعبير عنها داخل مجتمع يتقبل أفكارك، ويمكنه دمج إسهامك في نمط حياته. يجب أن يكون للمجتمع حجم معين، فأسرة واحدة لا تكفي، لكن 100 أسرة تبدأ في تشكيل كتلة حرجة؛ فهي تستطيع تحقيق الإنجازات. تحدثت في الفصل الثاني عن التنوع الحيوي في البشر، وأشرت إلى وجود خليط من المهارات بين مجموعة من 100 شخص مثلا؛ فبعضهم سيكون أكثر ذكاء وآخرون أكثر إصرارا، وبعضهم سيكون أفضل في الصيد وآخرون في صنع رداء أو إناء، وبعضهم سيكون مناسبا أكثر للقيادة بينما يكون آخرون أفضل في الاتباع. إذا تخيلنا أن كل فرد من هؤلاء جزء من أسرة، فسيصبح لدينا 100 أسرة، تكون مجتمعا قادرا على التقدم خطوة أو اثنتين أعلى السلم.
منذ 10 آلاف سنة حل المزارعون محل الصيادين جامعي النباتات في كثير من مناطق العالم؛ خاصة في منطقة «الهلال الخصيب» في الشرق الأوسط، التي تمتد من المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات في العراق حاليا في الشمال حتى الروافد العليا لنهر النيل في الجنوب.
1
تؤدي الزراعة إلى حياة أكثر استقرارا؛ فيزيد احتمال بقاء حديثي الولادة على قيد الحياة، ونتيجة لهذا يزيد حجم المجتمعات، رغم أن الاقتراب كثيرا من الحيوانات قد يكون له تأثير ضار على الحياة من خلال نقل الأمراض المعدية.
2
أما الحجة المضادة، التي تقول إن زيادة الأعداد أدت بالإنسان إلى ترك حياة الترحال والتحول للزراعة من أجل توفير الطعام للأسر المتنامية، فهي أقل إقناعا؛ فهل يمكنك التفكير في مثال واحد لاستجابة النفس البشرية للزيادة السكانية بعلاج جذري؛ مثل التدخل في الطبيعة بإكثار بذور النباتات الصالحة للأكل، وترويض الحيوانات للاستخدام المنزلي؟ لا تعتبر حبوب منع الحمل مثالا جيدا؛ إذ كان المستفيدون من اختراعها منذ 40 عاما يتمركزون في أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث لا يمثل حجم السكان مشكلة. وأثبتت تجربة استخدامها في الدول المكتظة بالسكان مثل الهند فشلها حتى الآن، وفي الصين اتبعوا حلا أسهل لاستمرار التحكم في عدد السكان؛ تمثل في التخلص من الطفل الثاني. أيا كانت أهداف اختراع الزراعة، فإنها مكنت المجتمعات من الوصول إلى الكتلة الحرجة التي عرفناها مسبقا. أنا لا أقول إن أول مليوني سنة من وجود الهومو على سطح الأرض لم تشهد أي تقدم؛ فقد تعلم أهمية النار، وصنع أدوات بسيطة. وبعد ظهور الهومو سيبيان منذ نحو 140 ألف سنة، بدأ أخيرا يزرع الأرض. كانت هذه كلها تطورات مهمة، عدة خطوات إلى أعلى سلم الإنجازات، لكن ظهورها كان بطيئا مقارنة بالإنجازات التي تحققت على مدى قرون منذ نحو 6 آلاف سنة فصاعدا، من بناء القرى والمدن، وصياغة القوانين، واختراع الكتابة، ونشأة الفن. تمثل كل هذه الأشياء جودة الحياة الدائمة التوسع؛ فمن خلال الدمج بين البراعة اليدوية والكلام والوظيفة الدماغية المتطورة تمكن الإنسان - داخل المجتمع المناسب - من الصعود عدة درجات أعلى السلم؛ فقد صعد أعلى من أي من أسلافه. في الواقع لا توجد أدلة تقريبا على أن الشمبانزي، أو أيا من الحيوانات الأخرى، تصعد السلم على الإطلاق؛ فأسلوب حياتها يتغير تغيرا طفيفا من جيل لآخر، من المحتمل أنه لم يتغير كثيرا على مدار 5 ملايين سنة مضت.
أريد التحدث الآن عن مفهوم آخر يهدف إلى شرح سبب تفوق بعض المجتمعات في بناء الحضارات
3
أكثر من غيرها؛ أن لديها قدرة أفضل في صعود سلم التقدم الثقافي. اخترع هذا المفهوم منذ نصف قرن المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي. لا يوجد وقت لدى طلاب العلم في عصرنا الحالي لوجهات نظر توينبي؛ فهي ليست «عصرية» بما يكفي، وأعترف بأن تحليل توينبي للحركات التاريخية الحديثة، مثلا على مدى الألف سنة الأخيرة، ليس مبسطا، لكني أجد تحليله للأحداث التي نتحدث عنها هنا، خاصة تلك التي حدثت تقريبا بين 4000 قبل الميلاد و1000 ميلاديا، التي ولدت خلالها الحضارات الأولى، مثيرا للاهتمام، وعليك أن تحكم بنفسك. إن الفرضية بسيطة، وتقضي بأن المجتمعات تستجيب لتحدي المحنة أفضل من استجابتها لفرصة الحياة السهلة. (1) تحدي المحنة
عند التفكير في مصير أسلافنا، الذين جابوا أفريقيا وأوروبا وآسيا ووصلوا إلى أستراليا وجزر المحيط الهادئ، وشقوا طريقهم من شمال أمريكا إلى جنوبها - ويطلق المؤرخون على هذا مصطلح «تجول القوم» - يتبادر إلى الذهن سؤال بديهي: ما الذي أدى إلى ظهور مجتمعات متطورة في بعض أجزاء من العالم دون الأجزاء الأخرى؟ لماذا في بلاد الرافدين (العراق حاليا) ومصر، وفي الصين والهند، وفي اليونان (كريت على وجه التحديد)، وفي أمريكا الوسطى (شبه جزيرة يوكاتان تحديدا)، وليس في شمال أوروبا، أو في وسط أفريقيا وجنوبها، أو في أستراليا أو أمريكا الشمالية (شكل
6-1 )؟ توجد في الأساس ثلاث وجهات نظر، أولها تتعلق ب «العرق».
يشير هذا ضمنيا إلى أن بعض مجموعات الهومو سيبيان كانت أكثر ذكاء وتنظيما إلى حد ما من غيرها. يوجد اعتقاد، يشيع ترويج المنحدرين من أصل أوروبي له، أن بعض الأعراق - كما تحددها الخصائص الجسدية مثل لون البشرة - أقل حظا في المهارات العقلية من غيرهم. ومع ذلك لا توجد أدلة علمية إطلاقا على ارتباط الصفات الجسمانية بصفات دماغية مثل الذكاء؛ ومن ثم تورثها على نحو متلازم. على العكس من ذلك، أوضحت في أوقات كثيرة أن الأفراد، وليس المجتمعات، هم الذين يتفاوتون في صفات مثل البراعة الذهنية. بالإضافة إلى هذا، بما أن المايا في أمريكا الوسطى والإنكا في بيرو، الذين أقاموا حضارات مزدهرة يرتبطون بالهنود الأمريكان في أمريكا الشمالية وجزر الكاريبي، الذين لم يتطوروا كثيرا إلى أبعد من إقامة مستعمرات قبلية، فإن افتراض أن العرق يحدد التأسيس الناجح للحضارات يبدو غير موثوق فيه. تنشأ المعضلة نفسها مع الثقافة المينوية في كريت، مقارنة بالحياة البسيطة التي يعيشها أمثالهم في أماكن أخرى من حوض البحر المتوسط. صحيح أن اليونانيين في أرض اليونان (المسينيين) أقاموا فيما بعد واحدا من أنجح المجتمعات على وجه الأرض، إلا أنهم سرقوا أفكارهم من المينويين، تماما كما أخذ الرومان أفكارهم من اليونانيين، وقلد بقية الأوروبيين في النهاية ثقافة روما، أو فرضت عليهم.
شكل 6-1: مولد حضارات أولية.
يمكن طرح هذه الحجج أيضا فيما يتعلق بالحضارات التي أقيمت في بلاد الرافدين ومصر، وفي الهند والصين. في كل حالة كانت بعض المجموعات تبني مدنا وتنشئ ثقافة متطورة، بينما لا يفعل هذا آخرون لهم الخلفية العرقية نفسها. يجب الانتباه هنا إلى أنني أتحدث عن الحضارات البدائية التي نشأت منعزلة، في ظل غياب التواصل مع أي ثقافة موجودة. وكما يمكن تتبع الحضارة المسيحية في أوروبا إلى المينويين، مع مدخلات أيضا من ثقافات مصر وبلاد الرافدين، ترجع جذور الحضارة الإسلامية إلى ثقافات بلاد الرافدين ومصر، مع مدخلات أيضا من الحضارة الرومانية في هذا الوقت. وعلى النحو نفسه نشأت ثقافات كوريا واليابان من حضارة الصين،
4
وثقافة الأزتيك من حضارة المايا. توجد مدرسة فكرية تنسب نشأة إمبراطورية جوبتا وظهور الهندوسية منذ نحو 1600 سنة إلى تأثير السومريين في بلاد الرافدين ومن بعدهم تأثير اليونانيين، لكن يرى معظم الهنود أن الإمبراطورية الماورية التي تأسست قبل هذا بسبعمائة سنة، ووصلت إلى أوجها تحت عهد أشوكا، تمثل استمرار حضارة نشأت في وادي نهر السند. إن الفكرة التي أريد التعبير عنها أن الثقافات البدائية نشأت مستقلة، بجانب المستعمرات البدائية التي عاشت فيها المجموعة العرقية نفسها، ولم يحدث إلا فيما بعد كثير من الاقتباس والتبادل للأفكار بين مجتمعات لها خلفية عرقية مشابهة.
إذن ليس العرق هو السبب. تعتمد التفسيرات الأخرى لظهور حضارة في جزء من العالم دون الآخر على نوع البيئة؛ وتختلف فقط في كونها مناقضة تماما لبعضها؛ فتقترح الأولى أن البيئات المناسبة؛ الوادي الخصب لنهر النيل في مصر، والمنطقة الخصبة بين نهري دجلة والفرات في بلاد الرافدين، وضفاف النهر الأصفر في الصين، والغذاء الوفير من البحر في كريت؛ هي التي أدت إلى حياة مستقرة وإلى ظهور مجتمعات مستقرة، فانتقل البشر ببساطة إلى حيث بدت الحياة سهلة، واستقروا في هذه الأماكن. لا يمكنني إنكار أن الانتهازية واستغلال موقف موات صفة بشرية محضة، لكنها أيضا، مثل البحث، إحدى الصفات التي تميز جميع الكائنات الحية؛ فتستغل النباتات بيئة مناسبة وكذا الجراثيم؛ فتتكاثر الأخيرة بسرعة داخل إنسان وظيفة جهازه المناعي مختلة. لكن يوجد جانب سلبي لهذا؛ فالبكتيريا التي تتطفل على الحيوانات، مثل البكتيريا المكورة العنقودية والبكتيريا العقدية - التي تسبب كثيرا من الأمراض التي تصيب الإنسان - أصبحت معتمدة كثيرا على عوائلها؛ بحيث فقدت القدرة على النمو في أي مكان آخر؛ فاحتياجها إلى عناصر غذائية معدة من قبل أكبر بكثير من حاجة الإنسان؛ فمن بين عشرين نوعا مختلفا من الأحماض الأمينية المطلوبة لصنع بروتين، نستطيع نحن البشر صنعها جميعا عدا عدد قليل من الجلوكوز والأمونيا عبر عملية الأيض لدينا، وتحتاج البكتيريا المكورة العنقودية والبكتيريا العقدية إلى وجود كل واحد من هذه الأحماض الأمينية العشرين في وجبتها الغذائية.
ستذكرني بأنني قلت في فصل سابق إن بعض الجينات التي نحملها معنا هي باقية لدينا من أسلاف سابقة من وقت بعيد. لماذا إذن لم تحتفظ البكتيريا المكورة العنقودية والبكتيريا العقدية بجينات أسلافها، التي تتمكن من خلالها صنع جميع الأحماض الأمينية العشرين من الجلوكوز والأمونيا بنفسها؟ والإجابة أننا على مدار فترة طويلة بما يكفي من الوقت نفقد بالفعل جينات معينة. وعلى الأرجح، فإن السلف المشترك للنباتات والحيوانات الذي عاش منذ 3 مليارات سنة كان يتمتع بالقدرة على التمثيل الضوئي، فكان يستخدم الطاقة من الشمس لتحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى كربوهيدرات وأكسجين. أما نحن فقد فقدنا الجينات التي تحدد البروتينات الضرورية لتحقيق هذا التفاعل. كيف؟ عبر الانقراض التدريجي لبعض الأنواع القديمة، وتطور أنواع أخرى. تكون هذه العملية أكثر بطئا في الحيوانات منها لدى البكتيريا؛ فالإنسان يلد مرة واحدة تقريبا كل 20 سنة، أما البكتيريا المكورة العنقودية فتلد كل 20 دقيقة، وهو تفاوت يقدر بنحو 500 ألف ضعف. إذن، هل يوجد جانب سلبي لانتهازية الإنسان؟ على مدى النطاق الزمني الذي ظهرت فيه الحضارات - بضعة آلاف من السنوات على أحسن تقدير - يكون التغير الجيني طفيفا للغاية بحيث تصعب ملاحظته. هذا لا يعني أنه لا يحدث، لكن يكون تأثيره ضئيلا. ومن ناحية أخرى، لا يعني التغير في سلوك الإنسان بالضرورة تغيرا جينيا على الإطلاق؛ فالتغيرات في الملابس التي تحدثت عنها في فصل سابق ليس لها أساس جيني، ولا ظهور الثقافة.
5
من جهتي أعتقد في وجود جانب سلبي للانتهازية، تماما مثل جانبها الإيجابي، لدى الإنسان، سواء كان معرفا جينيا أم لا؛ فعلى المدى القصير تكون دون شك مفيدة، لكن على المدى الطويل تؤدي إلى الرضا بالوضع القائم، وهو قرين الخمول. استمع إلى الشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون الذي كتب في القرن التاسع عشر، على غرار ملحمة «الأوديسا» لهوميروس، يصف مجموعة من الصيادين الكادحين، الذين عثروا على جزيرة عليها أناس أصابهم الخمول بسبب أكل زنابق الماء:
اكتفينا من الحركة والإعياء،
وذعر البرية،
نتخبط في البحر المتلاطم
حيث يهيم فرس البحر ذو الأنياب.
هذا أجمل وأحلى،
يا رجال إيثاكا، هنا الملتقى،
في الوادي المزهر الصغير نتلكأ،
مثل آكل اللوتس، آكل اللوتس المصاب بالهذيان!
نحن سنأكل زهور اللوتس
التي في حلاوة قرص العسل الأصفر
في الوادي أحيانا
وعلى المرتفعات القديمة المقدسة،
ولا مزيد من الترحال
في الرغوة الفضية الصاخبة،
إلى الوطن الكئيب
على حافة البحر المالح،
إلى جزيرة إيثاكا الصغيرة، بعد نهاية اليوم.
لن نرفع بعد الآن المجداف المتكسر،
ولن نبسط بعد الآن الشراع المرهق،
ومع آكلي اللوتس السعداء شاحبي البشرة
سنبقى في الوادي الذهبي،
في أرض اللوتس، حتى نفاد اللوتس،
لن نتجول بعد الآن.
أنصت! كم جميل ثغاء النعاج ذوات القرون
على المنحدرات المنعزلة،
ووثب السحلية في بهجة
وانهمار المياه البيضاء ذات الرغوة.
إن شجرة الصنوبر الداكنة تنتحب،
وتعترش الكرمة اللدنة،
ويرقد الشمام الثقيل
على طول الشاطئ الطويل،
يا سكان جزيرة إيثاكا، نحن لن نتجول بعد الآن،
أكيد أكيد أن النوم أحلى من الكد،
والبر أفضل من الكدح في المحيط والتجديف بالمجاديف.
يا سكان جزيرة إيثاكا، نحن لن نعود بعد الآن.
6
يكون المجتمع الذي يعيش على الانتهازية أقل ابتكارا وأقل تقدما من المجتمع الذي يواجه التحديات على نحو مباشر؛ فقد أثبت نشاط الصيد القاسي، على المدى الطويل، أنه أكثر نفعا للإنسان من جمع والتقاط الطعام.
إذن فإن الافتراض الثاني الخاص المتعلق بالبيئة هو أن تحدي الظروف الصعبة هو الذي يخرج الإبداع لدى الإنسان، وسعيه للعثور على طرق لترويض البيئة لأوامره، فكانت المحن، وليس الرخاء، هي التي أدت إلى ظهور الحضارات. حتى في وقت مبكر من التاريخ، منذ 50 ألف سنة، ألم يكن الإنسان يستجيب لتحد عندما انطلق من المكان المعروف حاليا بإندونيسيا وبدأ يجدف في اتجاه الشرق ليصل إلى سواحل غينيا الجديدة، التي كانت ترتبط في هذا الوقت بأستراليا بجسر أرضي؟ يعتبر وجود مجرى مائي عنصرا مهما في أي مجتمع؛ خاصة إن كان مجتمعا زراعيا، وحقيقة أن الحضارات السومرية والمصرية والهندية والصينية نشأت كلها على ضفاف نهر ليست مصادفة. إلا أن توينبي يشير إلى أن المراعي المجاورة لنهر النيل، وتلك الموجودة بين نهري دجلة والفرات، في الواقع مرت بفترة من الجفاف عقب نهاية العصر الجليدي الأخير، تحولت خلالها الأرض المحيطة بها من أرض عشبية إلى صحراء. ومع ذلك كانت هذه هي الفترة نفسها، منذ نحو 6 آلاف إلى 4 آلاف سنة، التي وصلت فيها الثقافات المصرية والسومرية (في بلاد الرافدين) إلى ذروتها.
حدث هذا لأن هذه المجموعات التي كانت تمتلك فيما بينها عزما كبيرا ودافعا قويا للبحث عن إجابات للتحديات الجديدة ، اختارت الانتقال من مراع في سبيلها إلى الاختفاء حول نهر دجلة ونهر النيل إلى مستنقعات الأنهار نفسها، التي تجنبتها شعوب لديها رغبة أقل في خوض المحن.
7
ومن خلال الحاجة إلى التكيف مع هذه المستنقعات، توصل المغامرون إلى طرق لصرف المياه وري محاصيلهم استمرت حتى يومنا هذا. أما الأقل ابتكارا فإما ظلوا حيث كانوا وماتوا، أو انتقلوا إلى مناطق بإمكانها الاستمرار في دعم حياتهم على الزراعة البدائية والصيد دون عناء كبير. لم يكن هؤلاء هم الذين بنوا أهرامات الجيزة أو مدينة بابل، ولم يكن هؤلاء هم الذين اخترعوا العجلة ولا الكتابة المسمارية، ولم يكونوا هم من صنعوا الحلي ولا الأوعية المصنوعة من الذهب، ولم يكونوا هم الذين حددوا نقاط البوصلة من مواقع النجوم.
ما التحديات التي تحتم على المستوطنين في وادي النهر الأصفر التغلب عليها؟ ربما كان التفاوت في درجات الحرارة مع تغير الفصول؛ الشتاء قارس البرودة في مقابل الصيف شديد الحرارة. لم تكن الشعوب الموجودة في الجنوب، في وادي نهر اليانجتسي الذي يظل فيه المناخ أكثر دفئا طوال السنة، بحاجة لمواجهة هذا التحدي، ويرى توينبي أن هؤلاء لم يكونوا مؤسسي الثقافة الصينية.
8
ومع ذلك، أصبحنا نعرف الآن أن المناخ في شمال الصين كان أكثر دفئا بدرجة كبيرة في العصر الحجري الحديث، لذلك ربما لعبت عوامل أخرى دورا. بالإضافة إلى هذا، منذ عصر توينبي، كشفت أعمال التنقيب في محيط حوض نهر اليانجتسي مواقع لمستوطنات في قدم تلك الموجودة على طول النهر الأصفر؛ ربما تمثل التحدي الذي واجه مؤسسيها في الفيضانات التي تحدث بانتظام على ضفاف نهر اليانجتسي الممتلئ بالماء.
ربما تكون الغابات الموجودة في سهول يوكاتان غنية بالموارد الطبيعية، لكن نموها بسرعة كبيرة طرح تحديا مستمرا يتمثل في تقليم أظافر الطبيعة؛ وذلك بتقليم الشجيرات وتقطيع الأشجار باستمرار من أجل الحفاظ على الممرات التي اختار المايا الاستقرار فيها. أما الذين عاشوا على المرتفعات - الذين أسسوا في النهاية إمبراطورية الآزتيك - فكانت حياتهم أسهل. فلم يؤسس أسلافهم حضارة بدائية، ولكنهم ظلوا صيادين ومزارعين بدائيين ، حتى استوعبوا في النهاية ثقافة أولئك الذين أسسوا مدينة تيوتيهواكان في الشمال، والمايا الذين بنوا مدينة بالينكي وتشيتشن إيتزا في الجنوب الشرقي. اضطر الإنكا في بيرو إلى مواجهة نوعين من التحدي؛ فعلى جبال الأنديز المرتفعة كان ثمة مناخ قارس البرودة وتربة فقيرة، وعلى طول الساحل كانوا يواجهون غيابا تاما لسقوط للأمطار وكانت الأرض مجرد صحراء، كحالها إلى يومنا هذا. ومع ذلك استطاعوا التغلب على كلا التحديين وأسسوا إمبراطورية استمرت طوال 300 عام.
في حالة الحضارة المينوية (وثمة من لا يعتبرونها حضارة بدائية على الإطلاق) فيصعب تحديد التحدي الذي فرضته الحياة على جزيرة كريت. تتمثل الحجة التي يعرضها أرنولد توينبي في أن التحدي كان قد حدث بالفعل عند استعمار الجزيرة، وتمثل في الواقع في البحر. وتشير الأدلة الإثنولوجية إلى أن المستوطنين لم يأتوا من أوروبا أو آسيا، ولكن من شواطئ شمال أفريقيا الأكثر بعدا؛ فيبدو أن جفاف المراعي لم يدفع مؤسسي الحضارة المصرية نحو مستنقعات النيل فحسب، لكنه أيضا حث مجموعة أخرى من الرجال، المستعدين لمواجهة تحد مختلف، إلى عبور البحر إلى جزيرة كريت.
من بين التفسيرات الثلاثة التي ذكرتها لظهور الحضارات البدائية - العرق أو البيئة الملائمة أو البيئة غير الملائمة - يتجه تفضيلي الشخصي كثيرا نحو التفسير الثالث.
9
إنه التحدي؛ تحدي المجهول، الذي له جاذبية خاصة لدى الإنسان؛ لأن البحث جزء أساسي من طبيعته؛ فهو يبحث عن طرق للتغلب على المحنة، وللنجاح حيثما فشل أسلافه. وقد رأينا أن رغبة الإنسان الفطرية في الاستكشاف أدت إلى استقراره في جميع أنحاء العالم، بداية من التندرا المتجمدة في ألاسكا وكندا حتى الصحراء في أفريقيا وآسيا، ومن سهول سيبيريا حتى غابات بورنيو والبرازيل. لم يغامر أي من الرئيسيات الأخرى بالخروج من بيئة أسلافه، ولو حدث هذا، لمات من البرودة أو الحرارة، أو من نقص الطعام والماء. فإن إبداع الإنسان وبحثه عن طرق للتغلب على القيود المفروضة عليه من البيئة، هو الذي مكن الإنويت من ارتداء ملابس والحياة في أكواخ الإسكيمو في درجات حرارة تنخفض إلى أقل من −40 درجة (على هذا النطاق تتطابق الدرجات المئوية والفهرنهايتية بعضها مع بعض)، ومكن البربر من التكيف مع الجفاف والحرارة في الصحراء عبر رصد كل نقطة مياه متاحة والحفاظ عليها. ومع ذلك لم يقم الإنويت أو البربر حضارة؛ فإذا كان التحدي قاسيا للغاية، فلن تتمكن المجموعة ببساطة من التغلب عليه. إن التوازن بين التحدي والقدرة على التغلب عليه هو أمر دقيق للغاية. لقد استبعدت الفروق في الخلفية العرقية بوصفها سببا في ظهور الحضارات، لكني أقر بأن مدى إبداع الإنسان، وسعيه للتوصل إلى طرق جديدة للحياة، أمر نسبي؛ فيوجد لدى بعض الناس أكثر من غيرهم. ومن الواضح أن جميع مجموعات الإنسان العاقل تمتلك غريزة استكشافية، بالإضافة إلى القدرة على الاستفادة من هذه الصفة من خلال استخدام اللغة وحركات اليدين، أكثر من أي من الرئيسيات الأخرى.
عودة إلى السلم؛ نقول إنه ليس كل المجموعات تصعد السلم، فبعضها يظل في مكانه، وأحيانا ينزلق أكثر إلى الأسفل. أشرت في الفصل السابق إلى البولينيزيين سكان جزيرة الفصح. فبعدما ارتقوا السلم للوصول إلى هذه الجزيرة في المقام الأول، ثم لبناء أروع تماثيل على الإطلاق، سقطوا إلى الأسفل عدة درجات عندما استنفدوا كافة مواردهم دون التفكير في الغد. هل كان هذا لأنهم، بسبب العزلة، لم يتعرضوا لتحد كاف من الدخلاء؟ وهل كان هذا أيضا السبب في أن حضارة المايا داخل الغابات المطيرة الكثيفة - شهدت أوج ازدهارها بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين - انهارت على مدار سبعة قرون؟ ثمة سبب آخر للانحدار أسفل السلم وهو عكس الخمول؛ فالدمار قد يكون خارجيا أو داخليا؛ فالإمبراطورية الرومانية، على الأقل في الغرب، انهارت بسبب اضمحلال داخلي جعلها غير قادرة على صد الغزوات المتتالية من الفانداليين والقوط والفرنجة. كان أحد العوامل المساهمة ظهور القيم المسيحية، التي أثبتت عدم توافقها مع حكم الإمبراطور (تعلم الحكام الذين جاءوا فيما بعد، سواء في إيطاليا أو إسبانيا، جيدا كيفية التغلب على مشكلة التواضع والتسامح في الدين المسيحي؛ فكانوا يتجاهلونها). ربما كان من بين العوامل الأخرى، المرض على سبيل المثال، توجد أدلة على أن الملاريا جاءت إلى جزيرة سردينيا، وانتقلت منها إلى البر الرئيسي على يد الفاندال المغيرين، الذين أحضروا البعوض المصاب معهم من سواحل شمال أفريقيا.
10
أما باقي الإمبراطورية في الشرق، فرغم تراجع تأثيره وحجمه، فقد ظل موجودا لمدة ألف سنة أخرى قبل اجتياح العثمانيين له في النهاية. وفي عصرنا الحالي، يظهر مثال الصين تحت حكم ماو تسي تونج كيف يمكن لإبادة الثقافة من الداخل تدمير حضارة. لا تظل كثير من المجتمعات على حالها لفترة طويلة؛ فكما ترتفع قيمة سوق الأسهم وتنخفض، لكن نادرا ما تظل ثابتة، فإن مصائر الثقافات إما تتحسن أو تتدهور، لكنها نادرا ما تظل كما هي. وفي النهاية، ألا تكون قيمة سوق الأسهم مجرد انعكاس للنجاحات والإخفاقات المادية؟ مجرد خطوات أعلى السلم المالي أو أسفله؟
إن سلم الإنجازات نفسه ليس ثابتا؛ فهو سلم متحرك - سلم دوار - ويتحرك في اتجاه واحد فقط، إلى الأعلى؛ فالحضارات قد تتدهور، لكن هذا يكون تراجعا مؤقتا. فالعرف الصيني المتمثل في التفاخر بالمهارة اليدوية والمعرفة ربما توقف لجيل أو اثنين في النصف الثاني من القرن العشرين (مع فقدان نحو 55 مليون مواطن صيني بريء حياتهم بسبب المجاعة أو الانتحار، وهو عدد أكثر من ضحايا ستالين وهتلر معا، خلال قفزة ماو العظيمة إلى الأمام)، لكنها لم تفقد وأعيد إحياؤها في أثناء تأليفي لهذا الكتاب. ومعظم الناس على وجه الأرض حاليا يعيشون حياة أفضل مما كان عليه الوضع منذ 5 آلاف سنة. وإذا كان سكان الأحياء الفقيرة المعدمين في مكسيكو سيتي أو مومباي (بومباي سابقا) يعيشون حاليا حياة أسوأ من التي عاشها أجدادهم؛ فإن هذا لأن محاولتهم لتحسين جودة حياتهم بالانتقال من القرية إلى المدينة بحثا عن عمل ثبت أنها خاطئة؛ فلم تكن توجد وظائف. كان عنصر السعي موجودا، لكنهم ساروا في الطريق الخطأ. (2) توريث القدرات البشرية
إذا كانت المهارات التي اكتسبتها الحضارات السابقة لا تفقد ، فهل هذا يعني أننا نزداد ذكاء بمرور الوقت؟ نعم؛ فطالما أن الذكاء يشير إلى قدرتنا على بناء منزل أو سد أو زورق أو طائرة أو صاروخ أفضل، أو قدرتنا على التواصل مع بعضنا عبر الهاتف أو لا سلكيا أو عبر الإنترنت. إن التقنية التي يتوصل إليها أحد الأجيال تعد نقطة الانطلاق للجيل التالي؛ فالمعرفة هي أصل في زيادة مستمرة، ولأن مزيدا من الناس يشاركون تباعا في السعي، لأن التقنية الواحدة تنتج عنها عدة تقنيات جديدة، فإن اكتسابنا للمهارات يزيد بمعدل أسي. وقد اكتسبنا تقنيات أكثر في المائة سنة الأخيرة أكثر مما حدث في السنوات العشرة آلاف السابقة عليها. لا يغير أي نوع آخر بيئته على هذا النحو؛ فنمط حياة الحيوانات من حولنا هو نفسه إلى حد كبير كما كان منذ مليون سنة. الأمر الذي لا يتغير هو قدرة الإنسان على اختراع شيء جديد؛ قدرته الذهنية. فيمتلك الأفراد، كما أكدت، قدرة ذهنية بدرجات متفاوتة، لكن تظل هذه الدرجات نفسها على مدى آلاف الأجيال.
أما الصفات الجسمانية مثل شكل الوجه ومرونة الأطراف، والصفات العقلية مثل الحالة المزاجية أو البراعة، أو الطيبة أو القسوة، والنزعة للاستكشاف أو صنع أعمال فنية، فتتحدد جميعها بشبكة من الجينات المتفاعلة وامتدادات الدي إن إيه الأخرى. تحدد هذه معا مجموعة من عدة بروتينات تعمل في تناغم. وتتأثر النتيجة النهائية بالبيئة أيضا؛ بعوامل مثل نظام غذائي صحي من ناحية، أو مستوى غير صحي من التلوث أو إصابة جرثومية من ناحية أخرى. يبدو أن الذكاء، مثلا، تحدده جيناتنا والبيئة بالقدر نفسه تقريبا. كذلك يبدو أنه لا يتغير كثيرا مع التقدم في العمر؛ فمعدل ذكائنا في السبعين يعادل القدر نفسه الذي كنا عليه في السابعة (تماما كما تظل شخصيتنا - ضعيفة أو قوية، كاذبة أو صادقة - نفسها طوال حياتنا). إن معرفتنا - ما نتعلمه - هي التي تزيد مع التقدم في العمر، تماما مثلما تكون المهارات التي تكتسبها الثقافات المتعاقبة تراكمية، كما أن قدرتنا على استخدام هذه المعرفة؛ على نحو جيد أو سيئ، وبسرعة أو ببطء، لا تتغير، تماما كما لا تتغير قدرة المجتمعات على صنع ثقافة أو رغبتها في تدميرها. إذا كان الذكاء لا يتغير مع التقدم في العمر، فإن هذا يعني أن التأثير البيئي - مثل التغذية والتلوث والإصابة بالأمراض - يحدث في سن مبكرة، على الأرجح في أثناء فترة الحمل. هذا ليس مثيرا للدهشة؛ فنحن نعلم أن معظم خلايا المخ تتجمع في سن الثالثة أو ما شابه. وفي أثناء فترة الطفولة اللاحقة يتشكل سلوكنا أكثر إلى حد ما بالعوامل البيئية؛ فتكون على الأرجح لمجموعات أقراننا التأثير نفسه الذي يلعبه والدانا. وبمجرد وصولنا إلى مرحلة البلوغ، نظل أذكياء أو أغبياء، أمناء أو مراوغين، عدائيين أو ودعاء، تماما كما كنا ونحن صغار. ولهذا فإن الرجال والنساء المبدعين الذين حققوا نجاحا في مجالهم - العلماء والكتاب الحاصلون على جائزة نوبل، على سبيل المثال - يواصلون العمل في السبعينيات والثمانينيات من عمرهم. لماذا يفعلون هذا؟ ألا يمكنهم الاعتماد على ما حققوه من نجاح؟ لا يمكنهم فعل ذلك؛ فالبحث عن أفكار جديدة، والرغبة في الإبداع تجري في دمائهم.
علينا أن نتذكر شيئا آخر؛ أن البيئة قد تؤثر في طريقة عمل الجينات، لكنها لا تغير تركيبها، إلا كما ذكرنا مسبقا على مدى إطار زمني يصل إلى عشرات الآلاف من الأجيال، وبطريقة عشوائية تماما؛ فالإنسان الذي يعيش على ارتفاع كبير ربما يتكيف معه بمرور الوقت عن طريق زيادة كمية الهيموجلوبين التي يفرزها،
11
لكن هذه القدرة لا تورث إلى ذريته، فيكون عليهم التكيف مرة أخرى منذ لحظة مولدهم. بالمثل لا تنتقل الحياة في ثقافة غنية فكريا إلى أطفال المرء؛ فربما تكون المعرفة تراكمية، لكن الصفات المطلوبة لتوليد هذه المعرفة أو الانتفاع بها لا يمكن استيعابها ونقلها إلى الجيل التالي. إذا كان الأمر كذلك، فربما كان أحفاد سقراط وأفلاطون وأرسطو وأرشميدس شكلوا حتى الآن دولة للعباقرة؛ ويوضح قضاء بضع ساعات في مطار أثينا أو في إشارة مرورية في المدينة مدى حمق هذا الافتراض. ورغم أن الذكاء يكون أحيانا سمة في العائلات - فهو على أي حال يتحدد جزئيا بعوامل وراثية - فإن خلط الجينات في كل جيل، بالإضافة إلى عوامل بيئية تجعل الذكاء صفة غير متوقعة؛ فلم يكن أي من أطفال داروين عبقريا،
12
وأعتقد أن هذا الأمر ينطبق على ابنة أينشتاين أيضا (وأنا واثق من أنها ستسامحني على هذه الملحوظة). من ناحية أخرى، نجد أن إيرين كوري، ابنة ماري كوري، فازت بجائزة نوبل في عام 1935 لاكتشافها نشاطا إشعاعيا من صنع الإنسان. لقد فازت والدتها بجائزتي نوبل؛ الأولى في عام 1903 (مع زوجها بيير كوري) على اكتشاف عنصر الراديوم، والثانية وحدها في عام 1911 على عزله. وفي عام 1915 اشترك ويليام براج مع ابنه لورنس براج في الفوز بجائزة نوبل على ابتكار تقنية تصوير البلورات بالأشعة السينية، التي اعتمد عليها توضيح التركيب الجزيئي الذي جاء فيما بعد. أظهرت لجنة نوبل بعد نظر مبهر في هذه الواقعة؛ إذ كرمت بعد 50 عاما مكتشفي بنية الدي إن إيه (فرانسيس كريك وجيمس واطسون وموريس ويلكنز)، والبروتينات (الميوجلوبين على يد جون كندرو، والهيموجلوبين على يد ماكس بيروتس، والإنسولين على يد دوروثي هودجكن)، وهي الاكتشافات التي تحققت كلها بسبب تصوير البلورات بالأشعة السينية.
ينطبق الشك نفسه بشأن انتقال الموهبة على الإبداع الفني؛ فقد تزوجت كوزيما ابنة المؤلف الموسيقي ليست من ريتشارد فاجنر، لكن لم يؤلف أي من ذريتهم - الذين ارتبط معظمهم بشكل أو بآخر بمهرجان بايرويت - فعليا مقطوعات موسيقية. من ناحية أخرى، ألف أربعة من أبناء يوهان سباستيان باخ مقطوعات موسيقية؛ حيث ألف فيلهلم فريدمان مقطوعات للأورج، تماما كما فعل أخوه الأكثر منه أعمالا كارل فيليب إيمانويل، أحد مبتكري أسلوب السوناتا والسيمفونية في الموسيقى، كما ألف يوهان كريستوف فريدريش موسيقى الحجرة وكونشيرتوهات وسيمفونيات، كما فعل يوهان كريستيان الأمر نفسه وأصبح معروفا باسم «باخ الإنجليزي»؛ فكان يعمل مايسترو لدى أسرة جورج الثالث، وقدم عزفا مميزا لسوناتا مع موتسارت (في الثامنة من عمره) في لندن.
لكن هل بالفعل التأثير الوراثي، وليس البيئي أيضا، هو الذي يفسر إنجازات الذرية؟ كان زوج إيرين كوري، جان-فريدريك جوليو، الذي حصل مناصفة معها على جائزة نوبل، مساعد ماري كوري، ولا بد أن كلا من جان-فريدريك وإيرين تأثرا كثيرا بوالدي إيرين وببيئة المعهد الذي كانوا يعملون جميعا فيه. كما كان براج الوالد والابن متعاونين مقربين، وعلم يوهان سباستيان باخ التأليف الموسيقي لأبنائه الأربعة جميعهم (بالرغم من عوامل التشتيت الأخرى المتمثلة في إنجاب 16 طفلا آخر، وتأليف أكثر من 600 كانون وكانتاتا وكونشرتو وفوجا وقداس وأوراتوريو ومقدمة موسيقية ومتتالية)، ولا يمكن وصف البيئة في منزل باخ بأي شيء آخر إلا أنها كانت موسيقية بشدة. ومن أجل إظهار علاقة وراثية واضحة بين العباقرة وذريتهم علينا البحث عن أمثلة ينفصل فيها الطفل عن والديه في سن مبكر ومع ذلك تظهر عليه صفات بارزة في الفلسفة أو العلم، في تحصيل العلم أو الفن. وللأسف لا يتبادر أي مثال إلى الذهن.
مرة أخرى، تتوزع الصفات التي تميزنا عن الشمبانزي بالتساوي بين كل البشر الموجودين في العالم. ربما يتفاوت لون البشرة وغيره من الصفات الجسدية بين المجموعات العرقية المختلفة، لكن لا توجد أدلة على أن الصفات الدماغية التي تحدثنا عنها تظهر بقدر كبير لدى بعض الأعراق أكثر من غيرها. فإن فرص العثور في أي مجتمع على شخص ذكي أو غبي، وعلى قائد أو تابع، وفنان أو مخرب، وشخص أمين أو مخادع، وعلى طاغية أو قديس، هي نفسها في أمستردام وأديس أبابا وأديلايد، وفي بوسطن وبوجوتا وبكين. كما أنها في عصرنا الحالي كما كانت تقريبا منذ 10 آلاف عام. ويتمثل الاختلاف في طريقة استخدام المجتمعات المختلفة لهذا الخليط من الصفات. سنتحدث في الفصلين التاليين عما يدعى الثقافة وجودة الحياة، لكن أولا سنستفيض قليلا في الحديث عن الموضوع الذي نتناوله الآن؛ أن صفات مثل العبقرية نادرا ما تنتقل إلى ذرية المرء، ونتحدث عن صفة القيادة. (3) الحكام
يوجد دائما داخل أي مجموعة من الحيوانات حيوان واحد يسيطر على الآخرين. يكون الحاكم بوجه عام الأقوى والأشرس بين الذكور، لكن أحيانا تكون أنثى، مثل حال قرود الفرفت أو الضباع. بالمثل، في الحشرات الاجتماعية، مثل الدبابير والنحل والنمل، تكون الملكة هي التي تحكم. تختلف السيطرة عن القيادة عند انتقال الحيوانات من مكان لآخر. وفي مجموعة من الرئيسيات ربما يكون الذكر القائد في المعركة، لكن تتخذ الأنثى دوما قرار متى يتحركون وإلى أين؛ هذا لأن العامل المقيد للإناث فيما يتعلق بنجاح عملية الإنجاب هو العثور على الطعام، بينما يكون بالنسبة للذكور العثور على أنثى. في 97٪ من كل أنواع الثدييات، لا تستثمر ذكور الرئيسيات وقتا في الاعتناء بذريتها، بل بدلا من ذلك تبحث عن إناث. قد تكون القيادة في مجتمع الحيوانات قصيرة الأمد تماما كما في مجتمع البشر؛ فعندما يفقد الذكر المهيمن داخل المجموعة عراكا مع منافس له، فإن الأخير يتولى القيادة. ومع تقدم القائد في العمر، يحل محله عضو آخر في المجتمع. يخرج القائد الجديد على نحو طبيعي، فيكون الأقوى والأكثر هيمنة، ولا يحدث اختيار الحاكم الجديد إلا في حالات قليلة للغاية. يوجد مثال على هذا في نظام التسلسل الهرمي بين الحشرات الاجتماعية؛ فعندما تموت ملكة النحل، يختار العمال خليفتها من خلال انتقاء الأنثى التي يرجح إنتاجها لأكبر عدد من الذرية (فالملكة هي الوحيدة المسموح لها بالتكاثر داخل خلية النحل). ومع ذلك لا يقع الاختيار أبدا على ذرية القائد ليخلف والده لمجرد انتسابه إليه. فالحيوانات تستفيد على النحو الأمثل من غريزتها؛ فصفات مثل القيادة نادرا ما ترثها الذرية. أما البشر، في مجتمعات في جميع أنحاء العالم، فقد اختاروا اتباع هذا المسار فحسب، من خلال اختيار أحد الأقارب المقربين - عادة المولود الأول - للحاكم السابق كي يخلفه. إلى أي مدى نجاح مبدأ التوريث هذا؟
خلال فترة ازدهار الثقافة اليونانية طوال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، عندما كان رجال مثل إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس وسقراط وديموقريطوس وأريستوفان وأفلاطون وأرسطو، يضعون قواعد الفلسفة والدراما الغربية، وعندما كانت أول جامعة في العالم (أكاديميا) في طور التأسيس، كان المواطنون في أثينا هم من يتولون حكمها. ويرجع أصل مبدأ الديمقراطية (حكم الشعب) - الذي أيده بريكليس طوال حياته - إلى هذه الفترة بالتحديد؛ وإذا كان الذين يتولون الحكم الأكثر قدرة، والأفضل تعليما، كان هذا أفضل. لم يكن يوجد عنصر التوريث في الخلافة في الحكم الأرستقراطي (حكم الأفضل) في هذا الوقت. فعلى العكس، تظهر إنجازات هذا العصر أن البيئة كان لها تأثير أكبر من القرابة في انتقال القدرات العقلية؛ فقد كان سقراط معلم أفلاطون، الذي علم بدوره أرسطو.
يمكننا أيضا ملاحظة كيف كان الحكم في الصين في هذا الوقت؛ فرغم أن الكلمة الأخيرة كانت دوما للإمبراطور، فقد كان الحكم يحدث في الأساس على يد بيروقراطية متعلمة؛ فحتى الجيش كان يأتي في المرتبة الثانية. ومنذ الوقت الذي لم تكن فيه الصين موحدة بعد تحت قيادة أسرة تشين في القرن الثالث قبل الميلاد، شكل الدارسون الذين تلقوا تدريبا في فن الإدارة نظاما للإدارة بالاستحقاق والكفاءة، اعتمد بموجبه الترقي بصرامة على الموهبة، وليس النسب؛ فكان نظام الاختبار الذي يحدث على أساسه اختيار الإداريين المستقبليين من أكثر الأنظمة صرامة على الإطلاق. وبالتأكيد أدى شكل الحكم هذا إلى استقرار الإمبراطورية واستمرارها على مدى 21 قرنا تالية.
حين ننتقل إلى العصر الروماني، نجد أن أعظم إنجازاته حدثت تحت حكم الجمهورية (تقريبا من 500 إلى 27 قبل الميلاد. ووقتها أصبحت كلمة «ملك» سبة). في أثناء القرن الأول الميلادي على وجه الخصوص وسعت روما حدودها عبر انتصارات يوليوس قيصر؛ فبدأت في إدخال النظام القانوني المستخدم حتى يومنا هذا في معظم أنحاء أوروبا، وكانت موطنا للخطباء أمثال شيشرون وللشعراء مثل فيرجيل. كانت الجمهورية يحكمها قنصلان ومجلس للشيوخ، لم تكن عضويته (900 عضو في هذا الوقت) مقتصرة على الأرستقراطيين أصحاب الأراضي (الأشراف)، ولكنها كانت مفتوحة أيضا لبعض العوام (عامة الشعب).
13
كان القادة مثل يوليوس قيصر يتلقون أوامرهم من مجلس الشيوخ، وكانوا يتصرفون وفقا لأوامره. وفي حقيقة الأمر، حين طلب من القيصر في عام 49 ميلادية التنازل عن القيادة، فإنه تجاهل الأمر، واتجه بجيشه جنوبا وعسكر به على الضفة الشمالية لنهر روبيكون بالقرب من جمهورية سان مارينو الحالية. وقد ألزم قيصر نفسه، بعبوره هذا المجرى المائي، بمجموعة أحداث ستحدد بقية حياته؛ فقد اختار دخول روما وحكمها بمفرده. استطاع تحقيق هدفه (فقد فعل هذا بوجه عام)، ورغم أنه حكمها كديكتاتور، فقد فعل هذا بحكمة وابتكار. وعند اغتياله بعد خمس سنوات، انتقلت السلطة إلى أوكتافيان، الذي تبناه القيصر كابن له؛ فلم تكن صلة قرابة أوكتافيان به أكثر من مجرد حفيد أخته. إن ممارسة تبني المرء قريبا بعيد الصلة وجعله ابنه - ومن ثم خليفته - توضح إدراك الرومان لضعف مبدأ التوريث. ورغم أن أوكتافيان أعاد اسميا الحكم لمجلس الشيوخ، الذي منحه لقب أوغسطس (بمعنى المبجل)، فقد حكم كإمبراطور تماما منذ عام 27 قبل الميلاد فصاعدا. وتحت حكمه وصلت روما إلى القمة من حيث الإدارة المبدعة والثقافة المزدهرة، وكان وقت سلام إلى حد كبير (السلام الروماني). كان العصر الأوغسطي ناجحا للغاية؛ لدرجة أن اسمه أطلق على فرنسا وإنجلترا منذ أوائل القرن الثامن عشر حتى منتصفه، عندما ازدهر كتاب مثل كورني وراسين وموليير، ومثل بوب وأديسون وسويفت وستيل، الذين أعجبوا جميعهم عرضيا بالقيم الرومانية.
عند وفاة أوغسطس في 14 ميلاديا، انتقل التاج إلى ابن زوجته (فلم يكن لديه ابن) تيبيريوس، الذي اعتبره أوغسطس ابنه بالتبني، واستمر تقليد تحديد المرء لخليفته طوال سنوات بقاء الإمبراطورية. وكما قد نتوقع، أحيانا يثبت الابن بالتبني جدارته للمهمة، وأحيانا لا، كان ابن تيبيريوس بالتبني (حفيد أخيه) كاليجولا كارثة على روما، بينما تمكن خليفته، كلوديوس (عمه فعليا)، من إنقاذ الوضع إلى حد ما. أما ابن كلوديوس بالتبني، نيرون (حفيد حفيدة أغسطس من زواج سابق) فقد اتضح أنه أسوأ حتى من كاليجولا؛ وعندما مات ألغى مجلس الشيوخ فترة حكمه رسميا من السجلات. ومع وفاة نيرون انتهت السلالة التي تمتد حتى يوليوس قيصر، وأدخل دم جديد من خلال اختيار أباطرة من أسرة فلافيان، مثل فسبازيان، وأنقذت روما. وقد بدأت أحد أكثر فتراتها نجاحا عندما تلاشت السلالة الأنطونية، التي تلت سلالة فلافيان، فوقع الاختيار على شخص غريب تماما؛ فكان أول ابن متبنى، وربما الوحيد الذي لم تكن تربطه بوالده صلة قرابة على الإطلاق، فلم يكن حتى من روما، إنما كان قرويا من إسبانيا. كان هذا هو الإمبراطور تراجان الذي أثبت أنه أحد أفضل حكام الإمبراطورية؛ إذ وسع حدودها أكثر، مثلما فعل خليفته؛ إسباني آخر هو هادريان. إن الاستنتاج الذي يمكننا التوصل إليه من هذا بسيط؛ فطوال عهد الجمهورية وفي السنوات الأولى من الإمبراطورية، وهي الفترة التي لم يكن أي حاكم يعين بسبب نسبه فقط، كانت روما في أوج ازدهارها؛ ومن ثم عندما أصبح الاختيار يقع على الأباطرة إلى حد كبير بسبب نسبهم (وكانت فترات حكمهم تقتطع بالقتل)، بدأت روما في الاضمحلال.
لا يكون الحاكم الذي يعين نفسه، مثل يوليوس قيصر أو أغسطس، أسوأ بالضرورة من الحاكم المنتخب، شريطة أن يكون رجلا موهوبا. في إنجلترا عندما عين أوليفر كرومويل نفسه في عام 1653 السيد الحامي للكومنولث، بدأ كثيرا من الإصلاحات المفيدة، وورث ابنه ريتشارد اللقب بعد وفاة كرومويل في عام 1658، وأثبت عدم كفاءته للمهمة. ونتيجة لهذا سرعان ما أعيد النظام الملكي بدلا من هذا، لكن مع شرط واحد؛ من الآن فصاعدا أصبح البرلمان، وليس التاج، هو الذي يتخذ القرارات المهمة في الدولة.
في العصور الوسطى كانت القوة الوحيدة خارج آسيا التي تضاهي الإمبراطورية العثمانية - القوة السائدة منذ 1300 ميلاديا فصاعدا - في الثقافة والحضارة توجد في دولة مدينة صغيرة تقع على عدد من الجزر داخل بحيرة تبلغ مساحتها أقل من 100 ميل من أحد جوانبها إلى الجانب الآخر. ومع ذلك كانت البندقية تضاهي الإمبراطورية العثمانية - التي بلغت مساحتها 5 آلاف ميل من الهند في الشرق حتى البرتغال في الغرب - في التجارة وفاقتها في الفن. استمرت جمهورية البندقية نحو 800 سنة، وأنتجت فترة ازدهارها (من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر) بعضا من أفضل الفنانين في أوروبا؛ رسامين مثل ياكوبو بيليني وابنيه جينتيلي وجوفاني، بالإضافة إلى تلميذيه جورجوني وتيتيان، وأعقبهم تينتوريو وفرونزه وإل جريكو. كانت هذه الجمهورية أيضا موطنا لمعماريين مثل بالاديو، وموسيقيين مثل مونتيفيردي وفيفالدي. مع ذلك، في الوقت الذي كانت معظم الدول في بقية أنحاء أوروبا يحكمها ملوك وأمراء بالوراثة، فضلت البندقية القادة المنتخبين (لا بد من الاعتراف بأن نحو 1٪ فقط من الشعب كان له الحق في التصويت)؛ فقد ألغت على وجه الخصوص الخلافة الوراثية لأسرة دوجي - حكام البندقية - في عام 1032. يمكن القول إن سلطات الأسر الحاكمة حققت نجاحا مماثلا في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، إلا أن الحكام الضعفاء حدوا من تقدم بلادهم في أوقات كثيرة. نمت البندقية بثبات، على مستوى ممتلكاتها الخارجية وفي استقرار مؤسساتها. ولم تبدأ قوتها، وليس ثقافتها، في التدهور إلا عندما تحولت التجارة بين أوروبا وآسيا من كونها تجرى عبر البحر المتوسط (رحلة برية طويلة) إلى إجرائها عبر طريق في المحيط أسهل حول أفريقيا، اكتشفه المستكشفون البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر.
يمكننا إجراء مقارنة سريعة بين استقرار الحكم البابوي في روما مع حكم الإمبراطورية خارج حدود المدينة المقدسة، التي من المفترض أنها تطبق حكم الباباوات؛ أي الجانب العلماني في مقابل الجانب الديني للعالم المسيحي. كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، رغم استمرارها لألف سنة، تمزقها النزاعات بين الأسر الحاكمة وجيرانهم، وقد نجت الكنيسة الكاثوليكية مرتين في هذه الفترة. ومنذ عام 1059 لم يستطع أي بابا تعيين خليفته؛ فيجب انتخاب كل بابا، عبر اقتراع سري، من مجمع الكرادلة. يوجد مثال آخر يمكن الاستشهاد به؛ فمنذ عام 1328 حتى عام 1572 حكمت أسرة ياجيلون بولندا، ورغم أن الحكام جميعهم كانوا أقارب، فإن الملك كان ينتخب - وإن كان من الطبقة الأرستقراطية - ولم يكن يعين ذاتيا؛ حتى إنه أدخل شكل محدود للحكم البرلماني في عام 1493. ازدهر الفن والعلم في أثناء حكم أسرة ياجيلون؛ فقد أحدثت دراسات نيكولاس كوبرنيكوس، التي أدت إلى افتراضه في عام 1543 أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، وليس العكس، إلى إحداث ثورة في علم الفلك، وأثرت كثيرا في رجال مثل جاليليو ونيوتن. توسعت بولندا على أكبر مساحة ملكتها في تاريخها؛ فبحلول عام 1569 امتدت من البلطيق حتى البحر الأسود. وصلت حركة الإصلاح الديني إليها في عام 1520 تقريبا، رغم قمعها في البداية، وأقر الدين البروتستانتي في عام 1552 وطوال السنوات ال 130 التالية كانت بولندا الدولة الوحيدة في أوروبا الخالية من الاضطهاد الديني. وبمجرد إدخال الحكم الوراثي مرة أخرى، انهارت الدولة، ولم تستعد قط المكانة التي تمتعت بها تحت حكم الحكام المنتخبين.
عند التفكير في الحكم الفعلي للدولة، تمثل الصين مثالا بارزا؛ إذ يختار كل المسئولين فيها على أساس الجدارة، ومن طبقات البيروقراطية المتعلمة. ورغم الصراعات الداخلية وغزو المغول وغيرها من القبائل المحاربة، استمرت الإمبراطورية ألفي سنة. قارن دولتين لهما الحجم نفسه في أوروبا في القرن الثامن عشر. كان الوزراء في فرنسا رجالا ذوي مكانة مرتفعة، ويعينون لنسبهم.
14
أما في بريطانيا فكان الوزراء سياسيين أظهروا حماسهم لشئون الدولة، انضم كثير منهم لمجلس العموم،
15
وليس مجلس اللوردات.
16
عانت فرنسا من ثورة ومن عهد الإرهاب.
17
أما بريطانيا فقد اتجهت إلى الثورة الصناعية وقوانين الإصلاح في القرن التالي.
ماذا إذن عن النظم الملكية حاليا في غرب أوروبا، المعتمدة جميعها على مبادئ وراثية صارمة؟ صحيح أن بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد، بالإضافة إلى تايلاند واليابان في الشرق، من أكثر الدول المستقرة والناجحة اقتصاديا في العالم. لكن فيها جميعا لا يكون الملك أكثر من مجرد رئيس دستوري للدولة،
18
فكل القرارات المهمة تتخذها الحكومة الموجودة في هذا الوقت، والتي ينتخب كل عضو فيها بطريقة ديمقراطية. ولا يهم على الإطلاق كثيرا إذا كان الملك أقل كفاءة من سلفه.
خلاصة هذا الكلام واضحة؛ فكما يمكننا التوقع من المبدأ البيولوجي الذي أكدت عليه، الذي يقول إن الموهبة تورث عشوائيا، كان الحكام بالوراثة بوجه عام يتصرفون أسوأ من المنتخبين. وعندما لا يتعدى صاحب المركز الوراثي كونه رمزا دستوريا فحسب، يمكن للدولة أن تستمر - فأحيانا تكون أفضل، ونادرا ما تفشل - تماما مثل الجمهورية التي ينتخب الشعب حاكمها. نشأت الحضارات لا لأن حكامها كانوا أبناء قادة، بل لأنه تصادف امتلاكهم لصفات المبادرة والقيادة الضرورية. لقد غير سعي الإنسان وجه العالم، لا لأن لاعبيه الأساسيين ورثوا حب الاستطلاع والنزعة الاستكشافية أو التوق للغزو من آبائهم، وإنما لأنهم تمتعوا بهذه الصفات نتيجة للصدفة البحتة.
19 (4) عودة إلى العصر الحجري الحديث
تعتبر زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات طريقة أكثر فاعلية في إنتاج الطعام من الصيد وجمع النباتات. وكما أشرنا سابقا، فإنها تشجع أيضا على استقرار المجتمعات وتوسعها. لا عجب إذن أن أول قرى ومدن نشأت من المستوطنات التي صاحبت ممارسة الزراعة، وكانت الزيادة السكانية فادحة. فقبل ظهور المجتمعات الزراعية، كان سكان العالم يزيدون لكن ببطء، ومنذ نحو 10 آلاف سنة ربما كانوا فعليا يقلون، فكان الإنسان العاقل معرضا لخطر الانقراض، ومع ذلك فقد نجا، وبعد هذا بخمسة آلاف سنة كان ثمة مليون شخص يعيشون في مصر وحدها. تتطلب الزراعة مخزونا مضمونا من المياه، وبدأ النمو الحضري يحدث على طول ضفاف الأنهار، كما يحدث حتى وقتنا هذا. وفي أماكن أخرى، مثل كريت، يكون هطول الأمطار كافيا لدعم نمو معظم المحاصيل. وينطبق الأمر نفسه على أمريكا الوسطى؛ حيث نشأت المجتمعات الزراعية في المرتفعات الوسطى أو داخل الغابة المطيرة نفسها. وفي أمريكا الجنوبية أيضا، ربما كان المزارعون الأوائل يعيشون في المناطق الجبلية في جبال الأنديز؛ حيث وفر الجليد الذائب، إن لم تكن مياه الأمطار، بيئة مناسبة (ظهر التحدي فيما بعد، عندما انتقلت المجتمعات إلى المناطق الساحلية الجافة أو إلى المنحدرات المرتفعة في جبال الأنديز). في العالم القديم ظهر تحول الأفراد من صيادين وجامعي نباتات إلى مزارعين منذ نحو 10 آلاف سنة، واستغرق الانتقال من الحياة في مخابئ بدائية إلى التمتع باستقرار المباني 4 آلاف سنة أخرى، وأصبح واضحا في عام 4 آلاف قبل الميلاد تقريبا في أقدم الحضارات. وفي أمريكا، التي لم تصبح مأهولة بالسكان إلا منذ نحو 12 ألف سنة أو ما شابه في الشمال وبعد ألفي عام أخرى في الجنوب، يجب ألا يتوقع المرء العثور على أدلة على مستوطنات ترجع إلى وقت أبعد من هذا. في الواقع لم تكن هذه المستوطنات ترجع إلا إلى بضعة آلاف من السنوات؛ مما يشير إلى ظهور الزراعة في العالم الجديد في الوقت نفسه تقريبا الذي ظهرت فيه في العالم القديم. هل كان المسئول عن هذا تغير عالمي في المناخ، في اللحظات الأخيرة من آخر عصر جليدي؟ إنها مسألة غير محسومة تحيق بها فرضيات أكثر عددا من الحقائق.
نشأت أقدم المجتمعات الزراعية في مناطق معينة فقط ، وفي المناطق الأخرى استمر الإنسان في ممارسة حياة الترحال، سواء عن طريق الصيد أو رعي الحيوانات المستأنسة، لعدة ألفيات. حتى في عصرنا الحالي، يمكن اعتبار الأكراد الموجودين في المناطق الجبلية في تركيا وشمال العراق وغرب إيران وشرق سوريا، وفي أرمينيا وأذربيجان، والباسك الذين يعيشون في جبال البرانس الغربية بين إسبانيا وفرنسا، والنوير الذين يعيشون في جنوب شرق السودان، أنهم ما زالوا جميعا يعيشون حياة الترحال؛ حيث يتنقلون ذهابا وإيابا مع مواشيهم وفقا للمواسم. هذا بالإضافة إلى حقيقة استمرارهم في الحياة باستقلالية؛ إذ يتحدثون لغة خاصة بهم، ويضايقون جيرانهم الأقوياء الذين وجدوا أنفسهم حاليا في نطاق سيطرتهم، ويتعرض الرحالة للمضايقة من كافة الجوانب. يظهر مثال آخر على حياة الترحال لدى الذين ينتقلون من مكان لآخر بسبب التجارة. ذكرت هجرات الغجر في الفصل السابق، وبالمثل يواصل الطوارق
20
التنقل بين منطقة المغرب في شمال أفريقيا (خاصة المغرب والجزائر) والمنطقة التي تقع جنوب الصحراء الكبرى (خاصة السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر).
ربما تؤدي الزراعة إلى شكل من الحياة أكثر استقرارا لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى ظهور القرى والمدن؛ فتوجد حتى يومنا هذا مجتمعات زراعية لم تتغير حياتها كثيرا على مدار ألفيات كثيرة؛ في الوادي الكبير لنهر باليم في غينيا الجديدة، وعلى طول ضفاف نهر أورينوكو في جنوب فنزويلا، وفي أجزاء كثيرة في أفريقيا. لا يعيش هؤلاء الناس في قرى أو مدن، وليس لديهم فن أو أدب، وليس لديهم إلا قدر قليل من التكنولوجيا أو التجارة. كما أن متوسط أعمارهم أقل من المواطن العادي في العالم المتقدم، رغم أنه على الأرجح يقارب متوسط عمر شخص فقير يعيش حاليا في موسكو أو شخص يسكن الأحياء الفقيرة في مكسيكو سيتي. لم تنتج أي حضارة من أعمالهم؛ فهم لم يبحثوا كثيرا مثل غيرهم، فهل يعيشون إذن حياة أقل إنجازا من حياتنا؟ لا يمكنني التعليق على هذا؛ لأني أحرص على تعريف سعي الإنسان من حيث صفاته الفطرية فقط، وأتعامل مع عواقبه بوصفها ثقافية فقط، وأمتنع عن أن أنسب لسعي الإنسان القيم التي نطلق عليها السعادة أو الرضا أو النجاح. بدلا من هذا أود لفت انتباه القارئ إلى تعليق لأستاذ علم النفس والمتخصص في علم الأعصاب ستيفن بينكر،
21
الذي مفاده أن عقل الإنسان ليس «معدا» ليتكيف مع توترات وضغوط الحياة الحضرية؛ فهو متكيف مع فترة العصر الحجري الحديث - حتى قبل ظهور الزراعة - التي قضى فيها الإنسان 99٪ من حياته. من يمكنه القول إذن إن الفضول لا تكون له أحيانا إيجابيات وسلبيات؟
هوامش
الفصل السابع
الحضارة 1: المدن والمعابد
لنتحدث الآن عن ظهور سبع حضارات رئيسية أشرت إليها في الفصل السابق. الأدلة على هذه الحضارات أثرية إلى حد كبير؛ من خلال العثور على بقايا لتكوينات حجرية بارزة فوق سطح الأرض ثم الحفر إلى الأسفل للكشف عن أساساتها (أحيانا يحدث التنقيب بناء على الحدس وحده). في الوقت نفسه تنخل التربة جيدا لإظهار أي أشياء أثرية مدفونة بالقرب من الموقع؛ مثل عملات أو حلي أو أختام، أو أجزاء خزفية كانت أكوابا فيما مضى أو أواني لتخزين الطعام، أو ألواح تحتوي على نصوص قديمة. لا تخبرنا الهياكل العظمية للبشر عن حجم الناس الذين عاشوا في هذا الموقع فحسب، لكنها تخبرنا أيضا عن بعض الأمراض التي عانوا منها؛ وتكشف لنا بقايا الحيوانات والمحاصيل عن معلومات حول الممارسات الزراعية والنظام الغذائي لبعض السكان. ويمكن تحديد عمر كل شيء عضوي يستخرج بدقة إلى حد ما عن طريق التأريخ بالكربون، الذي كما ذكرنا سابقا يمكنه تحديد عمر الأشياء التي يتراوح عمرها بين 50 ألف سنة و200 سنة؛ ومن ثم يشمل الفترة التي نتحدث عنها.
1
أما بالنسبة للعظام والأشياء المصنوعة من الحجارة أو الطمي أو المعادن، فإن ثمة أساليب تأريخ أخرى تطبق. بالطبع لا يستطيع المرء إلا تأريخ الأشياء التي يعثر عليها؛ فالمباني الخشبية لا تنجو عادة من الدمار الذي يحدث عبر الزمن، وبالتأكيد لا تنجو أيضا الأكواخ البسيطة المصنوعة من الطمي والقش. ومع ذلك فإن هذه تحديدا تمثل المنازل التي عاش فيها جموع الناس. استمر هذا الأمر حتى بضع مئات من السنوات؛ فإذا تجولت بالسيارة في أوروبا فسترى كنائس وكاتدرائيات، وقلاعا وقصورا للأغنياء، كلها مبنية من الحجارة أو الطوب، لكن أكواخ الفقراء لم تدم؛ لذا يعتمد قدر كبير من معرفتنا بالحضارات القديمة على القصور والمباني العامة، وعلى الأهرامات والمعابد، ويكون أسلوب حياة العامل (الذي يكون عبدا عادة) الذي بنى كل هذا مسألة تخمين إلى حد كبير. (1) بلاد الرافدين
تعتبر مدينة أور والوركاء أقدم مدينتين في العالم؛ حيث سكنهما الناس منذ نحو 7 آلاف سنة، وكلمة «أور» في حد ذاتها أصبحت تعني القدم البالغ. تقع هاتان المدينتان على نهر الفرات بالقرب من مدينة البصرة الحالية في جنوب العراق، وكانتا جزءا من مملكة السومريين. وبحلول عام 3200 قبل الميلاد كانت مدينة الوركاء بها ثلاثة معابد وقصر وقاعة أعمدة ومبان أخرى توجد كلها داخل مجمع عرف باسم إيانا. أما تعداد سكانها، الذي كان نحو 10 آلاف قبل ثلاثة قرون، فقد زاد إلى 50 ألف بحلول عام 3800 قبل الميلاد. ولم يقلل وصول الأكاديين من الجنوب في هذا الوقت من أهمية أي من المدينتين (رغم أن فيضانا حدث قبل هذا في أور، من مصب النهر عند الوركاء، كاد أن يفعل هذا)، وفي عام 2150 قبل الميلاد أصبحت أور عاصمة الإمبراطورية السومرية الجديدة. استولى عليها الكلدان من شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد لكنها استمرت في الازدهار بجانب دول مدينية أخرى؛ كان بعضها، مثل أبو صلابيخ وكيش وبابل، يقع عند منبع النهر على طول نهر الفرات، وبنيت أخرى مثل لجش وأوما، بالقرب من نهر دجلة في الشرق. خضعت كل هذه المدن في النهاية للفارسيين تحت حكم قورش الكبير في نحو 540 قبل الميلاد. لم يتبق حاليا الكثير من مدينتي أور والوركاء، ومعظم ما نعرفه عنهما مستمد من المصنوعات التي عثر عليها هناك.
لا ينطبق هذا الأمر على مدينة بابل؛ فقد كشفت عمليات تنقيب مطولة عن حجم المدينة، وقد سرت في أزقة المدينة التي أصبحت الآن تحت سطح الأرض وتعجبت من المباني المكتشفة على جانبيها؛ على القارئ أن يتذكر أنه كلما زاد العمق الذي يكتشف فيه نشاط إنساني، زاد قدم عمر هذا النشاط. ومثل مدينتي أور والوركاء تعرضت بابل لاحتلال الأكاديين والحيثيين والكاشيين وغيرهم على مدار نحو ألفي عام. على الأرجح نشأ الأكاديون في هذه المنطقة، التي تتمثل حاليا في شمال سوريا والعراق، والتي ضمت المدن المكتشفة حديثا مثل ماري وتوتوي وتل خويرة بالقرب من نهر الفرات، وأشور ونينوى على نهر دجلة، ونجار ونبادا على نهر خابور بينهما. ذكرت كل هذه المواقع، فقط من أجل توضيح مدى انتشار الحضارة السومرية.
2
جاء الحيثيون من منطقة مرتفعة أبعد جهة الشمال، كانت عاصمتهم حتوساس (بوغاز كوي حاليا، التي تقع على بعد 22 ميلا شرق أنقرة). وصلت بابل إلى أوج تطورها الثقافي تحت حكم الكلدان، الذين احتلوها قبل 100 سنة تقريبا من اجتياح قورش لها في النهاية. ومثلها مثل أور والمدن الأخرى أصبحت مهجورة فيما بعد. وحاليا يمكن رؤية كثير من البقايا المكتشفة، بما في ذلك الطوب المصقول الجميل على شكل رأس أسد الذي زين بوابة عشتار إلى المدينة، في متحف بيرجامون في برلين (توجد نسخة منها ترحب بالزائرين في عصرنا الحالي على مدخل المدينة). ومن ألواح الطين النضيج، والمنحوتات الحجرية والعاجية، والأختام الأسطوانية والأشياء الأخرى، يمكن للمرء الحصول على فكرة عن أسلوب الحياة المترف الذي عاش به البابليون وسكان المدن المجاورة. وتحت حكم السومريين أصبح الطب والعمارة والهندسة تخصصات مهنية، وكانوا أول من وحد الأوزان والمقاييس، واخترعوا واحدة من أقدم اللغات المكتوبة، ووضعوا أسس الرياضيات وعلم الفلك. وكان شهرهم القمري الذي يبلغ 29 يوما و12 ساعة و44 دقيقة في نطاق 0,002٪ من قيمته الحقيقية. كما كانوا يعرفون أن مجموع مساحتي المربعين المنشأين على الجانبين القصيرين لمثلث قائم الزاوية يساوي مساحة المربع المنشأ على الجانب الثالث الطويل قبل ألف عام من فيثاغورس.
بنوا أضرحة صخرية مزخرفة لحكامهم المتوفين في شكل أهرامات مدرجة تعرف باسم الزقورات، ما زال النصف السفلي لأحدها الذي بني في الألفية الثالثة قبل الميلاد موجودا في بابل، وربما يعبر عن برج بابل الأسطوري، وكانت ثمة لهجات مختلفة للأكاديين والسومريين ولغات أخرى تستخدم في هذا الوقت. كان السومريون من أوائل الذين زرعوا الأرض لمتعتهم أكثر من مجرد إنتاج الطعام؛ فتشهد حدائق بابل المعلقة، التي تعد واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، على مهارتهم المبتكرة في توصيل المياه - ما يقرب من 300 طن في اليوم وفقا للحسابات - إلى أعلى سلسلة من المصاطب، أعلى من نهر الفرات المجاور لها. تعتمد معرفتنا بهذه الحدائق على النصوص الإغريقية التي كتبت بعد عدة قرون؛ إذ إن موقعها الفعلي، الذي يفترض أنه كان مجاورا للقصر الملكي، لم يعثر عليه قط. على أنه يوجد احتمال أن الحدائق لم تكن في بابل على الإطلاق، إنما في نينوى التي تبعد 200 ميل شمالا، على ضفاف نهر دجلة (بالقرب من الموصل الحالية). تعتبر حضارة السومريين بوجه عام واحدة من أقدم الحضارات - ربما أقدمها - التي بدأت في الظهور منذ 6 آلاف سنة، وهي أبلغ مثال على الكيفية التي يمكن بها لعدد من المجتمعات المتفاعلة ابتكار أسلوب حياة رفيع المستوى والحفاظ عليه طوال فترات احتلال طويلة لمعتدين خارجيين. بالطبع يعتمد هذا النجاح على رغبة الغازي في استيعاب الثقافة بنفس قدر سعي المنهزمين للحفاظ عليها. (2) مصر
لم يعان ميلاد الحضارة المصرية من السيطرة الخارجية بهذه الطريقة؛ فقد حدث هذا فيما بعد. بدأت منطقتان على طول نهر النيل تنشآن في الألفيتين الخامسة والرابعة قبل الميلاد؛ واحدة بالقرب من الدلتا (مصر السفلى) والأخرى على بعد 400 ميل جنوبا (مصر العليا). في عام 3100 قبل الميلاد تقريبا أنشأ مينا، الذي وحد مصر العليا والسفلى، عاصمته بالقرب من الدلتا، جنوب القاهرة في عصرنا الحالي، وأطلق عليها منف. وفرت مياه النيل وسيلة للتواصل والتجارة بين مصر العليا والسفلى، لكن شمالي منف بدأ النهر ينقسم إلى عدة فروع وقنوات شكلت دلتاه حتى يومنا هذا؛ يتغير شكلها وعمقها باستمرار مع انجراف الرمل والطمي أسفل النيل، ولم يكن أي منها مناسبا للإبحار؛ ومن ثم لم تكن منف ميناء، وكانت التجارة مع البحر المتوسط تحدث عبر البر، ثم من مرافئ على طول ساحل فلسطين. ظهرت المدينة التي نمت لتصبح مركزا تجاريا في أعلى نهر النيل، طيبة، بعد هذا بفترة قصيرة، وأصبحت بحلول عام 1500 عاصمة مصر.
بنيت أقدم الأهرامات في منف، تقريبا في وقت بناء الزقورات البابلية. ومثل الزقورات، بنيت الأهرامات بوصفها حجرات لدفن الحاكم وأسرته. لم يدفن الفراعنة مع مقتنياتهم المفضلة المصنوعة من الذهب والمعادن النفيسة فحسب، ولكن مع الطعام أيضا لضمان رحلة آمنة إلى الحياة الآخرة. اتسم أول هرم، الذي بني في سقارة للفرعون زوسر على يد مهندسه المعماري إمحوتب في سنة 2700 قبل الميلاد تقريبا، بقاعدته المدرجة، تماما مثل الزقورة. ويقال إنه كان أقدم بناء يبنى بالكامل من الحجارة. اشتهر إمحوتب بسبب أعماله لدرجة أنه أله وعبد بوصفه راعي المهندسين المعماريين والكتاب وطلاب العلم. ويوجد افتراض حديث يقول إن الشكل المميز لهذا الهرم (بالإضافة إلى الأهرامات اللاحقة وأبو الهول في الجيزة) بني ليعكس شكل تكوينات صخرية طبيعية على بعد 300 ميل جنوبا في الصحراء بالقرب من الواحات الخارجة. منذ 5 آلاف سنة كانت هذه الأرض سافانا، وليست صحراء، وربما تجول البدو الذين عاشوا في هذه المنطقة باتجاه الشمال، وأحضروا معهم وصفا لمثل هذه الصفات الشكلية المميزة إلى سكان منف. إلا أن بعض المؤرخين يحتفظون باعتقادهم بأن شكل الأهرامات يرمز إلى صعود الفراعنة إلى الجنة على جوانبها المدرجة.
بنيت أهرامات الجيزة الثلاثة - وتقع جنوب مدينة القاهرة حاليا - في فترة اتسمت بالمهارة الشديدة منذ 4500 سنة (صورة 2). كان الهرم الأكبر أول هرم يبنى فيها، وهو أكبر الأهرامات، ويحتوي على أكثر من مليوني كتلة من الحجارة يزن كل منها في المتوسط 10 أطنان؛ ويصل ثقل بعضها إلى 200 طن. وحتى 100 سنة مضت لم يفقه أي مبنى في العالم وزنا.
3
وعندما زار المؤرخ الإغريقي هيرودوت الموقع في القرن الخامس قبل الميلاد، قدر أن قوة عاملة تبلغ 100 ألف عبد كانت ضرورية لبناء الهرم الأكبر. اكتشفت مؤخرا بقايا كثير من المباني الحجرية بالقرب من الجيزة ، ويرجع تاريخها إلى نحو 2500 عام قبل الميلاد، وضمت هذه المباني نحو 600 قبر صغير. لم تكن هذه مقابر ملكية؛ فلم تكن تحتوي على أي ذهب، ولم يكن الموتى محنطين. أظهرت هذه المقابر أن دفن عدد كبير من السكان كان أمرا شائعا. هل سكن هذه المنازل بناة الأهرامات الثلاثة؟ يعتقد علماء الآثار هذا، ويعتبرون هيرودوت مخطئا في أمرين؛ أولا: عدد المشاركين في عملية البناء؛ إذ يحتمل أنهم لم يتعدوا نحو 20 ألفا (لكن ربما استغرق منهم الأمر نحو 20 سنة حتى الانتهاء من كل هرم)؛ وثانيا: أنهم لم يكونوا عبيدا.
تشير عظام الحيوانات التي عثر عليها في الموقع أن الناس كانوا يأكلون طعاما عالي الجودة، أسماكا ولحوم الماشية. كما كانوا يخمرون الجعة ويخبزون الخبز. وتظهر عظامهم نفسها، التي حفظت جيدا في كثير من القبور في الموقع، علامات على مكان تعرضها للكسر (فيترك نقل حجارة تزن 10 أطنان أثره على العمود الفقري)، وإعادتها إلى مكانها بعناية. ومثل الطبقة الحاكمة، يبدو أن هؤلاء الناس كانوا يحصلون على أفضل رعاية طبية؛ حتى إنه توجد أدلة على إجراء عمليات بتر بعناية، كانت - على الأرجح - الأقدم في العالم. لكن اختلفت حياة هؤلاء عن الأقلية المرفهة؛ فكانوا يموتون في المتوسط قبلهم بعشر سنوات. تظهر العظام أن نصف السكان كانوا نساء، وكان في المتوسط ثمة طفل واحد لكل زوجين. باختصار، كان سكان هذا المكان أسرا عاملة ميسورة الحال تعيش في منازل حجرية؛ فلم يكونوا عبيدا. إذن ما الدليل على أنهم شاركوا على الإطلاق في بناء الأهرامات الثلاثة في الجيزة؟ كما ذكرنا، تظهر بقايا بعض الفقرات التي تشكل العمود الفقري علامات على تشوهات حادة، تتوافق مع تعرضها لإجهاد جسماني شديد. ثانيا، تربط النقوش التي عثر عليها في القبور مباشرة بين سكانها وبناء الأهرامات. استخلص الدي إن إيه من العظام الفردية (مع الحرص على منع تلوثه بأي دي إن إيه من الذين يتعاملون مع العينات). رغم أن الدي إن إيه ليس بحالة جيدة جدا - فهو في النهاية يبلغ أكثر من 4 آلاف سنة - يبدو أن التحليل يشير إلى وجود علاقة بالمصريين في العصر الحالي الذين يعيشون في القاهرة وبعيدا في الجنوب على طول أعالي النيل.
الصورة التي تظهر أمامنا تبدو كما يلي: كان بناة أهرامات الجيزة عمال بناء جاءوا مع أسرهم من جميع أنحاء وادي النيل، على الأرجح باختيارهم، من أجل المشاركة في هذا المشروع القومي. وكونوا مجتمعا - مدينة مزدهرة تمثل نحو 2٪ من المليون مصري الذين كانوا يعيشون في هذا الوقت - مكرسا لهدف واحد؛ بناء أكبر أضرحة ممكنة لتوضع فيها جثامين ملوكهم. لحسن الحظ عاش معظم هؤلاء الفراعنة فترة طويلة بما يكفي لرؤية مثواهم الأخير مكتملا قبل وفاتهم. بني الهرم الأكبر - الشمالي من بين الثلاثة - من أجل الملك خوفو (تشيوبس بالإغريقية)، الملك الثاني في الأسرة الرابعة.
4
أما الهرم الثاني الذي بني فهو الهرم الذي يوجد حاليا في المنتصف؛ فقد كلف ببنائه ابن الملك خوفو الثاني خفرع، الذي خلف بعد حكم أخيه الأكبر لفترة قصيرة. هيمنت فترتا حكم خوفو وخفرع على زمن حكم الأسرة الرابعة؛ إذ امتد حكمهما 106 سنوات. أما الهرم الثالث الجنوبي من بين الأهرامات الثلاثة فقد بني في عهد ابن خفرع؛ منقرع. لم يعش طويلا بما يكفي ليرى قبره منتهيا؛ فقد أتم بنائه خليفته شبسس كاف.
كيف بنيت هذه الآثار؟ على الأرجح بدأت عملية البناء بإتمام القاعدة بالكامل، ثم سحب الكتل الحجرية بحبال أعلى منحدر صنع خصوصا، يمتد على طول الجانب الخارجي للبناء المتزايد، وعند الانتهاء من القمة يزال المنحدر. يوجد تفسير بديل لرفع الكتل الضخمة من الحجارة عن الأرض اقترحه مؤخرا علماء أمريكان من معهد كالتيك؛ إذ اقترحوا استخدام طائرات ورقية لتطيير كتل الحجارة حرفيا ووضعها في مكانها. رغم أن هذه تبدو فكرة مثيرة للاهتمام، فمن غير المحتمل أن تكون هي الطريقة الوحيدة المستخدمة؛ فمن المعقول أكثر ربط الحجارة بطائرات ورقية من أجل تخفيف وزنها لا أكثر. بمجرد الانتهاء من وضع الحجارة في مكانها، غطيت الجوانب بطبقة من الحجارة البيضاء الملساء. سرق معظم هذه الطبقة الخارجية منذ ذلك الحين، تماما مثلما سرقت المحتويات الداخلية للمقابر، لكن الطبقة الخارجية بالقرب من قمة الهرم الأوسط لا تزال في مكانها. يعطي هذا الزائر فكرة عما كانت تبدو عليه الأهرامات الثلاثة في الأصل تحت ضوء الشمس الساطع في مصر؛ مشهد مبهر حقا (صورة 2).
كل شيء فعله المصريون كان مبتكرا؛ فقد كانوا أول من استخدم الأرقام المكتوبة منذ نحو عام 3500 قبل الميلاد، وكانت في شكل خطوط بسيطة تعبر عن أرقام مثل من 1 إلى 10. بعد 500 سنة استخدم السومريون الأرقام، وفي عام 1200 قبل الميلاد استخدمها المينويون. ولم تظهر الأرقام المكتوبة في النقوش الهندية والصينية إلا بعد نحو ألف عام من هذا. وعلى الأرجح اخترع المصريون الزجاج - الذي يتطلب درجة حرارة 1500 مئوية لصهر الرمل وكربونات الصوديوم معا - في عهد الأسر العظيمة في الألفية الثالثة قبل الميلاد. في البداية كانوا يصنعون خرزا صغيرا، لكن في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا يصنعون كل أنواع الأشياء، حتى إنها ضمت أول عدسات. بدأ نفخ الزجاج بعد هذا بعدة قرون، على الأرجح ليس في مصر نفسها ولكن في منطقة أبعد على الساحل الشرقي للبحر المتوسط فيما يعرف الآن بسوريا (رغم تأكيد آخرين على أن المصريين كانوا يمارسونه طوال الوقت). حتى مصائد الفئران، التي كانت تعمل في هذا الوقت بزنبرك بسيط كحالها حاليا، فنحن ندين بها للتكنولوجيا المصرية.
لفترة وجيزة، بداية من القرن السابع قبل الميلاد، تولى حكم مصر الهكسوس (وهي كلمة معناها «حكام بلاد أجنبية»)، لكن المصريين حافظوا على التقاليد الثقافية للعلم والأدب والفن والموسيقى والفلك والطب طوال فترات الاحتلال التالية على يد الغزاة الآشوريين والفارسيين والإغريق والرومان والعرب. ومع تزايد التجارة عبر البحر المتوسط، كبر حجم مدينة الإسكندرية، التي سميت على اسم فاتحها الإغريقي، وأضحت عاصمة مصر حتى القرن السابع. ثم أعاد العرب العاصمة في اتجاه أعلى النهر تحت منف مباشرة؛ حيث ظلت منذ ذلك الحين (وسميت في البداية مصر، ثم القاهرة). في فترة ازدهارها كانت الإسكندرية المركز الثقافي لمنطقة البحر المتوسط، وكانت منارتها التي تقع على جزيرة فاروس،
5
التي تعتبر أيضا إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، على الأرجح الأولى من نوعها؛ فكان البحارة يبحرون بأمان عبر الخط الساحلي الصخري بفضل النار المشتعلة في قمتها التي كانت تستمر طوال الليل. ظلت المنارة موجودة حتى القرن الثاني عشر، بعد 1500 من إنشائها، وانهارت بعد هذا بقرنين، لأسباب غير واضحة حتى الآن.
ثمة اختراع آخر نتج عن انصهار الثقافة المصرية والإغريقية في الإسكندرية في هذا الوقت وتمثل في إقامة مركز للتعلم داخل متحف الإسكندرية. كان يضم المكتبة الشهيرة، وحديقة للنباتات، وأخرى للحيوانات، ومرصدا وبعض الغرف من أجل تشريح الحيوانات؛ عمل به إقليدس وكذلك إراتوستينس
6
وعالم الفلك هيباروخوس. لم تحتو المكتبة على وثائق إغريقية فحسب في شكل بعض من أقدم الكتب التي ظهرت على الإطلاق، ولكنها ضمت على الأرجح ترجمات لنصوص من بلاد الرافدين والهند أيضا. ومثل نفخ الزجاج، نشأت فكرة تجميع الوثائق معا في شكل كتاب على الأرجح بعيدا في الشمال، على السواحل الشرقية للبحر المتوسط؛ ويدعي ميناء جبيل الفينيقي، الذي كانت مصر على تواصل معه منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، ملكيته لهذا الاختراع بالتحديد.
7
نجا المتحف والمكتبة من الزلزال الذي دمر قصر الملكة كليوباترا في خليج الإسكندرية، لكنهما دمرا جزيئا في أثناء الحرب الأهلية التي وقعت بعد بنائهما بنحو 500 سنة، وأحرقت بقاياهما في النهاية على يد المحاربين المسيحيين بعد قرن من الزمن. ومن ثم فقد إلى الأبد أحد أكثر السجلات المكتملة لحياة الإنسان - ربما ما يصل إلى 700 ألف مخطوطة
8 - من أربع أو خمس حضارات في العالم القديم.
تعتبر الحضارة المصرية، على عكس الحضارات التي نشأت في بلاد الرافدين، أو في وادي نهر السند، أو في أمريكا الوسطى أو في بيرو، مميزة من حيث بقاؤها حية في المكان نفسه - الذي يرى كثيرون أنه أصبح العاصمة الفكرية للإسلام في عصرنا الحالي - لأكثر من 5 آلاف سنة. تقترب منها الحضارة الصينية، وكذلك المينوية إذا اعتبرنا استيعابها وزراعتها من كريت إلى البر الرئيسي لليونان من جانب الميسينيين أنه استمرار لها. (3) الهند
كان الوادي الخصب لنهر السند، على مساحة تمتد نحو 700 ميل من لاهور في الشمال الشرقي إلى كاراتشي في الجنوب الغربي، موطنا لتطورات زراعية منذ الألفية الثامنة قبل الميلاد فصاعدا. كان القمح والشعير يزرعان، وكانت الخراف والماعز تستأنس. وبعد ألف سنة أصبحت الماشية من النوع الهندي المحدب تربى من أجل توفيرها للطعام والعمل. وبحلول عام 5500 قبل الميلاد كان هؤلاء الناس، الذين يشار إليهم بالهنود، يبنون جدرانا من الطوب، ويخزنون محاصيلهم من الحبوب في مخازن مصنوعة خصوصا. كانوا يصنعون الخزف أيضا، وكانوا يستخدمون النحاس والعاج، وكان اللازورد يستخرج من نطاق جبل كفارهيه محمد، كما لا يزال يحدث حتى يومنا هذا. وبعد ثلاثة آلاف سنة بدأت مستوطنات حضرية مثل الموجودة في هارابا
9
وموهينجو دارو
10
تظهر؛ وهي مدن أنشئت وفقا لخطة تشبه الشبكة مع وجود مبان عامة ونظم صرف صحي مناسبة. اخترع سكان هذه المدن نظاما معياريا للموازين والقياسات، وصنعوا أشياء من البرونز والنحاس والعاج والطمي. كذلك مارسوا التجارة مع المجتمعات المحيطة بهم، ووسعوا روابطهم التجارية في النهاية لتصل إلى بلاد الرافدين. إلا أن اقتراح أن الحضارة الهندية هي فرع للسومرية هو غير مبرر على الأرجح؛ فإن لغتها ومعمارها، ودينها وفنها مميز، وربما يكون التشابه بين الرموز الهندية والكتابة السومرية بالصور محض مصادفة (انظر شكل
8-1 ). باختصار، نشأت الحضارة الهندية مستقلة عن الحضارات الأخرى، تماما مثل حضارة سومر ومصر وكريت، ولم تبدأ التجارة بين هذه المراكز الأربعة جميعها إلا بعدما شكلت المجتمعات المزدهرة والحياة في القرى والمدن شخصيتها المستقلة. ومثل الحضارة السومرية، لم تستمر حضارة وادي نهر السند؛ فقد بدأت في التدهور، وفي عام 1050 قبل الميلاد سقطت في أيدي المحاربين الآريين، وبعد هذا بدأت في التحلل تدريجيا. يكون الضعف الداخلي عادة تمهيدا لغزو غزاة خارجيين؛ ومثال على هذا: الفقدان التدريجي للأجزاء الغربية في الإمبراطورية الرومانية لصالح قبائل القوط والفانداليين المحاربة. لكن كما استوعبت المهارات التي ابتكرها السومريون الثقافات الشرق الأوسطية اللاحقة، استوعب كثير من إنجازات شعب السند السلالات الهندية والبوذية التي انتهت بظهور الإمبراطورية الماورية في شبه القارة الهندية في الشرق. فيمكن لمجتمع أن ينحدر إلى أسفل السلم بينما يستفيد آخر ويصعد عليه، فتتقدم الإنجازات البشرية في مجملها بثبات. (4) الصين
ربما لم يكن للروابط التجارية التي نشأت بين الحضارات الأربعة التي تحدثت عنها حتى الآن تأثير مباشر كبير على الثقافة التي ازدهرت على طول نهر هوانج هي، أو النهر الأصفر، في الصين منذ 3 آلاف سنة. وربما أسهم وصول الهنود الأوروبيين وخيولهم إلى الحدود الشمالية الغربية في هذا الوقت تقريبا ببعض العناصر،
11
ويمكن للمرء ملاحظة أوجه التشابه في النصوص القديمة (قارن بين شكل
8-2
وشكل
8-1 )، لكن الإنجازات الثقافية والتكنولوجية للسكان المحليين كانت مميزة وفي كثير من الأحيان سبقت اختراعات في أجزاء أخرى من العالم. فبنيت مستوطنات تحيط بها جدران ترابية على طول الروافد العليا والوسطى والسفلى للنهر الأصفر، وأبعد من ذلك جنوبا على طول نهر اليانجتسي، قبل فترة تصل إلى 3 آلاف سنة، وتشير إلى الفترة الزمنية الذي تطورت خلالها تدريجيا المجتمعات الزراعية لتصبح دولا مدينية. اكتشفت مواقع مشابهة بعيدا جهة الشمال عند مقاطعة ليانينج وجيلين وهيلونجيانج،
12
وبعيدا في الجنوب عند جوانجشي وجوانجدونج وفوجيان، وحتى في جزيرة تايوان، وتقع كلها على حدود بحر الصين الجنوبي. لذا على الأرجح كان ثمة قدر من الاختلاط عبر التجارة على طول ساحل الصين. زرع السكان في الشمال نبات الدخن، وزرع الموجودون في الجنوب الأرز. وكانت الخيل والماشية والخراف الحيوانات الأساسية المستأنسة في المناطق الشمالية، أما في الجنوب فقد كان الدجاج والخنازير والكلاب. وفقا للباحثين الصينيين، كانت شيا هي الأسرة الحاكمة الأولى للبلاد، التي يعتقد أنها حكمت تقريبا منذ القرن الحادي والعشرين إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد. ويقال إن إحدى المدن الرئيسية كانت تقع في إيرليتو، بالقرب من مدينة يانشي الحديثة في هينان؛ حيث عثر على بقايا قصر. تلا حكم أسرة شيا حكم أسرة شانج، الذين بدءوا في التوسع شمال أراضي شيا، والذين بدءوا في صنع واحدة من أكثر الثقافات تطورا في هذا الوقت.
أتقنت تحت حكم أسرة شانج تقنيات مثل استخدام عجلة الفخار،
13
وسبك البرونز، ونحت حجر اليشم والعاج ونسج الحرير.
14
زاول الصينيون علم الفلك وعزفوا الموسيقى، كما أن الأواني المصنوعة من الطمي، التي يرجع تاريخ صناعتها إلى الفترة بين 6 آلاف و5 آلاف قبل الميلاد، أصبحت أكثر تعقيدا في أسلوب صنعها وألوانها المميزة لكل منطقة. وكان أحد أبرز التطورات في هذا الوقت اختراع النصوص المكتوبة
15
التي حفظت في شكل نقوش على البرونز والحجارة وبقايا الحيوانات. وكانت عظام كتف الثيران والخراف والغزلان والخنازير - وحتى البشر أحيانا - وسطا مفضلا، وكانت أصداف السلاحف (التي كان يزعم أن لها صفات سحرية) وسطا آخر. تشير هذه الكتابات إلى كثير من جوانب حياة عهد أسرة شانج؛ الزراعة وحياة المدينة، الحملات العسكرية والبعثات الاستكشافية، علم الفلك والتقويم والمناخ، المعتقدات الدينية والقرابين، الشخصيات والعائلة الملكية. كانت عاصمة أسرة شانج على الأرجح في إيرليجانج، بالقرب من مدينة تشنجتشو الحديثة في مقاطعة هينان. وكانت المدينة، التي بلغت مساحتها نحو 25 كيلومترا، محاطة بجدار ترابي يبلغ طوله 7 كيلومترات.
انتهى عهد أسرة شانج بحلول أسرة تشو في عام 1045 قبل الميلاد، لكن حضارتهم ظلت باقية، وفي الواقع تطورت الكتابة الصينية أكثر في عصر أسرة تشو، وسجلت أخيرا كلمات كونفوشيوس. تشهد المدن والقصور والقبور والتماثيل على إنجازات أسرة تشو. حكمت أسرة تشو الغربية، التي امتدت أقاليمها إلى أبعد من مدينة شيان الحالية، حتى عام 771 قبل الميلاد. أعقب حكمهم حكم أسرة تشو الشرقية، التي احتلت المنطقة الساحلية وحكمت حتى عام 221 قبل الميلاد. طوال هذه الفترة كانت ثمة حروب ومنازعات، وانحسرت الاضطرابات - وإن كان لفترة وجيزة - فقط عند توحيد أراضي أسرة تشو على يد أسرة تشين، وكانت هذه أول سلالة في إمبراطورية الصين، وهي إمبراطورية كان مقدرا لها الاستمرار لأكثر من ألفي سنة حتى انتهاء أسرة تشينج
16
في عام 1911 وحلت محلها جمهورية سون يات سين. ويقال إن كلمة الصين بالإنجليزية
China ، اشتقت من كلمة تشين، ومنها جاءت أيضا الصفة «صيني» بالإنجليزية.
17
ومن جانبه كان الشعب الصيني يطلق على مملكته اسم العاصمة التي يعيش فيها الحاكم؛ فكانت تشيا عاصمة أسرة تشيا، وكانت تشانج عاصمة أسرة تشانج، وتشو عاصمة أسرة تشو، وهكذا. وتقع وراء المنطقة المخصصة لعاصمتها أراضي كبار الإقطاعيين، وتوجد وراء هذا أراضي البربر. لم يكن أي منهما يستحق اسم الدولة ؛ ففي هذا الوقت كانت أراضي السكان في الجنوب تسمى هان، الذي له معنى ازدرائي. ومن جانبهم أطلق الهان على جيرانهم الشماليين «البربر الضعفاء» أو «الأوغاد الشعث». وعندما خلفت أسرة هان أسرة شين في عام 206 قبل الميلاد، انعكست عبارات الازدراء هذه. وفي أواخر القرن السابع عشر الميلاد فقط، عندما خلفت سلالة تشينج سلالة مينج، سميت الدولة لفترة وجيزة باسم «عام»: تشونججو، بمعنى المركز الملكي. إذا كان الصينيون اعتبروا الذين يعيشون وراء حدودهم برابرة - بالطبع مثلما فعل تماما الإغريق والرومان وأمم أخرى كثيرة - فقد كان لديهم سبب وجيه لذلك؛ فطوال العصور الوسطى، بينما كانت الحضارة الأوروبية والشرق أوسطية في حالة خمول، ازدهرت ثقافة الصين وتقدمها التكنولوجي؛ فيظهر تاريخها، من ناحية، كيف أن غياب الحراك البشري من شأنه ألا يقلل الأفكار المبتكرة، ولكن من ناحية أخرى كيف تؤدي العزلة عن التأثير الخارجي في النهاية إلى تدهورها. (5) كريت
ترجع الحضارة المينوية إلى نحو 3 آلاف عام قبل الميلاد؛ مما يجعلها الأقدم في أوروبا. وقد كشفت عنها عمليات التنقيب الأثرية لرجل واحد؛ هو السير أرثر إيفانز، الذي بدأ الحفر في عام 1899، واستمر في هذا طول السنوات الست والثلاثين التالية. وهو الذي اخترع كلمة مينوية؛ استنادا إلى الملك الأسطوري مينوس، الذي يقال إنه عاش على جزيرة أطلق عليها إيفانز اسم كريت. ابتكر المينويون أسلوبا مميزا في فن العمارة؛ فكان حكامهم يهتمون بحياتهم الحالية أكثر من حياتهم الآخرة؛ فبنوا قصورا وليس أهرامات. فبنوا قصورا في كنوسوس وماليا وفيستوس وزاكرو؛ فقد احتوت القصور الموجودة في كنوسوس، بالقرب من ميناء هيراكليون الحالي، على نماذج جصية لمناظر طبيعية، والحياة الحيوانية وغيرها من الموضوعات. كانت الحضارة المينوية واحدة من أقدم الثقافات في العصر البرونزي؛ فلم تستخدم المعادن فحسب، بل إنها صنعت أختاما مزخرفة وعددا هائلا من المصنوعات الخزفية. استمرت ثقافتهم بعد قدوم الميسينيون من الأراضي الشمالية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، رغم أن القصور دمرت في النهاية. وعلى الأرجح تأثير الزلزال الذي تعرض له القصر الموجود في كنوسوس لا يقل كثيرا عن تأثره بغزو الميسينيين. لكن في هذا الوقت كان المعتدون استوعبوا ما يكفي من الثقافة المينوية لإنشاء اليونان، التي انتقلت إليها هذه الثقافة، والتي أصبحت مركزا للحضارة الأوروبية على مدى الألف سنة التالية.
ذكرت من قبل دمار المكتبة العظيمة في الإسكندرية، وفقدان كثير من المعلومات حول الثقافات القديمة، ومنها ثقافة اليونان وروما. لكن ظلت معلومات أخرى؛ فتعتبر المكتبة الموجودة في مدينة هركولانيوم مثالا على مجموعة يعاد حاليا ترميمها. إنها جزء من قصر كانت تنتمي في وقت ما إلى والد زوجة يوليوس قيصر، وتحتوي على آلاف من لفافات البردي. دفن القصر الصغير، وبقية أجزاء المدينة، تحت الحمم البركانية عندما انفجر جبل فيزوف في عام 79 ميلاديا، واحترقت معظم محتوياتها. وفي أثناء عمليات التنقيب الأولى رمي كثير من البرديات ببساطة لكونها مجرد قطع من الفحم، في حين نجت برديات أخرى. يوجد بعض منها في حالة جيدة تكفي لقراءتها؛ فهي تصف حياة الناس في هذا الوقت، وفلسفات الطبقة المثقفة فيها، بما في ذلك الحكيم الإغريقي أبيقور. ومع ذلك، كانت معظم البرديات محترقة على نحو سيئ بحيث يصعب ولو فتحها، فضلا عن قراءتها؛ فيصعب عليك تمييز حروف مكتوبة بالحبر الأسود على خلفية سوداء متفحمة. لكن ابتكرت حاليا طرق جديدة لفصل الطبقات برفق، كما أن التقنيات الطيفية - التي طورتها ناسا من أجل استكشاف النجوم البعيدة - تستخدم في إظهار الحروف حتى الموجودة على خلفية متفحمة. ما زالت آلاف من هذه البرديات مدفونة تحت الأنقاض في انتظار العثور عليها وقراءتها. (6) أمريكا الوسطى
لا يضاهي ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية كم ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا. ربما كانت أقدم ثقافة هي ثقافة الأولمكيين، الذين سكنوا الشواطئ الشرقية للمكسيك بالقرب من فيرا كروز منذ 3 آلاف عام. هذا وتشهد رءوس ضخمة منحوتة باحتراف في صخور يصل وزنها إلى 30 طنا على مهارة الأولمكيين كحرفيين ومهندسين. يبعد الموقع في لافينتا، الموجود حاليا في وسط مستنقع بالقرب من الساحل، 100 ميل عن أقرب مصدر للحجارة. نحن لا نعرف كيف أمكنهم نقل مثل هذه الجلاميد، تماما كما لا نفهم كيف أحضر سكان جزيرة الفصح الرءوس المصنوعة من الحجارة - التي تشبه رءوس الأولمكيين في نواح معينة - إلى موقعها الحالي. يبدو أن الأولمكيين استخدموا القرابين البشرية - أقدم حالة سجلت في العالم الجديد - بأسلوب مروع للغاية؛ فقد عثر في هذه المنطقة على عظام طفل منزوع الذراعين والساقين ورأسه مقطوع، ويبدو أنه انتزع من رحم أمه، على النحو الذي ظهر في مسرحية ماكبث.
توجد على الأرجح أكبر وأقدم المستوطنات في أمريكا كلها في تيوتيهواكان، على بعد 35 ميلا شمال شرق مكسيكو سيتي. ربما كانت موطنا لما يصل إلى 200 ألف مواطن. ومثل المدن الأخرى التي نشأت في أمريكا الوسطى - شمالا في تولتيك، والأولمك على الساحل الشرقي والمايا في شبه جزيرة يوكاتان - تمركزت الحياة حول الساحات الاحتفالية التي ضمت أهرامات، بالإضافة إلى مناطق من أجل ممارسة الرياضة المفضلة؛ لعبة الكرة. كان ثمة نشاط تجاري واسع النطاق بين هذه المدن، وكانت ثقافة كل مجموعة من الأفراد الذين ذكرتهم متشابهة. كانت الأهرامات مدرجة، مثل الزقورات لدى السومريين والأهرامات البدائية للمصريين، لكنها كانت أصغر حجما. وكان يبنى معبد على قمة كل هرم، وتوضع أمامه تماثيل منحوتة مزخرفة. كانت المعابد تستخدم في الشعائر الدينية (ومنها القرابين البشرية) إجلالا للآلهة، التي كان زعيمهم كيتزالكواتل، الأفعى ذات الريش. وفي تيوتيهواكان يمكن للمرء تسلق المعبد المعاد بناؤه الذي كان مخصصا لكيتزالكواتل، بالإضافة إلى المعابد التي بنيت تعظيما للشمس والقمر. ظلت هذه المدينة لمدة ألف عام حتى نهبها أهالي تولتيك في عام 750 ميلاديا. أعيد اكتشاف بقاياها على يد الآزتيك في القرن الخامس عشر، قبل 100 عام من قدوم الإسبان. في هذا الوقت كان الآزتيك سادة معظم الأجزاء المأهولة بالسكان في أمريكا الوسطى. وأدخلوا كثيرا من الأشياء التي عثروا عليها في تيوتيهواكان في عاصمتهم، التي بنوها على جزيرة في مكان مرتفع على تلة في الجنوب؛ وأطلقوا عليها تينوتشتيتلان. وبعد هزيمتهم على يد هرناندو كورتيس في عام 1521، تم تجفيف البحيرة وأصبحت المنطقة موقعا للعاصمة الحالية؛ مكسيكو سيتي.
نشأت ثقافة رفيعة، هي ثقافة الزابوتيك، في هذه المنطقة التي أصبحت حاليا ولاية أواكساكا. وقد وصلت إلى أوج ازدهارها في الفترة بين 300 و900 ميلاديا (صورة 3)، وبعدها بدأت تضمحل. لم يمنع وصول الميكستيك إلى هذه المنطقة عملية التدهور، وكان مجتمع الزابوتيك في حالة تدهور حاد عند وصول الإسبان في القرن السادس عشر. هذا وقد نشأت واحدة من أكثر الثقافات تطورا في أمريكا؛ وهي ثقافة المايا، في يوكاتان التي تضم حاليا دول بليز وجواتيمالا وهندوراس، بالإضافة إلى أجزاء من المكسيك، ويشار عادة إلى المنطقة بأكملها التي تشمل يوكاتان ووسط المكسيك بوسط أمريكا. وصلت حضارة المايا، مثل حضارة الزابوتيك، إلى ذروة إنجازاتها في الفترة بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين، لكنها كانت أكثر اتساعا؛ حيث وصل عدد سكانها إلى 16 مليونا. ومثل تدهور ثقافة الزابوتيك، انهارت ثقافة المايا، لأسباب ليست واضحة على الإطلاق،
18
عند وصول الفاتحين. ومع ذلك ظلت مجموعات صغيرة متفرقة من المتحدثين بلغة المايا على قيد الحياة، وما زال 4 ملايين من أحفادهم يتحدثون هذه اللغة في يومنا هذا. ويواصلون زراعة المحاصيل نفسها التي زرعها أجدادهم منذ 3500 سنة؛ الذرة (الذرة الصفراء)، والفاصولياء والقرع. وفي جنوب هذه المنطقة، حيث الأرض كثيرة التلال، كانت الزراعة تحدث عبر نظام ري وإنشاء مصاطب متطور. كان شعب المايا سادة الرصد الفلكي؛ فكان تقويمهم أكثر دقة من التقويم اليولياني الذي استحدثه يوليوس قيصر. كذلك بنوا معابد وأهرامات وقصورا وساحات للعب الكرة وميادين. تزين صروحهم النقوش الحجرية المتداخلة والنقوش البارزة، التي استمددنا منها كثيرا من معرفتنا بحضارة المايا. ولأن كثيرا من الصروح التي شيدها المايا أحدث من تلك الموجودة في مواقع في العالم القديم، لم تدفن مع مرور الزمن، ويوجد معظمها فوق سطح الأرض. بالإضافة إلى ذلك، حفظت بشكل جيد نسبيا كثير من المباني، مثل الموجودة في مدينة تشيتشن إيتزا وماتابان وبالينكي وأوشمال، رغم زحف نباتات الغابة بمجرد هجر البشر لها. استخدم المايا النحاس والذهب وصنعوا الورق، الذي وضعوه في كتب، من اللحاء الداخلي لشجرة التين البرية. ومن بين كل الحضارات التي نشأت في الأمريكتين، تعتبر حضارة المايا فريدة؛ فيبدو أنها الوحيدة التي أنتجت نصوصا مكتوبة. كانت نصوصا هيروغليفية، وفكت شفرتها إلى حد كبير، ونتيجة لها نعرف كثيرا عن المايا أكثر من أي ثقافة أخرى انهارت قبل مجيء الإسبان في القرن السادس عشر. (7) أمريكا الجنوبية
لم يكن ثمة تواصل كبير بين حضارة الإنكا، بعاصمتها كوزكو التي تقع على ارتفاع 11 ألف قدم فوق جبال الأنديز في بيرو، مع ثقافات أمريكا الوسطى، وثقافتهم متميزة عن ثقافة الأزتيك والمايا. يوجد وجه تشابه فقط في حقيقة أن حضارات الإنكا والآزتيك كانتا في أوج ازدهارهما عندما وصل الفاتحون في القرن السادس عشر. لم يكن الإنكا بالتأكيد أقدم حضارة في أمريكا الجنوبية. فكشفت عمليات التنقيب الحديثة على طول الخط الساحلي الجاف لبيرو مدينة من الأهرامات كانت عظيمة في السابق،
19
ويرجع تاريخها إلى 2600 قبل الميلاد؛ وهو من قبيل المصادفة الوقت ذاته الذي كان خوفو يبني فيه هرمه الأكبر في الجيزة. كانت ثمة مجتمعات مستقرة في أماكن أخرى؛ فعاش شعب التشافين في المرتفعات الشمالية الشرقية في بيرو منذ نحو 900 حتى 200 قبل الميلاد؛ بني في موقع تشافين دي هوانتار مجمع ضخم من المعابد متقن النحت. بعيدا في الجنوب على طول السهل الساحلي، على بعد 100 ميل جنوب مدينة ليما الحالية، ظهرت حضارة باراكاس بالتزامن مع حضارة تشافين بعيدا في الشمال؛ استمرت حضارتهم أكثر، حتى 400 ميلاديا تقريبا. كان الباراكاس يدفنون موتاهم في الأصل داخل الكهوف، وفي وقت لاحق أصبحوا يدفنون في جبانات مبنية خصوصا، وكانت الجثامين تلف في ملابس فاخرة، بعض منها ظل على حاله حتى يومنا هذا بسبب التربة الجافة. ومثل التشافين، صنع الباراكاس منسوجات مزخرفة للغاية، بالإضافة إلى أوان فخارية وأشياء مصنوعة من الذهب. ثمة شعب ساحلي آخر أقام ثقافة منذ نحو 200 حتى 600 ميلاديا، وهم الموشيكا في شمال بيرو. ويتمثل ميراثهم المتميز في مجموعة من المباني في موشي تضم بقايا أكبر مبنى شيد في أمريكا الجنوبية قبل مجيء كريستوفر كولومبوس، يسمى هرم الشمس. عاش في شمال بيرو أيضا الشيمو، الذين كانت عاصمتهم في مدينة تشان تشان، والذين صنعوا مصنوعات معدنية معقدة بالفضة والذهب، في الواقع تماما مثل معظم هذه الثقافات الأنديزية. في النهاية استوعب الإنكا ثقافة الشيمو وبقايا كافة الثقافات الأخرى؛ حيث سيطروا الآن على كل الأراضي الغربية في قارة أمريكا الجنوبية.
استمر حكم الإنكا 300 عام منذ نحو 1200 ميلاديا، لكنهم أقاموا في هذا الوقت أكبر إمبراطورية في أمريكا الجنوبية. وبحلول عام 1528 امتدت الإمبراطورية من شمالي الإكوادور، عبر كامل أجزاء بيرو، حتى بوليفيا ونزولا إلى أجزاء من شمالي الأرجنتين وتشيلي، على مساحة 3 آلاف ميل. ومن أجل الربط بين أراضيهم الشاسعة بنوا نظاما للطرق يضاهي في تطوره ذلك الخاص بالرومان. لكن لم تسر أي عربة في هذه الطرق السريعة؛ فكانوا يسيرون أو يركبون على ظهر اللاما. ضاهى الإنكا الرومان أيضا في الري والزراعة المائية، وتمكنوا من إطعام نحو 7 ملايين فرد، وتلقى الفقراء رعاية اجتماعية من الضرائب التي كان يدفعها الميسورون. وكشفت الأبحاث الأخيرة التي أجريت في منطقة بوريز في غابات الأمازون البوليفية
20
عن شبكة هيدروليكية شاسعة من الجسور الأرضية في شكل متعرج، بالإضافة إلى برك تغطي مساحة أكثر من 500 كيلومتر مربع. وحتى يومنا هذا تعج هذه الممرات المائية المهجورة بعدد يتراوح بين 100 ألف و400 ألف سمكة في الهكتار؛ من نوع بوشر ويالو وكوناري وبلميطة وسبالو وبنتون. في الأوقات السابقة على قدوم الإسبان كانت هذه المزارع السمكية الصناعية تنتج مئات الأطنان من القواقع القابلة للأكل أيضا. وعلى جانبي المياه ما زال النخيل (نخل البوريتي) ينمو أيضا. وكان ثمة 5 آلاف نوع مختلف من الفاكهة الغنية بفيتامينات «أ» و«د» والزيت والبروتين يمكن جنيها من شجرة واحدة سنة بعد سنة. وكانت ألياف سعف النخيل تستخدم - كما هو الحال في عصرنا الحالي - لصنع السلال والحصير والأرجوحات الشبكية والأوتار وقش الأسقف. باختصار، اخترع الإنكا تقنية مكنتهم، عبر الاحتفاظ ببراعة بمياه الأمطار ، من الحفاظ على عدد هائل من السكان الذين يعيشون في بيئة من السافانا. ومثل كل الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية، لم تفتقر إلا إلى سبيل واحد للراحة؛ العجلة. تجعل هذه الحقيقة وحدها المرء يساوره شك عميق بشأن أولئك الذين يقترحون وجود صلة ثقافية بين العالم القديم والجديد؛ فمن بين كل أوجه التشابه الموجودة لتشير إلى دخول الأشياء من الشرق إلى الغرب - مثل الأهرامات الحجرية والجثث المحنطة وزوارق القصب - من المؤكد أن العنصر التكنولوجي الوحيد الذي يمكن لدخيل مزعوم من العالم القديم أن يفتقده ويعوضه على الفور هو استخدام العجلة.
بخلاف هذا كانت تكنولوجيا الإنكا واسعة النطاق؛ فكانت ورش العمل تقام من أجل إنتاج مصنوعات خزفية فاخرة، ومنسوجات وأشياء معدنية مصنوعة من الفضة والذهب والبرونز. واشتمل فن المعمار لديهم على إتقان تركيب المباني الحجرية، التي تقام عادة في أكثر الأماكن صعوبة. هذا وتشهد المباني الموجودة في ماتشو بيتشو، التي تضم قصرا ومعبدا للشمس قابعين على سفح تل منحدر في الغابة الأنديزية أسفل كوزكو، على المهارات المعمارية للإنكا. وللعجب لم يعثر الإسبان قط على ماتشو بيتشو، ولم تكتشف إلا في عام 1911 على يد عالم آثار أمريكي يدعى حيرام بينجهام.
21
وبعدما ظلت سليمة وقبعت دون تدخل فيها طوال 400 عام، لم يكن تأثير الحضارة الحديثة عليها حميدا؛ فقد سقطت رافعة استخدمت في تصوير إعلان جعة مؤخرا وأحدثت ضررا لساعة الإنكا الشمسية الحجرية في 10 ثوان يفوق الضرر الذي استطاع الطقس إحداثه لها في نصف ألفية.
للأسف لم يكن مقدرا لعلم الإنكا وثقافتهم البقاء؛ فقد دمرها فرد إسباني غير متعلم من الطبقة الدنيا في المجتمع؛ فقد ترك فرانثيسكو بيثارو إسبانيا في سن الثالثة والعشرين ليقضي السنوات الخمس والعشرين التالية فيما يعرف حاليا ببنما، في قتل السكان المحليين والبحث عن الذهب. وعندما فشل في العثور على الذهب، أبحر جنوبا على طول ساحل المحيط الهادئ ووصل إلى حدود إمبراطورية الإنكا. في الواقع قيل إنه سيجد الثروات التي يبحث عنها في هذا المكان. لكن في هذا الوقت كان طبع بيثارو السيئ قد تسبب في ترك معظم جيشه له، وفي عام 1528 عاد إلى إسبانيا لإحضار مزيد من الرجال. وبدعم من كارلوس الخامس عاد إلى بيرو بعد أربع سنوات. وفي العام التالي قبض على زعيم الإنكا أتاوالبا في مدينة كاخاماركا. حاول أتاوالبا رشوة الإسبان بذهب وفضة يكفيان لملء حجرتين. أخذ بيثارو هذه المعادن النفيسة وأذابها، ودمر بهذا قرونا من المهارة الحرفية. وبعد ذلك خان أتاوالبا من خلال اتهامه بالخيانة وحرقه على عمود. وأصبح مانكو ابن الزعيم المتوفى حاكما دمية للإنكا. بعد ذلك زحف بيثارو بجيشه ألف ميل جنوبا نحو العاصمة كوزكو. في هذه المرحلة، مثل حال الإسكندر الأكبر في آسيا بعد 1800 سنة، كان متوغلا في أراضي العدو ومعزولا عن أي تعزيزات ممكنة. فاقت قوات العدو عدد قواته بنحو 100 إلى واحد، لكن كان ثمة اختلاف؛ ففي عام 300 قبل الميلاد دار القتال بين قوات الإسكندر وقوات داريوس بأسلحة متشابهة، لكن في عام 1537 كان الإسبان يمتطون الخيول ويستخدمون البارود، بينما كان الإنكا يعتمدون على اللاما ويستخدمون أسلحة العصر البرونزي. وعليه، فازت التكنولوجيا الحديثة؛ فهزم جيش مانكو وسقطت كوزكو في يد الغزاة، وبذلك اختفت إمبراطورية الإنكا.
اعتبر توينبي حضارتي المايا والإنكا حضارتين أساسيتين. وفي ضوء كثير من الاكتشافات الأثرية التي حدثت منذ عصره، ربما يكون من المناسب أكثر اعتبار حضارة الأولمك في أمريكا الوسطى والتشافين في أمريكا الجنوبية حضارتين أساسيتين بالمثل، واعتبار الحضارات التالية عليها، وإن كانت أكثر اتساعا، مثل حضارات المايا والإنكا، ثانوية، تماما مثلما تكون الثقافة المينوية سلفا لحضارة اليونان الأكثر تطورا. وهذا الأمر متروك حسمه للمؤرخين. الواضح أن حضارات العالم الجديد تركت أثرها على المجتمعات التالية لها، تماما كما فعلت حضارات العالم القديم؛ السومرية والمصرية والهندية والصينية والمينوية، فربما تلاشت ثقافة المايا، لكن ليس قبل أن تلهم بعض إنجازاتهم الآزتيك. ورغم أنهم تعرضوا، مثل الإنكا، للإبادة إلى حد كبير على يد الفاتحين في القرن السادس عشر، فإن ثمة سمات معينة في حياتهم، مرتبطة تحديدا بالمنتجات الزراعية، أدخلت في الأساليب الإسبانية وسرعان ما انتشرت في بقية أنحاء أوروبا، والأمثلة الواضحة على هذا البطاطس والأفوكادو والشوكولاتة والتبغ. (8) أماكن أخرى
لم أتحدث حتى الآن عن أي ثقافات وجدت في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، لنفس سبب تجاهلي لتلك الموجودة في شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية؛ عدم انطباق المعايير التي اخترتها بناء عليها؛ وهي: بناء القرى والمدن، والأهرامات والمعابد، والموانئ والطرق، وإنتاج الأدب والفن، والتكنولوجيا والتجارة.
22
إن هدفي هو إظهار كيف أدى تفاعل الإنسان مع التحدي، وسعيه المستمر للبحث عن جودة حياة أفضل، إلى تغيير العالم الذي يعيش فيه؛ فإن الدوائر الحجرية في ستونهنج وأفيبري في جنوبي إنجلترا، وممرات الميغاليث في كارناك في بريتاني، والأكروبوليس في زيمبابوي العظمى، وسبح هنود البومو في كاليفورنيا، والمنازل الكهفية التي يبلغ ارتفاعها خمسة طوابق لهنود الأناسازي في شاكو كانيون في ولاية نيو مكسيكو؛
23
لا تسهم إلا بقدر قليل نسبيا في هذا السعي، أما بناء المباني العامة، ومبادئ ري المحاصيل وصرف الفضلات في المناطق الحضرية، واختراع النص المكتوب، وفن استخدام المعادن النفيسة ومخازن الحبوب في كوزكو وموهينجو دارو، فله إسهام واضح. أنا أدرك أن الأهرامات والقصور لم تؤثر كثيرا في حياة الإنسان العادي، الذي ظل يعيش في أكواخ بسيطة طوال هذه الأوقات المبكرة؛ لكنها سرعان ما أصبحت تبنى من الخشب ثم من الحجارة. فإذا لم يسع الحكام لتعظيم ذاتهم، لظلت حياة رعاياهم ساكنة إلى الأبد. والأمر نفسه يحدث في عصرنا الحالي؛ فالأشياء التي كانت في الأصل دمى للأغنياء - مثل الهاتف والسيارة والثلاجة وجهاز التليفزيون - أصبحت أدوات الحياة اليومية لعامة الشعب. وإذا كان انتشار سبل الرفاهية من القلة إلى العامة فشل في دول مثل بنجلاديش أو البرازيل، فإن المشكلة تكمن في الاقتصاد الداخلي الجائر، وليس في روح الابتكار لدى الإنسان.
قد تتساءل ماذا عن الكلت، ألم يكن لديهم غرف للدفن - بالقرب من هالشتات في ألمانيا ولاتين في سويسرا - على القدر نفسه من تطور غرف المصريين؟ ألم يكن حكامهم يدفنون مع حلي متقنة الصنع من الذهب وعتاد حربي من البرونز، ومع أسلحتهم المصنوعة من الحديد في وقت - بين 1000 و500 قبل الميلاد - كانت فيه أوروبا ما زال يغلب عليها الصيادون جامعو النباتات؟ ألم يعش الكلت الذين هاجروا إلى الجزر البريطانية وأيرلندا داخل أبنية مسقوفة جيدا بالقش ومصنوعة من العيدان المجدولة والطمي، تميزت عن تلك التي انتشرت في جميع أنحاء أوروبا من حيث كونها مستديرة وليست مربعة أو مستطيلة؟ ألم تكن الزراعة في بريطانيا متقدمة للغاية حتى إنهم في عام 200 قبل الميلاد كانوا يحققون المحصول نفسه من محاصيل الحبوب الذي تمكن أحفادهم من تحقيقه في منتصف القرن العشرين؟ أولم يخترعوا لغة تستخدم في الحديث حتى يومنا هذا، لها أشكال مختلفة قليلا في إيرلندا واسكتلندا، وفي كورنوال وويلز؟ كذلك ألم يكن الكلت في إنجلترا في القرن الأول قبل الميلاد يعيشون حياة أكثر تطورا من الجيش الروماني الذي أغار عليهم؟ هذا صحيح، ومع ذلك يظهر تأثير روما واليونان في النهاية جليا في حليهم وأسلحتهم، وفي جوانب أخرى من حياتهم. يجب ألا ننسى أن ثقافة شرق البحر المتوسط ظلت تنتشر غربا من خلال تجار السلع التجارية لعدة قرون قبل زحف جنود مشاة يوليوس قيصر على شمال أوروبا. ما أريد توضيحه أنني كما لا أعتبر حضارة روما أساسية، ينطبق الأمر نفسه على حضارة الكلت أيضا التي تدين بالكثير للتأثير السابق للحضارتين المينوية والمصرية.
24
توجد أدلة على صعود الإنسان بضع درجات أعلى السلم، لكنه يفشل في الاستمرار في الصعود، في جميع أنحاء العالم.
25
وقد ذكرنا بعض الأمثلة على هذا بالفعل. تسبق البقايا التي اكتشفت مؤخرا في شرق أوروبا وتركيا حضارات بلاد الرافدين ومصر. فالمباني في مدينة شاتال هويوك بالقرب من مدينة قونية في جنوبي تركيا، التي يقال إن 7 آلاف شخص كانوا يعيشون بها، يبلغ عمرها 8 آلاف سنة؛ وعثر على مصنوعات من الفترة نفسها في قرية بورودين في مقدونيا وفي ليبينسكي فير على ضفاف نهر الدانوب في صربيا، كما استخدمت مقبرة في مدينة نيترا في سلوفاكيا منذ 7 آلاف سنة. عثر كذلك على مواقع أكثر حداثة في جنوب شرق آسيا وجنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. فكانت تقع بالقرب من معابد أنكور وات في كمبوديا مدينة في حجم لندن، يقال إنها تشكل أكبر أثر ديني في العالم.
26
توجد أدلة على نظام ري واسع من بحيرات كان يعاد ملؤها بفعل الأمطار الموسمية السنوية. بدأت التجارة مع اليابان، لكن لأسباب غير واضحة تماما مثل أسباب زوال حضارة المايا، زالت ثقافة الخمير ببطء.
يوجد بالقرب من بحيرة فيكتوريا أبنية يرجع تاريخها إلى عام 700 قبل الميلاد تقدم دليلا على أعمال العصر الحديدي، ولم تظهر هذه التقنية في الشرق الأوسط إلا في عام 500 قبل الميلاد تقريبا. كما عثر على مخطوطات في مدينة تمبكتو تسبق وصول القوافل العربية في القرن الحادي عشر بنحو 200 سنة. واكتشف نحو 100 موقع بقايا لمبان حجرية في جميع أنحاء شرق آسيا وجنوبها؛ في مابونجوبوي في جنوب أفريقيا،
27
وفي زيمبابوي العظمى في الدولة التي تحمل حاليا اسمها،
28
وفي جزيرة كيلوا على ساحل تنزانيا.
29
كانت ثمة تجارة مع الصين (جلب الأفارقة الزرافة إلى هذه الأراضي)، ومع الهند وفارس؛ فكان الذهب والعاج يصدران في مقابل الحرير والسجاد. إذن لماذا توقف كل هذا النشاط قبل وقت طويل من وصول المستكشفين الأوروبيين في القرن التاسع عشر إلى هذه القارة العظيمة (وتقسيمها بينهم)؟ لماذا تلاشى سعي هؤلاء الناس؟
30
نحن لا نعلم، فربما لعب تغير المناخ، كما حدث في أماكن أخرى، دورا في هذا. وربما نهب البرتغاليون في القرن السادس عشر مجتمعات مزدهرة، مثلما فعل الإسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية.
يوجد أيضا احتمال وجود حضارات كاملة مفقودة في البحر المتوسط وجنوب شرق آسيا سبقت تاريخ ظهور الحضارات الخمسة الأساسية في العالم القديم كلها. الدليل على هذا ضعيف، لكن يعرضه بحماس كتاب مثل ستيفن أوبنهايمر
31
وجراهام هانكوك.
32
وتتمثل الحجة تقريبا فيما يلي: توجد أدلة على زراعة الأرز في تايلاند قبل أكثر من 7 آلاف سنة، وهو ما يسبق تاريخ استخدامه في الصين. ينطبق الأمر نفسه على خزف ثقافة جومون في اليابان؛ فقد عثر على ملايين القطع، كثير منها به تماثيل بشرية. صنع بعض من هذه القطع قبل أكثر من 12 ألف سنة، أقدم من أي مكان آخر في العالم، وهكذا. لماذا لم تكتشف المزيد من آثار مثل هذه الحضارات القديمة؟ لأن معظم الأراضي التي حدثت عليها مثل هذه التطورات أصبحت الآن تحت الماء؛ إذ غمرتها الفيضانات التي صاحبت ذوبان الألواح الجليدية في نهاية آخر عصر جليدي. ومنذ أكثر من 10 آلاف عام كانت كتلة أرضية واحدة تسمى ساندالاند تغطي معظم المنطقة المعروفة حاليا بخليج تايلاند وبحر جاوة وبحر الصين الجنوبي والبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي. ولم يدمر ارتفاع المياه فحسب - النظير الآسيوي لطوفان نوح - الأدلة على نشاط الإنسان في هذه المنطقة، بل إنه دفع بعضا من سلالته غربا نحو الهند، وبلاد الرافدين ومصر، وشمالا إلى الصين. وتشهد العلامات الوراثية واللغوية على مثل هذه الهجرات البشرية، وتسهم في تأييد حجة عدم انبثاق أقدم الحضارات في الهلال الخصيب في الشرق الأوسط، وعلى ضفاف نهر السند والنهر الأصفر، بل في جنوب شرق آسيا.
حدثت مثل هذه الفيضانات الكبرى في جميع أنحاء العالم منذ نحو 14 ألف سنة، و11500 سنة، و8 آلاف سنة، مع بدء كميات ضخمة من الجليد المحيط بالأرض في الذوبان، ويوجد توثيق جيد لها. كما أن الباحثين عن المدن المفقودة التي توجد حاليا غارقة تحت سطح البحر يعثرون عليها ليس في جنوب شرق آسيا فحسب،
33
بل في البحر المتوسط أيضا، على ساحل مالطا،
34
على سبيل المثال. وربما انطلق الناجون من الفيضان التالي للعثور على مدينة أخرى في الجوار؛ إذ يوجد على مالطا حاليا دوائر حجرية أقدم بنحو ألف سنة من الموجودة في ستونهنج. وربما كان أفلاطون يتمتع ببصيرة نافذة على نحو مذهل عندما وصف أرض أطلنتس بأنها دمرت قبل عصره بتسعمائة سنة، وبما أنه عاش منذ 2400 سنة، فإن هذا يجعل دمار أطلنتس حدث في وقت الطوفان العظيم الثاني.
هل كنت مخطئا في وصف الحضارات منذ 6 آلاف سنة بأنها أساسية؟ ربما، لكن بسبب عدم بقاء الحضارات الأقدم المحتملة، لا يمكننا قياس نجاحها بالمعايير التي طبقتها على تلك التي ظلت باقية لآلاف السنين على الأرض الجافة. فقد تسلق بناة ستونهنج والكارناك في شاتال هيويوك وليبينسكي فير، ومابونجوبوي وزيمبابوي العظمى، وقصر كليف في حديقة ماسا فيردي الوطنية (كولورادو)، وبيبلو بونيتو في شاكو كانيون؛ عدة درجات أعلى سلم الإنجاز، لكنهم سقطوا بعد ذلك. كذلك بدأ المهندسون المعماريون للمدن التي طمرها ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط والبحار الموجودة على ساحل جنوب شرق آسيا، عملية الصعود هذه، لكن في حالتهم ببساطة انكسر السلم.
هوامش
الفصل الثامن
الحضارة 2: التواصل والثقافة
(1) اللغة والأدب
ذكرت في المقدمة فرضية روبن دنبار بأن اللغة لدى الإنسان تطورت من عملية التنظيف لدى القردة؛ فهو الوقت الذي يسترخي فيه أفراد الأسرة ويثرثرون. أما الفيلسوف كارل بوبر، في رفضه للرأي القائل إن اللغة نشأت من صيحات الاستغاثة والتحذيرات من الخطر، فقد اقترح مسبقا شيئا مشابها؛ فقال: «أنا أقترح أن الجهاز الصوتي الأساسي للغة البشر نشأ ... من الثرثرة المرحة للأمهات مع أطفالهن الرضع ولمجموعات الأطفال ...»
1
فتكون مثل هذه اللحظات أيضا أوقاتا لسرد القصص، التي تمثل أسسا للأدب. ومن دون اللغة لا وجود للثقافة؛ فيعتبر التواصل مكونا أساسيا للحضارة. وعلى حد وصف نيلز بور لهذا فيما يتعلق بالعلم: «ما الذي يعتمد البشر عليه في الأساس؟ نحن نعتمد على كلماتنا. فنحن عالقون في اللغة؛ فمهمتنا هي التواصل ... دون خسارة الهدف أو الطبيعة الواضحة [لما نقوله].»
2
إذا كان إنسان نياندرتال لم يتمتع بصندوق صوتي متطور جيدا، ومن ثم كان يفتقر للغة، فإن هذا أحد أسباب عدم احتمال أن تكون هذه المجموعة قد بدأت حضارة، هذا إذا كانت عاشت لفترة طويلة بما يكفي. من ناحية أخرى، يوجد من يعتقدون أن أسلافنا المباشرين كانوا يتواصلون فيما بينهم منذ 500 ألف سنة،
3
قبل ظهور الإنسان العاقل بفترة طويلة. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه ممارسة الزراعة منذ 10 آلاف سنة، ربما كانت معظم المجتمعات حول العالم تتحدث فيما بينها بنوع من الكلام. في الأصل كانت بعض الكلمات على الأرجح تحاكي الأصوات، كما في كلمات أزيز وحفيف وصرير، وغيرها. من ناحية أخرى، اعتقد كارل بوبر أن اللغة تدين أكثر للتصريحات المكتملة، كما في الحروف الصينية، أكثر من الأصوات أو الكلمات الفردية.
4
وسأقتصر على وصف اللغات التي تتحدث بها المجتمعات التي تطورت لتصبح حضارة. يؤدي التحدث إلى الأدب، لكن هذا ليس مطلبا أساسيا لبدء ثقافة؛ فالإنكا كانوا يفتقرون إلى النصوص المكتوبة، ومع ذلك فقد صنعوا حضارة متطورة في جوانب أخرى كأي حضارة أخرى. ومن ناحية أخرى، تساعد الكتابة بالفعل كثيرا في حكم مجتمع متزايد. تبدو أقدم السجلات المكتوبة هي الخاصة بالسومريين منذ 5400 سنة. كان الاستخدام الأساسي للكتابة في المراسيم والنصوص الدينية، رغم أنه سرعان ما تبعها تدوين الحسابات (أو العكس).
5
يمكننا الإشارة في هذا الشأن إلى أنه رغم عدم اختراع الإنكا للنصوص المكتوبة، فإنهم استخدموا حزما من الخيوط مربوطة بأشكال مختلفة لأغراض حسابية (كما فعل الصينيون القدامى).
يذكر دنبار رقما يبلغ نحو 150 شخصا بوصفه الحجم الحرج لبدايات اللغة؛ فمعظم الناس يعرفون عددا من الأصدقاء يصل إلى هذا الرقم - ونادرا ما يتخطاه - يمكنهم إقامة حوار جيد معهم. فهو يقارن أحجام مجموعة التنظيف لدى أجناس متنوعة من الرئيسيات (السعادين والقردة) بأبعاد القشرة المخية الجديدة، وهذا جزء من الطبقة الخارجية للمخ (القشرة) يهتم بوظائف دماغية أعلى مثل التفكير والذاكرة والإدراك. ولدى معظم الثدييات تمثل القشرة الجديدة من 30 إلى 40٪ من إجمالي حجم المخ، لكن لدى الرئيسيات تكون هذه النسبة أعلى؛ من 50٪ لدى السعالي البدائية (السعادين البدائية) إلى 80٪ لدى البشر. قارن دنبار حجم القشرة الجديدة مع العدد الذي تتكون منه حلقة التنظيف. وبما أن حجم المخ يتناسب مع كتلة الجسم،
6
فإن الثدييات الأكبر حجما ستصبح لديها قشرة جديدة أكبر بصرف النظر عن حجم حلقة التنظيف. وعليه، حسب دنبار نسبة القشرة الجديدة (حجمها مقسوما على وزن الجسم) في مقابل حجم دائرة التنظيف، وجاء استنتاجه بأن كليهما مرتبطان. فلدى الشمبانزي، على سبيل المثال، تكون نسبة القشرة الجديدة 3 وحجم دائرة التنظيف 70. ولدى البشر تكون نسبة القشرة الجديدة 4، التي يستدل منها على حجم حلقة تنظيف، أو بالأحرى ثرثرة، يصل إلى 150.
7
هل نمو القشرة الجديدة هو الذي يسمح للرئيسيات بتذكر عدد متزايد من المعارف يمكنها ممارسة التنظيف أو الثرثرة معها، أم أن هذا النشاط في حد ذاته هو الذي يحث على تكوين المزيد من عصبونات القشرة الدماغية؟ يميل المرء إلى التفكير في الاحتمال الثاني، وتوجد بعض الأدلة على ذلك. فعلى سبيل المثال، يبدو أن تواصل الطيور المغردة مع غيرها أدى إلى زيادة عدد عصبونات القشرة الدماغية؛ فإذا ترك ذكر من الطيور المغردة
8
وحده أو مع أنثى، تحدث لديه زيادة طفيفة في عدد عصبوناته، أما إذا سمح له بالاختلاط مع 45 طائرا مغردا آخر، فإن الزيادة تتضاعف.
9
وفيما يتعلق بحجم الثرثرة لدى البشر، يذكر دنبار إشارة علماء الآثار إلى اشتراك الإنسان في مجموعات تصل إلى نحو 150 فردا في المجتمعات الزراعية القديمة، بينما اقترحت أنا - اعتباطيا - في بداية الفصل السادس أن المرء قد يحتاج 100 أسرة لضمان وجود نطاق واسع من المواهب بين أفرادها؛ ومن ثم تكون 100 أسرة، أو من 200 حتى 400 فرد، الحجم المطلوب لتحويل أفكار مجتمع زراعي إلى بناء قرية متكاملة، ستنمو لتصبح مدينة وفي النهاية دولة مدينة، مع زيادة عدد الرجال الذين يتمتعون فيها بصفات قيادية. يذكر دنبار كذلك حقيقة أن عدد السكان في بعض القرى البدائية في إندونيسيا والفلبين وأمريكا الجنوبية في عصرنا الحالي يصل عادة إلى نحو 150 فردا؛ وهو عدد كاف لمجتمع زراعي، لكنه غير كاف لصعود هذه الدرجات الإضافية أعلى سلم الإنجاز الثقافي.
شكل 8-1: نصوص قديمة من منطقة البحر المتوسط. تشكل العلامات والرموز والحروف الموضحة جزءا من اللغات الآتية: (a)
محددات هيروغليفية (قارن مع صورة 4)، (b)
الكتابة السومرية التصويرية، (c)
علامات وادي نهر السند، (d)
نظام خطي أ، (e)
نظام خطي ب، (f)
الكتابة القبرصية، (g)
الأبجدية السينائية الأولية (قارن بين شكل
8-1 )، (h)
الفينيقية، (i)
الإيبيرية، (j)
الإترورية، (k)
الإغريقية (الفرع الغربي)، (l)
الرومانية، (m)
الرونية. تجدر بنا ملاحظة التشابه بين كافة هذه الرموز، التي استخدمت على مدى منطقة امتدت من شبه الجزيرة الإيبيرية حتى وادي نهر السند، والتشابه بينها وبين بعض العلامات التي عثر عليها على جدران الكهوف والمصنوعات الصغيرة في جنوبي فرنسا وشمالي إسبانيا التي ترجع إلى العصر الحجري (شكل
9-1 ). أعيدت طباعتها من مقال «مشكلة العلامات المجردة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد» لآلن فوربس وتوماس آر كرودر، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد 3: 350-366، 1979، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير،
LS23 7BQ ، المملكة المتحدة.
دمج السومريون، الذين كانوا سلالة هجينة نشأت من مجموعتين مختلفتين، لغاتهم في لغة واحدة، تمثل أصول اللغة التركية والمجرية والفنلندية في العصر الحالي، بالإضافة إلى العديد من اللهجات القوقازية. وهي لا تعتبر سلفا للغات السامية، مثل العبرية والعربية، ولا للغات الهندية الأوروبية. وتعرف الكتابة السومرية، المسلم بكونها أقدم أشكال الكتابة، بكونها مسمارية؛ بمعنى كونها وتدية. يعكس هذا شكل الحروف، التي كانت تكتب باستخدام عيدان قصب مقسومة من أجل ترك أثر على الطمي اللين، وحفظ شكل الحروف عندما حل نحتها على الحجر محل رسمها على سطح لين. ظل باقيا نحو ألف لوح، يحتوي معظمها على أعداد تشير إلى نوع من أنظمة المحاسبة القديمة. استخدم الكتابة المسمارية، السلف المحتمل للرموز الموضحة في شكل
8-1 ، الأكاديون المحتلون، رغم أنهم كانوا يتحدثون لغة مختلفة، أصبحت حاليا ما يعرف باسم الحامية السامية (تسمى أيضا الأفريقية الآسيوية). يمثل هذا أول استخدام لكتابة مشتركة للغتين مختلفتين. نقح الفرس الكتابة المسمارية وحولوها إلى أبجدية (البهلوية)، وهي التي ظلت تستخدم حتى حلت محلها الكتابة العربية عقب فتح المسلمين لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي. استخدم الإغريق كتابة أبجدية قبل وقت طويل من غزو الإسكندر لبلاد فارس، وظلت مستخدمة، في شكل أبجدية لاتينية وسيريلية، داخل مجموعة اللغات الهندية الأوروبية، وكذلك داخل اللغات الفنلندية والمجرية والتركية حتى يومنا هذا. ينسب آخرون أصل الأبجدية للفينيقيين في عام 1400 قبل الميلاد تقريبا، التي انتقلت منهم إلى الإغريق. نشأ نوع آخر من الأبجدية في كنعان (يقال إن الوصايا العشر كتبت بها على ألواح من الحجارة) في نحو 1300 قبل الميلاد.
يطلق ببساطة على اللغة التي تحدث بها المصريون القدماء اللغة المصرية؛ وهي واحدة من مجموعة اللغات الحامية السامية، وتعتبر أحد فروعها اللغة القبطية، التي تحدثت بها طائفة المسيحيين منذ القرن الرابع الميلادي تقريبا فصاعدا. ورغم الاستعاضة عنها باللغة العربية إلى حد كبير بعد القرن السابع، ظلت القبطية مستخدمة لألف سنة أخرى، وما زالت تشكل جزءا من الطقوس الدينية للأقباط، الذين يمارس نحو 35 مليونا منهم هذا الشكل من أشكال المسيحية في جميع أنحاء العالم في عصرنا الحالي. ومن هذا المنظور يمكن القول إن شكلا من أشكال اللغة المصرية ظل مستخدما على الدوام في الكلام لأكثر من 5 آلاف سنة، وهذا أطول من أي لغة أخرى. كانت الكتابة التي اخترعها المصريون هي الهيروغليفية، وتعني استخدام الرموز التصويرية للدلالة على الأشياء والمفاهيم والمقاطع أيضا. تعتبر الصينية على النقيض من الهيروغليفية، فيشير كل رمز فيها إلى كلمة كاملة، بينما تعتبر اليابانية الحديثة على نقيض آخر؛ إذ لا يمثل أي رمز فيها أكثر من مقطع واحد. استخدمت نسخ مختلفة من الهيروغليفية المصرية في النصوص الدينية (الهيراطيقية)، وفي الوثائق العادية (الديموطيقية). تسجل الهيروغليفية المصرية الموجودة على جدران الأهرامات وداخل المقابر حياة الحكام المسئولين عن بنائها وإنجازاتهم. وقد حلت رموز هذه النصوص نتيجة للحرب.
عندما غزا نابليون مصر في عام 1798، كان هدفه منع الإنجليز من التجارة مع الهند (التي كان جزء منها يحدث برا، بالطبع، نظرا لعدم حفر قناة السويس إلا بعد 60 عاما من هذا الوقت). فشلت حملة نابليون، لكنه حقق هدفا ثانويا. فبجانب جنوده الذين بلغ عددهم 38 ألفا كان ثمة 150 عالما كانت مهمتهم تفسير الثقافة المصرية. وفي أثناء عمليات التنقيب بالقرب من مدينة صغيرة في دلتا نهر النيل، عثر على لوح سميك من البازلت الأسود، يبلغ طوله مترا تقريبا وعرضه ثلاثة أرباع المتر. كان يضم ثلاث مجموعات من النقوش؛ بالهيراطيقية الهيروغليفية، والديموطيقية الهيروغليفية، والرموز الإغريقية (صورة 4). ظهرت أهمية هذا الاكتشاف على الفور. فإذا كانت النسخة الإغريقية هي ترجمة لأول مجموعتين من الكتابة، فيمكن من حيث المبدأ فك شفرة الكتابة التي حيرت كل العلماء السابقين. أما من الناحية العملية فلم يكن الأمر بهذه السهولة؛ أولا: تحطم قدر كبير من الجزء العلوي للوح وبعض من الجزء الأوسط والجزء السفلي، وفشلت محاولات العثور على الأجزاء المفقودة. وثانيا: لم يكن واضحا أي كلمة إغريقية تقابل أي حرف هيروغليفي بالتحديد. ومع ذلك، كانت ثمة أهمية بالغة لهذا اللوح - الذي سمي حجر رشيد على اسم مدينة رشيد التي عثر عليه بالقرب منها - فطبعت الرموز الموجودة عليه بالحبر على الفور، وأرسلت إلى علماء في جميع أنحاء أوروبا. وفي هذا الوقت كان نابليون قد ترك مصر، وسرعان ما وصل اللوح إلى لندن حيث انتهى به الحال، مثل كثير من البقايا الأثرية الأخرى، في المتحف البريطاني. سرعان ما ترجمت الكتابة الإغريقية على الحجر على يد الكاهن ستيفن واطسون؛ فقد اتضح أنه مرسوم كتب في عام 196 قبل الميلاد، كرم فيه الملك الشاب بطليموس الخامس وأعماله.
10
كان من بين العلماء الذين جاءوا مع نابليون عالم الرياضيات جان باتيست فورييه،
11
وعند عودته إلى فرنسا عرض فورييه نقوش حجر رشيد على دارس صغير سابق لسنه وهو جان فرانسوا شامبليون.
في سن الثانية عشرة كان شامبليون يدرس العبرية والعربية والسورية والكلدانية (لغة استخدمت في وقت لاحق في بابل)، وكان يعرف بالفعل اللاتينية والإغريقية. وفي سن الخامسة عشرة التحق بمدرسة اللغات الشرقية في باريس، وفي خلال سبع سنوات أصبح أستاذا للتاريخ القديم في جروبوبل. مثلت الحروف الهيروغليفية المصرية تحديا جديدا شغل شامبليون لما بقي من حياته. إلا أنه كان يتنافس ضد عالم إنجليزي له اهتمامات واسعة النطاق، وهو توماس يونج الذي يحظى باحترام بالغ، والذي كان يكبر شامبليون بسبع عشرة سنة. كان يونج قد قدم بالفعل إسهامات ملحوظة في دراسة الميكانيكا
12
وفي علم البصريات،
13
وكان أول من اقترح أن الضوء ينتقل في موجات، وليس في شكل جسيمات. وسيشير فيما بعد إلى أن معيار الطول،
14
الذي تمثل في طول البندول الذي يتأرجح بالضبط مرة واحدة كل ثانية، يعتمد على الحرارة، وأن هذا لا بد من أخذه في الاعتبار في تعريفه. كذلك أصبح له إسهام كبير في تجميع التقويم البحري. كان يفعل كل هذا في وقت فراغه؛ فكان يعمل طبيبا في مستشفى وكلية طب القديس جورج في لندن.
15
استطاع يونج فك شفرة قدر كبير من النص الديموطيقي الموجود على حجر رشيد ، وبدأ في النص الهيراطيقي؛ فحدد الرموز التي تعني كلمة بطليموس، وبذلك أظهر أن الكتابة الهيروغليفية كانت إلى حد ما أبجدية. وترك لشامبليون الانتهاء من النص الديموطيقي وفك شفرة الحروف الهيروغليفية الأساسية؛ الهيراطيقية. لم تكتمل هذه المهمة دون وجود ضغينة بين العلماء البريطانيين والفرنسيين؛ فقد امتد السعي وراء التفوق إلى أبعد من المسائل العسكرية.
تحدثت شعوب وادي نهر السند باللغة التي انحدرت منها السنسكريتية على الأرجح؛ ومن ثم كانت واحدة من اللغات الهندية الأوروبية. استخدمت السنسكريتية في الحديث في الهند، على الأقل من جانب الدارسين، طوال 3 آلاف سنة، حتى القرن التاسع عشر. حلت محلها بالتدريج لغة الإنجليز، عقب وصولهم كتجار
16
في مدن مدراس وبومباي وكلكتا في 1700 تقريبا. هذا وظلت اللغات المحلية، مثل الهندية
17
والبنغالية والكوجراتية، التي تمثل كل منها لغة مختلفة تماما، يتحدث بها الأقل تعليما لقرون. وفي عصرنا الحالي يعتبر أحد مقاييس سهولة تنقل الذين لا يملكون موهبة شامبليون في تعلم اللغات من أي مكان في العالم إلى غيره، وجود لغات مثل الهندية والبنغالية والكوجراتية - بالإضافة إلى الأردية واللهجات العربية الأخرى - في الوثائق الرسمية مثل طلبات استخراج جواز السفر ووثائق تسجيل دخول المستشفيات في المملكة المتحدة، من أجل مساعدة الجاليات المهاجرة. اخترع الشعب الهندي كتابة هيروغليفية، لكن حتى الآن لم تفك شفرتها؛ ومن ثم لا يمكننا قول الكثير عن أدبهم. من ناحية أخرى، تركت الديانة الهندوسية التي نشأت في هذا المكان أثرها على النقوش والتماثيل الموجودة في المعابد، خاصة في جنوب الهند، في أماكن مثل ماهاباليبورام بالقرب من مدينة تشيناي (مدراس سابقا) وفي مواقع في كارناتاكا جنوب بنجالور.
كانت لغة الشانج الذين استقروا على ضفاف النهر الأصفر هي ما يشار إليه حاليا بشانجو هانيو أو اللغة الصينية القديمة، وتعتبر هذه واحدة من مجموعة اللغات الصينية التيبتية التي تضم البورمية والصينية والنيبالية والتايلاندية والتيبتية . ورغم ظهور نحو سبع لهجات مختلفة (واحدة في الشمال وست في الجنوب) على مدار آلاف السنين - مختلفة بعضها عن بعض للغاية لدرجة أن متحدث الماندرين من بكين لا يستطيع فهم متحدث الكانتونية من جوانزو - فإن أصولها جميعا واحدة. لا توجد إلا طريقة واحدة للكتابة، وكان هذا عنصرا مهما في الحفاظ على التواصل والاتساق بين كل أهالي الصين على مدار تاريخها. يرجع تاريخ هذه الكتابة إلى أكثر من 3 آلاف سنة إلى عصر أسرة شانج. ومقارنة بالكتابات القديمة - في سومر ومصر والتي أعقبتها كتابة الشعب الهندي - تعتبر حديثة نسبيا. ومع ذلك فإنها الكتابة الوحيدة التي يمكنها زعم استمرار استخدامها حتى عصرنا الحالي، مع بعض التعديلات بمرور الوقت.
شكل 8-2: الكتابات الصينية القديمة. (a)
علامات على عظام ترجع إلى أسرة شانج (نحو 1400 قبل الميلاد)؛ (b)
علامات على مصنوعات خزفية من العصر الحجري الحديث (نحو 4 آلاف قبل الميلاد). تجدر بنا ملاحظة التشابه بين هذه العلامات والرموز الموضحة في الشكلين
9-1
و
8-1 . أعيدت طباعتها من مقال «مشكلة العلامات المجردة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد» لآلن فوربس وتوماس آر كرودر، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد 3: 366-350، 1979، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير،
LS23 7BQ ، المملكة المتحدة.
ساد الاعتقاد بأن أصول الكتابة الصينية كانت إيدوجرافية بالكامل، مثل الكتابة المسمارية للسومريين والهيروغليفية للمصريين، عن طريق تصوير الأشياء بالصور. ويرجع هذا إلى أن الصور القديمة المنحوتة على الحجارة - التي تصور الصيد والخصوبة وشعائر دينية أخرى، وأشكالا منمقة للرجال والنساء والغزلان والثيران والخيول والثعابين والأيادي والأقدام والأعين والجبال والعربات الحربية - تشبه الرموز التي تعبر عن هذه الأفعال والأشياء الموجودة على المصنوعات البرونزية والعظام. وبما أن معظم النقوش كانت معتمدة على العرافة والكهانة، فإن كلمة «وسيط روحي» عادة ما تستخدم لوصف الكلمات الموجودة على العظام. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذا ليس إلا مصدرا واحدا لنشأة الكتابة الصينية؛ فقد لعبت الرموز والأشكال الهندسية التي اخترعها الكتاب والكهنة المحليون دورا أيضا (شكل
8-2 ). وفيما بعد، عندما أدخلت الكلمات المجردة، أصبحت الحروف رمزية بالكامل. وكما في اللغات الأخرى، كانت الكلمات في الأصل أحادية المقطع - أسماء في الأساس - ولها معنى واحد. ظلت كلمات مثل الجبل والماء والثور، الأعداد أيضا من عصر شانج حتى العصر الحالي. ومع ازدهار الثقافة أضيفت الكلمات متعددة المقاطع. في البداية كان هذا جزءا من سبع فئات «أساسية» أو «معان».
18
ومع مرور الوقت، أضيفت كلمات ذات معان واسعة داخل الفئات الأساسية؛ على سبيل المثال، في الفئة الأولى (الإنسان وأجزاء جسمه) توجد الرموز الخاصة بالفم والأذنين والأنف والعينين واللسان والقلب واليدين والقدمين. بدأت هذه الرموز تستخدم أيضا في كلمات تتعلق بالأكل والكلام والسمع والشم والرؤية والتذوق، وبالمشاعر والأفعال باستخدام اليدين والقدمين. تظهر في لغات أخرى تعديلات مماثلة؛ قارن بين كلمة أذن
ear
والفعل يسمع
hear
بالإنجليزية. والأرقام الصينية، مثل الأرقام في معظم الحضارات الأخرى، 10 في الأساس؛ على افتراض استخدام المرء أصابعه في الأصل للعد. في الأصل كان ثمة 13 رمزا؛ من 1 إلى 9 و10 و100 و1000 و10000. وعلى الأرجح كانت الأعداد الأكبر تستخدم في الإشارة إلى مجموعات، مثل تعداد السكان والماشية. يمكننا مقارنة هذا التوق للدقة بالوضع في الثقافات الأقل تقدما؛ فعلى سبيل المثال، في قبيلة أشانينكا في غابات الأمازون ليس لديهم حتى عصرنا الحالي إلا كلمات للأرقام من 1 إلى 3، ويطلق على أي شيء أكبر من هذا إما «أكثر» أو «كثيرا». في المقابل، كان في عصر أسرة تشو بالفعل كلمات تعبر عن 100 ألف ومليون و10 ملايين و100 مليون ومليار.
19
والشيء الذي لم تتوصل إلى اختراعه أي من الثقافات القديمة سواء في بلاد الرافدين أو مصر أو الصين أو أوروبا، هو مفهوم الصفر؛ هذه الفكرة المذهلة التي ندين بها للهنود، الذين نقلوه إلى بقية أنحاء العالم عبر العرب بعد توغلهم في شبه القارة الهندية بداية من القرن السابع.
يرجع سبب فك شفرة رموز شانج إلى حد كبير إلى العثور على عظام حول مدينة أنيانج في نهاية القرن التاسع عشر. فكان الفلاحون الذين يحفرون في الحقول يستخرجون العظام، التي يطلق عليها «عظام التنين»، ويطحنونها ليستخدموها في الكمادات والمشروبات المنعشة. لاحظ تاجر تحف جاء إلى هذه المنطقة من محافظة شاندونج من أجل شراء المصنوعات البرونزية هذا النشاط، وقرر أن هذه العظام ربما تكون لها قيمة معينة. فبدأ الحفر بنفسه، وفي عام 1899 بدأ في بيع ما عثر عليه. وفي بكين تواصل هذا التاجر مع عالم وجامع آثار معروف اسمه وانج يرونج، الذي أدرك على الفور أن الكتابة كانت مشابهة لتلك الموجودة على المصنوعات البرونزية من عصر أسرة شانج، التي كان يجمعها. وطلب من أحد زملائه، ليو إي، مساعدته في ترجمتها. لم تستمر جهودهما كثيرا؛ فقد كان وانج يرونج يعمل أيضا رئيسا للأكاديمية الملكية ووافق على مضض تزعم قوات الملاكمين التي كانت تدافع عن بكين ضد هجوم قوات الحلفاء الغربية في حرب الأفيون. وعندما فشلت المقاومة ودخلت القوات الأجنبية بكين، انتحر وانج يرونج، فشرب سما وألقى بنفسه في بئر. باع ابنه فيما بعد العظام لليو، الذي أخذ النسخ المطبوعة بالحك، ونشرها في شكل مجموعة في عام 1903. وفي عام 1908 لفتت انتباه عالم يدعى لوه دجينين، الذي أدرك من النقوش أن هذه العظام تشير إلى موقع مدينة عظيمة، فتحدد بذلك مكان آخر عاصمة لأسرة شانج. ومع ذلك، حتى الآن لم تفك شفرة 70٪ من رموز أسرة شانج.
20
ومع بدء إدراج الكلمات المجردة أصبحت الحروف المعروفة باسم هان، المسماة على اسم الأسرة التي حكمت من 206 قبل الميلاد إلى 200 ميلاديا، رمزية بالكامل؛ فقد أدخلت في عهد أسرة تشين التي سبقتها (221-206 قبل الميلاد) كتابة موحدة حتى يستطيع الأفراد من المناطق المختلفة - الذين لا يستطيع بعضهم فهم لهجات بعض - التواصل. وفي عصر أسرة تانج (618-907 ميلاديا) اخترع الورق والطباعة وازدهر الأدب؛ فقد بقي من هذا العصر أكثر من 48 ألف قصيدة وأكثر من ألفي مؤلف. استمر عدد الرموز في الزيادة، وبحلول عام 1066 وصل إلى 31319، ويحتوي حاليا قاموس دجونجهوا دزيهاي على 85568 رمزا. إلا أن كثيرا من هذه الرموز هي مجرد أشكال مختلفة خاصة بالنصوص البوذية والطاوية (تذكر الكتابة الهيراطيقية في مقابل الديموطيقية في مصر القديمة)، وبدائل أخرى خاصة بهونج كونج وتايوان وسنغافورة وكوريا واليابان؛ كما أن عدد الموضوعات التي تصنف تحتها هذه الرموز التي يقدر عدد بنحو 85 ألف رمز لا يتعدى 200 فرع. إذن هل بالفعل تعتبر الصينية لغة تصعب إجادتها؟ كان على المرء حتى يتأهل ليصبح كاتبا في أسرة هان معرفة 9 آلاف رمز، وهو تقريبا نفس عدد الكلمات التي توجد في قاموس إنجليزي أو إيطالي عادي. أما الآن، فيمكنك تدبر أمرك بمعرفة نحو من ألفين إلى 3 آلاف رمز أساسي، وهي تمثل نحو 70٪ من كل الرموز المستخدمة منذ عصر أسرة شانج حتى العصر الحالي. وتذكر أنه على عكس اللغات الهندية الأوروبية، تعتبر الصينية لغة نغمية؛ فلا يوجد تغيير في صيغ الأسماء أو إعراب أو تصريف للأفعال.
كانت اللغة المينوية، التي اتخذها الميسينيون، النموذج الأولي للغة الإغريقية، التي ظل الناس يتحدثون بها في البر الرئيسي للدولة على مدى ثلاث ألفيات. ورغم العثور على نحو 400 لوح من الطمي عليها نقوش تسمى النظام الخطي (أ) يرجع تاريخها إلى عام 1750 قبل الميلاد على جزيرة كريت، فإن شفرتها لم تفك حتى الآن. ومن ناحية أخرى، حلت شفرة نوع آخر من الكتابة يعرف باسم النظام الخطي (ب)، عثر عليه محفورا على ألواح من الطمي استخرجت من كنوسوس وبيلوس (في شبه جزيرة بيلوبونيز) يرجع تاريخها أيضا إلى 3500 سنة. يرجع هذا الإنجاز إلى حد كبير إلى العالم مايكل فينتريس، الذي استنتج في عام 1952 أن النظام الخطي (ب) نوع من الكتابة المقطعية التي تعبر عن شكل بدائي من الإغريقية. كانت هذه الكتابة في الأساس أبجدية الفينيقيين، التي اتخذها الإغريق في عام ألف قبل الميلاد تقريبا. انتهج الرومان الأسلوب ذاته، رغم أن الكلمات اللاتينية التي اخترعوها كانت بالطبع مختلفة. وعبر غزوات الرومان انتشر استخدام اللاتينية في معظم أنحاء أوروبا، وشكل أساسا للغات الرومانسية الحالية؛ الإيطالية والرومانية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية، وإليها يمكن إضافة الكلمات الإنجليزية التي ظهرت منذ عصر الغزو النورماني. أما اللغات الجرمانية، مثل الألمانية والهولندية والإسكندنافية والإنجليزية، فتشكل مجموعة أخرى، تماما مثل اللغات السلافية، التي تضم الروسية والأوكرانية والبولندية والتشيكية والسلوفاكية والسلوفينية والصربية والكرواتية والبلغارية؛ وجميعها لغات هندية أوروبية.
21
يمكن العثور على خريطة توضح كيفية انتشار هذه اللغات بحلول القرن الخامس عشر في كتاب جارد دياموند «ازدهار الشمبانزي الثالث وتدهوره».
22
وكما نتوقع، تتبع المؤشرات الوراثية الطرق نفسها؛ فيوجد ارتباط مباشر بين انتشار الجينات واللغات.
23
إذا كنت أمضيت وقتا في الحديث عن أصل اللغة الصينية أطول من ذلك الذي أفردته للغات الأخرى، فإن هذا لثلاثة أسباب؛ الأول: أن اللغة الصينية تقدم مثالا جيدا على طريقة تحول الكلمة المنطوقة، عبر الرموز التصويرية، إلى كتابة. والثاني: أنها مثال على كيف تؤدي رغبتنا في توصيل قضايا وأفكار أكثر تعقيدا إلى جيراننا إلى ثراء اللغة. والثالث: أن العناصر الأساسية للكلام والكتابة ظلت نفسها لأكثر من 3 آلاف سنة، وهذا يعطي الدارسين - وقراء هذا الكتاب - فرصة لتتبع تأثير بحث الإنسان عن التجديد في مجالات مثل الأدب والتكنولوجيا في إطار سياق ثقافي واحد، حتى عصرنا الحالي. والمجتمع الوحيد الذي يقترب من هذا هو اليونان.
يعتبر أدب اليونانيين أسطوريا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. ظهر سرد القصص بالطبع منذ بدأ الإنسان في الكلام منذ 100 ألف سنة، لكن لأكثر من 97 ألف سنة تالية لم تكن القصص تنتقل إلا شفهيا، وبمجرد اختراع الكتابة، سرعان ما بدأت أحداث الماضي والحاضر تسجل. في أوروبا، كما رأينا، حدث هذا في القرن الثامن قبل الميلاد تقريبا، وكان أحد أوائل الشخصيات الأدبية التي سجلت تاريخ بلدها شعرا هوميروس؛ ومثل راو آخر ظهر بعد 2400 سنة، وهو الشاعر الإنجليزي جون ميلتون، كان هوميروس ضريرا على الأرجح، وتمثل القصائد الملحمية التي نسبت إليه، خاصة الإلياذة والأوديسا، خليطا متشابكا ببراعة من الحقيقة والخيال. فالمينوتور الذي كان على أوديسيوس (يوليسيس لدى الرومان) قتاله والتغلب عليه أسطوري، لكن على الأرجح كانت كنوسوس هي موقع القصر الذي كان المينوتور يدافع عنه، حيث يوجد قصر الملك المينوي. كما أن الآلهة والأفراد الذين تفاعلوا معهم؛ أجاممنون من ناحية والطرواديون من ناحية أخرى، كانوا أسطوريين، لكن طروادة كانت موجودة وتشهد أنقاضها (الموجودة في شمال غرب الأناضول) على مدينة كانت عظيمة في وقت ما. وهكذا، وبعد قرنين أعاد الشعراء نسج بعض من شخصيات هوميروس ومآثرهم، ويشكل إنتاجهم التراث الدرامي لليونان القديمة. وحتى يومنا هذا ربما نرى عروضا لمآسي إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، والمسرحيات الكوميدية للكاتب المسرحي أريستوفان الذي جاء فيما بعد وهجا زملاءه من الشعراء والسياسيين والفلاسفة على حد سواء، كما أن أسلوبه الفكاهي يتناسب مع عصرنا الحالي تماما كما كان منذ ألفيتين؛ ففي مسرحية «الطيور» ابتكر أريستوفان «أرضا خيالية للوقواق بين السحاب»، وفي مسرحيته «ليسستراتا» تمتنع النساء عن تقديم خدمات جنسية للرجال في مجتمعهم احتجاجا على الحرب؛ وهما فكرتان لهما صدى حديث للغاية. هذا وتعتبر المحاكاة الساخرة، والسخرية من الشخصيات العامة حجر الزاوية للنظم الديمقراطية، ويؤدي قمعهما في النظم الديكتاتورية إلى دفع الدولة بضع درجات أسفل سلم الإنجاز.
كان الأدب الإغريقي مصدر إلهام لكثير من الثقافات الأوروبية التالية؛ فعلى سبيل المثال، يظهر أثره واضحا في القصائد الملحمية مثل «ملحمة السيد» في القرن الثاني عشر، أو ملحمة دانتي أليجيري «الكوميديا الإلهية»، التي كتبت في عام 1310 تقريبا. تحكي الأولى ملحمة الجندي الإسباني «السيد»، الذي ساعدته مآثره في دفع المورسكيين إلى خارج شمال إسبانيا نحو فالنسيا. وتحكي الثانية عن رحلة خيالية للمؤلف؛ عبر الجحيم، ثم في المطهر بين الجنة والنار، ثم أخيرا في الجنة؛
24
فكان في الجحيم بصحبة فيرجيل، وفي الجنة بصحبة بياتريس بورتيناري؛ حب حياته ومصدر الإلهام في حياته. ترك إرث الدراما الإغريقية أثره في الأدب الأوروبي لعدة قرون تالية، ووصل على الأرجح إلى أوج ذروته في مسرحيات شكسبير في أواخر القرن السادس عشر. بحث شكسبير عن موضوعات من العصور السابقة، لكن كانت حداثة لغته العامل الذي جعل أعماله تظل باقية. كتب بالشعر مثل معاصريه، لكن لماذا لم يكتب الكتاب المسرحيون والشعراء الغنائيون منذ عهد هوميروس حتى القرن الثامن عشر إلا بقافية؟ هل كانوا يسعون إلى تمييز كلام الآلهة والأبطال الخياليين عن الكلام العادي، وإلا ما كان الناس سيشعرون بالراحة؟ لندع علماء الأدب يتناقشون في هذا الأمر . ومن وجهة نظرنا في هذا السياق، أود الإشارة فقط إلى أن العصر الأوغسطي في منتصف القرن الثامن عشر هو الذي شهد بداية استخدام اللهجة العامية في الدراما ومعها جاء مولد الرواية.
نظرا لأن أيا من حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، بخلاف حضارة المايا، لم تشهد على ما يبدو اختراع نص مكتوب، يصعب قول الكثير عن لغتهم؛ فلم يكن لديهم أدب. ونحن بالطبع نعرف ما كان يتحدث به الناس في وقت حدوث الفتح الإسباني؛ من الآزتيك في المكسيك، وبقايا المايا في يوكاتان، والإنكا في بيرو. وعبر الاحتكاك الذي حدث بينهم وبين الغزاة الإسبان أمكن تسجيل قدر كبير من تاريخهم وأساطيرهم.
إذن من خلال دراسة اللهجة العامية في حضاراتنا الأساسية استطعنا تعقب أصل اللغات التي كان الناس يتحدثون بها في جميع أنحاء أوروبا وآسيا. تشمل هذه بالطبع اللغات المستخدمة حاليا في أمريكا؛ الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية. وفيما يتعلق بأفريقيا، كانت اللغات الأساسية المستخدمة في شمال القارة هي اللغات الحامية السامية، أو الأفريقية الآسيوية؛ وتضم: العربية ولغة البربر والتشادية والكوشية والعبرية والمالطية. يتحدث البربر وحدهم أكثر من 20 لغة مختلفة، وقد كانوا قبل الفتح العربي في القرن السابع يعيشون في معظم شمال أفريقيا. كانت لغتهم الأصلية النوميدية، التي عثر على كتابة مميزة لها، وكانت تستخدم في نوميديا (ليبيا حاليا) منذ ألفي سنة، عندما كان جزء كبير من شمال أفريقيا خاضعا للحكم الروماني. يتحدث باللغة التشادية أولئك الذين يعيشون حول بحيرة تشاد، التي تقع على حدود جنوب شرق النيجر، وشمال شرق نيجيريا وحدود التشاد نفسها؛ واللهجة السائدة فيها هي الهوسا. أما الكوشية فيتحدث بها الناس في الأغلب في إثيوبيا والصومال. أما المجموعات اللغوية غير المرتبطة بأي من اللغات المذكورة حتى الآن فهي النيجر والكونغو، وهي أكبر المجموعات وتمثل اللغات المستخدمة في غرب أفريقيا ووسطها وجنوبها. والخوسية التي يتحدث بها البوشمان والهوتنتوت في شرق أفريقيا وجنوبها. واللغات النيلية الصحراوية المستخدمة في أوغندا وأجزاء من السودان وكينيا وتنزانيا.
25
تثبت حقيقة وجود هذا الكم الكبير من اللغات، كل منها تختلف عن الأخرى، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حقيقة وجود مجموعات عرقية متفاوتة في هذا المكان أكثر من تلك الموجودة في باقي أنحاء العالم مجتمعة، وأن عملية التواصل بينها حتى عصرنا الحالي كانت ضئيلة إلى أقصى حد. كما أن هذا التنوع، كما رأينا في فصل سابق، هو الذي يعطي مصداقية للرأي الذي يفترض نشأة الإنسان العاقل في أفريقيا. (2) العلم والفن
بما أن «الفن» يعرف بوجه عام بأنه مهارة، بما في ذلك المهارة الذهنية، فهو يضم المعرفة العلمية علاوة على المعرفة العملية. وبما أن الفأس الحجرية من المصنوعات، مثل الخاتم الذهب تماما، يمكننا القول إن الإنسان ظل يزاول الفن لأكثر من مليون سنة، منذ بدء اكتسابه المهارة اليدوية والفضول المتزايد. لكني اخترت استخدام هذه الكلمة بمعناها المحدود أكثر، للإشارة إلى ابتكار الأشياء التي تخدم في حد ذاتها أي هدف مفيد؛ ومن ثم أفصل الفن عن التكنولوجيا (الفصل التاسع). يتطلب الفن والعلم بحثا؛ عن الجمال والكمال في حالة الأول، وعن المعرفة والفهم في حالة الثاني. يشتمل العلم بالطبع على الفلسفة والعلوم، وسأخصص بعض الوقت للحديث عن الأولى لاحقا (الفصل العاشر)، ووقتا أكبر للحديث عن الثانية بعد ذلك (الفصل الحادي عشر)، وسنتحدث فيما يلي باختصار عن العلم.
يعتبر بعض الناس أن الفن لا يعتمد على الفضول العقلي، لكني لست متأكدا من هذا؛ فمعظم الفنانين العظماء كان ذكاؤهم فوق المتوسط، وكما علق عازف البيانو ألفريد برندل في لقاء له مؤخرا، فإن تفسير الفن - بصرف النظر عن تكوينه - يتطلب فضولا عقليا بالإضافة إلى تقنية للوصول إلى أعلى مستوى. وقد يعكس الفرق بين الحرفي والفنان درجة المدخلات العقلية. وفيما يتعلق بجودة الفن - الفن الجيد في مقابل السيئ، والرائع في مقابل المبتذل - فهي مسألة فردية في الأساس ولن أتحدث فيها. ما يعنينا في هذا السياق هو أن ممارسة كافة الفنون، سواء المدركة بالبصر أو السمع أو اللمس، تنتج من عملية البحث من جانب صانعها.
سبق الفن الزراعة؛ فثمة فكرة طرحت في القرن الثامن عشر مفادها أن الموسيقى الغنائية هي أقدم أشكال الكلام،
26
ويذهب البعض إلى أبعد من هذا ويقولون إن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن هي استحضار للأصوات التي تصدرها مجموعة من البابون.
27
استخدم قاطنو الكهوف في العصر الحجري الحديث الحجارة والفحم لتصوير مشاهد عديدة على الجدران. ويذكر الوضوح الذي رسمت به حيوانات مثل البيسون والماموث ووحيد القرن والحصان في كهف شوفيه في فالون بون دارك بالقرب من إقليم الأرديش في جنوب فرنسا منذ 30 ألف سنة،
28
اختصاصي علم النفس نيكولاس همفري بالرسوم التي يرسمها بعض من الأطفال المصابين بالتأخر العقلي الشديد. لم يكن باستطاعة طفلة تبلغ من العمر 6 أعوام مصابة بالتوحد تدعى نادية الكلام جيدا، لكن كان رسمها للحيوانات نابضا بالحياة وواضحا على نحو مذهل. ويتساءل همفري عما إذا كان الفنانون في شوفيه افتقروا للقدرة اللغوية مثل نادية، ويقترح أن غياب الوصلات العصبية المسئولة عن اللغة ربما «يحرر» إلى حد ما المهارات التصويرية.
29
ربما يبدو هذا مناقضا لما جاء في تعليق برندل، لكن الفضول العقلي يختلف عن الكفاءة اللغوية. والسبب في ذكر أفكار همفري هو أنها تلمح إلى أنه منذ 30 ألف سنة لم يكن لدى سكان شوفيه - الذين كانوا ينتمون إلى فئة الإنسان الحديث وليس إنسان نياندرتال - بعد نظام كلام مكتمل. صحيح أن الفن الذي جاء فيما بعد، مثل الذي ظهر في مصر القديمة أو أوروبا في العصور الوسطى، كان خشبيا مقارنة برسوم العصر الحجري، لكن مع ذلك علينا توخي الحذر، تماما مثلما يفعل همفري نفسه، عند محاولة تأريخ ظهور اللغة باختفاء المهارات التصويرية؛ هذا لأن رسوم الكهوف، التي أصبحت آنذاك ترسم بالصبغات الطبيعية، في أماكن مثل ألتميرا بالقرب من سانتاندير في شمال شرق إسبانيا وفي لاسكو في منطقة دوردونيي في جنوب غرب فرنسا، ما زالت نابضة بالحياة، رغم أنها تبلغ من العمر من 15 ألفا حتى 17 ألفا فقط، وهو وقت كان التواصل اللفظي واسع النطاق فيه بالتأكيد. لا يقتصر فن الكهوف على أوروبا فحسب؛ فقد رأيت رسوما نابضة بالحياة لحيوانات في سلاسل الجبال المرتفعة في كاليفورنيا (ولا بد أن عمرها أقل من 12 ألف سنة). ويشهد اكتشاف مثل هذه الرسوم في العالم الجديد مثل اكتشافها في العالم القديم على نشأة الفن بوصفه واحدا من أكثر الطرق البدائية لتعبير الإنسان عن نفسه.
لماذا فعل هذا؟ ربما ظن الإنسان القديم أن هذا يخيف المفترسات ويبعدها، أو يخيف الأعضاء المغيرين من نفس نوعه. وربما فعل هذا لأنه أقر بالفعل الاعتقاد في أرواح مجهولة كان يحملها مسئولية الأحداث الغريبة، مثل الزلازل أو الفيضانات، والتي كان يريد إرضاءها. يوجد أيضا عنصر السحر أو الخرافة في هذه الصور، التي ضمت موضوعات رمزية ورسوما تصويرية أيضا. كان الفن القديم ثلاثي الأبعاد؛ فلم تكن معظم جدران الكهوف مسطحة، فتتداخل الرسوم مع الانحناءات؛ مما يشير إلى وجود تكامل بين الطبيعة والفن، حتى إن بعض الأشياء الموجودة في الطبيعة، مثل الحجارة والعظام وحتى الفئوس الحجرية، كانت تشكل أيضا لأسباب أخرى غير المنفعة.
30
وربما يرجع هذا أيضا إلى أن الفن، المتمثل في تزيين الإنسان لمكان سكنه، صفة فطرية في الإنسان مثل التوصل إلى تقنيات مفيدة. وربما يشير القراء أيضا إلى أن كثيرا من الطيور تزين أعشاشها - تعد طيور التعريشة في غينيا الجديدة مثالا مذهلا على هذا - وأن النتيجة قد تكون مبهرة مثل لوحة أو باقة من الزهور منسقة بعناية. قد تفعل الطيور هذا لأسباب التمويه، ولكنها قد تفعل هذا أيضا بغرض جذب شريك. إذن هل ثمة احتمال بأن الفن ينبع من الرغبة في جذب رفيق، بقدر ما يعتبر وسيلة لاسترضاء الآلهة؟ بينما أدى السبب الثاني إلى بناء الأهرامات في أمريكا الوسطى، والمعابد والأضرحة في آسيا، والكاتدرائيات التي ظهرت فيما بعد في أوروبا. من المتعارف عليه أن معظم الكتاب والرسامين والموسيقيين يمارسون فنهم من أجل الحصول على التقدير والاحتفاء من أقرانهم. رغم أن هذه بالتأكيد سمة بشرية بحتة - السعي لتحقيق النجاح - ربما تكمن أصولها في النهاية في الطقوس التي نمارسها، مثل الحيوانات، من أجل جذب شريك. باختصار، تنتشر أصول الفن لدى كثير من الأنواع، لكنها لم تصل إلى حد الإنجاز إلا عند البشر فقط؛ فالطاووس يولد بشكل ريشه الرائع، أما الرجال والنساء فظلوا يتأنقون، عادة في محاكاة مباشرة لريش الطاووس، لآلاف السنين. ألم تتحدث أقدم القصائد عن الحب، ألم يكن الهدف من الأصوات البدائية للناي (الذي صنع من عظام الحيوانات منذ نحو 30 ألف سنة) أو القيثارة جذب شريك؟
توجد نظرية تقول إن الفن والعلم مكملان لظهور الإنسان. وتتمثل الحجة، التي طرحها على وجه الخصوص بشدة العالم والكاتب ديفيد هوروبين،
31
فيما يلي: ثمة ارتباط بين الجينات التي تؤدي إلى الإبداع وتلك التي تعرض الإنسان للإصابة بمرض الفصام واضطرابات أخرى أقل خطورة مثل الذهان الهوسي الاكتئابي. يستشهد هوروبين بأن نيوتن وفاراداي وأينشتاين وهاندل وبيتهوفن وكانط كانوا جميعا «شخصيات شبه فصامية»؛ في المنتصف بين الشخصيات الفصامية والشخصيات الطبيعية. ويقول أيضا إن في الشعب الأيسلندي، المعروف بالتزاوج الداخلي، يزيد احتمال إنجاب العائلات التي يكون فيها عضو مصاب بالفصام ذرية متميزة في الفنون أو العلوم عن المستوى المتوسط (غير أنه يفسد هذا الرأي عن طريق إدخال العنصر السياسي فيه). ونظرا لاعترافه بأن السبب في الإصابة في الفصام لا يكون وراثيا إلا بنسبة تتراوح من 40 إلى 50٪، عرف الأسباب غير الوراثية أو البيئية بأنها تنتج عن استهلاك دهون الحيوانات. ذكرت في الفصل الرابع فرضية ليزلي إيلو بأن قدرة العقل البشري بدأت تزيد عندما تحول من النظام الغذائي النباتي بالكامل إلى نظام يحتوي على اللحم. يرى هوروبين أن احتواء لحوم الحيوانات على أحماض دهنية معينة هو الذي يقوي، مصحوبا بوراثة جينات معينة، عصبونات الإنسان، بينما يعرضه في الوقت نفسه لخطر الإصابة بالمرض العقلي. ليس هوروبين وحده الذي يؤمن بهذه الفكرة؛ فيؤيد دانيال نيتل
32
في كتاباته حاليا العلاقة بين الاضطرابات الذهانية والإبداع، ويعترف - مع هوروبين - بإسهام هنري مودسلي أحد الآباء المؤسسين للطب النفسي. في عام 1871 كتب مودسلي: «ظل بداخلي شك لوقت طويل ... في أن البشرية تدين بكثير من تفردها وأشكال معينة من العبقرية لأفراد يعانون من نزعة معينة للجنون.»
33
صحيح أن روبرت شومان توفي في مصحة نفسية في سن السادسة والأربعين ، وكان قد فكر في الانتحار بالفعل وهو في نصف هذا العمر، وألف بالفعل واحدة من أعظم المقطوعات الموسيقية على الإطلاق «الكرنفال» بالإضافة إلى أوبرتين و19 كورال و51 أوركسترا، وأكثر من 100 مقطوعة للبيانو وأكثر من 300 أغنية . لم يجد دانيال نيتل صعوبة في أن يستحضر سريعا نحو 70 شاعرا وكاتبا وموسيقيا وفنانا مشهورا، كل منهم عانى من مرض الذهان، ومع ذلك أغفل الحديث عن العلاقات الجزيئية بين الإبداع والمرض العقلي؛ لذا لا خيار أمامنا إلا العودة إلى ديفيد هوروبين. هل يمثل الفصام والأحماض الدهنية المفتاح لنزعة الإنسان للسعي الفكري؟ إذا كان الأمر كذلك، فسيكون من الجيد أن نعرف أن قردة الشمبانزي لا تعاني من مرض فصامي، ويختلف محتوى الأحماض الدهنية في عصبوناتها عن الإنسان. أرى كذلك أن حجة نيتل، بأن الجينات التي تجعلنا عرضة للإصابة بالفصام لم تندثر بفعل الانتقاء الطبيعي لأنها تدعم الإبداع، غير مقنعة؛ فمنذ متى كان المبدعون أكثر خصوبة - أفضل في العثور على شريك - من بقيتنا؟ إذا كانت ثمة علاقة، فطالما بدت لي العكس من هذا تماما.
ذكرت بإيجاز بعض الإنجازات الفنية والعلمية للحضارات السبعة الرئيسية في هذا الفصل والفصل السابق. فكان لكل حضارة فن زخرفي؛ على المباني، في شكل رسوم على الجدران وأفاريز منقوشة وتماثيل منحوتة؛ وعلى الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية مثل أواني الشرب والسكاكين اليدوية أو الخناجر التي يستخدمها ذوو الشأن؛ وعلى الملابس التي يرتديها الأغنياء. ومن هذه الثقافات ظهرت ثقافات أخرى؛ في كوريا واليابان من الثقافة الصينية، وفي جنوب شرق آسيا من مزيج من آثار الثقافة الهندية والصينية (هذا إن لم تكن اقتنعت بالفكرة المذكورة في نهاية الفصل السابق، بأن الحضارات المفقودة في جنوب شرق آسيا واليابان سبقت ظهور الثقافة الصينية والهندية بآلاف السنين). وفي حوض البحر المتوسط، أعقب التنوير الذي ظهر في اليونان وروما ذلك الذي ظهر في جزيرة كريت بسرعة كبيرة، بينما امتدت جذور الإنجازات الإسلامية إلى حضارات بلاد سومر ومصر، بالإضافة إلى إرث القيم اليونانية الرومانية، الذي اشتمل بحلول القرن السابع الميلادي على القيم المسيحية. أصبح الفن والمعارف الأوروبية
34
في حالة خمول إلى حد كبير في القرون الستة التالية أو نحو ذلك. وبعد ذلك، أعادت جذورها المسيحية ترسيخ نفسها وأنتجت لوحات وموسيقى كنسية، بالإضافة إلى إلهام الشعراء في هذا العصر. لم يظهر إلا فيما بعد الفن والمعارف التي ارتبطت بفرنسا وهولندا وإنجلترا، وبالبندقية وبادوا وفلورنسا، وفيينا ولايبزيج وفايمار، وكراكوف وبراج وسان بطرسبرج. أصبحت الأصول المختلفة للفن الأوروبي ضبابية بالتدريج، لكن ظل تميز منتجاتهم مقارنة بثقافة القارات الأخرى موجودا. باختصار، لا توجد عمومية في الفن مثلما لا توجد في الدين؛ فالفن الصيني والياباني المعاصر، والموسيقى والرقص الهندي، والمنسوجات والمشغولات المعدنية العربية، والتماثيل المنحوتة الأفريقية؛ متميزة ولها قيمتها في عصرنا الحالي، تماما كأي شيء صنع في أوروبا أو أمريكا الشمالية (وقد يقول البعض إن قيمتها تكون أكبر بكثير). لكن مثلما يوجد لدين منطقة معينة أنصار في منطقة أخرى - مثل البوذيين في سان دييجو والمسيحيين في سيول - لا يعترف تفسير الفن بأي حدود؛ فعلى سبيل المثال، بعض من أكبر الموسيقيين في العالم الذين يعزفون الموسيقى الأوروبية حاليا جاءوا من الصين وكوريا واليابان بالإضافة إلى العالم الغربي.
أتذكر مثالين يوضحان شيوع الإنجازات الثقافية. علمت الأول من زميل ألماني؛ فقد زار اليابان لأول مرة وهو طالب شاب بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما كانت هذه الدولة ما تزال دولة نامية إلى حد كبير، تتعافى من ويلات الصراع. وصل بحقيبة ظهره إلى طوكيو، التي كانت ما تزال العاصمة الثقافية للدولة، وسلك طريقه إلى مساكن الجامعة، حيث كان يأمل العثور على سرير رخيص. عندما اقترب من الأكواخ البالية التي كان الطلاب يسكنون بها، سمع صوتا غريبا. حتما كان هذا عزف سوناتا لباخ - وكان جيدا جدا - من شخص يعزف الكمان. تتبع الصوت ووصل إلى هذا الموسيقي، وكان طالبا شابا يعزف في الساحة خارج مساكن الطلاب. ونظرا لعدم معرفة زميلي لأي كلمة باليابانية، وعدم معرفة هذا الطالب للألمانية، لم يتمكنا من التواصل إلا بلغة الإشارة. لكن بطريقة ما استطاع الألماني الإشارة إلى أنه هو الآخر يستطيع العزف على الكمان. في الواقع كان بارعا إلى حد كبير؛ نظرا لأن الموسيقى كانت اختياره الأول للدراسة، ولكنه لم يقبل بدراسة العلوم في الكلية، كما أخبرني، إلا لأنها بدت الاختيار الأسهل. ذكر الطالب الياباني لنظيره الألماني أن يبقى في مكانه، وترك المكان. بعد فترة قصيرة ظهر مرة أخرى وهو يحمل كمانا آخر. تحدث الاثنان بمزيد من لغة الإشارة، ثم بدآ في عزف كونشيرتو لباخ لآلتي كمان دون مصاحبة، دون نوتة موسيقية ودون خطأ. قال صديقي إنها كانت واحدة من أكثر التجارب المؤثرة في حياته، وظلت واضحة في ذاكرته عندما حكاها بعد 40 عاما مثلما كانت في اليوم الذي حدثت فيه.
يتعلق المثال الثاني بالعلم والمعرفة، وقد حدث لي عندما زرت الصين لأول مرة في عام 1992 بناء على دعوة الأكاديمية الصينية للعلوم. كانت بكين مبهرة بالفعل، وأخذني المستضيفون اللطفاء لزيارة السور العظيم، والمقابر القريبة للأباطرة السابقين، والمدينة المحرمة ومواقع أخرى في المنطقة. شاهدت أيضا المساحات الفارغة في بعض المباني حيث أزال الحرس الأحمر في أثناء «الثورة الثقافية» بعناية بالغة كل منحوتة زخرفية ظلت لقرون تشهد على وجود ثقافة حقيقية. وتزامنت زيارتي لشنغهاي مع العيد القومي للصين في بداية شهر أكتوبر، فكانت المؤسسة التي سأزورها، وغيرها من المباني الأخرى، مغلقة. وبدلا من تركي أنتظر دون جدوى في الفندق، رتب الشخص المستضيف لي لطفا منه زيارة إلى هانجتشو، وهي مدينة تبعد عدة ساعات جنوبا على حافة بحيرة جميلة؛ مدينة شهر العسل في جنوب شرق الصين (صورة 5). رافقني شاب من معهد شنغهاي يتحدث بعض الإنجليزية. وصلنا في المساء وتجولنا حتى وصلنا إلى البحيرة في وقت غروب الشمس. لفرحتي لاحظت على امتداد الأفق وجود تلال خضراء ومشجرة. ورغم أنني اعتدت مشاهدة ساعة الذروة في مترو أنفاق لندن طول السنوات الخمس عشرة الماضية، وتعرفت معرفة عابرة بساعة الذروة في طوكيو وأوساكا، فإن رؤية 100 دراجة قادمة نحوي، بثبات وبسرعة كبيرة، في كل مرة أحاول فيها عبور الطريق في بكين، كانت تثير أعصابي إلى حد ما واشتقت إلى السير لبضع ساعات بهدوء في الريف وحدي. وكانت هذه هي فرصتي؛ ففي وقت مبكر من صباح اليوم التالي استطعت - بصعوبة بالغة - إقناع مرشدي السياحي بالمجيء معي. قلت له: «أنا أحب السير لمسافات طويلة، ولا أريد أن أثقل عليك بمرافقتي، خاصة أنك لا تملك حذاء مناسبا.» فرد علي قائلا: «أنت لا تتحدث اللغة ولا تملك أي نقود.» فعارضته قائلا: «في الواقع لدي بعض العملات الصينية، وسأتمكن من تدبر أمري.» أنا لا أعلم ما العقوبة التي كان مرشدي السياحي سيتلقاها إذا عاد إلى شنغهاي وحده، بعدما فقد في منطقة هانجتشو النائية الأستاذ الذي كان يفترض به مرافقته، لكنه فعل هذا. على أي حال تمكنت من التملص منه، مع وعد جاد بأن نلتقي خارج المطعم الموجود في فندقنا لتناول العشاء في هذا المساء (فعلنا هذا، ولم أر مثل هذا الارتياح على وجه إنسان منذ اجتزت أنا وزملائي امتحاناتنا النهائية في الجامعة منذ 50 عاما). كنت أنظر بإعجاب إلى معبد قريب، وكنت أقترب من بعض الأراضي الوعرة في طريقي إلى التلال، عندما بادرني بالكلام رجل مسن يرتدي ملابس بسيطة له شعر رمادي مقصوص قصيرا. فقال لي: «هل أنت ألماني؟» فقلت: «في الواقع بريطاني.» فقال لي بعدما تحول إلى الحديث بإنجليزية سليمة: «هلا رافقتني من فضلك إلى منزلي - المتواضع جدا للأسف - وشرفتني بتناول قدح من القهوة معي.» كان اليوم يشرف على نهايته، وكنت متلهفا للوصول إلى العزلة الموجودة في التلال، لكن كيف أرفض مثل هذه الدعوة المهذبة؟
كانت السعادة بلقائنا متبادلة؛ فكان مضيفي هذا، الذي اتضح أنه جراح للقلب يبلغ من العمر 84 عاما، سعيدا بتمكنه من الحديث مع أكاديمي زميل من أرض بعيدة، أما أنا فقد كنت محظوظا بلقاء أروع وأكثر شخص مثقف يمكن لمسافر لقاؤه على الإطلاق. قبل اندلاع الحرب اليابانية الصينية كان يدير مستشفى خاصا به في بكين، وأصبح في أثناء الحرب أول شخص في الصين - وربما في العالم - يخيط بنجاح جرح طعنة في القلب. لم يكن هذا الجرح من سيف ياباني، وإنما كان جرحا ذاتيا ألحقه أحد السكان الأصليين للمدينة بنفسه لأنه لم يعد يتحمل بشاعة الحرب. لكنه اضطر إلى تحملها؛ إذ أنقذ الدكتور «ما» حياته.
35
سألني الدكتور «ما»: «ماذا تعتقد هذا ؟» مشيرا إلى الطاولة القصيرة التي وضعت عليها أكواب القهوة. تجرأت وقلت: «نوع من طاولات القهوة.» فقال: «لا.» وتجعد وجهه بابتسامة سرور، وأزال الأكواب ورفع الجزء العلوي الذي اتضح أنه مثبت بمفاصل بباقي أجزاء الطاولة. رأيت نوتات موسيقية لبلايل وكوبران وبيتهوفن؛ فقد كنا نتناول قهوة منتصف النهار على مقعد بيانو. كان هذا أحد قطع الأثاث القليلة الموجودة في هذه الغرفة الصغيرة. قال: «كانت زوجتي تعزف جيدا للغاية.» أدركت الآن أن السيدة الشابة الجميلة التي تعزف البيانو لمجموعة من الأطفال في لوحة زيتية موجودة أمامي كانت المرأة نفسها التي مررت بها وهي تغسل الخضراوات في صنبور خارج هذه السقيفة - يمكنك بالكاد أن تطلق عليه منزلا - ونحن ندخل. قال: «عندما جاء الحرس الأحمر - وكنا نعيش في هذا الوقت في مدينة أخرى - حطموا كل شيء جميل أو له قيمة، بما في ذلك البيانو، أمام أعيننا. وكانت هذه الصورة ومقعد البيانو وبعض الكتب كل ما استطعنا إنقاذه.» اتضح أن هذه الكتب كانت معاجم في الألمانية والإنجليزية والفرنسية، التي لم يجمعها الطبيب «ما» فحسب (فقد دمر معظم مكتبته العزيزة)، ولكنه ترجمها إلى الصينية أيضا. وقبل أن أرحل وافقت على أن أرسل إليه إحدى المقالات غير المتخصصة التي كتبتها مؤخرا، وفي المرة التالية التي تواصلت معه فيها كان قد ترجمها إلى الصينية، لمجرد المتعة، وعلى حد علمي لم تنشر قط. إنه رجل رائع وواسع المعرفة، ودليل على حقيقة أن الثقافة عالمية، وعلى أن الجلد عمره أطول من الشر.
يتطلب صنع عمل فني إجراء بحث؛ فقبل الكتابة بقلم أو فرشاة على الورق، على الكاتب أن يبحث عن الجملة المناسبة، والمؤلف الموسيقي عن النغمات المناسبة، والرسام عن المشهد المناسب. ويستمر البحث عند الانتهاء من كل عمل. كم مرة وصف ديكنز محنة الأطفال وأحوال الفقراء في إنجلترا في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ في «أوليفر تويست» و«نيكولاس نيكلبي» و«ترنيمة عيد الميلاد» و«مارتن تشزلويت» و«دوريت الصغيرة» و«ديفيد كوبرفيلد» و«أوقات عصيبة»، لكنه كان في كل مرة يبحث عن جانب مختلف ليصور محنتهم؟ وكم مرة استخدم موتسارت تتابعا متكررا لإضفاء نغم أو حركة على السوناتا أو الكونشرتو أو السيمفونية - لكل منها لحن متميز - لإعداد نهاية ناجحة دون وجود تكرار واضح؟ وكم مرة رسم مونيه جسري هانجرفورد وويستمنستر فوق نهر التايمز، من الضفة الجنوبية إلى الشمالية ومن الشمالية إلى الجنوبية، في وقت الشروق وعند الغسق، أو كاتدرائية روان في إضاءات مختلفة - بتجانس درجات اللون البني، أو الرمادي، أو الأزرق والذهبي، أو الأبيض، أو الأزرق
36 - أو الضوء الواقع على بركة الزنابق في حديقته في جيفرني - من الأعلى أو بزاوية - في بحثه عن أكثر تآلف مرض؟ بالطبع يمكنك القول إن كل فنان كان يجري فحسب تجارب في الأشكال الفنية التي اختارها، لكن أليست التجربة نوعا من البحث؟ يمكنك القول أيضا إن ديكنز اكتشف الموضوع الذي جعله مشهورا، وأن موتسارت لم يتكبد عناء تغيير نهاياته الموسيقية، وأن مونييه أدرك أن مشاهد نهر التايمز وكاتدرائية روان وبركة الزنابق تقدم صورا جيدة. إذا كان الأمر كذلك، فإن السعي يصبح أكثر وضوحا؛ لضمان ألا يكون كل عمل تماما مثل العمل الأخير؛ فالتكرار في الفن لا تكون له جاذبية كبيرة. من ناحية أخرى، يمكنك القول إن الفنان بمجرد عثوره على نقطة قوته يتوقف عن البحث. أليس لهذا السبب يمكننا التعرف على أعمال المؤلفين الموسيقيين المشهورين مثل موتسارت أو شوبرت أو شوبان بعد الاستماع إلى بضعة أجزاء فقط من موسيقاهم؟ لكن لم يتوافر لأي من هؤلاء الأساتذة الوقت الكافي لصنع أسلوب جديد؛ فكل منهم توفي في الثلاثينيات من عمره. كان بيتهوفن هو الوحيد الذي عاش بما يكفي (حتى سن السابعة والخمسين) ليتمكن من نقل الموسيقى من الأسلوب الكلاسيكي إلى الأسلوب الرومانسي، تماما كما سد بيكاسو (الذي توفي في الثانية والتسعين ) الفجوة بين الفن التصويري والفن غير التمثيلي. وقد يدفعك سخطك الآن وتقول إنني وقعت في خطأ التكرار بإشارتي المتكررة إلى عمليات بحث الإنسان طوال هذا الكتاب. إلا أن التكرار يعمل أيضا على تأكيد وجهة النظر . وفي حالتي أنا أحاول إقناعك بعدم وجود أي نشاط فعليا لا يمكن إرجاعه إلى سعي الإنسان غير المنتهي؛ بحثا عن الابتكار وعن تفسيرات، وبدافع من الفضول والحاجة أيضا.
يشكل المجتمع الذي يعمل فيه الفنان أسلوبه؛ فقد أدت ثقافات العصر الإليزابيثي في إنجلترا أو القرن السابع عشر في هولندا، وثقافات القرن الثامن عشر في فرنسا أو التاسع عشر في ألمانيا، إلى ظهور فن عظيم. ولو ولد شخص في خيال شكسبير أو موليير منذ 4 آلاف سنة ما كان استطاع كتابة مسرحيات. وبالتأكيد عاش شخص ما لديه مثل هذه الموهبة في مكان ما في هذا الوقت، وإن كان هذا في وادي النيل، فربما كان له إسهام في الفن الذي ظهر في مصر القديمة. يعكس عمل الفنان الثقافة التي يعيش فيها. أركز في حديثي هنا على الفنانين الذكور؛ لأنه حتى وقت قريب لم يكن المجتمع داعما لمزاولة النساء للفن (أو في الواقع أي وظيفة بخلاف الزواج وإنجاب الأطفال، والعلاقات العاطفية ورعاية المنزل)، ولهذا السبب لم يظهر إلا عدد قليل للغاية من الفنانات على مدار السنين؛ قال كونفوشيوس:
37 «افتقار النساء للموهبة فضيلة.» (لكن لاحظ كاتب في القرن السابع عشر أن «النساء تفوق الرجال بالفعل في الفضائل وفي مواهب عقلية نادرة، وأعتقد أننا سنجد أن النساء تتفوق على الرجال في هذا الموضع أيضا».)
38
وقد تطلب الأمر عزيمة استثنائية من كتاب مثل جين أوستن وجورج ساند (أمانتين-أورو لوسيل دوبين)، والشقيقتين برونتي وجورج إليوت (ماري آن إيفانز) لنشر أعمالهن في أوروبا في القرن التاسع عشر.
39
رغم هذا، ففي عام 1847حظيت بعض الكاتبات باعتراف كاف من مجلة أدبية مما دفع أنتوني ترولوب الشاب إلى التفكير في تغيير لقبه حتى يتفادى مقارنته بوالدته الأديبة الشهيرة.
40
لا يوجد دليل إطلاقا على أن القدرة الإبداعية للنساء أقل بأي شكل من الرجال؛ إنما كانت القيود التي فرضتها المجتمعات على مدى العصور هي التي منعت السيدات الموهوبات من تحقيق أقصى جهدهن؛ فهن يبذلن جهدا في السعي بقدر ما يبذله الرجال. ويبدو أن أي اختلافات عصبية توجد بين الذكر والأنثى تقتصر على منطقة صغيرة في المخ تتعلق بالمشاعر الجنسية؛ فنطاق القدرات العقلية، بداية من الغباء حتى العبقرية هي نفسها الموجودة لدى الرجال. على العكس، ربما كان أهم تأثير للإنسان في العالم - ممارسة الزراعة - نتيجة للنساء؛ حيث بدأن في زراعة البذور في محاولة منهن لضمان وجود مصدر موثوق به أكثر للتزود بالطعام. بالطبع تميز معوقات تربية الأطفال بين الجنسين، لكن بخلاف هذا كانت النساء على الأرجح مساوية للرجال في وقت العصر الحجري الحديث، تماما كما هو الحال حاليا بين الشمبانزي (باستثناء سيادة الذكر المهيمن على كل الآخرين). كان التمييز ضد المرأة، تماما مثل تكوين طبقات اجتماعية تسلسلية وإساءة الطبقة العليا للسفلى، عنصرا مؤسفا لمعظم الحضارات. ورغم أن هذه التوجهات بدأت تختفي ببطء، فإن التمييز يظل موجودا؛ ففي الولايات المتحدة قد لا يتعدى الأمر مجرد التزمت في إقصاء اليهود والأمريكيين من أصل أفريقي من ملاعب الجولف الباهظة، وفي باكستان مجرد معارضة تعليم النساء، لكن في دول مثل موريتانيا والسودان تستمر سوق العبيد في الازدهار.
41
ففي المجتمعات البدائية التي ظلت باقية في المناطق المنعزلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لم يكن لمثل هذه التحيزات وجود قط.
في العصر الحالي يبدو لي أن كثيرا ممن يعتبرون أنفسهم فنانين توقفوا عن البحث عن الجمال أو الكمال. ونظرا لافتقارهم للمهارات اللازمة لتحقيق أي من النتيجتين، استبدلوا الوقاحة بالموهبة؛
42
فهم يبحثون ببساطة عن طرق صادمة. وهذا ليس سعيا شاقا؛ فيمكنك تحقيقه ببساطة عن طريق خلع سروالك أو كشف صدرك على الملأ، أو عن طريق ملء كلامك بكلام بذيء. وهذا بالضبط ما أصبح الفن في العالم الغربي في خطر التحول إليه؛ في صورة حيوانات وأجنة محفوظة، وحصان ميت متدل من السقف، وكم هائل من روث الفيل، وسرير غير مرتب مليء بواقيات ذكرية مستعملة، وقصيدة عن الاستمناء، ومسرحية مخصصة للحديث عن التبادل الصريح للقاءات الجنسية عبر الإنترنت، وأخرى تدور بالكامل حول رجلين يلويان خصيتيهما بأشكال مختلفة (أؤكد لكم أني لا أختلق أيا من هذا ). هذا لا بأس به في المحاكاة الساخرة، لكن هل يصح في الفن؟ ينخدع النقاد، الذين يكونون هم أنفسهم عادة فنانين فاشلين، بهذا كله. ولن يندهش أي شخص عندما يعلم أن الصور التي تصنع بالكمبيوتر أصبحت الآن تباع على أنها فن. هل يدل هذا على تدهور الفضول الفكري للإنسان؟ سنعود للحديث في هذا الموضوع في الفصل الرابع عشر.
يترك الفن الجيد، المشتمل على الجمال والمهارة، بالإضافة إلى الأصالة، إرثا للجيل القادم. قال تولستوي في إحدى المرات لجدي:
43 «تذكر أن كل شيء سيزول، كل شيء. فستزول الممالك والعروش، والثروة والملايين، فسيتغير كل شيء. لن نبقى نحن ولا أحفادنا، ولن يبقى شيء من عظامنا، لكن إذا احتوت أعمالنا على مجرد ذرة من الفن الحقيقي، فإننا سنعيش إلى الأبد.»
44
وقال ليوناردو دافينشي في هذا ببلاغة أكثر: «الجمال يفنى في الحياة، ولكن ليس في الفن.» وهذا صحيح؛ فنحن نزور المتاحف وصالات العرض من أجل الإعجاب بفن عباقرة ماتوا منذ وقت طويل، ونستمع إلى موسيقى من عصور سابقة، ونقرأ أعمالا أدبية من قرون ماضية. تشبه المتعة التي يستمدها شخص ما من الفن العزاء الذي يجده آخر في الدين، أو الاستمتاع بالطبيعة. إنه شعور لحظي، لا يتراكم كما تتراكم المعرفة المستمدة من الدراسة أو التكنولوجيا أو العلم. إذن ما الإسهام الذي كان للفن في الحضارة والثقافة؟ يتمثل أحد إسهاماته في تحسين جودة الحياة، على الأقل للمتلقين له، فحتى النظام السوفييتي شجع مزاولة الفن، شريطة أن يكون وفقا لميوله؛ وبالطبع أدى قمعه للأشكال الأخرى إلى قتله فعليا للإبداع الفني. وماذا أيضا؟ أجد نفسي متلعثما.
45
رأى المؤرخ الفني الإنجليزي كينيث كلارك، منذ نصف قرن في كتابه (وسلسلته التليفزيونية) «الحضارة» أن الفن ركن أساسي - في الواقع الركن الأساسي - للحضارة. إلا أن فكرته عن الحضارة كانت ضيقة إلى حد ما؛ فكانت بالنسبة له الثقافة الأوروبية التي نشأت من المسيحية. لقد تحدثت عن الحضارة بمعناها الحرفي أكثر، المعنى الذي عرضه جاكوب برونوفسكي في كتابه وسلسلته التليفزيونية عن «ارتقاء الإنسان»، وتحدثت عن الفن لمجرد أنه عنصر للمجتمع المتحضر. صحيح أن الرجال العباقرة يسعون للتعبير عن موهبتهم الإبداعية، وصحيح أن الرغبة في الجمال رغبة قوية نتشارك فيها مع باقي الكائنات، وصحيح أن هذه العوامل هي أساس لإنجازات الإنسان الفنية. أعتقد أنها تحدث بفعل الجينات التي نتشارك فيها مع الرئيسيات والحيوانات الأخرى، وعبر تغير طفيف في جينات أخرى نتج عنه مهارة الإنسان اليدوية، وقدرته على الكلام ونسبة ذكائه الأكثر ارتفاعا. لا تتعدى مزاولة الفن كونها نتيجة للتكوين الجيني للإنسان؛ فتسمح للبعض لتحقيق نزعتهم الابتكارية، بينما تعطي المتعة ببساطة لآخرين. (3) جودة الحياة
إذا كان الإنسان العاقل ظل يبحث دوما عن جودة أفضل للحياة، ماذا حقق إذن؟ وما المعايير التي تميز جودة الحياة في العالم المتقدم عنها في باقي أنحاء العالم؟ لن يحدث اختلاف كبير بين الناس إذا طلب منهم ذكر قائمة بضروريات الحياة - الصفات التي لا يمكن للمرء الحياة دونها - ويعتبر الطعام والماء والمأوى والتحرر من الاضطهاد أكثر الصفات الأساسية، وعار على نوعنا أن ثمة أجزاء في العالم يحرم فيها عامة الشعب من هذه الصفات الأربع جميعها دون ضرورة. وبعد التفكير للحظة، يمكن للمرء على الأرجح إضافة التعليم، أو محو الأمية على الأقل،
46
والصحة إلى هذه القائمة. وفي حين تعمل حكومات قليلة على إصابة شعبها بالمرض (رغم أن صدام حسين حاول فعل هذا عن طريق تسميم أكراد العراق)، يكون الحرمان من التعليم أكثر شيوعا؛ فأكثر من 15٪ من الناس في جميع أنحاء العالم غير متعلمين، إلا أن هذه النسبة تكون أكبر من ذلك بكثير في مناطق معينة. فعلى سبيل المثال، في الريف الباكستاني 90٪ من السكان غير متعلم، وتوجد قرى لا تبعد 100 ميل عن مدينة كراتشي الصاخبة وصلت فيها نسبة الأمية بين الفتيات في الخامسة عشرة من عمرهن إلى 99,7٪. يرجع السبب في ذلك إلى حد كبير إلى عناد ملاك الأراضي والوجهاء المحليين الذين يرفضون التخلي عن سيطرتهم على حياة سكان القرى، والسماح للمعلمين التابعين للدولة بأن يكون لهم رأي في الأمر. وفي أفغانستان كانت السياسة المعلن عنها لطالبان حرمان كل الفتيات من التعليم المدرسي المناسب. علينا الحذر من الرضا بالوضع القائم؛ فأكثر من 20٪ من البالغين في المملكة المتحدة يعرفون بأنهم أميون عمليا؛ مما يجعل المملكة المتحدة، مع أيرلندا، في أسفل قائمة رابطة محو الأمية في الدول المتقدمة. ومنذ بضع سنوات عندما طلب من المدير العام لليونسكو تعريف دورها في أمريكا اللاتينية، لم يتردد بأن يقول إن التعليم يمثل دورها الأهم، ووضع فيديريكو مايور العلم والثقافة والأدوار الأخرى لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في المرتبة الثانية. لقد أغفل الصحة، لا لأن الأمم المتحدة أوكلت هذا الدور لمنظمة الصحة العالمية، ولكن لأنه لم يكن بحاجة إلى الإشارة إليها؛ فالصحة نتاج للتعليم.
اتضح هذا جليا منذ بعض العقود في ولاية كيرلا الهندية؛ فقد قررت حكومة الولاية، التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي،
47
علاج الأمية من جذورها في المدارس الابتدائية القروية؛ فلم يكتفوا بتعليم الأطفال القراءة والكتابة فقط، وإنما أيضا أساسيات النظافة، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد. علينا أن نتذكر أن الكوليرا والتيفوس والحمى التيفية والدوسنطاريا والإسهال كلها أمراض يمكن تفاديها بسهولة إذا توافرت مياه نظيفة وقليل من الصرف الصحي.
48
فلقد توقف تفشي الكوليرا في لندن في عام 1854 إلى حد كبير عبر طريقة حكيمة نفذها الطبيب جون سنو؛ حيث أزال مقبض مضخة المياه في شارع برود ستريت؛ وبذلك منع أي وصول إلى مخزونها من المياه. وأشار وقتها إلى أن المياه الملوثة، وليس الهواء، كانت مصدر المرض.
49
فلم يكن غريبا أن المياه في لندن، التي كانت تؤخذ من نهر التايمز، كانت ذات جودة منخفضة؛ فكان 140 مصرفا يلقون مخلفاتهم في النهر مباشرة في عام 1828.
عودة إلى الهند في العصر الحديث؛ فيمكن لمجرد ثني الساري عشر مرات واستخدامه كمرشح إزالة 90٪ من البكتيريا العصوية المسببة للكوليرا؛ وهي تقنية بسيطة . لكن حتى ينجح المعلمون في كيرلا في مهمتهم، عليهم التغلب على قدر كبير من العادات الثقافية والمعتقدات الدينية، فحتى يومنا هذا لا تتقبل الفتيات الشابات في راجستان دخول المياه الموزعة في أنابيب؛ فتحطمن أي صنابير تركب ، فهن يفضلن السير لمسافة طويلة كل يوم إلى أقرب بئر من أجل الحصول على الماء والعودة به في أوعية يحملنها على رءوسهن. لماذا؟ أولا، لأنهن يقلن إن أمهاتهن ستوكل إليهن مهام أصعب إذا لم يقضين وقتا في السير إلى البئر. وثانيا، لأن السير يعطيهن فرصة للتواصل مع الرجال؛ فستقلص المياه الموزعة في أنابيب حياتهن العاطفية.
50
فلا يكون تحقيق مستويات معيشة أفضل عادة مسألة ثروة، بل تكون له خصوصية ثقافية.
يعيش كثير من الموجودين في المناطق الأفقر في العالم حياة تشبه حياة الفلاحين في أوروبا الغربية منذ 300 سنة؛ فهم يفتقرون إلى أسباب الراحة التي يعتبرها سائرنا من المسلمات، ومع ذلك فقد تخطوا القرون برغبتهم في الحصول على بعض من أحدث التقنيات. منذ بضع سنوات وافق اثنان من زملائي على إلقاء محاضرات في كلية الطب في إحدى الجامعات في قرية بالقرب من مدينة حيدر آباد في وسط جنوب الهند. كانت المرافق ضئيلة؛ فلم تكن توجد آلة عرض لعرض الشرائح الإيضاحية والشفافة، وكانت مكتبة الجامعة بأكملها في حجم خزانة كتب كبيرة (وامتنع صديقاي عن تفقد الحمامات). دعاهم مضيفهم، الذي كان رجلا مهذبا وكريما، لتناول وجبة. كان منزله بدائيا، ومر فأر عدة مرات أمام أعينهم في أثناء تناولهم للعشاء.
51
بعد ذلك طلب منهم مضيفهم التقاط صورة له مع زائريه. دعاهم للوقوف خلف أعز ممتلكاته؛ لا لم تكن زوجته التي ظلت في الخلفية طوال الوقت، وإنما جهاز تليفزيونه الضخم. هذا موقف معتاد في كثير من الدول النامية والمتخلفة، خاصة في نصف الكرة الجنوبي. ففي معظم أنحاء أفريقيا يطالب الناس بصخب بتوصيلهم بالإنترنت؛ وفي كثير من أنحاء العالم يعمل البريد الإلكتروني على نحو أفضل من الهاتف.
وجدت نفسي منذ عدة سنوات في جامعة إبادان، في جنوبي نيجيريا. كنت قد قدمت إليها بصفتي ممتحنا خارجيا في مادة الكيمياء الحيوية، رغم أنني طوال المدة لم تقع عيني على طالب طب واحد أو على عمله؛ فقد أغلقت الجامعة قبل زيارتي بسبب النقص المتكرر في المياه والكهرباء. أيعقل نقص المياه في قلب الغابة المطيرة، ونقص الكهرباء في واحدة من أغنى الدول بالموارد الطبيعية؟ بدا أن مدينة إبادان المجاورة تنمو بسرعة فائقة تجعلها تمتص كل قطرة مياه وكل وحدة متاحة من الكهرباء.
52
في إحدى حواراتنا - فلم يكن لدينا الكثير لنفعله - سألني مستضيفي إذا كان بإمكاني التفضل وإرسال عدة مواد كيميائية إليه لأغراض البحث عند عودتي إلى إنجلترا. قلت له: «سيسعدني ذلك، لكن ألن توجد مشكلة في تخزينها بمجرد وصولها؟ فثلاجتك لن تستطيع منع المركبات من الفساد سريعا إذا لم يوجد حفاظ على الإمداد بالطاقة.» رد علي قائلا: «صحيح أننا ليس لدينا مولد في قسم الكيمياء الحيوية، لكن يوجد لدينا واحد في قسم الكيمياء. كل ما علي فعله هو إرسال صبي إلى الجانب الآخر، ومعه بضع نايرات في يده، وسيحول عامل التشغيل الكهرباء إلى هذا القسم.» ما أريد الإشارة إليه هو أمر بسيط؛ أن ثمة رغبة واضحة في جودة حياة أفضل في أكثر الأماكن حرمانا في أنحاء العالم؛ وتسمح القدرات الفكرية للناس بتحقيق أهدافهم بسهولة.
53
إن الثقافة، وليس الطموح أو المعرفة، هي التي تعيقهم، كما تلعب الثروة بالطبع دورا أيضا. ورغم أن معظم الأموال التي تعطى إلى الدول الأكثر فقرا من الدول الغنية والبنك الدولي تهدر أو تسلب، علينا الانتباه إلى نقد واشنطن إيرفنج القاسي: «لن تكون الأمم حكيمة أبدا حتى تصبح كريمة.»
54
ماذا إذن عن معيار التحرر من الاضطهاد بوصفه أحد ضروريات الحياة؟ إنه مثل مفهوم الحرية أو التحرر في حد ذاته - طموح إنساني بحت - لا يقتصر الافتقار إليه على العالم النامي فقط. على العكس، فسيخبرك علماء الاجتماع أن «السكان الأصليين في مانيابور في غابات الأمازون يتمتعون بحرية أكبر من المواطن مثقل الكاهل بالضرائب الذي يعيش في ستوكهولم أو شيكاجو.» وأنه «ثمة حرية أقل في سنغافورة (دولة متقدمة) حيث تعتقل بسبب إلقاء علكة في الشارع، من الموجودة على الجانب الآخر من المياه في جوهر بهرو (في ماليزيا، دولة نامية).» وأن «الطلاب يتمتعون بحقوق أقل في التظاهر في اليابان أو كوريا الجنوبية (كلتاهما دولتان متقدمتان) من الهند أو البرازيل (اللتين ما زالتا ناميتين).» ينتشر الاضطهاد في معظم أنحاء العالم؛ فربما أدى سقوط الشيوعية إلى استعادة الحرية الفردية في أوروبا الشرقية، لكنها فقدت فيها مرة أخرى مؤقتا في جمهورية يوغوسلافيا السابقة، كما جعل انتهاء إرث ماو تسي تونج الشعب الصيني يتذوق لأول مرة الحرية المحدودة منذ قرون (فلم يكن لديهم قدر كبير منها في المقام الأول). ومع ذلك يعيش الناس في كثير من الدول الأفريقية - يتبادر إلى الذهن منها: إثيوبيا والصومال، وبوروندي ورواندا، والكونغو وسيراليون - في خوف من الاضطهاد الوحشي غير المبرر الذي يصل إلى حد الإبادة الجماعية. فسواء كان هذا بسبب زعمائهم الذين يحرمونهم من الحد الأدنى للحياة الكريمة بسبب طموحاتهم السياسية السخيفة، أو نتيجة لإغارة أحد جيرانهم عليهم، فإن هذا لا يهم؛ إذ يضمن التدمير المتعمد لمحاصيلهم الرديئة وسلب معظم المساعدات التي ترسل إليهم تعرضهم للمجاعة. فالشعب ليس هو الذي بحاجة إلى تعليم بل الحكام. لكن كيف نغرس شعورا بالفضيلة في طاغية عديم الرحمة؟ أخشى أنه أمر مستحيل؛ فإن تنوع الصفات البشرية، الذي أعود للإشارة إليه مرة أخرى، يعني أنه في مقابل كل ألبرت شفايتزر ينتجه العالم، يظهر جوزيف ستالين؛ وأمام كل أم تريزا يوجد أدولف هتلر. فلا تفرق الصفات التي تحدد قدرة الإنسان الفائقة على السعي بين الفضيلة والخسة، ويكون الحل الوحيد هو احتواء الأشرار.
خاتمة
دعني أتوقف قليلا قبل الانتقال إلى الفصل التالي. فإن الإنجازات التي تحدثت عنها على مدار الفصول الثلاثة السابقة تظهر وحدة مذهلة وفي الوقت نفسه تنوعا كبيرا. فقد بنى السومريون معابد للعبادة وكذلك المايا، لكن الأبنية لم تكن واحدة؛ كما بنى المينويون قصورا لحكامهم تماما كما فعل المصريون، لكن كان للزخارف تصميم مختلف، وكانت معظم الأشكال البدائية للكتابة ذات حروف هيروغليفية، لكن الحروف الهيروغليفية المصرية لم تكن تشبه الرموز التصويرية الصينية، كما اختلفت الكتابة المسمارية السومرية عن الحروف «الخطية» للمينويين (انظر شكل
8-1 ). كما اعتمد علم الرياضيات الذي اخترعه السومريون على الرقم 60 (الذي اشتققنا منه الساعة المكونة من 60 دقيقة والدقيقة المكونة من 60 ثانية)، واعتمد العلم الذي اخترعه المايا على الرقم 20، بينما اعتمد علم الرياضيات في معظم الثقافات الأخرى على الرقم 10، رغم استخدام بعض من أقدم القبائل في أستراليا وبابوا غينيا الجديدة وأفريقيا وأمريكا الجنوبية نظاما قائما على الرقم اثنين حتى يومنا هذا. نحت الفنانون على الحجارة في كل مكان، لكن الأشكال التي صوروها كانت مختلفة؛ كما أن كافة الحضارات تعرفت على فن المشغولات المعدنية، لكن أشكال الأشياء التي صنعوها اختلفت من ثقافة لأخرى.
55
كذلك اعتز المصريون بالذهب والفضة، بينما اعتز الصينيون بالبرونز واليشم. يجب ألا تثير فكرة الوحدة والتنوع في الإنجازات البشرية دهشة أي شخص؛ فهي نتيجة لوحدة الصفات البشرية - من مهارة يدوية وكلام وتفكير - مصحوبة بالقدرة المتفاوتة للناس في استخدامها. لكن لماذا أنتجت سبع حضارات منفصلة نتائج متشابهة؟
ثمة من يعتقدون في وجود حضارة قديمة سبقت كل الحضارات الأخرى وكانت مصدر وحي لها جميعا؛ قارة أطلنتس المفقودة، فكان بها أهرامات وقصور ومدن وموانئ، وعاش بها شعب يتمتع بذكاء استثنائي ونزعة سلمية. اعتقد أفلاطون أن هذه الأرض توجد في المحيط الأطلنطي، وحدد آخرون مكانها في أمريكا الجنوبية - ربما كانت القارة كلها أطلنتس - وفي المنطقة القطبية الجنوبية وفي اسكندنافيا. ويعتقد البعض بأنها كانت تقع في بحر إيجة، ودمرت منذ 3500 عام فقط بفعل انفجار بركاني عملاق، يساوي في قوته انفجار 100 قنبلة هيدروجينية، على جزيرة سانتوريني (ثيرا).
56
لا يشك أحد في أن الحضارة المينوية، التي امتدت على الأرجح إلى سانتوريني، أثرت فيما بعد في الثقافة الميسينية على البر الرئيسي لليونان. إلا أن فكرة وجود حضارة في مكان آخر، في فترة زمنية أقدم بكثير، ازدهرت وكانت ثمة صلات بينها وبين الثقافات البدائية في كل من العالم القديم والحديث، لا تزيد عن كونها مجرد خيال ؛ فببساطة لا يوجد دليل على هذا. على الأرجح كان أفلاطون متأثرا بما حدث لمدينة تدعى هيلايك، تقع غرب أثينا في خليج كورنث. اختفت هذه المدينة دون أن تترك أي أثر عندما ضربها زلزال في عام 373 قبل الميلاد. فربما صنعت موجة مدية تلت وقوع الزلزال بحيرة داخلية - تبخرت فيما بعد - غمرت كل الأجزاء المتبقية منها؛ ولم تكتشف العملات والمصنوعات الخزفية وأجزاء من الجدران والمباني إلا في عصرنا الحالي.
57
وبشأن أوجه التشابه بين نتاج حضارات العالم القديم والجديد أقترح تفسيرا أبسط؛ فلا توجد إلا طرق محدودة لبناء قارب يطفو أو مبنى مقاوم للعوامل البيئية، وكذلك لصنع إبريق يحتفظ بالماء أو وعاء لحمل الأرز، كما لا توجد إلا حيوانات معينة فقط يمكن استئناسها،
58
ولا توجد إلا بعض النباتات التي تنمو بسرعة كافية حتى يمكن حصادها في خلال الفصل، كما يوجد عدد محدود من الطرق لصيد سمكة. وبالمثل لا يوجد إلا عدد محدود من الطرق يمكن من خلاله الحفاظ على النظام داخل المجتمع - النظام الاستبدادي أو الديمقراطي، الإقطاعي أو البيروقراطي - أو يمكن للرعايا إظهار احترامهم لحكامهم؛ بالانحناء أو الكياسة أو السير للخلف، أو بالسير على الركبتين، أو بالسجود على الأرض.
59
ومع ذلك، يستمر التشابه بين الأهرامات في مصر وفي الأمريكتين - رغم أن الأولى بنيت لتخليد ذكرى حكامها، والثانية من أجل استرضاء الآلهة - في جذب انتباه المفكرين الثقافيين.
كرر ثور هايردال رحلته الاستكشافية «كونتيكي» التي قام بها من بيرو حتى تاهيتي، ومن شواطئ أفريقيا حتى أمريكا؛ حتى يثبت أن القارب المصنوع من عيدان القصب - الذي يستخدمه الصيادون حاليا في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ووفقا لوجهة نظره كان شائعا لدى المصريين والإنكا والآزتيك - كان بإمكانه الصمود في الرحلة عبر المحيط الأطلنطي. وقد درس هايردال القوارب المصنوعة من عيدان القصب في بحيرات موجودة في أفريقيا
60
وفي بحيرة تيتيكاكا، التي تقع بين بوليفيا وبيرو، واستنتج وجود تشابه ليس فقط بين النسخ المستخدمة حاليا، بل أيضا بين المصورة على الصور الجدارية والنقوش البارزة لمصر القديمة. وإذا نجح في مهمته، فإن هذا سيكون دليلا قويا في صالح نظرية إمكانية وصول المستكشفين من العالم القديم إلى العالم الجديد منذ آلاف السنين، وبذلك أدخلوا مفهوم الأهرامات عبر المحيط الأطلنطي. في عام 1969 بنى هيردال بنفسه قاربا من ورق البردي على غرار القوارب التي كان المصريون يستخدمونها منذ أكثر من 4 آلاف سنة؛ أطلق عليه اسم «رع»
61
وانطلق مع طاقم دولي من ستة أفراد (وقرد) من مدينة آسفي في المغرب. أبحروا في جهة الجنوب الغربي على طول الساحل الأفريقي حتى وصلوا إلى جزر الرأس الأخضر، ثم تحولوا إجبارا نحو الغرب للاستفادة من التيار السائد. تمكنوا من الوصول إلى البحر الكاريبي قرابة ساحل باربادوس بعد قضاء 8 أسابيع في البحر،
62
فشعر هيردال بأنه أثبت وجهة نظره. لكن مع الأسف تشير الأدلة الجزيئية
63
إلى أنه كان مخطئا في اقتراحه هذا تماما مثلما كان مخطئا في اقتراحه السابق الذي أشار فيه إلى حدوث هجرة نحو الغرب من ساحل أمريكا الجنوبية حتى بولينيزيا. فما أثبته هو أنه كان رجلا مبتكرا ومثابرا وجريئا إلى أقصى حد، ويتمتع برغبة قوية في السعي المستمر.
يذهب آخرون إلى أبعد من هيردال في تخميناتهم؛ فيشير شكل الأهرامات، وكذلك مواقعها الدقيقة بالنسبة لبعضها في كل من العالم القديم والجديد، إلى وجود أصل مشترك يشتمل على وجود صورة لتكوينات نجمية معينة؛ فيقال إن بناة هذه النصب التذكارية ينتمون إلى قبيلة «مفقودة» للأفراد المبتكرين. فنعود مرة أخرى إلى أطلنتس. وإجابتي عن هذا بسيطة للغاية؛ فإذا أردت بناء نصب تذكاري من الحجارة بأقصى ارتفاع ممكن من خلال وضع واحدة فوق الأخرى فماذا سيكون شكله في النهاية؟ شكل مخروط؛ فالهرم هو مجرد مخروط له جوانب مستقيمة. أعود لأكرر نقطة أشرت إليها من قبل؛ فلقد كان محور تركيز الهرم المصري القبر الملكي الذي يقع أسفله، أما النقطة المحورية في الهرم الأمريكي فكانت المنصة الموجودة أعلاه (انظر صورة 3)، التي كانت تبنى عليها التماثيل وتقام عليها الشعائر الدينية؛ فلم يكن الهدف الأساسي منها هو دفن الحكام داخل مقبرة. تمثل وجه الشبه بين الاثنين في الغرض من الشكل الهرمي؛ الارتفاع نحو الشمس، مانحة الضوء والحياة. أحيل القارئ أيضا إلى تعليقي السابق على العجلة؛ فإذا كان بعض المسافرين الأوائل عازمين على نقل معرفة العالم القديم إلى العالم الجديد، فلماذا لم يخبروهم عن الاستخدام الممكن للعجلة؟
64
ومن المتعارف عليه أن الزراعة نشأت على نحو مستقل، رغم أنها سارت على النهج نفسه، في العالم القديم والجديد؛ إذن لماذا لا يمكن أن ينطبق هذا على بناء المدن والقصور، وتشييد المعابد والأهرامات، وتطور اللغة والكتابة، ونشأة علم الفلك والرياضيات؟
على مدار هذه الفصول الثلاثة شهدنا تفاعلا بين صفات المهارة اليدوية والكلام وقدرة الخلايا العصبية. فمن أجل بناء المباني وصناعة الأدوات، ومن أجل الرسم والنحت واستخدام الآلات الموسيقية، يكون الإبهام القابل للانحناء وقبضة الدقة أمورا ضرورية. ومن أجل استخدام اللغة وصنع الأدب والغناء تكون الأحبال الصوتية ذات أهمية قصوى. ومن أجل علم الرياضيات والفلك، والقانون والحكم، تكون للصلات بين الخلايا العصبية في القشرة الدماغية أهمية بالغة. لكن كما أكدت في بداية هذا الفصل من الكتاب، إن ما يحدد الفرق بين البشر والشمبانزي، وما يؤدي إلى وجود قدرة أكبر على السعي الدائم، لا يتمثل في واحدة من هذه الصفات دون الأخرى، ولكن في مزيج من الثلاث كلها؛ فقد استطاع الإنسان من خلال التفاعل بين يديه وصوته وعقله صعود سلم الإنجازات.
هوامش
الفصل التاسع
التكنولوجيا: الحرب والرخاء
تعتبر التكنولوجيا نتيجة لسعي الإنسان لتحسين جودة حياته والتغلب على الظروف القاسية للبيئة التي وجد نفسه فيها، سواء أكانت من اختياره أم لا. فقد أنتج الجمع بين المهارة اليدوية والعقل الذكي نتائج مذهلة؛ فلم يكن ممكنا لأي من التطورات التي ذكرت في الفصول الثلاثة السابقة أن تحدث من دون وجود معرفة فنية. ففي المباني كان تركيب الجدران الحجرية، واستخدام السواكف في المداخل والنوافذ، وتشييد الدعامات للأسقف وتركيب المزاريب، كلها أمورا أساسية. ومن أجل صنع الأسلحة والأدوات والمصنوعات، مثل أواني الشرب والحلي، ظهرت المشغولات المعدنية؛ فكان صهر المعادن التي يعثر عليها في الصخور من أجل إنتاج البرونز (مزيج من النحاس والقصدير) خطوة كبيرة للأمام.
نادرا ما يوجد النحاس أو القصدير في الطبيعة؛ فغالبا ما يعثر عليهما مختلطين بعناصر أخرى.
1
ويؤدي التسخين في وجود الكربون إلى تحرر المعادن. على الأرجح لاحظ الإنسان الأول هذا في يوم ما، حيث ظهر بعد إشعال نار شديدة على بعض الحجارة أو الصخور، بريق المعادن. ولدهشته من الأمر كرره على نطاق أوسع، واكتشف أنه يستطيع الطرق على المعدن وتشكيله بأشكال مختلفة. وسميت الفترة التي حدث فيها هذا الاكتشاف، والتي كانت بين 3500 و3000 مضت، في الهلال الخصيب في بلاد الرافدين ومصر، وفي شرق أوروبا وفي جنوب شرق آسيا، بالعصر البرونزي. وفي أمريكا لم يظهر استخدام البرونز حتى القرن الخامس عشر، عندما أدخله الآزتيك.
في الأساس تشكل عملية التسخين نفسها في وجود الفحم النباتي أو فحم الكوك أساسا لعملية إنتاج الحديد، الذي يوجد أيضا في الطبيعة لكن ليس كمعدن حر، بل مخلوط بعناصر أخرى مثل الأكسجين أو الكبريت. يتمثل الاختلاف الوحيد في ضرورة وجود درجات حرارة أعلى من أجل إنتاج الحديد. بدأ العصر الحديدي في شمال بلاد الرافدين (الأناضول حاليا)؛ حيث أدخل الحيثيون صناعته في الفترة بين 1500 و1200 قبل الميلاد. انتشر غربا ببطء، وحل بالتدريج محل البرونز في صناعة أقوى الأسلحة والأدوات. وفي الصين، بدأ استخدام البرونز، ثم الحديد، على الأرجح على نحو مستقل بعيدا عن الأحداث في شرق البحر المتوسط. وفي الأمريكتين، لم يحدث أي استخدام للحديد على الإطلاق حتى وصول الأوروبيين. نتجت التقنيات التي شرحناها حتى الآن، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، من التجربة والخطأ فقط، ولم يلعب العلم فعليا أي دور على الإطلاق في ظهور أي تقنية جديدة حتى فترة متقدمة من القرن الثامن عشر.
على العكس، أثبتت محاولات مضاهاة التقنيات - التي استخدمها الإنسان الأول لنقل الحجارة الضخمة من مكان لآخر في ظل الإدراك المتأخر للعلوم الهندسية في القرن العشرين - أنه أمر صعب؛ فقد حاولت فرق من المتحمسين إعادة تجسيد مآثر أسلافهم في نقل كتل الأهرامات المصرية، وقواعد التماثيل في ستونهنج، والتماثيل العملاقة التي شيدها الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح، باستخدام المواد التي كانت متاحة في هذه العصور فقط. وقد استطاعوا في كل حالة بالكاد تحريك النسخ طبق الأصل بضعة أمتار على الأرض.
2
وكانت محاولة نحت ملامح على الجلمود مثلما فعل الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح محبطة تماما مثل محاولة نقله وتشييده؛ فلم يترك النحت ساعة بعد ساعة بالكاد أثرا. فمن أجل سحب الكتل الحجرية الضخمة (التي نحتت فيما بعد على شكل حيوانات مخيفة) التي تحيط بدرجات السلم المؤدية للمعابد الموجودة داخل المدينة المحرمة، توصل الصينيون إلى حل أكثر إبداعا؛ فحفروا قناة تمتد من المحجر حتى بكين وملئت بالمياه، وعندما حل الشتاء تجمدت المياه فيها. فلم تتطلب دحرجة الكتل على سطحها مجهودا كبيرا (فسبقت بذلك شرح مبادئ الاحتكاك بأكثر من ألف سنة).
في القرن الثامن عشر والتاسع عشر قادت بريطانيا وألمانيا العالم في مجال التكنولوجيا البازغ؛ فقد أدى اختراع المحرك البخاري، على يد الاسكتلندي جيمس واط في عام 1769 والمستوحى من محرك العارضة الذي صممه توماس نيوكمان في عام 1712 لضخ الماء من المناجم، إلى ظهور قاطرات بخارية وسفن بخارية في مطلع القرن التاسع عشر. وفي عام 1829 بنى جورج ستيفنسون وابنه روبرت أول قاطرة «ذا روكيت» في لانكشاير. سيطرت السكك الحديدية على التنقل، سواء في أوروبا أو آسيا أو الأمريكتين، على مدى السنوات المائة التالية. وظهرت أول صبغة اصطناعية - الموفين - بالصدفة في عام 1856؛ فقد كان ويليام هنري بيركن - عالم شهير في الكيمياء العضوية - يحاول تصنيع الكينين المضاد للملاريا (الذي كان يستخرج في السابق من لحاء شجرة الكينا) من الأنيلين، فظهرت بدلا من ذلك أمامه فوضى زرقاء داكنة في وعاء التفاعل. أدرك أهمية اكتشافه، ومن هذا الاكتشاف العلمي ولدت صناعة الصبغات الصناعية.
نرى مثالا على التكنولوجيا التي نشأت مباشرة من اكتشاف علمي في اختراع الأسمدة الصناعية؛
3
ففي عام 1909 اخترع فريتز هابر، أستاذ الكيمياء الفيزيائية والكيمياء الكهربائية في معهد كارلسروه للتكنولوجيا، مع زميله كارل بوش، أول قطرات صناعية من الأمونيا السائلة. فكان إظهار أن النيتروجين (وهو غاز خامل نسبيا يشكل 80٪ من مناخ الأرض) يمكن خلطه بالهيدروجين في وجود شرارة كهربائية من أجل إنتاج الأمونيا، إنجازا يعبر عن المهارة. وكان من الممكن لأي بقايا للأكسجين ما زالت مختلطة بالنيتروجين أن تحدث آثارا كارثية؛ فكان من الممكن أن ينفجر الجهاز بأكمله. وفعل هابر وبوش أكثر من ذلك؛ فنظرا لعلمهما بأنه من الأمونيا يمكن إنتاج أسمدة مثل فوسفات الأمونيوم بسهولة، وأن تخصيب التربة على هذا النحو قد يحدث ثورة في الزراعة، وسعوا نطاق العملية بما يكفي للإشارة إلى إمكانية إنتاجها تجاريا. قدم كارل بوش عرضا لشركة باسف التي قدرت أهمية هذه الإمكانية واستثمرت في العملية.
تنتج الأمونيا حاليا عالميا بمعدل 150 مليون طن في السنة؛ يستخدم 80٪ منها في الأسمدة التي تحتوي على أملاح الأمونيوم واليوريا (المشتقة من الأمونيا وتمتصها النباتات بسهولة). أحدث استخدام هذه الأسمدة ثورة في الزراعة؛ فقبل اختراع عملية هابر وبوش، كان النيتروجين الذي تحتاج إليه النباتات يشتق من ثلاثة مصادر؛ من تثبيت النيتروجين الموجود في الغلاف الجوي باستخدام الريزوبيا،
4
ومن إعادة تدوير مخلفات المحاصيل، ومن اليوريا الموجودة في السماد الحيواني. وحاليا توفر هذه المصادر نصف الاحتياج العالمي فقط، ليس في الغرب فحسب بل في جميع أنحاء العالم. وفي دول مثل الصين وإندونيسيا، تمثل الأسمدة الصناعية فعليا المصدر الوحيد للنيتروجين في حقولهما.
ومع بزوغ فجر القرن العشرين، انتقل الاستكشاف التكنولوجي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وثمة ابتكار يبرز من بين كل الابتكارات الأخرى وهو إنتاج اللدائن. تتكون هذه البوليمرات
5
من الكربون والهيدروجين والأكسجين، ويحتوي بعضها على النيتروجين أيضا. وندين ل «ليو هندريك بكيلاند» البلجيكي الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1889، بفضل إنتاج البلاستيك الذي سمي منذ هذا الوقت على اسمه: باكيليت. كان بكيلاند بحق رائد أعمال مبدعا؛ فقبل اختراع اللدائن كان قد اخترع بالفعل نوعا من ورق التصوير الفوتوغرافي باعه لشركة إيستمان، المبتكرة لكاميرا كوداك. ومن خلال تكييف التفاعلات الاصطناعية المؤدية إلى صنع لدائن صلبة، اخترع باحثون في مشروعات تجارية مثل دو بونت أليافا صناعية، أصبحت جزءا من كل أنواع الملابس بداية من الجوارب القصيرة والطويلة حتى أوشحة الرأس والقبعات. ثمة اختراع بارز آخر اعتمد على احتراق الوقود السائل تمثل في السيارات، التي كان رائد صناعتها هنري فورد من خلال صنعه لسيارة من طراز «موديل تي» في عام 1909، والطائرات، التي أظهر أورفيل وويلبر رايت إمكانية استخدامها في عام 1903. وربما يكون الإنجليزي فرانك ويتل هو الذي اخترع المحرك النفاث في عام 1930، لكن الشركات الأمريكية مثل بوينج هي التي جعلت السفر عبر القارات حدثا يوميا عقب الحرب العالمية الثانية.
حاليا بدأت تظهر ثمار الكيمياء العضوية إلى حد كبير. فمرة أخرى نجد أن الكيمياء الفيزيائية، وهي الخط الفاصل بين الفيزياء والكيمياء، هي التي أسهمت فيما يعتبره الكثيرون أعظم اختراع في القرن العشرين؛ الإلكترونيات وشريحة السليكون. ويتمثل العلم الأساسي وراء هذه التقنية في إثبات أن الإلكترونات «تقفز» على طول قطع السليكون المعدلة كيميائيا،
6
بدلا من أسلوب «دفع» الإلكترونات بعضها بعضا على طول سلك معدني من أجل إنتاج تيار كهربائي. وكما حدث في تصنيع الأمونيا، سرعان ما تبع هذا الاختراع إنتاج تجاري؛ فالشرائح الإلكترونية الصغيرة المعتمدة على السليكون هي أساس أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني والتليفزيون الرقمي والاتصال عبر الأقمار الصناعية. ربما يكون الإنجليز مثل تشارلز بابيج في عام 1835 وآلان تورنج في عام 1937 هم الذين وضعوا أسس الحوسبة، لكن الشركات الأمريكية مثل «آي بي إم» و«مايكروسوفت» هي التي حولت أجهزة الكمبيوتر إلى مشروع تجاري بمليارات الدولارات. وتظهر حقيقة قلق معظم دول العالم في عام 1999 بشأن احتمال تعطل الخدمات الأساسية مثل المستشفيات والمتاجر والبنوك والطائرات في لحظة التحول من عام 1999 إلى عام 2000، المدى الذي أصبح به كل جانب في حياتنا يعتمد على شرائح السليكون.
لم تكن الصدارة دوما للتكنولوجيا الغربية؛ فطوال أكثر من ألف سنة قبل هذا، هبت رياح الابتكار من الشرق، وكانت أقوى ما تكون من الصين. ومع ذلك، حتى قبل هذا كانت ثمار براعة الإنسان تستخدم بالفعل استخداما جيدا. (1) تكنولوجيا العصر الحجري
يرجع العصر الحجري، الذي سبق العصرين البرونزي والحديدي، إلى بداية نشأة الإنسان. فقد استخدم الهومو الأدوات الحجرية، المصنوعة عن طريق بري قطعة بأخرى من أجل صنع رأس أو حافة مدببة، لنحو مليوني سنة، من أجل شل حركة الفرائس وذبحها بالإضافة إلى الانقضاض أحيانا على أبناء جنسه الآخرين. تمثلت أكثر المواد صلابة في الكوارتز أو الحجر الصوان أو الصخور البركانية مثل البازلت أو الأوبسيديان؛ وبمجرد وصول الإنسان إلى أوروبا بعد أكثر من مليون سنة، أصبحت أدواته تصنع في الغالب من الحجر الصوان، وتعلم إشعال النار. وسرعان ما بدأ صنع مقابض من الأغصان المتساقطة يمكن أن توضع بداخلها الحجارة المدببة أو حادة الجوانب، ويمكن لربط الأغصان المرنة حول هذين الجزأين تثبيت مثل هذا الرمح أو الفأس البدائية. وبالطبع من غير المحتمل أن يكون شكل الأغصان وأحيانا جذوع الأشجار وهي تطفو على مياه النهر قد مر أمامه دون أن يلاحظه. في البداية ربما يكون قد جلس فحسب على قطعة شجر وجدف بيديه حتى يستطيع عبور النهر. ولم يبدأ إلا في وقت لاحق في ربط قطع الشجر بعضها مع بعض لصنع طوف، وفي تجويف قطعة ذات حجم مناسب من الشجر لصنع زورق. وثمة إشارات على فصل الإنسان الأول - على الأرجح الإنسان المنتصب - للصبغة الضاربة للحمرة المعروفة باسم المغرة من المواد الخام المحتوية على الحديد مثل الهيماتيت؛
7
في تيرا أماتا في فرنسا،
8
وفي بيتشوف في جمهورية التشيك،
9
وفي هونسجي في جنوبي الهند.
10
نحن لا نعلم سواء كان يستخدم هذه المغرة في حك جسمه بها كدواء للقرح واللدغات، أم أن اللون الأحمر كان له معنى رمزي، ربما كان يرمز للدماء.
11
الواضح أن الإنسان العاقل استخدم فيما بعد المغرة في رسوم الكهوف المنتشرة في جميع أنحاء جنوبي فرنسا وشمالي إسبانيا، ويرجع تاريخها إلى ما بين 15 ألفا و30 ألف سنة مضت.
تمثل التقدم الكبير التالي في استخدام النار في زيادة صلابة أوعية بسيطة تشكل من الطمي الرطب؛ فتبلغ تقنية صنع الخزف على الأقل 26 ألف سنة. ولم يبدأ انتشار المحاصيل إلا بعد هذا الوقت بنحو 15 ألف سنة. يتساءل بعض علماء الأنثروبولوجيا عن سبب استغراق الأمر كل هذا الوقت؛ هل كانت هذه الفترة التي وصل فيها صندوق الصوت إلى اكتمال نموه وأصبح التواصل عبر اللغة ممكنا،
12
أم كانت زيادة تعددية وظيفة المخ، التي مكنت الإنسان من التعبير عن نفسه عبر الفن والدين،
13
هي الحدث المحوري؟
14
نحن لا نعلم. لكن، مع ذلك، هل تعتبر 15 ألف سنة وقتا طويلا، مع الوضع في الاعتبار أن التطورات التكنولوجية السابقة حدثت على مدار مليون سنة، وليس عشرات الآلاف من السنين؟ وفي رأيي المذهل أن صناعة الخزف والزراعة ظهرتا في أماكن متباعدة في الوقت نفسه؛ فتوجد أجزاء من مصنوعات من الطمي من منطقة نهر آمور في شرقي سيبيريا ومن موقع في زازاراجي في محافظة مياجي في اليابان على بعد 900 ميل، ويرجع تاريخ كل منها إلى نحو 13 ألف سنة؛ كما توجد أدلة على زراعة محاصيل مثل الشعير والقمح في الشرق الأدنى، والأرز في إندونيسيا والصين، والذرة في أمريكا الوسطى وبيرو، كلها في الفترة بين 10 آلاف سنة و11 ألف سنة مضت. وبالتأكيد يحتاج احتمال أن الاحترار العالمي - الذي بدأ يحدث منذ نحو 15 ألف سنة - له تأثير على هذه الأحداث، إلى مزيد من الدراسة.
15
تبع هذا استئناس الحيوانات من أجل توفير الطعام والعمل؛ فقد كانت الخراف والماعز تربى منذ 9 آلاف سنة، وبعد هذا بألفي سنة ظهر المحراث الذي يجره الثور. ومنذ 5 آلاف سنة أصبحت المحاصيل تروى في بابل ومصر ووادي نهر السند والصين. وفي هذا الوقت تقريبا ظهرت العجلة في جميع أنحاء العالم القديم،
16
في بلاد الرافدين في الأصل. وكانت تصنع في البداية من الخشب المتين، وكانت العجلة تستخدم في الغالب في العربات التي تجرها الثيران. وبعد مرور ألف عام أصبحت العربات بالعجلات ذات البرامق التي تجرها الخيول تستخدم في الأغراض الحربية في بلاد الرافدين والصين واسكندنافيا. وقد أشرنا إلى حقيقة أن الزراعة وبعضا من مشتقاتها التكنولوجية نشأت في جميع أنحاء العالم؛ في أوروبا وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى المناطق التي شهدت مولد الحضارات السبع الأساسية. وعلى العكس من هذا، فإن ثقافة جومون في اليابان، التي أنتجت آلاف المصنوعات من الطمي، لم تشهد ممارسات زراعية؛ فظلت خاملة حتى وصلت إليهم من الصين في نحو عام 400 قبل الميلاد.
شكل 9-1: رموز من العصر الحجري. عثر على هذه العلامات، مع رسوم لحيوانات، على جدران الكهوف الموجودة في جنوبي فرنسا وشمالي إسبانيا، وكذلك على أشياء صغيرة يسهل حملها. أعيدت طباعتها من مقال آلن فوربس وتوماس آر كرودر: «مشكلة العلامات المجردة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد»، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد 3: 350-366، 1979، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير،
LS23 7BQ ، المملكة المتحدة.
ثمة من يعتقدون أن الرموز والرسوم المتكررة المنقوشة على بعض من رسوم الكهوف اللاحقة - الموجودة من 12 ألفا إلى 17 ألف سنة، مقارنة بالتي يرجع تاريخها إلى 30 ألف سنة - تمثل أحد أشكال التواصل التي سبقت الكلمة المكتوبة (شكل
9-1 ). فيقال إن الخطوط والنقاط الموجودة في كهف ألتميرا في إسبانيا تشير إلى العضو الجنسي الذكري، وأن الأشكال البيضاوية والمثلثات تشير إلى العضو الأنثوي.
17
وفسرت الرسوم المتكررة المنقوشة على عظام الحيوانات والمصنوعات الأخرى في هذه الفترة بطريقة مشابهة؛ فحرف
V
ونسخته المقلوبة رأسا على عقب تشير إلى فرج المرأة، والخط المتعرج يشير إلى الماء، وهكذا. وعلينا ألا نعجب من الإشارة المتكررة إلى الأعضاء التناسلية للإنسان؛ فهي تمثل أكثر الاختلافات الواضحة بين الرجال والنساء العراة، وكان لفعل التناسل من أجل إنتاج حياة جديدة دلالات دينية منذ وقت طويل. وربطت ماريا جيمبوتاس، وهي عالمة آثار ذات خيال واسع، بين مثل هذه الإشارات الظاهرية للأعضاء التناسلية الأنثوية وربة الأرض الكبرى، التي يقال إن تأثيرها المفيد حمى جزءا كبيرا من أوروبا في هذا الوقت.
18
لكن ألم تكن أقدم النصوص التي عثر عليها في مدينة الوركاء السومرية عن المحاسبة وليس عن التراث الشعبي أو الأساطير؟ أحد أشد أنصار وجهة النظر هذه هي دنيس شماندت-بيسرات؛
19
فقد درست أكثر من 10 آلاف قطعة صغيرة أو «عملات» مصنوعة من الطمي عثر عليها في جميع أنحاء الشرق الأدنى،
20
يصل عمر كثير منها حتى 10 آلاف سنة. وتفاوتت أشكال هذه القطع؛ فمنها الأشكال الكروية والبيضاوية، والأشكال الأسطوانية والأقراص، والأشكال المخروطية والأشكال الهرمية الصغيرة. وتعتقد شماندت-بيسرات أن كل شكل كان يشير إلى سلعة مختلفة؛ مثل مكيال من الحبوب، أو وعاء من الزيت، أو رقيق، أو حيوان أليف، وهكذا. وكان عدد العملات، التي كان بعضها مثقوبا ومربوطا معا على شريط، يشير إلى عدد أي شيء ترمز إليه. تذكر أن الإنكا استخدموا العقد على الشرائط من أجل الإشارة إلى الكم (رغم أنهم لم يتوصلوا قط إلى اختراع كتابة). إذن ما الصلة بين العملات الطينية وظهور الأرقام المكتوبة؟ إنه اكتشاف أنه منذ نحو 5500 سنة اخترع نظام آخر للحساب. وفي هذا النظام كانت العملات توضع داخل لوح أكبر من الطمي على شكل مظروف، كان يغلق عليها بعد ذلك. وبعد ذلك كانت تنقش صورة ثنائية الأبعاد لنوع الألواح الموجودة داخل أي مظروف - كروية أو بيضاوية أو مخروطية أو أسطوانية - على الجزء الخارجي من المظروف. وفيما بعد رأى المحاسبون في الوركاء عدم وجود حاجة لوضع العملات فعليا داخل الوعاء الطيني على الإطلاق. فلماذا لا يشيرون ببساطة إلى نوع السلعة على اللوح الطيني باستخدام الرمز المعتاد لها ثم يضيفون علامة أخرى تشير إلى الكم؟ وبالتدريج تغيرت هذه الرموز، وأضيفت رموز أخرى، لكن في الواقع فإن تسلسل الأحداث الذي افترضته دنيس شماندت-بيسرت ربما يعبر جيدا عن أصل أول كتابة اخترعها الإنسان؛ الكتابة المسمارية للسومريين.
21
تجسد ممارسة الطب الابتكار التكنولوجي؛ فكانت قائمة على التجربة والخطأ وليس على العلم.
22
كانت ممارسة الإنسان في العصر الحجري لهذا الفن محدودة للغاية؛ فاقتصر علاج الناس من أمراضهم بطريقة أو بأخرى على ثقافات كتلك التي كانت موجودة في مصر والصين. ومن ناحية أخرى، كان الإنسان البدائي يتناول جزيئات ذات خصائص منشطة نفسيا ومهدئة، على الأرجح للمتعة وتخفيف الألم أيضا. وتوجد أدلة على مضغ نبات التنبول (بايبر بيتل) في شمال غرب تايلاند منذ نحو 7500 إلى 9 آلاف سنة، في الفترة التي بدأت فيها زراعة الخشخاش المنوم (بابافير سومنيفيرام) في جنوبي أوروبا. ولم يظهر الكحول إلا بعد عدة ألفيات؛ فبدأ تخمير الجعة لأول مرة في مصر في عام 4000 قبل الميلاد تقريبا، وتبعه استخدام الخميرة كمادة رافعة في الخبز بعد هذا بألفي عام فقط؛ ونجد إشارات إلى استهلاك الخمر في هذه الفترة .
23
ولم يظهر تقطير المشروبات الكحولية من أجل إنتاج مشروبات روحية إلا فيما بعد.
24
كما نسبت ممارسة النقب - إزالة قطعة صغيرة من الجمجمة - إلى إنسان العصر الحجري، وتماما مثل استخدام النباتات المنشطة، استمرت هذه الممارسة بين القبائل البدائية حتى العصور الحديثة. نحن لا نعلم فعليا ماذا كان الغرض من هذا؛ ففي الواقع على المرء أن يعاني من صداع بالغ الشدة قبل السماح لأحد رفاقه بحك جمجمته بحجر مدبب. (2) تراث الصين
كانت ديدان القز تربى من أجل إنتاج الملابس المصنوعة من المادة التي تفرزها، في أسرة شانج منذ أكثر من 3 آلاف سنة. وسرعان ما تبعت هذا معالجة الفخار ليصبح مصنوعات خزفية فاخرة. وبحلول القرن الثاني قبل الميلاد كان حديد الزهر يصنع في جميع أنحاء الصين بكميات لن تصل إليها أوروبا إلا بعد نحو ألفي سنة؛ فعلى سبيل المثال، في القرن التاسع كانت الصين تنتج 13500 طن من الحديد في السنة؛ ففي خلال مائتي عام تضاعف الإنتاج نحو عشرة أضعاف. زادت السيوف والدروع من قدرة الدولة على الحرب، كما عززت الناتج الزراعي المحاريث والجرافات ذات الرءوس الحديدية (لتقليب الأرض)، والمناجل والمعازق الحادة. وفي هذا الوقت كان الصينيون بالفعل يصنعون الصلب (نسخة من الحديد أكثر صلابة)، من خلال نفخ الهواء عبر الفرن من أجل زيادة درجة الحرارة، وظلت هذه التقنية مستخدمة في أوروبا حتى اختراع بسمر لفرن الصهر بعد أكثر من 800 عام.
اشتهر استخدام الصينيين للأدوية العشبية وممارسات مثل الوخز بالإبر، لكن لم يبدأ الممارسون الغربيون يحذون حذوهم إلا في العصر الحالي. ففي عصر أسرة تانج (618-906) استخدم مزيج من الفضة مع القصدير من أجل ملء الثقوب الموجودة في الأسنان. ووضعت جرعات صغيرة من الزئبق من أجل منع الالتهابات البكتيرية، وهو إجراء لم يستخدم في الغرب ضد مرض الزهري ومرض السيلان، إلا بعد ألف سنة أخرى. وأصبح «التجدير» لمحاربة مرض الجدري
25
ينفذ بحلول القرن العاشر. ولم يدخل هذا الإجراء إلى أوروبا إلا بعد 800 عام على يد السيدة ماري وورتلي مونتاجيو، التي شاهدت فاعليته في القسطنطينية في الفترة بين عامي 1716 و1718 وأعجبت به لدرجة جعلتها تطبقه على ابنها.
26
فعلت ماري أنطوانيت الأمر ذاته بعد نصف قرن، رغم أن ولي العهد توفي على أي حال في سن السابعة والنصف.
27
يعتبر حساب الوقت بدقة عنصرا مهما في أي ثقافة متطورة. فاخترع الصينيون ساعة ميكانيكية تعمل بالمياه في القرن الثاني الميلادي، وسبقت الساعة المعقدة التي صنعت من أجل الإمبراطور سو سونج في عام 1088 أدوات مشابهة في أوروبا بنحو 300 سنة. وكان يستخدمها في الغالب في عمل التنبؤات الفلكية بدقة أكبر من التي كانت متاحة من قبل؛ فتقليديا كان التنبؤ بالأحداث المستقبلية أحد الأدوار التي يؤديها إمبراطور الصين. وربما بسبب هذا الاستخدام المحدود، اختفت الساعات الميكانيكية على ما يبدو في هذا الوقت؛ ولم تعد مرة أخرى حتى القرن السادس عشر، مع وصول المبشرين المسيحيين.
صنع الورق أيضا في القرن الثاني، جزئيا من أجل نشر تعاليم كونفوشيوس بكفاءة أكبر، وجزئيا من أجل استخدامه في الاختبارات القاسية التي يخوضها الدارس من أجل الالتحاق بالخدمة المدنية الصينية. وكما رأينا في الفصل السابق، كانت النصوص تنقش على العظام وأصداف السلاحف، ثم على البرونز والخشب، قبل ألف سنة في عهد أسرة شانج؛ أما في مصر فإن الأحداث التاريخية التي كانت تنقش سابقا على الواجهات الحجرية للأهرامات باتت تسجل في هذا الوقت على أوراق البردي.
28
ظهر أحد الأشكال البدائية للمكتبات داخل معبد في مدينة شيان؛ فقد كانت نصوص كونفوشيوس المحفورة على الألواح الحجرية متاحة لمطالعة الدارسين، وكانت توجد إمكانية نقل المطبوعات التي يريدون نسخها على الورق، باستخدام طرق تشبه أسلوب «حك النحاس» أو الطباعة الحجرية. وفي القرن الثامن عدلت هذه التقنية من أجل إنتاج أول مادة مطبوعة في العالم، وبحلول القرن الثاني عشر كانت الكتب متداولة. ولم تدخل الطباعة إلى أوروبا حتى القرن الخامس عشر، عندما اخترع يوهان جوتنبرج في ألمانيا تقنية الطباعة المتحركة وآلة الطباعة، وكان أول كتاب يطبع بها هو الإنجيل في عام 1455 تقريبا. ففي الصين كان نشر معرفة كونفوشيوس وحكمته القوة الدافعة وراء اختراع الطباعة، وفي أوروبا كان الدين.
29
يعتبر الملح عنصرا مهما في أي اقتصاد مزدهر، فمن دونه لا يمكن حفظ الطعام في شهور الشتاء، عندما تكون المصادر الطازجة غير متوافرة. في القرن الثالث عشر كان الملح يستخرج من عمق ألفي قدم في أجزاء من الصين. تمثلت العملية في الأساس في رفع مثقاب حديدي نحو 200 قدم فوق سطح الأرض باستخدام رافعة ثم إسقاطه بشدة من أجل صنع بئر على عمق كبير، يضخ منه الماء المالح عبر أنابيب من البامبو إلى راقود. بعد ذلك يختلط غاز الميثان الموجود تحت سطح الأرض بالهواء، ويشتعل من أجل تسخين الماء المالح وتبخير محتواه من الماء. وفي غضون 300 سنة أصبحت هذه التقنيات تستخدم في الحفر من أجل استخراج النفط في الصين.
في عهد أسرة مينج في القرن الرابع عشر، استخدمت دواليب الغزل التي تعمل بالماء، وكانت قوالب الطوب تتصلب عند درجة حرارة 1100 درجة مئوية بأساليب تشبه المستخدمة في جميع أنحاء العالم في العصر الحالي. إذا كانت كثير من الاختراعات الأوروبية قد اعتمدت على الاختراعات الصينية، فكيف تسربت هذه التكنولوجيا غربا؟ كانت السفن الشراعية الضخمة الرومانية تحضر معها بالفعل الحرير الصيني وهي عائدة في مقابل منتجات مصنوعة من الحديد والزجاج. ومنذ عصر أسرة تانج (618-907) كانت ثمة حركة تجارية بين المجتمعات الإسلامية في المدن الصينية الجنوبية، مثل جوانزو، مع إخوانهم العرب في الشرق الأدنى. وخلال القرن الثالث عشر قضى التاجر والمغامر ماركو بولو عامين في السفر في جميع أنحاء الصين في أثناء خدمته للإمبراطور قوبلاي خان. وعند عودته إلى أوروبا وصف، إلى جمهور متشكك دون جدال،
30
أساليب الحياة المتطورة التي شهدها. وفي الفترة بين عامي 1405 و1433 أجرى القائد البحري الصيني تشنج خه رحلات استكشافية، تهدف إلى إنشاء صلات تجارية، إلى جنوبي الهند وشبه الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا.
31
ومن هذه المناطق ذاتها وصلت المعلومات إلى أوروبا عبر البرتغاليين، بمجرد إبحارهم حول جنوبي أفريقيا، على يد بارثولوميو دياز في عام 1488 وفاسكو دا جاما (مع بارثولوميو دياز) في عام 1497. على أي حال، كانت الصين في هذا الوقت تسيطر على أفغانستان وبلاد فارس، وامتدت حدودها الغربية جنوبا من البحر الأسود إلى شبه الجزيرة العربية، ومن هناك انتقلت التكنولوجيا إلى أوروبا، لتستخدم أو لتظل مهملة لعدة قرون. إلا أن طريق الحرير لم يكن ينقل سلعا ومعرفة فحسب؛ ففي القرن الرابع عشر كان وسيلة لانتشار الطاعون الدبلي (اليرسينيا الطاعونية) في أوروبا؛ وتوفي أكثر من ثلث عدد سكانها. (3) التكنولوجيا الإسلامية
بينما أقف في شرفة منزلي الموجود في واد أندلسي، وأنا أكتب هذه السطور، أرى آثارا لمصاطب على كل منحدر حولي؛ فنادرا ما تجد مترا من الأرض لم يزرع بنشاط وكفاءة في عصر احتلال العرب لهذه الأرض في الفترة بين مطلع القرن الثامن ونهاية القرن الخامس عشر. ورغم ذلك لم تكن الزراعة الركن الأساسي الوحيد في اقتصادهم؛ فكانت التجارة مكونا أساسيا. فكانوا يصدرون إلى بقية العالم - إلى الهند والصين وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأوروبا - منتجات اعتمدت في تصنيعها على تكنولوجيا جديدة أو محسنة؛ المنسوجات والجلد، والحلوى والحبوب، والعطور والأدوية. لقد حسنوا صناعة الزجاج والخزف من خلال اكتشاف القلويات، واخترعوا طاحونة المد والجزر والساقية وطاحونة الهواء. أنتجوا أيضا النافثا، وهو وقود قابل للاشتعال يشبه الكيروسين، وأدخلوا أيضا استخدام أمعاء الحيوانات (الوتر)
32
في تقطيب الجروح، وكانوا رواد صناعة الأدوات الجراحية؛ المقصات والحقن والمسابر والملقط الجراحي. استخدموا كذلك أدوية طبيعية جديدة لمقاومة عدد من الأمراض المتنوعة، وأدركوا حقيقة أن العدوى هي أساس كثير من الأمراض. كذلك كانوا من أوائل من ربط الورق معا لصنع الكتب، قبل الصينيين بقرنين. وماذا كان محتوى هذه الكتب؟ لم يقتصر فقط على المحتوى الديني للقرآن، لكن كانت ثمة نصوص في الرياضيات والفلسفة والكيمياء والطب. ظلت بعض من هذه النصوص مادة تعليم أساسية في جامعات أوروبا لقرون بعد طرد بقايا العثمانيين من جنوبي الأندلس. وظلت كلمات مثل «الجبر» و«قلوي» بالإنجليزية
33
محتفظة بنطقها العربي حتى يومنا هذا. وفيما يتعلق بالرياضيات، أدخل العرب مفهوم الصفر، الذي نشأ في الهند،
34
في أكثر نظام عددي مبتكر عرفه العالم على الإطلاق. ويمكننا بحق القول إن المعداد كان سلفا لكل ماكينة عد نقود، ناهيك عن كل جهاز كمبيوتر، محل استخدام حاليا.
يوجد من يقللون من شأن إسهام الحضارة الإسلامية في النهضة التي حدثت في أوروبا. ألم تحفظ أعمال الدارسين الإغريق والرومان الرهبان المنتشرين في جميع أنحاء أوروبا بعد سقوط روما؟ لا شك أن هذا حدث بدرجة ما. إلا أن هؤلاء الرهبان حافظوا بالأساس على بقاء المسيحية حية في الأذهان، التي دخلت في الحياة الرومانية بالفعل قبل قرن تقريبا من بدء غزوات الفانداليين والقوط والهون. وكان إسهام التراث الإسلامي أكثر بكثير من مجرد حفظ المبادئ الإغريقية الرومانية في الطب والفلسفة والفن. فأنتجت مدينة قرطبة الأندلسية
35
وحدها اثنين من أكبر الفلاسفة في هذا العصر: ابن رشد (1126-1198) وموسى بن ميمون (1135-1204)، وكلاهما من المفكرين أتباع الفكر الأرسطي. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، لم تكن الثقافة العربية موصلة جيدة للابتكارات فحسب؛
36
فقد كانت تدعم بنشاط التكنولوجيا الجديدة. وأصبحت هذه الثقافة جزءا من الحياة المعاصرة في أوروبا وما وراءها، تماما كما حدث مع ثقافة الصين. وبينما لم يخرج من العرب أي علماء، فلم يخرج أيضا علماء من الصين أو من أي ثقافة أخرى، فيما عدا اليونان، قبل القرن السادس عشر. (4) أدوات الحرب
عندما توحدت الصين تحت حكم أسرة تشين في عام 220 قبل الميلاد، وبدأ بناء سورها العظيم - الذي صمم من أجل الحماية من المعتدين الشماليين الذين يمتطون الخيول - كانت جيوشها تحارب بالقوس والسهام وسيوف من الصلب. لم تظهر مثل هذه الأسلحة في أوروبا إلا بعد مضي 1300 سنة. اخترع الصينيون البارود،
37
لكن افتراض أنهم لم يستخدموه إلا في الألعاب النارية (يذكرنا هذا باستخدام المايا للعجلة فقط بوصفها جزءا ملحقا بألعاب الأطفال) غير صحيح. وبحلول القرن الحادي عشر كان البارود يستخدم في إطلاق قذيفة من مدفع، وفي صنع القنابل الصغيرة، وربما صنع الأسهم المتفجرة أيضا، في محاولة لمنع دخول الخيالة الغزاة من الشمال. ثبت فشل هذه الأسلحة تماما مثل فشل السور العظيم؛ ففي عام 1279 حصل المغول العدوانيون على هذه التكنولوجيا وتمكن قوبلاي خان من السيطرة بالكامل على الصين. ومع ذلك، صحيح أن الصينيين اكتشفوا مفهوم منطاد الهواء الساخن - فتسخين الهواء يعمل على تمدده بحيث يصبح أخف وزنا - فإنهم لم يطبقوه إلا في شكل مصابيح صغيرة تضاء بالشموع وتطير إلى الأعلى في الأعياد. وفي الغرب، استخدمت مناطيد الهواء الساخن (التي كان أول من اخترعها مونجولفييه في عام 1783) في الاستطلاع العسكري، ولوقت قصير في الحرب العالمية الأولى في شكل مناطيد زبلين التي تملأ بالغاز، من أجل إلقاء القنابل على العدو. إلا أن الفوز في المعارك لا يحدث بالعتاد فحسب؛ فالاستراتيجية بالمثل تكون عاملا مهما.
كان صن تزو قائدا في مملكة وو لعقدين من الزمن بدءا من عام 512 قبل الميلاد، وفي هذه الفترة تمكن جيش مملكة وو من هزيمة جيوش أعدائه القدامى؛ ولاية يو وولاية تشو. حققت خطط صن تزو نجاحا بالغا لدرجة جعلته يسجلها في كتاب «فن الحرب» في عام 490 قبل الميلاد تقريبا.
38
وباستثناء ماو تسي تونج والجيش السوفييتي، الذي كان هذا الكتاب كتابا مرجعيا لهما، لم يكن معظم القادة عبر القرون مدركين لقواعده الفعالة مع بساطتها، رغم تطبيقهم فطريا في كثير من الأحيان لخطط عسكرية مشابهة. ونقلا عن صن تزو تمكنت من تلخيص استراتيجيات القادة الناجحين على مدار 2500 سنة مضت:
استعد في السلم للحرب، واستعد في الحرب للسلم ... إن فن الحرب له أهمية بالغة للدولة؛ فهي مسألة حياة أو موت، سبيل إما للسلامة أو الدمار؛ ومن ثم فإنه مجال للتقصي لا يمكن إغفاله نهائيا بأي حال من الأحوال ... الهدف من الحرب هو السلام ... فالغرض من إجراء الحرب هو إخضاع العدو دون قتال ... وتعتمد كل الحروب على الخداع؛ وعليه، فعندما نكون قادرين على الهجوم، علينا أن نبدو عكس ذلك، وعندما نستخدم قواتنا علينا أن نبدو خاملين، وعندما نكون قريبين علينا أن نجعل العدو يظن أننا بعيدون للغاية، وعندما نكون بعيدين علينا أن نجعله يظن أننا قريبون ... قدم طعما لخداع العدو؛ فعليك أن تتظاهر بالاضطراب، وتسحقه ... وإذا كان آمنا من كافة النواحي فكن مستعدا له، وإن كانت قوته تفوق قوتك فعليك بتجنبه ... وإن كان خصمك سريع الغضب، فاسع إلى إثارة غضبه، تظاهر بأنك ضعيف، حتى يغتر بنفسه ... وإن كان ينعم بالراحة، فلا تجعله يهنأ بها، إذا كانت قواته موحدة، فاعمل على فصلها ... انقض عليه عندما يكون غير مستعد، واظهر له في مكان لا يتوقعك فيه ...
يجري القائد الذي يكسب المعركة كثيرا من الحسابات في معقله قبل خوض القتال. أما القائد الذي يخسر المعركة فلا يجري إلا القليل من الحسابات مسبقا؛ ومن ثم تؤدي الحسابات الكثيرة إلى النصر، بينما تؤدي قلة الحسابات إلى الهزيمة.
39
وفي الفن العملي للحرب يكون أفضل شيء على الإطلاق هو الاستيلاء على دولة العدو كاملة سليمة؛ فالتحطيم والتدمير ليس أمرا جيدا؛ ومن ثم يكون من الأفضل أيضا أسر جيش بأكمله بدلا من تدميره، وأسر فوج أو سرية أو فرقة كاملة بدلا من تدميرها، وعليه لا يتمثل التميز والتفوق في القتال والفوز في كل المعارك التي تخوضها؛ وإنما يتمثل التميز والتفوق في تقويض مقاومة العدو من دون قتال ...
وتستمر النصائح على هذا المنوال.
في شرحه لأطروحة صن تزو في عام 1981، وصل الحال بالكاتب الأمريكي جيمس كلافيل إلى أن يقول «أنا أعتقد فعليا أن القادة العسكريين والسياسيين في الفترة الأخيرة إذا كانوا درسوا هذا العمل العبقري، لم تكن حرب فيتنام لتقع على النحو الذي وقعت به، وما كنا خسرنا الحرب في كوريا ... وما كانت حملة خليج الخنازير لتحدث، وما كانت أزمة الرهائن في إيران لتحدث، وما كانت الإمبراطورية البريطانية تعرضت للتفكك، وعلى الأرجح كان من الممكن تجنب وقوع الحرب العالمية الأولى والثانية ...» حسنا، ربما تجد، مثلي، في هذا قدرا من المبالغة، لكن كلمات صن تزو بها قدر من المصداقية.
هل أثرت التكنولوجيا في تعطش الإنسان لتدمير جيرانه؟ لا؛ فكما أكدت من قبل، تكون الطبيعة العدوانية التي تظهر لدى البعض دون البعض الآخر، موجودة في الجينات؛ فلم يكن للتطورات التكنولوجية التي حدثت على مدار آخر 10 آلاف سنة إلا تأثير طفيف على سلوك الإنسان. وماذا عن تأثير التكنولوجيا على أدوات الحرب؟ بالنسبة لي لا يوجد فرق كبير بين أن تقتل بضربة من فأس يدوي أو من سهم أو رمح أو رصاصة، ولا يهم كثيرا إذا مات المرء على الأرض أو في البحر أو في الهواء. فالأمر الذي تغير هو مدى تأثر الأفراد غير المحاربين. فمنذ وقت قريب يرجع إلى عصر نابليون استطاع رجال مثل شخصية تولستوي بيير بيزوكوف مشاهدة معركة بورودينو من الخطوط الجانبية، وفي أثناء معركة ووترلو استمر الحفل الراقص المقام في بروكسل المجاورة دون انقطاع. فلم تكن التكنولوجيا الحديثة هي التي قتلت المواطنين في لندن وكوفنتري، ولا في برلين ودرسدن في الحرب العالمية الثانية (أو، إضافة إلى هذا، الفلاحين في فيتنام ولاوس وكامبوديا منذ بضعة عقود). فلقد حدث هذا بسبب تغير الاستراتيجية؛ فأصبحت تتمثل في الضغط بشدة على المدنيين لدرجة تجعلهم يتوسلون لقادتهم للمطالبة بتحقيق السلام. تمثل تأثير التكنولوجيا على أدوات الحرب في اختراع أسلحة الدمار الشامل. بدأ الأمر منذ 60 عاما؛ فكان استخدام الطاقة الصادرة من التحلل النووي عملية مبتكرة للغاية، لدرجة أنه قبل هذا بنحو 12 سنة أطلق إرنست رذرفورد - أول عالم فيزياء ينجح في شطر الذرة - على مثل هذه التقنية اسم «ضوء القمر». ولم يكن هذا من طبع ألبرت أينشتاين. ففي شهر أغسطس عام 1939 كتب للرئيس روزفلت يحثه على إصدار أمر باختراع قنبلة ذرية دون تأخير؛ فقد كان أينشتاين مدركا أن العلماء الألمان ربما كانوا يسعون وراء الهدف نفسه. اقتنع روزفلت وبدأ مشروع منهاتن. وفي مارس عام 1945 كتب أينشتاين مرة أخرى للرئيس يحثه الآن على التخلي عن المشروع؛ نظرا لهزيمة ألمانيا فعليا، وفي هذه المرة لم يلق التماس أينشتاين آذانا مصغية.
40
منذ انفجار أول قنبلة ذرية في عام 1945، أصبحت الطاقة النووية تستخدم لأغراض سلمية تماما مثل استخدامها في الأغراض الحربية، وفي الواقع تظل أحد الخيارات الرئيسية لإمداد العالم بالطاقة بعد نفاد البترول والغاز. أما العثور على طريقة لنشر الجراثيم المسببة للأمراض على أكبر مساحة سكانية ممكنة فليس له أي تطبيق نافع؛ فلم يكن للتكنولوجيا الموجودة وراء الحرب الجرثومية إلا تطبيق تدميري فحسب، وهي حتى الآن محدودة الاستخدام. استخدمها اليابانيون ضد الصين في الحرب العالمية الثانية، كما استخدمها صدام حسين في حرب العراق ضد إيران في ثمانينيات القرن العشرين،
41
ولكنه لم يكن أول من يبني مخزونا من الجراثيم المسببة للعدوى.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تجري عمليات البحث والتطوير على أبواغ الجمرة الخبيثة ومادة توكسين البوتولينيوم؛ من أجل احتمال استخدامهما ضد ألمانيا. وفي عام 1944 وضعت 12 حاوية من كائنات التخمير سعة الواحد منها 20 ألف جالون في مقاطعة فيجو، بولاية إنديانا، قادرة على إنتاج أكثر من مليون قنبلة جمرة خبيثة في الشهر، حجم الواحدة منها 4 أرطال. وطلبت بريطانيا وحدها شحنة مبدئية قدرها 500 ألف قنبلة. في هذا الوقت لم يستخدم أي منها. وفي الفترة التي تلتها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، جرت الاستعاضة عن الجمرة الخبيثة بجرثومة الفرنسيسيلة التولارية؛ وهي جرثومة أخرى يكون لها تأثير فتاك محتمل عند استنشاقها، وأضيفت إليها بكتيريا أخرى تسبب العجز لكنها أقل فتكا، مثل تلك المسئولة عن الإصابة بداء البروسيلات وحمى كيو، بالإضافة إلى فيروس التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي، كما أدخل الفطر الذي يدمر القمح والأرز إضافة إلى كل هذا. مرة أخرى لم تستخدم هذه الأسلحة قط؛ لسبب بسيط وهو أن الاتحاد السوفييتي كان يبني ترسانته الخاصة من أجل شن حرب جرثومية؛ فلم يكن يستخدم البكتيريا المسببة للجمرة الخبيثة وداء التولارمية، بل أيضا البكتيريا المسئولة عن الإصابة بأمراض شديدة العدوى مثل الطاعون والجدري.
42
وكما في حالة الأسلحة النووية، فقد أدرك الجانبان أن الردع أفضل من الاشتباك، وبالتأكيد كان صن تزو سيوافق على هذا. (5) ليوناردو دافينشي
لا ترتبط الابتكارات التكنولوجية بوجه عام بشخص معين، على عكس الأعمال الفنية أو النظريات العملية. لماذا أستطرد إذن لأسلط الضوء على شخص واحد، وهو رجل عرف باسم ليوناردو دافينشي (1452-1519)؟ سيتعجب البعض دون شك عندما يجدون إنجازاته مدرجة في فصل عن التكنولوجيا. ألم يكن أحد أعظم الفنانين في العالم الغربي؟ ألا يعتبره آخرون عالما - في الواقع «أول عالم»
43 - ومن ثم يستحق إدراجه في فصل مكرس خصوصا لهذا الموضوع؟ أنا أتفق مع الرد الأول، لكني أميل إلى الاتفاق مع ستيفن جاي جولد
44
في الاختلاف مع الثاني؛ فليوناردو لم يكن عالما؛ فربما كان مجربا كبيرا، لكنه لم يقدم تفسيرات للظواهر الموجودة من حوله.
45
صحيح أنه أجرى تجارب معدة جيدا في مجال علم البصريات، لكنه لم يفسرها بمثل بصيرة إسحاق نيوتن. وصحيح أنه قدم ملاحظات فطنة، مثل أن «القمر ليس جسما مضيئا؛ فهو لا يضيء دون وجود الشمس»، وأن «القمر يعمل مثل مرآة كروية»، لكنه لم يكن أول من قال هذا.
46
كما أن التعليق الذي قال فيه «لا يمكن أن نرى في الكون جرما أكبر حجما وأكثر قوة من الشمس؛ فنورها يضيء كل الأجسام السماوية المنتشرة في جميع أنحاء الكون»؛ خاطئ، ورغم أن تعليقه الذي تلا ذلك بأن «قوى الحياة تنحدر جميعا منها (الشمس)؛ لأن الحرارة الموجودة في الحيوانات الحية تأتي من قوى الحياة ولا توجد حرارة غيرها في الكون.»
47
تعليق ذكي على نحو مذهل، ويسبق عصره بقرون، فإنه لا يقدم لنا فكرة عن احتمال كيفية حدوث هذا.
48
ومع ذلك كان لزاما علي إدراج إنجازاته في كتاب يتحدث عن السعي، حتى إن لم يكن لأي سبب آخر سوى تكرار كلمات مؤرخ الفن كينيث كلارك، بأنه كان «الرجل الأشد فضولا في التاريخ.»
49
لم يكن لدى كثيرين قبل ليوناردو دافنشي الشجاعة أو الحماس لتشريح جثة الإنسان بمثل هذه التفاصيل؛ فقد كان هذا نشاطا محظورا. فمن خلال عرضه لكل عضو ونسيج في الجسم بعناية - العين والمخ، والحنجرة والقصبة الهوائية، والقلب والرئتين، والجهازين الهضمي والتناسلي، والعضلات، والعظام وأعصاب الوجه واليدين، والذراعين والساقين - ثم تسجيله لكل مجموعة من الأعضاء بدقة شبه ثلاثية الأبعاد من خلال رسومه الرائعة، استطاع ليوناردو الكشف عن سمات التكوين التشريحي التي لن يظهر ما يفوقها حتى اختراع المجهر الإلكتروني. لقد أدرك أن القلب مكون في الأساس من عضلات، تشبه تلك التي تحرك الأطراف؛ كذلك وصف الشرايين والأوردة، رغم عدم قدرته على رؤيتها، كما توقع وجود الشعيرات الدموية (لم يخترع المجهر الضوئي إلا بعد مائة سنة أخرى). ومن خلال مقارنة شرايين رجل مسن توفي على الأرجح جراء أزمة قلبية، بشرايين طفل في الثانية من عمره توفي حديثا، استنتج أن تصلب الشرايين في الحالة الأولى - لدرجة أدت إلى توقف تدفق الدم - كان سبب الوفاة. اقترح بالإضافة إلى ذلك أن الضيق التدريجي للشرايين كان نتيجة لامتصاص عناصر غذائية من الدم؛ ستمر 450 سنة قبل اكتشاف أن الصفائح المحتوية على الكوليسترول هي السبب الرئيسي في مرض تصلب الشرايين وما يتبعه من قصور الشريان التاجي. عرف أيضا وظيفة الصمام الأورطي - دفع الدم إلى الرئتين من خلال تعاقب الفتح والإغلاق - عن طريق إجراء تجارب باستخدام بذور نبات الدخن، مرة أخرى قبل خمسة قرون من تكرار هذه التجربة على يد علماء الفسيولوجيا باستخدام تقنيات متطورة. تضعه كل هذه الإنجازات بالطبع ضمن فئة تضم مجربين مثل ويليام هارفي الذي جاء بعده بقرنين. وبعد إمعان التفكير ربما علينا الاعتراف بليوناردو دافنشي بوصفه عالما في الأحياء، إن لم يكن في الفيزياء.
شكل 9-2: تصميم لهليكوبتر من رسم ليوناردو دافنشي. أعيد نشرها بإذن من شيلا تيري/مكتبة الصور العلمية، لندن.
كانت تصميمات ليوناردو دافنشي للأجهزة العسكرية سابقة بقرون لعصرها هي الأخرى؛ مظلة الهبوط وبذلة الغطس (فيستطيع مرتديها السير على قاع النهر وإحداث فتحات في الجانب السفلي من قوارب المهاجمين)، وكذلك الدبابة والهليكوبتر (شكل
9-2 ). لم تختبر اختراعاته قط، كما لم يعمل معظمها،
50
لكن هذا لا يعنينا. فخلال تصميم أدوات الحرب توقع ليوناردو أنها ستصبح مستخدمة في الحياة اليومية بمجرد اختراع التكنولوجيا المطلوبة المصاحبة لها؛ مثل محرك الاحتراق الداخلي. صمم كذلك مباني ومدنا - لتقسم إلى أقسام إدارية تقتصر على 30 ألف شخص - مع التركيز على الحياة الرغدة. فكان «... يقسم جموع البشر، الذين يعيشون (الآن) معا في ازدحام مثل قطعان الماعز، يملئون الهواء برائحة كريهة وينشرون بذور الوباء والموت.»
51
خطط لإدخال الصرف الصحي في المنازل، ولوجود الحدائق والشوارع الواسعة على مستويين؛ مستوى للمشاة في الأعلى ومستوى للمركبات في الأسفل. كذلك رأى أن ماكينات الغسيل الآلية ستساعد في الحفاظ على نظافة البيئة (كانت النفايات والفضلات البشرية ما زالت تلقى من المنازل في الشوارع مباشرة).
ثم تأتي رسومه؛ ففي واحدة من أوائل أعماله، التي أصبحت تعرف حاليا باسم «عذراء الصخور»، كان أسلوبه مبتكرا للغاية، خاصة في تصويره لطريقة سقوط الضوء على أجزاء مختلفة من وجه الإنسان، لدرجة أن أخوية «الحبل بلا دنس لمريم العذراء»، التي فوضته بهذا، رفعت عليه دعوى قضائية؛ فلم يكن هذا ما توقعته. كذلك لم تكن لوحة «العشاء الأخير»، التي يعتبرها كثيرون أعظم لوحات ليوناردو دافنشي،
52
أفضل حالا؛ فاشتكى رعاتها بمرارة بسبب تأخيره المبالغ فيه في الانتهاء منها؛ والسبب في ذلك قضاء ليوناردو وقتا في صنع ألوانه، والبحث في شوارع ميلان من أجل العثور على أفراد يتمتعون بما يعتبره ملامح الوجه المناسبة لتصوير المشاركين في الحدث؛ ثم كان يدعو هؤلاء الناس ليجلسوا أمامه حتى يرسمهم إلى أن ينتهي من لوحته الجصية. وحتى آخر لوحاته، «الموناليزا» (الجيوكاندا)، وهي العمل الوحيد الموقع منه والمعروف بانتمائه له وحده، والذي يعكس سنوات من ممارسة الرسم، كانت ثورية في أسلوبها لدرجة أنها أصبحت الصورة الأكثر إثارة للجدل على مدار آخر 500 سنة. يجسد ليوناردو دافنشي، بوصفه فنانا ومهندسا معماريا ومجربا ومخترعا، أفضل من أي شخص آخر؛ الصفات التي تسهم في سعي الإنسان؛ فقد أصبح معروفا بأنه «أعظم عبقري عرفه العالم على الإطلاق» لسبب وجيه.
53 (6) التكنولوجيا والثروة
تحسن التكنولوجيا، سواء من خلال تحسين المسكن أو الطعام أو الدواء، ظروف حياة البشر وبهذا تزيد من متوسط العمر المتوقع. منذ 10 آلاف سنة كان تعداد السكان في العالم يقدر بنحو 6 ملايين، أما بعد 7 آلاف سنة فارتفع إلى 40 مليونا؛
54
لا بد أن ظهور الزراعة في جميع أنحاء العالم في هذا الوقت كان عاملا مساعدا في هذا الأمر. وبين عامي 1750 و1850، عندما وصلت الثورة الصناعية إلى أوج ذروتها، بدأت الزيادة السكانية في أوروبا الغربية تتخطى مثيلتها في الهند والصين؛ فزاد السكان في إنجلترا ثلاثة أضعاف (من 5,7 ملايين إلى 16,5 مليونا)، بينما لم يتضاعف حتى عدد السكان في الصين (من 215 مليونا إلى 420 مليونا).
55
تحقق التكنولوجيا أيضا الثروة؛ جزئيا من خلال وجود فائض في الطعام، مما يسمح لبعض أعضاء المجتمع بتكريس أنفسهم لمهام أخرى بخلاف إنتاج الطعام (مثل اختراع تكنولوجيا جديدة، مما يجعلها عملية ذاتية التحفيز)،
56
وجزئيا من خلال زيادة عدد السكان.
57
إلا أن تخصيص ثمار التكنولوجيا للحرب يقلل الثروة (من خلال تقليل عدد السكان وإهدار الخامات). وفقط عندما تحدث تسوية سياسية بين الطرفين المتحاربين يستقر الوضع ويستأنف جمع الثروة. يشبه عالم الاقتصاد بيتر جاي هذه العملية ذات الخطوات الثلاث بنغمات الفالس المتكررة، فالس يكمن وراء التراكم التدريجي للثروة في جميع أنحاء العالم.
58
دعونا نتوقف قليلا لدراسة هذه النقاط.
أولا: هل تؤدي فعليا الزيادة في عدد السكان إلى تكوين ثروة؟ على أساس أن كل أسرة في المتوسط تملك خنزيرا واحدا - أو ما يوازي قيمته بالنقود - فإن الدولة التي توجد بها 10 ملايين أسرة تكون أغنى بعشر مرات من الدولة التي توجد بها مليون أسرة فقط. لكن إن كانت نسبة كبيرة من الأسر لا تملك فعليا أي شيء، والأسوأ من هذا تحتاج إلى دعم الأيسر حالا، فإن الفرق بين الثروة التي يحققها الأغنياء وتلك التي يستهلكها الفقراء يكون العامل الحاسم. ولا يمكنني التفكير في حالة انخفضت فيها فعليا ثروة الدولة بسبب سخائها مع الفقراء فيها (ربما اقتربت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من هذا). يكون الوضع المعاكس - المتمثل في استخدام الفقراء في تكوين الثروة - مألوفا أكثر، وأوضح مثال عليه استخدام العبودية. ففي ذروة ازدهار الإمبراطورية الرومانية، كان نصف شعبها عبيدا؛ وازدهرت روما. من ناحية أخرى، لا يسهم العبيد في اختراع تكنولوجيا جديدة، ويرى جاي هذا على أنه عامل مساعد في انهيار الإمبراطورية في النهاية. لذلك فإن العلاقة بين الثروة وحجم السكان ليست مباشرة. في الواقع، ربما تكون هذه العلاقة المتبادلة في عصرنا الحالي معكوسة؛ فنجد أن سويسرا وسنغافورة وبروناي كلها دول صغيرة لكن غنية (علينا أن نقول إن هذا نتيجة لتكنولوجيا شعوب أخرى، وللنظام المصرفي، واستخدام حاويات في نقل البضائع، والتنقيب من أجل استخراج البترول، على الترتيب)؛ كما أن عدد سكان اليابان عشر عدد سكان الصين، لكن إجمالي ثروتها أكبر.
59
ثانيا: يعتمد مدى استعادة الدولة لثروتها بعد الحرب على كم ما استنزف في أثناء الصراع، ومدى سرعة قدرة الدولة على العودة إلى النمو في فترة الاستقرار. تعافت كافة الدول التي شاركت في الحروب النابليونية في النهاية، إلا أن القرن التاسع عشر كان على وجه الخصوص قرنا مناسبا لاختراع التكنولوجيا الجديدة في أوروبا. ومن ناحية أخرى، أدى المال الذي أنفقه الاتحاد السوفييتي على الأسلحة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع عدم إطلاق طلقة واحدة فعليا، إلى جعله على وشك الإفلاس بنهاية الحرب الباردة. وبعد مرور أكثر من عقد بدأ بالكاد يتعافى. بدأت أعجب ببيتر جاي مع أول اقتراح من اقتراحاته الأربعة التي عرف بها النجاح الاقتصادي للدولة: «... عند إعطائه نصف فرصة فإنه [الإنسان] سيسعى إلى الحفاظ على حالته المادية، وإن أمكن إلى تحسينها.»
60
أليس هذا ما يعتمد عليه جوهر حجتي بشأن السعي وراء تكنولوجيا جديدة؟
ترتبط التكنولوجيا بالثروة بطريقة مباشرة أكثر حين ندخل استبدال المال (المعادن والفضة والذهب) بالمقايضة ضمن الابتكارات التكنولوجية. يعتبر السند التجاري نتيجة لاستخدام النقود المعدنية. إنه ما يرتكز عليه إصدار البنوك للعملات الورقية، وكان أمرا مهما للتجارة عند التعامل مع مبالغ كبيرة. كان الصينيون يتاجرون باستخدام عملات ورقية من نوع ما في القرن السابع. ورغم أن البيوت المصرفية أقيمت في إيطاليا في القرن الثالث عشر، فلم يبدأ تداول الأوراق المالية كما نعرفها إلا في العصور الحديثة. بدأ إصدار العملات الورقية في أمستردام في عام 1609، وفي ستوكهولم في عام 1661، وفي شركة خليج ماساتشوستس في عام 1690، وفي لندن في عام 1694.
61
بالطبع كانت السندات الخاصة أو «الكمبيالات» موجودة قبل هذا بكثير، لكن استخدامها اعتمد على مقدار ما يمكن ائتمان المستدين عليه. ويكمن جوهر النظام المصرفي في أن الثقة يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. فكان نظام المحاسبة، الذي ظهر في عهد الإمبراطورية العثمانية، وأسلوب «القيد المزدوج» في إمساك الدفاتر، الذي ابتكر في إيطاليا بين نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر (ما يظهر وجود تغيرات في الأصول والنفقات والدخل)، تطورات أساسية في توليد هذه الثقة. وعندما سألت عالم الاقتصاد الإنجليزي سير آلن والترز منذ بضع سنوات إلى أي مدى تسهم التكنولوجيا في قوة اقتصاد الدولة، رد قائلا: «إلى حد قليل نسبيا؛ فانظر إلى سنغافورة وهونج كونج، كلتاهما من الدول الغنية، ومع ذلك لا تملك أي منهما أي تكنولوجيا.» وتتمثل العوامل الرئيسية في رأيه في سيادة القانون ودرجة الثقة التي قد يضعها المرء في بنوك دولته ومؤسساتها التجارية الأخرى.
62
أنهي هذا الفصل بملاحظة مختلفة؛ أن بعض الابتكارات التكنولوجية - وأنا لا أشير إلى التي تستخدم في الحرب - لا تنتج منها منفعة بل كارثة. وما استخدام الثياليدومايد لمنع الشعور «بالغثيان الصباحي» لدى السيدات الحوامل ومصير محطة تشرنوبل للطاقة النووية إلا مثالين من أبرز الأمثلة على هذا. هل يجب على الدولة التدخل في بحث الإنسان عن التكنولوجيا الحديثة إذا رأت أن له نتائج عكسية؟ المشكلة أن الحكومات عادة ما تفهم الأمر على نحو خاطئ (وفي حالة تشرنوبل كانت هي نفسها مسئولة عن إنشاء هذه المحطة).
63
سأعود للحديث عن هذا الموضوع في الجزء الثالث، عند حديثي عن ثمار التكنولوجيا الحديثة. أنا أرى أن المخترعين أناس محترمون؛ فمعظم الأشرار لا يختارون قضاء وقتهم في الرحلة المضنية من التجربة والخطأ التي يقوم عليها أي اختراع جديد. كان فرانكنشتاين ابتكارا وليد قريحة ماري شيلي؛ فلا وجود لكثير منه في العالم الواقعي. أما فيما يتعلق بالابتكار في حد ذاته، فعلينا أن نشك في نتيجته. وبالطبع يجب على الحكومات منع اختراع التقنيات التي تبدو متهورة أو بغيضة. إلا أن الجانب السلبي لإضاعة اختراع مثل معالجة مياه الصرف أو استخدام البنسيلين، التي أنقذت حياة الملايين، يفوق بالتأكيد أي خطر محتمل.
هوامش
الفصل العاشر
الدين: الإيمان والعقيدة
«الدين أفيون الشعوب.» لم تكن ملاحظة كارل ماركس هذه متعالية فقط، وإنما كانت خاطئة كذلك؛ فالمخدرات تجعلك تنسى العالم من حولك، أما الدين فيمثل سعي الإنسان الأول لفهم هذا العالم وإدخال معتقدات روحية في حياته. ربما يكون الإغريق تخلوا عن فهم العالم عبر الدين وفضلوا الفلسفة، لكن في كل مكان آخر استمرت المعتقدات الدينية في تقديم الإجابات وحدها. ولم يبدأ العلم في تقديم تفسيرات أكثر إرضاء إلا في القرن السابع عشر. وإذا كان ملايين الناس في عصرنا الحالي في جميع أنحاء العالم يواصلون ممارسة الشعائر الدينية عبر الصلاة، فإن هذا يكون من أجل السكينة، وليس من أجل السلوان. (1) المعتقدات القديمة
لا بد أن طبيعة العالم الفيزيائي الذي عاش فيه الإنسان منذ القدم حيرته، وعلى الأرجح ينطبق الأمر نفسه على معظم الحيوانات الواعية أيضا. فحتى أكثر المثقفين في العالم القديم في بلاد سومر وفي مصر والهند والصين وكريت وأمريكا الوسطى والجنوبية لا بد أنهم تساءلوا عن أصل هذه النقاط اللامعة التي يستطيعون رؤيتها في السماء ليلا، لكن ليس في أثناء النهار. لقد أدركوا أن هذه الأجسام السماوية تتحرك بنمط محدد، واستطاعوا حتى توقع تغيرات دقيقة في مواضعها. لكن ما أصلها؟ لا بد أن هذا التساؤل كان مصحوبا بخوف، ليس من تحول النهار إلى ليل (رغم أن الوجود في الظلام ما زال يخيفنا)، أو من تحول الصيف إلى شتاء، بل مع كل مرة يحدث فيها برق ورعد، وزلزال وانفجار بركاني، وإعصار وطوفان. يكون الشيء غير المتوقع أكثر رعبا من الشيء المتكرر. ثم هناك الموت، وهو أكثر الأشياء المخيفة على الإطلاق.
1
ليس شعور الخوف بالطبع حكرا على البشر؛ فنحن نشترك فيه مع معظم الحيوانات؛ فقد اعتاد كلبي بيدرو أن يرتجف وينكمش مرتعدا في جانب الغرفة مع كل دوي للرعد (وتغطي أمي وجهها بغطاء السرير). فمن المذهل مثل ظهور الزراعة في مجتمعات تفصلها آلاف الأميال عن المحيطات، ظهور الاعتقاد في وجود شكل ما من أشكال الإله الخارق للطبيعة في جميع أنحاء العالم، سواء في الثقافات المتطورة أو في الأماكن المعزولة في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أو في شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية. فإذا كانت الظواهر المخيفة من فعل الآلهة التي نؤمن بها، يمكننا إذن تقبل هذه الأحداث بسهولة؛ وبذلك نصل إلى إجابة مقنعة في بحثنا عن تفسير.
قد يعود ظهور إحدى صور العبادة الشعائرية إلى سكان الكهوف في العصر الحجري منذ 30 ألف سنة. فالصور الموجودة على جدران الكهوف وأسقفها عادة ما تظهر أشكال حيوانات كانوا يخافون منها أو يصطادونها. فجعلتنا حقيقة ممارستهم لهذا النشاط - بينما كان يفترض بهم الخروج للبحث عن الطعام أو صنع أدواتهم - نستنتج وجود هدف سحري أو ديني له. فربما كانوا يرسمون فهدا ليتجنبوا بطريقة أو بأخرى هجوم أحد الفهود عليهم، وكان رسم الغزال يحسن من فرص نجاحهم في اصطياد إحداها.
2
وكان رسم شكل الإنسان - السيدات على وجه التحديد - يؤدي إلى الخصوبة. لكن كيف كانت الكائنات من حولهم تدرك أن أحدا يرسم شكلها، وكيف كان يؤدي هذا إلى النتائج المرجوة؟ ظهرت فكرة وجود قوى من نوع ما في الطبيعة لديها من القوة ما يمكنها من التأثير في نشاط الحيوانات والبشر؛ وهي فكرة راسخة في أذهان البعض حتى يومنا هذا. كانت هذه الكيانات الخارقة تتحكم في كل شيء؛ ظهور الشمس والقمر، وحركة النجوم، وحدوث الرعد والبرق، وجريان المياه في الأنهار، وهطول الأمطار ونمو المحاصيل، كما كانت تتحكم في لحظة الوفاة أيضا. ومن خلال تبجيل هذه الأرواح واسترضائها - فقد تكون مؤذية مثل ثعبان أو نمر مرقط - يمكن ضمان حياة أفضل. ثمة تشابه بين الأديان البدائية ومعتقدات القبائل الوثنية التي تعيش خارج نطاق العالم المتحضر في عصرنا الحالي وممارساتهم،
3
تماما مثلما تشبه التكنولوجيا الموج الكواكب، ومن إجراء تجارب علىودة لدى هذه القبائل تلك التي كانت لدى الإنسان في العصر الحجري؛ فقد ظل الدين والتكنولوجيا جامدين مع مرور الزمن بسبب العزلة عن التيارات السائدة للسعي البشري. وبعيدا عن التقليل من شأن أي منهما، أرى أنهما يوضحان لي مدى براعة السعي الإنساني. فتمثل المعتقدات الدينية، سواء الحالية أو التي كانت تمارس منذ 5 آلاف سنة - تماما مثل التكنولوجيا - خطوة هائلة إلى الأمام في تطور العقل البشري على مدى آخر 100 ألف سنة. (1-1) العالم القديم
عبد السومريون آلهة كثيرة؛ فتروي ملحمة جلجامش عدم اكتراثه في البداية لقوى هذه الآلهة، وتنتهي بتقبله المتواضع لسلطتها. وفي أثناء رحلته عبر الحياة أحاط به طوفان هائل نجا منه عن طريق بناء قارب بنفسه. هل كان ذوبان الصفيحة الجليدية في القطب الشمالي منذ 7 آلاف سنة، في نهاية العصر الجليدي الأخير، مصدر هذه القصة؟ ارتفع منسوب البحر المتوسط بنحو 20 مترا في فترة زمنية قصيرة نسبيا، واندفعت المياه في مضيق البسفور، الذي كان في هذا الوقت جسرا أرضيا في الطرف الغربي للبحر الأسود، بقوة اندفاع تعادل مائتي ضعف شلال نياجرا. غمرت المياه المالحة البحر الأسود، فأدخلت بذلك كائنات المحيط لأول مرة إلى مياهه التي كانت عذبة من قبل. ارتفع الخط الساحلي للبحر الأسود بأكثر من 100 متر في بعض الأماكن. لا نعلم يقينا إذا كان هذا الحدث انتقل شفهيا طوال 3 آلاف سنة قبل تسجيله بالكتابة أم لا. لكن بمجرد تدوينه ربما استوحيت منه ملحمة نوح وسفينته كما سجلت في سفر التكوين بعد ألف عام من هذا.
4
كانت الفيضانات تحدث في أماكن أخرى - من البحر الكاريبي حتى الحيد المرجاني العظيم - في نهاية العصر الجليدي، وتمثل المصادر المحتملة للأساطير عن الفيضانات التي ظهرت في جميع أنحاء آسيا وأجزاء أخرى من العالم.
5
لم تظهر الحياة الآخرة في ديانة السومريين: ... صنع الإنسان من طين وخلق لهدف واحد فقط؛ خدمة الآلهة عن طريق تزويدهم بالطعام والشراب والمأوى، حتى يتفرغوا بالكامل لأنشطتهم الإلهية. وحياة الإنسان يكتنفها الشك ويطاردها عدم الشعور بالأمان؛ نظرا لعدم معرفته مسبقا بالمصير المقدر له من هذه الآلهة التي يصعب التنبؤ بتصرفاتها. وعندما يموت تنتقل روحه الواهنة إلى العالم السفلي المظلم والكئيب حيث لا تكون الحياة إلا انعكاسا موحشا وبائسا لنظيرتها الأرضية ... تقبل السومريون وضعهم الاعتمادي تماما مثلما تقبلوا القرار الإلهي بأن الموت هو قدر الإنسان، وأن الخلود من نصيب الآلهة فقط.
6
لم ينطبق هذا على معتقدات المصريين؛ فكانت روح الإنسان تعيش بعد الموت، ومن أجل ضمان نتيجة جيدة، كان من الواجب إرسالها على أفضل نحو ممكن؛ فكانت الجثة تحفظ بالتحنيط، وكان يوضع معها طعام وأسلحة وملابس ومجوهرات؛ وفي حالة الملك، كان جثمانه يوضع داخل تابوت حجري داخل هرم بني له وحده. كان أقدم حاكم لعالم الأموات هو الإله أوزوريس، وكان على الإنسان أن يقف أمامه كي يبرر أوجه النقص في حياته الأرضية. وإن فشل في فعل هذا، كان يحكم عليه بأداء مهام بغيضة للأبد. ومع ذلك، لا يكون الأمل معدوما؛ فيمكن لتمثال صغير موجود في قبره أن يؤدي هذا العمل الشاق بدلا منه.
7
ومن المهم أن نتذكر أن الشعائر والآلهة التي كان يقدم لهم الولاء تغيروا بمرور الوقت، مع استيعاب مملكة في اتساع وصمود مصر لشعوب من أصول مختلفة. وعلينا ألا نتعجب؛ فقد كانت مجموعات مختلفة تعبد الآلهة نفسها بطرق مختلفة. فقد انقسمت الكنيسة المسيحية إلى ست طوائف مختلفة في أجزاء من أوروبا في فترة لا تزيد عن بضع مئات من السنوات بعد حركة الإصلاح الديني؛ فقد كانت توجد النسخة الكاثوليكية الرومانية الأصلية، والكنيسة اللوثرية في ألمانيا، والكنيسة المشيخية - عبر المذهب الكالفيني - في سويسرا، والكنيسة الإنجيلية - والكنيسة المنهاجية فيما بعد - في إنجلترا، والطائفة المعمدانية في هولندا.
بدأت عبادة الإله رع، إله الشمس، في هليوبوليس (القاهرة حاليا)، كما هو واضح من اسمها (البادئة «هليو» في الإنجليزية
helio ، تعني الشمس). ومع ذلك، لم يتكون كهنوت لرع إلا في عهد الأسرة الخامسة (تقريبا في 2500 قبل الميلاد)؛ وهذا جعل رع إلها في أهمية أوزوريس. كانت رحلاته في السماء تتم في زورقين ضخمين؛ الأول يصعد فيه في الفجر والآخر يعود فيه في الغسق، وقد صورا على جانب معبد بني تعظيما له. وبما أن شروق الشمس وغروبها هما أبرز سمة للحياة اليومية، لا عجب في أن عبادة الشمس لعبت دورا في الأديان في أمريكا الوسطى والجنوبية مثلما حدث في مصر. لم يخطر على ذهن المصريين أن أشعة الشمس كانت ضرورة لنمو محاصيلهم؛ نظرا لندرة الأيام التي لم تكن تظهر فيها. وبالمثل، كان نهر النيل محوريا في حياتهم - فلم تتوسع الدولة قط في الصحراء الموجودة شرق أو غرب النيل العظيم - لدرجة أنهم كانوا يعتبرون مخزونه من المياه أمرا مسلما به؛ ومن ثم لم يكن لديهم إله للمطر، ونحن لا نعرف إلا مشعوذا واحدا كان مرافقا الجيش الروماني يقال إنه استطاع التسبب في هطول الأمطار (عبر إله القمر تحوت).
8
وفي أوروبا في العصر الحالي، لا يعتبر أداء رجال الدين المسيحي لصلوات الاستسقاء في أوقات الجفاف أمرا نادر الحدوث. من ناحية أخرى، كانت الخصوبة تلتمس من عدد من الآلهة الحيوانية؛ كانت تتمثل في الغالب في الثور (أبيس الذي كان إله القوة أيضا)، والبقرة والكبش. وكان للكهنوت المصري، الذي كانت المرأة جزءا منه، تأثير كبير؛ فلم يكونوا مسئولين فقط عن ممارسة طقوس العبادة والحفاظ على القيم الأخلاقية، وإنما عن تعليم الناس أيضا؛ وسيستمر دور الكاهن كمدرس في التقاليد المسيحية والإسلامية وحتى العصور الحديثة. وعندما اعتلى رمسيس الثالث العرش في نحو 1200 قبل الميلاد، في خلال عهد الأسرة العشرين، كانت السيادة على الأراضي فعليا في يد الكهنة؛ فقد كانت لديهم الثروة والأرض (ولم يدفعوا ضرائب). كان هذا تغييرا عما كان يحدث في العصور السابقة؛ فعندها كان الفرعون هو الحاكم الأعلى وكان هو، وليس الكهنوت، الذي يتواصل مباشرة مع الآلهة. •••
بالنسبة لسكان وادي نهر السند، لم تكن الرحلة الآمنة إلى العالم الآخر هي محور دينهم. فما كان هم وخلفاؤهم الهندوس يسعون إليه هو إيجاد بعد روحي لحياتهم اليومية؛ أن يرتبطوا بروح العالم («الأتمان»، وهي كلمة سنسكريتية تعني «الروح»)، التي كانت هي نفسها جزءا من القوة المطلقة العالمية («البراهمان» أو القوة المقدسة المطلقة). ورغم أن البشر كانوا يقسمون وفق طبقاتهم الاجتماعية، فقد كانت طموحاتهم واحدة؛ السمو فوق الأبعاد المادية للعالم الذي يعيشون فيه. وتتمثل المبادئ الأساسية للديانة الهندوسية في «الدارما» (الحقيقة) و«الكارما» (بنية المجتمع)، وهما يشكلان معا قاعدة للسلوك. فتعتبر الكارما مفهوما محوريا في النظام الطبقي. فينطوي مفهومها على استمرار مبدأ السبب والنتيجة في روح الإنسان، ويسمح لشخص ولد في طبقة متدنية، أو حتى خارجها تماما («المنبوذون» أو «الداليت»)، بتحسين وضعه في الحياة التالية. ومن خلال الكارما يتحدد مصير روح الفرد في رحلتها إلى التناسخ في شكل شخص آخر (وتخضع الحيوانات لعملية مماثلة).
9
ووفقا للديانة الهندوسية لا توجد حاجة إلى الخوف من الموت؛ فالخلود أمر مؤكد. •••
اتخذت المعتقدات الصينية مسارا مختلفا؛ فالروح تتكون من جزأين؛ «البو»، التي تبدأ عند الحمل، و«الهن»، التي تبدأ عند الولادة. وهما يساعدان معا الإنسان في حياته الأرضية، لكن عند الموت تترك «الهن» الجسد، أما «البو» فتبقى حتى تحلل الجثة، وبعدها تنضم إلى مملكة الموتى. وهذه المملكة هي نسخة للحياة على الأرض تستمر تحت سطح الأرض؛ وأكبر دليل على هذه الأيدولوجية جيش تيراكوتا، المكون من 7 آلاف جندي تقريبا، المدفون في مدينة شيان مع الإمبراطور الأول تشين الذي أطلق على نفسه هذا اللقب. كان أحد خلفائه في عهد أسرة هان حاكما أقل اهتماما بالحرب؛ فلم يدفن مع تماثيل لمحاربين فقط، بل لسيدات وحيوانات أيضا. لكن حتى الإمبراطور تشين كان مسالما نسبيا؛ ففي العصور السابقة كان يدفن أشخاص حقيقيون - أعضاء في البلاط مثلا - أحياء مع الحاكم لمرافقته في الحياة الآخرة.
لا توجد قابلية للانتقال الاجتماعي بعد الوفاة؛ فيظل «بو» الرجل الثري ثريا، ويظل ذلك الخاص بالفقير معدما. لا تظهر الآلهة كثيرا في الممارسات التعبدية الصينية، رغم ظهور المشعوذين والكهان. في الواقع لا تعتبر كلمة دين مناسبة لوصف المعتقدات الصينية على الإطلاق؛ فهي تشبه المبادئ الهندوسية إلى حد ما، من حيث إعطاء أهمية بالغة لأسلوب خوض الحياة. ويجب أن يحدث هذا تماشيا مع المعايير الموضحة بالمبدأ العظيم، «هونج فانج».
يشتمل مبدأ «هونج فانج» على العناصر الخمسة المتمثلة في الماء والنار والخشب والمعدن والأرض، التي تضاهي الأنشطة الخمسة المتمثلة في الحركة والكلام والرؤية والسمع والتفكير. وكان الحاكم يحدد الطريقة التي تمارس بها الأنشطة الخمسة بحيث تتوافق مع العناصر الخمسة، وفقا لأساليب الحكم الثمانية؛ التي تتضمن ثلاث مهن هي الزراعة والأعمال الحرفية والقرابين، ويتحكم فيها ثلاثة وزراء (معنيون بالأشغال العامة والعدل وأمور أخرى، مثل التعليم والاقتصاد)، بالإضافة إلى أسلوبين لتفاعل الطبقة الحاكمة مع باقي الشعب؛ بسلام أو بعداء. وتعمل أساليب الحكم الثمانية هذه وفقا للضوابط الخمسة (السنة والشهر واليوم والأبراج الفلكية والتقويم). وتمارس السلطة الملكية، التي توفر الصلة بين البشرية وما فوقها وحولها، بواحدة من ثلاثة مظاهر للنشاط؛ بمساواة أو قسوة أو اعتدال. ويعتمد معيار نجاح تطبيق هذه القواعد على العناصر المتمثلة في المطر والشمس والحرارة والبرودة والرياح وما إلى ذلك؛ فإذا جاءت في موسمها المناسب، فيعني هذا أن أسلوب الحكم جيد، أما إن لم يحدث هذا، فهذا يعني أن أسلوب حكم الحاكم سيئ. وتكون النتيجة في الحالة الأولى تحقق «مظاهر السعادة الخمسة» المتمثلة في طول العمر والثراء والصحة وحب الفضيلة والوفاة الحميدة؛ أما في الحالة الثانية فيعقبها حدوث «المصائب الست» المتمثلة في المرض والمعاناة والفقر والبلاء والضعف والوفاة العنيفة والسابقة لأوانها.
10
بدأت المعتقدات الصينية تتغير بعد عصر كونفوشيوس في القرن الخامس قبل الميلاد. استمرت نتيجة الأحداث في الاعتماد على حسن حظ الإمبراطور أو سوء حظه. ولهذا السبب أصبح يتحكم في ممارسة علم الفلك؛ إذ كانت حركات النجوم تمثل أساس تنبؤاته. إلا أن صرامة القواعد التي كان من المفترض خوض الحياة على أساسها كانت تتهاوى. لم يمثل هذا تحولا مفاجئا في مواطن التركيز من جانب جموع السكان. على العكس، فقد اتبعت وحدات مختلفة في المجتمع مسارات مستقلة. أكد أنصار الكونفوشيوسية أن الإنسان خير بطبيعته؛ في حين رآه أنصار مذهب الشرعوية شريرا في الأساس. طرحت العديد من وجهات النظر الأخرى حتى سميت هذه الحجج المتنوعة «مدارس التفكير المائة». إلا أن الجدل أكثر صحة من الإذعان الصامت؛ فهو يدعم مناخا ملائما لظهور أفكار جديدة، وليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه الفترة من التاريخ الصيني - حكم أسرة تشو الشرقية الذي انتهى في عام 221 قبل الميلاد - فترة اختراع وابتكار أيضا، رغم الحروب العنيفة التي شنت؛ فتضاعف عدد الألواح وظهر الحديد المصبوب. تبعت هذا أيديولوجيات أخرى، كان للبوذية والداوية (أو الطاوية) من بينها التأثير الأكبر. في الواقع يواصل الناس ممارسة هذه الديانات، مع الكونفوشيوسية، في جميع أنحاء الصين ومعظم شرق آسيا في عصرنا الحالي. •••
ركزت ديانة الإغريق، التي ورثوها من جزيرة كريت عبر الميسينيين، على الآلهة بشدة؛ أولا الجبابرة، ثم قاطني جبل الأوليمب الذين دمروا الجبابرة. ونظرا لأن معظم معرفتنا بمعتقدات الإغريق مأخوذة من كتابات هوميروس، يوجد إلى حد ما تداخل بين أفعال الآلهة، والشخصيات الأسطورية والبشر. وبينما لم يشغل الموت الإغريق مثلما كان يشغل المصريين - فكانوا يهتمون أكثر بالنجاح في الحرب والرياضة، وبالمساواة في السياسة والقانون، وبالتفوق في الفن والعلم - لم يكن الخلود أمرا بعيدا عن مخيلتهم. كان أحد المصائر لديهم يتمثل في الحياة الأبدية في العالم السفلي (هاديس)، وبخلاف ذلك يمكن للروح البقاء، على عكس الجسد. ومع ذلك بدأ الاعتقاد في وجود حكم إلهي للعالم في التداعي. وربما لعب دورا في هذا غياب حاكم واحد كان شبه إله، مثل الفرعون في مصر القديمة، أو كان يستمد إلهامه من الدعم الإلهي، مثل إمبراطور الصين. وفي أواخر القرن السابع قبل الميلاد، ظهر رجل لم تعد أفعال الآلهة تقدم له تفسيرا مرضيا للعالم الطبيعي. كان هذا الرجل طاليس الملطي، أبو الفلسفة، ويعتبره البعض
11
أول عالم. صحيح أن الأساطير الإلهية استمرت في إرضاء جموع الشعب، وستندمج بشدة في الثقافة الرومانية اللاحقة، إلا أن الحياة لم تعد خاضعة لأوامر الأباطرة أو الآلهة العليا، وإنما للتفكير السليم؛ فظهر المذهب الإنساني.
في عصر الجمهورية في القرن الخامس قبل الميلاد وضع سقراط وتلميذه أفلاطون قواعد ما يعرف فعليا بالفلسفة الأخلاقية. رأى سقراط أن الحياة الفاضلة تعتمد على المعرفة، التي أساسها معرفة الإنسان بنفسه، وخاصة الاعتراف بما لا علم له به. أما أفلاطون فقد دمج هذه الأفكار في الميتافيزيقا والأخلاقيات، وفي السياسة أيضا. فيجب أن يتحدد الحاكم على أساس التعليم، وليس المولد أو الثروة. عندما ناقشت هذا الموضوع في الفصل السادس، قارنت التوريث بالاختيار كوسائل لتحديد الحاكم التالي. ومع ذلك، نادرا ما يقع اختيار الناس على الأكثر تعلما؛ فقد أثبتت النفعية - التي يكرهها المثقفون - على مدار السنين أن لها أهمية أكبر في الحاكم من سعة اطلاعه. أبعد أبرز تلاميذ أفلاطون هذا الجدل عن القيم الأخلاقية وأعاده إلى العالم الطبيعي؛ فطوال القرن الرابع استخدم أرسطو قواعد الجدال - افتراض يتبعه استنتاج - في محاولته لتفسير الظواهر الفيزيائية دون اللجوء إلى التدخل الإلهي. واتفق مع فيلسوف القرن السابق لعصره، إيمبيدوكليس، في أن العالم مكون من أربعة عناصر: التراب والنار والهواء والماء. وأضاف أرسطو أن كلا منها يكون إما رطبا أو جافا، حارا أو باردا. إن حقيقة أن هذا يحاكي إلى حد ما العناصر الأساسية الصينية الخمسة من ماء ونار وخشب ومعدن وتراب لا ينبغي تفسيرها على أنها تشير إلى وجود صلة من نوع ما بين الثقافة الإغريقية والصينية؛ فهي أمور واضحة لأي شخص يفكر في هذه الأمور، تماما مثل حقيقة أن بعض الحيوانات تطير وأخرى تسبح، وبعضها يمشي وأخرى تزحف. إن الفكرة في الفلسفة الأرسطية أنها قدمت، لأول مرة، تفسيرات منطقية للعالم الذي يعيش الإنسان فيه؛ من حركة النجوم - في الواقع حركة كل الأجسام - وطيران الطيور، وتطور جسم الإنسان. ظل منطقه مسيطرا على المفكرين الأوروبيين والعرب طوال ألفي سنة، ولم يتضح أن معظم افتراضاته الأساسية كانت خاطئة حتى ظهور العلم التجريبي على يد رجال مثل جاليليو ونيوتن، وخلفائهم في مجال علم الأحياء في القرنين التاسع عشر والعشرين. •••
يمكن ببراعة تلخيص معتقدات الثقافات الخمس التي ذكرت حتى الآن على النحو التالي: كانت ديانة السومريين بالأساس تتمحور حول فكرة وجود إله، وديانة المصريين حول فكرة الموت، وديانة الهنود حول الروح، وديانة الصينيين حول الحكم، وديانة الإغريق حول الإنسان.
12
وماذا عن الديانات التي ظهرت في أمريكا الوسطى والجنوبية؟ (1-2) الأمريكتان
كان محور العبادة بين شعوب وسط أمريكا، مثل المصريين، الشمس؛ فبنى كل من سكان مدينة تيوتيهواكان والأولمك والتولتيك والمايا والآزتيك معابد مزخرفة من أجل تبجيل مانح الضوء. كان الإله الرمزي لليل بوجه عام هو القمر (وإلهة شريرة في حالة المايا). وكلاهما كان لا بد من استرضائه من أجل ضمان حدوث التغيرات اليومية في الضوء والظلام. وبالنسبة للزراعة كان إله الذرة الشاب يكمل إله الشمس. أدرك المايا أن المياه عنصر أساسي لنجاح المحصول تماما مثل الشمس؛ ويثبت أسلوب الري المتطور لديهم هذا. لم تكن الحضارات السومرية والمصرية والهندية والصينية، التي نشأت كل منها على ضفاف نهر عظيم يفيض بانتظام على المحاصيل المزروعة على طول ضفافه، بحاجة إلى آلهة للمطر. أما المايا، سواء في سهول يوكاتان أو في مرتفعات جواتيمالا، فكانوا بحاجة إليهم. لا عجب إذن في عبودية المايا لآلهة المطر؛ في يوكاتان الآلهة تشاك،
13
وفي المرتفعات الآلهة تشاكان الشبيهة بها. كان التشاك يصنعون المطر عن طريق سكب الماء من أوعية بيضاوية من السماء؛ وكانوا مسئولين أيضا عن البرق، الذي كان يحدث من خلال إلقائهم الفئوس الحجرية إلى الأسفل. ومثل الآلهة الأخرى، كانت هذه الآلهة توجد أيضا في شكل أربعة كيانات، ترتبط بالاتجاهات السماوية الأربعة. كان لكل منها لون مختلف؛ الأبيض للشمال، والأحمر للشرق، والأصفر للجنوب، والأسود للغرب، أما المنتصف فكان لونه أخضر.
14
مثل الآلهة الأخرى، كانت الآلهة تشاك تسترضى بأنواع مختلفة من القرابين؛ كل شيء بداية من المصنوعات من اليشم، ومرورا بالزهور والمنتجات النباتية، وحتى الحيوانات والطيور والحشرات والأسماك. إلا أن أثمن قربان كان دون شك القربان البشري. كان الدم يسحب عادة من الضحية أولا، ومن الحيوانات أيضا، وأحيانا يكون هذا كافيا. وإن لم يكن هذا كافيا كان الضحية يثبت باسطا ذراعيه وساقيه على صخرة القربان، ربما من أجل الإشارة إلى الاتجاهات الأربعة السماوية، على يد كهنة اسمهم «التشاك»، قبل غرس سكين في جسده وانتزاع قلبه. بوجه عام يكون الضحية طفلا أو حاكما أسيرا أو أحد النبلاء يكون في صحة جيدة على خلاف المتوقع (فمن الصعب أن تسعد الآلهة بالتضحية برجل مسن على وشك الموت). ثمة إله آخر كان لا بد من استرضائه، وهو كيتزالكواتل، الذي يظهر في شكل أفعى لها ريش في طقوس العبادة الدينية لثقافات التولتيك والألمك والمايا والآزتيك. بخلاف الثعابين، كان الحيوان المفترس الرئيسي الآخر للبشر وحيواناتهم الأليفة في وسط أمريكا النمر المرقط، ونجد الكثير من المعابد المخصصة لاسترضائه. وقد صبغت عبادة أحفاد المايا الذين يعيشون حاليا في أمريكا الوسطى، والذين أصبحوا كاثوليكا رومانا بالاسم، بالمعتقدات القديمة في آلهة المايا، تماما مثلما يمتزج الدين المسيحي في أوروبا بالاحتفالات الوثنية التي داوم عليها أهالي الشمال، وفي الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة. «كان الهنود في بيرو وثنيين للغاية لدرجة أنهم كانوا يؤلهون أي نوع تقريبا من الكائنات.» هكذا بدأ وصف ديانة الإنكا من جانب المعلم اليسوعي الأب برنابيه كوبو.
15
كان مركز تبجيلهم إله الخلق، فيراكوتشا. ومثل السومريين وبني إسرائيل وبعض شعوب جنوب شرق آسيا، كانوا يؤمنون بأنهم أحفاد الذين نجوا من طوفان عظيم. لا يتضح بالضبط أين حدث هذا الطوفان؛ فيقال إن الماء غطى الدولة بأكملها، من أعلى قمة حتى المحيط، ومات الجميع عدا رجل واحد وامرأة واحدة. كان فيراكوتشا صانع هذا الطوفان والمنجي منه. وكان يأتي من بعده إله الشمس. فيبدو أن الإنكا ربطوا قوة الشمس بنمو محاصيلهم؛ لذلك لا عجب في بنائهم، مثل الموتشي والشيمو من قبلهم، معابد في كل مكان لواهب الحياة. وفي احتفال كاباك رايمي، الذي يقام سنويا في أول شهر من السنة، يوزع الكهنة كعكات على الناس ويقولون: «إن ما تحصلون عليه هذا هو طعام من الشمس، وسيظل باقيا في أجسامكم شاهدا ...»
16 (هل أرى الأب كوبو الصالح يستخدم دون قصد كلمات العشاء الأخير؟) بطبيعة الحال كان كسوف الشمس نذير شؤم، وكان يتطلب التضحية بكثير من الأطفال كوسيلة للاسترضاء. يحتل المرتبة الثالثة إله الرعد، ولأنه كان يجلب البرق معه كان الخوف منه شديدا، لكن لأنه كان مسئولا أيضا عن تأثير النماء الذي يحدثه المطر - ومياه البحر، التي يحصل منها سكان الساحل على مصدر غذاء مهم - كان يبجل للغاية. ولذلك في أوقات الجفاف كانت تقدم قرابين بشرية أكثر. اعتقد الإنكا في الخلود؛ فتصعد أرواح الذين عاشوا حياة صالحة إلى السماء وتتحول إلى نجوم؛ وهذا هو أصل النقاط البراقة التي تظهر في السماء ليلا. ولمساعدتهم في طريقهم كانت توضع ممتلكاتهم مع مخزون من الطعام والشراب معهم في قبورهم، كما كان الحال لدى المصريين. أما الذين لم يلتزموا بتعاليم نقد الكهنة والمعلمين فيحكم عليهم بالذهاب إلى عالم الموتى السفلي. (2) المعتقدات المعاصرة
إذا كانت الأحداث في العالم الفيزيائي من حولنا، سواء كانت مخيفة أو لا، فسرت بالمبادئ العلمية التي لا يمكن لأحد مناقشتها، لماذا يمارس الدين حتى يومنا هذا؟ ما الذي نبحث عنه؟ نبحث عن ثلاثة أشياء بالأساس؛ أولا: عن مجموعة من القيم نعيش وفقا لها، فمن الأسهل لكثيرين تقبل أسلوب حياة أخلاقي إذا كان جزءا من إيمانهم وليس مجرد أمر تفرضه عليهم الحكومة. فالحياة باستقامة هي أحد المعتقدات الأساسية لكافة الأديان، من الهندوسية والبوذية، حتى اليهودية والمسيحية والإسلام. والالتزام بها يبدو منطقيا؛ فزواج المحارم يؤدي في النهاية إلى تشوه جسدي وتخلف عقلي؛ بينما توجد فوائد صحية للقواعد الموجودة في أديان مثل اليهودية والإسلام، المتمثلة في ختان الذكور وتجنب أكل لحم الخنزير والمحار، في المناخ الحار للشرق الأدنى. أما الشيء الثاني الذي نبحث عنه فيتمثل في الراحة النفسية في حياتنا اليومية، فالتجربة الدينية تقدم لكثيرين هذا الأمر؛ سواء من خلال ممارسة العبادة العامة في معبد أو كنيس أو كنيسة أو مسجد، أو الصلاة الخاصة في المنزل.
17
ماذا عن الشيء الثالث؟ ما زالت قضية الخلود تؤرقنا جميعا؛ فلم يستطع الإنسان المعاصر التخلص من الخوف الذي سيطر على أسلافه، فيجد من الصعب تقبل الحقيقة العلمية بأنه عند وفاته كل جزيء في جسمه، حمل كل لحظة في نشاطه وكل فكرة في ذهنه، سيبدأ ببساطة بالتحلل، وأن عواقب الموت لا تزيد عن نتائج تعفن اللحم؛ لذلك يستمر كل دين في الحديث عن مشكلة الحياة بعد الموت. وسواء أكان هذا في صورة تناسخ الأرواح أم الخلود، فإن الاعتقاد في استمرار وجود روح المرء يوفر الطمأنينة. لماذا أستفيض في هذا الموضوع؟ هل لأني خائف من شيء وأبحث عن إجابة له؟ (2-1) الهندوسية
إن أقدم الأديان التي تمارس في عصرنا الحالي هي الهندوسية؛ فترجع إلى 5 آلاف سنة، إلى عصر نشأة الحضارة الهندية في وادي نهر السند، ولذلك وصفت بالفعل تعاليمها الأساسية. لم تكن أبدا ديانة رسمية، ولم تنجح حتى الآن المحاولات الحالية من الوطنيين المتعصبين وحزب بهاراتيا جاناتا الهندي لجعلها كذلك. لكن بالطبع لم تكن الهند دولة موحدة حتى أسس تشاندراجبت موريا إمبراطوريته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ربما كان من الممكن اعتماد الهندوسية بوصفها الديانة الرسمية في هذه الفترة لولا حقيقة إصابة أكبر وثالث زعمائها، أشوكا، الذي رسخ القوة الهائلة للإمبراطورية في القرن الثالث قبل الميلاد؛ بخيبة أمل بسبب الحرب والدين الرسمي وتحول إلى البوذية بدلا من ذلك. ومع ذلك، أدت غزوات المسلمين في القرن الثالث عشر إلى الزوال الفعلي للبوذية في الهند. ومنذ هذا الوقت حتى العصر الحاضر، أصبح أغلب الشعب يدين بالهندوسية وبعضهم بالإسلام، وقلة منهم بالبوذية.
تعتبر الهندوسية أكثر تسامحا بكثير من أي من الثلاثي: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ فهي لا تضع معتقدات صارمة في طبيعة الإله. في الواقع، هي لا تحدد إلها واحدا على الإطلاق، بل تجمع بين تعدد الآلهة والتوحيد؛ فيعبد فيشنو (كلي الانتشار) وزوجته لاكشمي (إله الثروة والجمال) مع براهما (الخالق) وشيفا (المدمر). وكما ذكرنا مسبقا، يهتم هذا الدين أكثر بالإنسان وتناسخ روحه وطبيعة الكون. ومع خلوه في الأصل من المعتقدات، لم يكن الذبح العنيف للمسلمين الذي تفاقم مع تقسيم الهند في عام 1948 جزءا من الديانة الهندوسية. فقد ذكرت مسبقا المكانة المحورية «للدارما» في الهندوسية، وفي الواقع يوجد نوعان للدارما، وهما في صراع من نوع ما مع بعضهما - «السانتانا دارما» أو المبدأ الأخلاقي المطلق، ودارما الطبقات الاجتماعية والقانون الكنسي. يشكل التوتر الموجود بين النوعين جزءا لا يتجزأ من ملحمة «مهابهاراتا»؛ وهي «ملحمة كبرى» في الهند، وتحتوي على السرد الكامل للهندوسية الكلاسيكية. وفي القرن الماضي عارض المهاتما غاندي بشدة انعدام المساواة الموجود في النظام الطبقي ونوعي الدارما (بالإضافة بالطبع لمعارضته للحكم البريطاني، وسوء معاملة المسلمين). كان مضمون حملته الدينية هذه مفهوما جيدا، وقد تعرض للاغتيال في يناير عام 1948.
واليوم، يتبع أكثر من 800 مليون شخص - أغلبهم يعيش فى الهند - صورة من صور الهندوسية. (2-2) اليهودية والمسيحية والإسلام
بالنسبة لليهود الأرثوذكس بدأ دينهم في عام 3760 قبل الميلاد، في يوم الخلق، وهي السنة التي يبدأ منها التقويم اليهودي. يعرف معظم القراء قصة الخلق وبقية أجزاء العهد القديم؛ لذا لا حاجة بنا إلى تكرارها هنا، فيما عدا من أجل الإشارة إلى أنها تقدم - مثل تعاليم الهندوسية - إجابات عن الأسئلة الثلاثة المذكورة في بداية هذا الجزء؛ تقديم قواعد أخلاقية محددة بدقة، متمثلة في الوصايا العشر؛ ووجود محور للعبادة، متمثلا في الله (يهوه)، والاعتراف بوجود حياة آخرة، متمثلة في الجنة والنار (جهنم)، رغم أن الثانية ليست مطمئنة للآثمين في هذا العالم. تشكل الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم التوراة (تعاليم اليهود) التي أوحاها الله إلى موسى عند جبل سيناء. وتشرح التوراة أصول البشر واليهود - «الشعب المختار» - على وجه الخصوص. خلق الله الكون في 6 أيام (واستراح في اليوم السابع)؛ وبما أن مجموعتنا الشمسية عمرها نحو 6 مليارات سنة، على المرء فقط أن يستبدل كل مليار سنة بيوم، وهكذا لا تكون قصة الخلق تخمينا يختلف كثيرا في غرابته عن التطور؛ فعلى الأقل ترتيب الأحداث صحيح إلى حد ما.
توجد أشياء كثيرة مشتركة بين المعتقدات اليهودية ومعتقدات السومريين؛ فيقال إن إبراهيم - النبي الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون واليهود أيضا - ولد في مدينة أور. تظهر أول شخصية يمكن التعرف عليها في العهد القديم، وهي شخصية موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الذي كان على الأرجح رسول اليهود الذي قاد بني إسرائيل للخروج من العبودية في مصر. ولا يظهر أول تسجيل لممارسة فعلية للديانة اليهودية قبل عام 600 قبل الميلاد.
ويصل عدد الذين يعتبرون أنفسهم يهودا في العصر الحالي إلى نحو 17 مليونا، يعيش 40٪ منهم في الولايات المتحدة و20٪ في إسرائيل. •••
تقر المسيحية بالعهد القديم اليهودي الصحيح إلى حد ما كجزء من تراثها الديني. وهي تختلف عنه في جزئية الاعتقاد في أن يسوع الناصري
18
هو المسيا (أو المسيح، بمعنى الممسوح) في النصوص اليهودية. اختلفت تعاليم المسيح، التي تشكل أساسا للعهد الجديد، عن تعاليم أقرانه اليهود؛ فقد أكد على التوبة والإيمان وحب المرء لجاره، سواء كان عدوا أو صديقا. وقد بشر بأن ملكوت الرب سيكون لكل الناس، وليس لليهود فقط، لكنه لن يأتي إلا بعد وفاته. عارض المسيح سلطة الحزب الديني المسيطر - الفريسيين - وكشف إساءة استخدامهم لها. حدث هذا إلى حد كبير من خلال بولس الطرسوسي، الذي كان يهوديا وفريسيا، وكان في صراع مع أتباع المسيح في البداية، لكن قلبه تغير في بعثة له إلى دمشق، فأصبحت المسيحية بذلك دينا منفصلا يمارسه في الغالب غير اليهود. انتهى اضطهاد المسيحيين على يد الحكام الرومان - الذي كان أسوأ بكثير من معاملة اليهود لهم - تحت حكم الإمبراطور قسطنطين (الذي تحول هو نفسه إلى الدين الجديد) في عام 313 ميلاديا، وفي عام 380 أصبحت المسيحية الديانة الرسمية في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، نمت سلطة كنيسة روما، والبابا على رأسها، ونفوذها.
توسعت الاهتمامات البابوية من الدينية إلى الدنيوية، ومن شئون الكنيسة إلى التدخل في السياسة. وفي نهاية القرن الحادي عشر كان البابا أوربان الثاني يشجع على الحرب؛ فبدأت الحملات الصليبية باسم المسيحية. كان الهدف منها هو تخليص فلسطين - الأرض المقدسة - من سيطرة المسلمين عليها. ولم يتحقق هذا قط على نحو دائم. ففي عام 1099 استولى الصليبيون بالفعل على القدس، ونصبوا جودفري دي بويون - تعني كلمة «بويون» أيضا حساء بالفرنسية - ملكا، وقد ذبح جميع السكان. لكن في عام 1187 خرج الصليبيون من المدينة، بعدما هزمهم صلاح الدين سلطان مصر وسوريا، وظلت فلسطين تحت الحكم الإسلامي حتى عام 1917، عندما حررتها القوات البريطانية من العثمانيين. كما رأينا في فصل سابق، عادت إلى اليهود في النهاية، وأصبحت القدس مدينة مقسمة - كما هو وضعها حتى يومنا هذا - تعطي حقا متساويا لممارسة طقوس العبادة اليهودية والمسيحية والإسلامية. أدت الحروب الصليبية إلى توليد العداء، معظمه خارجي، بين المحاربين الصليبيين والمواطنين الأبرياء؛ فقد عانى المسلمون والمسيحيون واليهود بقدر متساو. لم يؤثر أي من هذا إلى حد كبير في البابوية؛ فقد أبعدت نفسها عن الأحداث التي أطلقتها، وواصلت سيطرتها على العالم المسيحي، الذي امتد في هذا الوقت إلى معظم أنحاء أوروبا. وفي القرن الرابع عشر بدأ السخط من كنيسة روما يتنامى؛ فقد دفع معتقداتها وتزمتها الناس في الأراضي الشمالية إلى البحث عن شكل بديل للمسيحية؛ فبدأت البروتستانتية في الظهور.
انتقد جون ويكليف، المحاضر في جامعة أكسفورد في القرن الرابع عشر، الكنيسة في عدة جوانب؛ ثرائها ونفوذها (وهذه هي الأسباب نفسها بالضبط التي لام المسيح الفريسيين عليها)، وعصمة البابا، ورفضه بعناد التفكير في ترجمة الإنجيل إلى اللغة الدارجة. بدأ ويكليف هذه المهمة، التي استكملها ويليام تيندال مع العهد الجديد الذي قدمه في عام 1526 (وقد حرق فيما بعد على وتد في مدينة أنتويرب عقابا على ما فعله). ظهر المصلحون في أماكن أخرى؛ ففي فيتنبرج عارض مارتن لوثر على وجه الخصوص بيع صكوك الغفران، التي كانت تمحى بها الخطايا التي ارتكبها المسيحيون التائبون - بما في ذلك الأعمال الوحشية للصليبيين - من خلال الأعمال الصالحة التي لم يكن يستثنى منها على وجه التحديد دفع المال لكنيسة روما، وأعلن على الملأ أسبابه الخمسة والتسعين لرفضه هذا في عام 1517. بعد أربع سنوات من هذا أدين مارتن لوثر بسبب عصيانه وطرد من الكنيسة؛ فانتقم بترجمة الإنجيل إلى الألمانية. سبب استفاضتي في الحديث عن هذه الأحداث هو أن أظهر كثرة من كانوا يرون أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لم تكن تقدم العون الروحي الذي كانوا يبحثون عنه؛ رغم استمرار عقيدتها.
في عام 1531 قدم هنري الثامن التماسا إلى البابا كليمنت السابع ليطلق زوجته الأولى، كاثرين من أراجون، حتى يستطيع الزواج من آن بولين. ولدت له كاثرين فتاة (ماري)، لكن ابنه (هنري) توفي وعمره لا يزال بضعة أسابيع، وأراد هنري وريثا ذكرا. وعندما رفض التماسه، أعلن نفسه رئيسا أعلى للكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا (وظل كاثوليكيا مخلصا طوال معظم حياته).
19
بعد هذا بعامين عين هنري توماس كرانمر رئيس أساقفة كانتربري؛ ثم أقنع كرانمر أولا بإعلان زواجه من كاثرين باطلا، ثم بتزويجه شرعيا من آن . لم يعر هنري بالا لما تبع هذا من إقصاء البابا كليمنت له من الكنيسة. فبضربة واحدة حقق هنري مراده؛ وبهذا أسس فرعا للكنيسة الرومانية في إنجلترا. ولم تغفر كنيسة روما فعل التحدي هذا. وفي أثناء تأليفي لهذا الكتاب، أصدرت لجنة عقيدة الإيمان - الاسم الحالي للمكتب المقدس لمحاكم التفتيش - التي كانت تبحث عن الهرطقة وتعاقب عليها على مدى القرون، وثيقة
20
تقضي بأن الكنيسة الإنجيلية وغيرها من الطوائف البروتستانتية - فعليا كل العقائد الأخرى غير الكاثوليكية الرومانية - مرفوضة بوصفها «معيبة» وتعاني من «نقائص». من ناحية أخرى، لانت الكنيسة في تعاملها مع جاليليو (الذي حرمته كنسيا بسبب تجاهله للمرسوم الذي أصدرته بمنع تدريس آراء كوبرنيكوس، بأن الأرض ليست محور الكون)؛ فبعد وقوع هذا الحدث بنحو 360 عاما رجحت كفة المنطق على العقيدة (فعبر البابا يوحنا بولس الثاني عن هذا قائلا - في عبارة فاترة قليلا: «فسر سوء فهم مأساوي متبادل على أنه انعكاس للتعارض بين العلم والإيمان.» للأكاديمية البابوية للعلوم في عام 1992).
حتى لا أتهم بالتحيز في وصفي للشئون داخل كنيسة روما، أضيف سريعا أن العقيدة هي نفسها لدى بعض البروتستانت؛ ففي كثير من الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية، يدرس خلق العالم منذ 6 آلاف سنة، في غضون 6 أيام، وخلق الإنسان، كما ورد في سفر التكوين، للأطفال في المدارس (في فصل العلوم؛ فالتعليم الديني ممنوع في المناهج الدراسية في الولايات المتحدة). وتدرس الأفكار المستحدثة عن العالم وكون عمره وعمر الكائنات فيه يقدر بخمسة مليارات سنة - بما في ذلك الإنسان الذي تطور تدريجيا عبر اختيار الأصلح - على مضض بوصفها احتمالا بديلا فحسب. هذه خطوة حديثة إلى الأمام؛ فطوال سنوات كثيرة عقب محاكمة سكوبس في عام 1925، التي نجحت فيها مقاضاة معلم في مدرسة في ولاية تنيسي بسبب تدريسه لنظرية داروين، كانت المدارس في كثير من الولايات الجنوبية ممنوعة من تدريس نظرية التطور على الإطلاق. وكل بضع خطوات في أحد الاتجاهات مصحوبة ببعض الخطوات في اتجاه آخر؛ ففي عام 1999 صوت مجلس التعليم بولاية كانساس على إلغاء تدريس نظرية داروين عن التطور من كل المدارس التابعة له.
ظهرت نظرية الخلق مؤخرا في إنجلترا، عندما قررت مدرسة في بلدة جيتسهيد تدريسها بجانب التطور. كان مبررهم في ذلك إعطاء الطلاب الإحساس بنظريات متعارضة حول نشأة الإنسان. إلا أن نظرية داروين عن التطور تدعمها الأدلة العلمية بشدة تماما مثل فكرة أن الأرض كروية وليست مسطحة، وأنها تدور في مدار حول الشمس، وليس العكس. ويبدو لي أن مقارنة «أصل الأنواع» بكتاب سفر التكوين أمر هزلي تماما مثل مقارنة بحث كريستوفر كولومبوس ببحث هانسل وجريتل؛ فأحدهما واقع والآخر أسطورة. إذا كان المدرسون في جيتسهيد أرادوا توضيح نظريات معارضة لنظريات التطور، فلماذا لم يشجعوا طلابهم على الفصل بين التطور والتأقلم؛ بين داروين ولامارك؟ على أي حال، إذا تقبل المرء وجود أديان أخرى بخلاف ثلاثية اليهودية والمسيحية والإسلام تقوم على معتقدات راسخة لدى متبعيها بالقوة نفسها، فإن فكرة خلق العالم بأكمله على يد إله واحد محدد - إله اليهود - تصبح غير منطقية. لكن متى لم يكن الإيمان الديني يغني عن المنطق؟ أليست هذه نقطة قوته؟
إذن يفوق حاليا أتباع المسيحية أتباع أي ديانة أخرى؛ فيوجد أكثر من مليار روماني كاثوليكي وما يقرب من 350 مليون بروتستانتي (80 مليونا منهم إنجيليون) موزعين في جميع أنحاء العالم. •••
يشترك الدين الإسلامي في كثير من معتقداته مع اليهودية والمسيحية؛ أحدها أن الإله فيها (الله) هو نفسه، وأن أبراهام (إبراهيم) هو أبو العرب تماما كما هو أبو اليهود. وكلمة «إسلام» تعني في الأساس «الاستسلام» (إلى الله)، و«المسلم» هو الشخص المستسلم. أسس هذا الدين النبي محمد في نحو عام 610 ميلاديا في مكة في شبه الجزيرة العربية، وهي المدينة التي ولد فيها. بدأ محمد حياته في التجارة، وتزوج من أرملة غنية. وعندما كان في سن الأربعين في أثناء نومه في سلام في غار حراء بالقرب من مكة، زاره الملك جبريل؛ ومن خلاله تلقى بعثته النبوية والتعاليم الأساسية للقرآن، الذي أصبح فيما بعد الكتاب المقدس للإسلام. وطوال السنوات الاثنتي عشرة التالية تقريبا مارس النبي محمد الشعائر الدينية في مكة، وبدأ الناس من حوله يعتنقون الدين الجديد الذي يوحي إليه به الله، عبر الملك جبريل. إلا أن أهل مكة الوثنيين كانوا يعارضون بشدة تعاليم محمد، وفي عام 622 أصبح هو وأتباعه في خطر شديد، فقرروا الارتحال إلى المدينة حيث وجدوا الأمان. وقد خلدت ذكرى هذه الرحلة - الهجرة - حقيقة أن التقويم الإسلامي يبدأ من هذا الوقت (1 هجريا/622 ميلاديا/4382 من التقويم اليهودي).
طوال حياته كان محمد أكثر من مجرد زعيم ديني؛ فكان يقود الجيش، ويجمع الضرائب، ويؤدي كافة أدوار الحاكم الدنيوي. ويعتبر هذا فرقا مهما بين الإسلام والمسيحية؛ فبينما قال المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، لم يكن للتمييز بين دار العبادة والدولة مكان في الإسلام؛ فكلاهما كان واحدا. ويفسر هذا سبب اعتبار الديانة الإسلامية الديانة الرسمية في أكثر من 50 دولة إسلامية. ونظرا لغياب وجود قادة دينيين رسميين - مجرد معلمين - لا يوجد نزاع بين القائد السياسي لأي دولة إسلامية وزعمائها الدينيين. تمثل إيران في العصر الحالي حالة استثنائية في إعطائها للأئمة مكانة تشبه كثيرا مكانة الأسقف المسيحي أو الكاردينال؛ فطالما أن آراءهم تتوافق مع رأي رئيس الدولة، لا توجد مشكلة. لكن ثمة اختلاف آخر، أقل وضوحا، بين تعاليم الإسلام وتعاليم المسيحية واليهودية، أو أي ديانة أخرى أيضا؛ فالقرآن يحث أتباعه على «فعل الخير والنهي عن الشر»؛ ليس تجنب فعل الشر فحسب، وإنما النهي عنه؛ ولهذا السبب يعتبر كثير من المسلمين في العصر الحالي من واجبهم الديني ممارسة أفعال مثل إدانة الكاتب سلمان رشدي بسبب روايته المثيرة للجدل «آيات شيطانية».
يقر القرآن أن محمدا من نسل إبراهيم، وتحاكي عقيدته كثيرا من الوصايا العشر التي أوحيت إلى موسى. وتتمثل الواجبات الخمسة على المسلم المؤمن في «الشهادة» و «الصلاة» و«الزكاة» و«الصوم» و«الحج».
21
وتعتبر «الشهادة» الأهم على الإطلاق، وهي التصديق بالله؛ «لا إله إلا الله». تقال هذه الكلمات في أذن الطفل حديث الولادة، وتكرر يوميا (بما في ذلك نداء المؤذن للصلاة)، ويقولها المرء عند وفاته. أما «الصلاة» فتمثل أوقات شعيرة الصلاة؛ وهي عند بزوغ أول ضوء، وبعد منتصف النهار مباشرة، وبين الساعة الثالثة والخامسة عصرا، وعند آخر ضوء، وفي وقت ما في أثناء ساعات الليل. أما «الزكاة» فهي إعطاء صدقات للفقراء. ويعبر «الصوم» عن الامتناع عن الطعام في أثناء شهر رمضان. أما «الحج» فهو الذهاب إلى مكة، ويجب أن يحاول كل مسلم مؤمن فعله على الأقل مرة واحدة في حياته. ومن مكة عليه الذهاب إلى «المدينة»؛ إحياء لذكرى هجرة النبي محمد في عام 622.
أقام أتباع محمد من العرب وخلفائهم - السلاجقة والعثمانيين الذين أسسوا الإمبراطورية العثمانية - مجتمعا مستنيرا ظل لألف سنة، وامتد عبر ثلاث قارات. ظلت هذه الثقافة حية وأثرت التراث اليوناني الروماني عندما كانت بقية أوروبا في حالة من الاضطراب والانحدار. لماذا؟ لأن الدين الإسلامي ليس دينا قاصرا؛ فاليهود والمسيحيون، مثل المسلمين، أحفاد إبراهيم. كما يعترف بموسى والمسيح على أنهم أنبياء الله ورسله تماما مثل محمد (فكان خطؤهم الوحيد تحريف رسالتهم الأصلية). ومع توسع المجتمع الإسلامي، أعطى لليهود والمسيحيين اختيار اعتناق دينهم؛ وإن اختاروا عدم فعل هذا، فكانوا لا يتعرضون للاضطهاد - هذا تماما على عكس الممارسة المسيحية منذ القرن الثالث عشر فصاعدا - فكان الفيلسوف والعالم والطبيب موسى بن ميمون، الذي كان يهوديا قرر التحول إلى الدين الجديد، شخصية موقرة في القرن الثاني عشر في قرطبة والقاهرة. لا يظهر التعصب في تعاليم القرآن (تماما مثلما لا يظهر في تعاليم الإنجيل). فمن خلال احترام الأديان الأخرى ازدهر الفن والطب والرياضيات وعلم الفلك في الإسلام، بينما ظلت راقدة في العالم المسيحي.
يتعارض التعصب مع التقدم. فربما لم يمنع تزمت الكنيسة الكاثوليكية ابتكار أعظم أعمال الفن في عصر النهضة - فكانت الموضوعات المبكرة في الرسم والموسيقى في النهاية دينية في الأغلب - ولكنه أعاق العلم، الذي كان في بداية ازدهاره في شمالي أوروبا. وحاليا، تعيق الأصولية المتعصبة التقدم في معظم أنحاء العالم. فيواصل الأصوليون في الولايات المتحدة الأمريكية معارضة الإجهاض، كما ظهرت في أجزاء من العالم الإسلامي الأصولية والنزعة العسكرية.
22
وإذا أرادت دوله - من الجزائر حتى إيران، ومن أفغانستان حتى السودان - العودة إلى صعود السلم وتقديم حياة أفضل إلى شعوبها، فعليها أن تفعل شيئا واحدا؛ هو إعادة إدخال التسامح الديني. وعندها فقط سيعود البناء الخلاق على يد أبنائها، وليس التدمير الغاشم لمنافسيها، ليصبح سمة مميزة للحركة الإسلامية. وفي وقتنا الحالي تخشى دول مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا، التي تريد تحديث أنفسها اقتصاديا وإحياء العلم والتكنولوجيا، تبعات زيادة المعتقدات المتطرفة بين مواطنيها. ولحسن الحظ لا يدعم التعصب إلا أقلية من المؤمنين الحقيقيين.
يصل عدد معتنقي الإسلام حاليا إلى 1,2 مليار شخص، يعيش أكثر من نصفهم في أربع دول فقط،
23
هي بنجلاديش والهند وإندونيسيا وباكستان؛ ومن ثم فإنه يمثل واحدا من أكبر الديانات الفردية في العالم في عصرنا الحالي (في المرتبة الثانية مباشرة بعد المسيحية). ويعتبر المسلمون أيضا، مع اليهود الأرثوذكس والرومان الكاثوليك الورعين، على الأرجح من أكثر المخلصين في ممارسة شعائر دينهم. (2-3) البوذية والكونفوشيوسية والطاوية
تعتبر المعتقدات الثلاثة التي سنشرحها الآن، والتي نشأت جميعها في آسيا، فلسفات أكثر من كونها أديانا؛ فهي معتقدات يمارس المرء حياته وفقا لها. لا يشتمل أي منها على عقائد كالتي تميز المسيحية والإسلام؛ ومن ثم يخلو كل منها من الآثار الضارة التي تنتج عن التفسير الخاطئ المتعمد لتعاليم يسوع المسيح والنبي محمد.
كان سيدهارتا جواتام - الذي عرف فيما بعد باسم بوذا (تعني «تنوير» بالسنسكريتية) - أميرا هنديا عاش فيما يعرف حاليا بدولة نيبال في الفترة بين 563-480 قبل الميلاد تقريبا. تخلى عن مملكته ومتعها - وكذلك عن زوجته وطفله - وبدأ في ممارسة أسلوب الزهد في الحياة؛ يمكنك تشبيهه بتولستوي العصر القديم؛ فقد علم الناس التركيز أكثر على أنفسهم من التركيز على أي إله؛ فكان مفهوم الدارما الهندوسي محوريا في رسالته. لم يسجل هو أو أحد من أتباعه أيا من مواعظه؛ فلم تكن الكتابة في هذا الوقت جزءا من الحياة الهندوسية؛ وعليه، يعتبر بوذا شخصية محيرة تماما مثل المسيح، إن لم يكن أكثر. في الواقع، من الغريب أن تعاليمه نجت من الأساس؛ فقد ظلت تنقل شفهيا فقط لأكثر من أربعة قرون، وانتشرت ببطء من المناطق الجبلية في الشمال إلى ضفاف نهر الجانج، عبر أراض متباينة كانت بعيدة كل البعد عن وحدة الإمبراطورية الرومانية، التي انتشرت فيها تعاليم المسيح سريعا؛ ومع ذلك ظلت باقية. كتبت أقدم السجلات باللغة البالية - وهي لهجة هندية شمالية - وتشكل حاليا ما يعرف باسم كتاب «شريعة بالي». يحتوي هذا الكتاب على مواعظ بوذا (السوتا بيتاكا)، والقواعد الواجب اتباعها في حياة الرهبانية (فينايا بيتاكا)، وعدد من التقييمات الفلسفية والمذهبية (أبيهداما بيتاكا). وكما لم تحل المسيحية محل اليهودية في فلسطين وإنما حلت محل الوثنية في أماكن أخرى، لم تحل البوذية محل الهندوسية في الهند (رغم أنها ظلت تمارس فيها لأكثر من ألف سنة)، ولكنها انتشرت بدلا من ذلك شمالا في التيبت وآسيا الوسطى والصين وكوريا واليابان، وجنوبا في سيريلانكا وجنوب شرق آسيا. وفي اليابان كانت تمارس في صورة النسخة المعدلة المعروفة باسم «بوذية الزن» (التي تطورت هي نفسها من الطاوية في الصين في القرن السابع)، مع الديانة الرئيسية - الشنتو - التي ليس لها مؤسس معروف لكنها تمارس منذ أكثر من ألف سنة. وعندما تسافر في جميع أنحاء قارة آسيا في عصرنا الحالي، سترى تماثيل ضخمة لبوذا، يتوافد عليها الناس ليعبروا عن احترامهم لها. إلا أن جواتاما لم يكن إلها، ولا حتى ابنا لأحد الآلهة؛ وكان سيمقت هذا التمجيد الشخصي، كما تظهر تعاليمه بوضوح.
يتمثل الجانب المتعلق بهذا الكتاب في حقيقة أن البوذيين، مثل الهندوسيين، لا يرسمون الخط الفاصل الحاد بين البشر والحيوانات الذي يتميز به التراث اليهودي المسيحي؛ فكل الكائنات بالنسبة لهم لديها عقل يسمح لها بامتلاك مشاعر مثل الإنسان؛ ومن ثم لا يمثل تناسخ الأرواح بين البشر والحيوانات مشكلة. فلو كان تشارلز داروين نشر كتابه «أصل الأنواع» في آسيا، لم يكن ليحدث العداء الذي واجهه في أوروبا.
تتلخص روح البوذية في وصف الأيام الأخيرة في حياة بوذا؛ فقد كان يجلس مع ابن عمه وتلميذه أناندا، فالتفت إليه وقال: «ربما تفكر يا أناندا: «أن كلام المعلم الآن أصبح أمرا من الماضي؛ إذ لم يعد لدينا معلم بعد الآن.» لكن يجب ألا تنظر إلى الأمر على هذا النحو. فلتجعل الداما [= الدارما] والمبادئ التي علمتها لك تكون معلمك عندما أرحل.»
24
كانت سهولة الداما والمبادئ المرتبطة بها السبب الذي أبقى على البوذية طوال ألفيتين ونصف؛ وهو السبب في أن البوذية حاليا تستهوي نحو 360 مليون معتنق لها في جميع أنحاء العالم.
كان كونج فو تسو أو «كونج الأستاذ»، الشهير باسم كونفوشيوس، موظفا حكوميا صينيا عاش من 551 إلى 479 قبل الميلاد. ورغم أنه عاصر بوذا تماما، فلا توجد أدلة مطلقا على أنهما التقيا؛ فقد كان التواصل بين الهند والصين، اللتين تفصلهما سلسلة جبال الهيمالايا، منعدما فعليا في هذا الوقت. نظرا لنشأته في فترة من حروب ونزاع بين مملكتي تشو الغربية والشرقية، أصبح كونفوشيوس مقتنعا بأن العودة إلى القيم السابقة السلمية أمر مطلوب. وأحد القواسم المشتركة مع الآراء التي عبر عنها في الوقت نفسه تقريبا أفلاطون في أثينا، أن كونفوشيوس رأى أن السلطة يجب أن تكون في أيدي الحكماء والصالحين؛ فتدين كثيرا حقيقة أن الالتحاق بالمناصب الحكومية العليا كان على أساس الجدارة للعقيدة الكونفوشيوسية. في أوروبا سرعان ما اندثرت أفكار أفلاطون المثالية؛ أما في الصين فقد سادت الفلسفة الكونفوشيوسية المجتمع لأكثر من ألفي سنة.
يعتبر وضوح رسالة كونفوشيوس وما تتسم به من حكمة مقنعين للغاية، حتى إن أقواله المأثورة أصبح يرددها السياسيون في جميع أنحاء العالم في عصرنا الحالي. إلا أن الأيديولوجية الكونفوشيوسية ارتبطت بالمجتمع الصارم في فترة الحكم الإمبراطوري، ولم يتضاءل تأثيرها في الصين إلا بعد عام 1911. وفي الواقع، يلقى عليها اللوم جزئيا في تدهور الإمبراطورية في الوقت الذي جلب فيه الابتكار والتقدم الأوروبيان الازدهار للدول الأوروبية والسيطرة على باقي أنحاء العالم. وفي عهد ماو تسي تونج، صار حال الكونفوشيوسية - مثل كل المعتقدات الأخرى عدا اعتقاد ماو في نفسه - أسوأ بكثير؛ فحلت أقوال الزعيم ماو محل أقوال كونفوشيوس. ومع ذلك كان القاسم المشترك بين أقوال ماو المأثورة وتصريحات الطغاة الآخرين الذين يقرون سياسات حمقاء ومؤذية، أنها لم تدم. فعادت أقوال الأستاذ كونج البليغة تسمع مرة أخرى في ووهان وبكين، وفي شانغهاي وجوانزو. وعادت القيم الكونفوشيوسية التقليدية من بر الوالدين واحترام المعلمين لتدعم التعليم الصيني، في وقت كان الافتقار للانضباط والحماس يقوض نظيره في الغرب. ومع ذلك، يقال إن ثمة 6 ملايين معتنق فقط للكونفوشيوسية.
ظهر رجل حكيم مؤثر آخر في القرن السادس قبل الميلاد. كان هذا الرجل هو لاو تسو، الذي كان أيضا موظفا حكوميا، وتناقضت معتقداته مع معتقدات كونفوشيوس من حيث كونها أكثر اهتماما بالعالم الطبيعي أكثر من الأخلاقيات الاجتماعية للإنسان؛ بمسار (داو) الطبيعة. نقح تعاليم الطاوية الفيلسوف الصيني تشوانج تسي في القرن الرابع قبل الميلاد، وعرضت في كتاب «الطريق وقوته» (داوديجنج). فمن خلال التأمل في مظاهر الطبيعة يحقق الإنسان سلاما داخليا. يدمج أتباع لاو تسو وتشوانج تسي المبادئ الصينية «التشي» (الطاقة الحيوية، التي تمد الكون بالطاقة عبر العديد من التغييرات التي تحدث فيه) و«الين» و«اليانج» (الأسلوبين المتقابلين لدراسة أي شيء) - التي تسبق جميعها ظهور الطاوية والكونفوشيوسية - في فلسفتهما؛ فتدفقت «اليانج تشي» إلى أعلى وصنعت السماوات، وتحركت «الين تشي» إلى الأسفل وصنعت الأرض. تتسم «اليانج تشي» بنقائها وخفة وزنها، أما «الين تشي» فتتسم بأنها عكرة وثقيلة الوزن. وعلى الإنسان أن يسعى إلى أن يتسم ب «الين»، فيعبر عن صفات أنثوية متفتحة، و«اليانج»، حيث يظهر صفات ذكورية نشطة، بصرف النظر عن نوعه. وأحيانا تكون الزيادة الطفيفة في أحدهما مطلوبة، لكن بوجه عام يجب أن تعكس حياة المرء توازنا دقيقا بين الاثنين.
25
رغم الاختلاف في موطن التركيز بين الكونفوشيوسية والطاوية، لم تحل أي منهما محل الأخرى؛ فكلا الفلسفتين مكملتان إحداهما للأخرى وتعتنقان جنبا إلى جنب، تماما كما تمارس الشنتوية والبوذية معا في اليابان. تعرضت تعاليم الطاوية وأديرتها - مثل أديرة البوذية في التيبت - للقمع على يد ماو؛ وواصل خلفاؤه قمعها. ومع ذلك، نجت مجموعات صغيرة، وازدهرت الطاوية في أماكن مثل تايوان وأماكن أخرى في آسيا.
نشأت كل من البوذية والكونفوشيوسية والطاوية منذ 2500 سنة؛ ومن ثم فإنها أحدث عمرا من الهندوسية واليهودية، ولكنها أقدم من المسيحية والإسلام. كما أن استمرارها أمر واضح من حقيقة أن البعض يرون أن أكثر من نصف سكان العالم يقال إنهم يقرون معتقداتهم.
26
يتناقض الترابط بين الإنسان والطبيعة الذي يميز هذه المعتقدات (وإلى حد ما الهندوسية بالإضافة إلى معتقدات آسيوية أخرى مثل الجاينية) بشدة مع تفرد الإنسان كما يظهر في تعاليم اليهودية والمسيحية والإسلام. فيسعى المؤمنون بالأولى إلى تحقيق نتيجة مرضية لحياتهم من خلال اتباع معتقدات فلسفتهم؛ بينما يعمل المؤمنون بالثانية على تحقيق علاقتهم الخاصة بالله.
خاتمة
لا تقتصر الأشياء التي يؤمن بها البشر على الرموز الإلهية؛ فيلعب التنجيم وقراءة الطالع والإدراك فوق الحسي وغيرها من الظواهر الخارقة دورا كبيرا. فبينما تقدم هذه الممارسات مثالا جيدا على سعي الإنسان - لمعرفة المستقبل، وتحديد مكان مرتكبي الأفعال الإجرامية، والتواصل مع أقاربهم الموتى
27 - لا توجد أهمية كبيرة يمكن للمرء ربطها بهذه الممارسات فيما عدا الإشارة إلى شعبيتها واستنتاج أن السحر والشامانية موجودان باستمرار.
28
ولم تنجح محاولات إدخال المسائل المتعلقة بالسحر داخل نطاق العلم.
29
إن الخط الفاصل بين الحياة باستقامة بسبب الإيمان بأحد الأديان التي تمارس في العصر الحالي، وفعل هذا لأسباب فلسفية لا علاقة لها بالدين - تتبادر كلمة المذهب الإنساني إلى الذهن مرة أخرى - رفيع للغاية. وكثير من الذين يصنفون أنفسهم بأنهم يتبعون أحد الأديان، أو على الأرجح معظمهم، لا يفعلون أكثر من مجرد التعبير عن ولائهم لمعتقدات هذا الدين بالكلام فقط، ومع ذلك تستمر قوة الإيمان الديني. ويحضرني مثال أذكره هنا لأن الشخص المعني كان عالما؛ كنت في زيارة لتاج محل، وأذكر أن هذا اليوم كان رماديا وغائما؛ مما جعل التباين الواضح بين لون الرخام ولون السماء يبدو أكثر وضوحا. كانت أبعاد هذا المبنى وحجمه مذهلين،
30
كما كان الدافع لبنائه مؤثرا.
31
إلا أن ما علق في ذاكرتي أيضا، في أثناء سيرنا في أرجاء هذا المبنى المذهل، كان الحوار الذي دار بيني وبين أحد زملائي من العلماء؛ فقد جئنا جميعا في رحلة ليوم واحد ، مقدمة من منظمي المؤتمر الذي كنا نحضره في دلهي. أشار زميلي، متخصص هندي جاد ومثقف في علم الأحياء الدقيقة، إلى نهر يمونا وهو يشق طريقه برشاقة تحت تاج محل، قائلا: «هذه المياه مقدسة للغاية، فتستطيع ملء وعاء زجاجي بها وتغلقه بإحكام، ولن تنمو أي جراثيم في الماء على الإطلاق. أنا أعرف أنك لا تصدق هذا، لكنه حقيقي.» كنت أحاول دمج الشك باللباقة؛ فالإيمان الديني قوي بالفعل.
إذن هل الصراع بين الإيمان والعلم لا يمكن حله؟ أنا لا أعتقد ذلك.
32
فعلينا ألا نفترض أن المعتقدات الدينية والتفسيرات العلمية يستحيل أن توجدا جنبا إلى جنب. فطالما أن الدين مسألة اعتقاد فحسب، ولا تعتبر تعاليمه تفسيرا للظواهر التي توجد لها تفسيرات منطقية، فلن يوجد تعارض بين العلم والدين. كان ألبرت أينشتاين مؤمنا بالله (الدين دون العلم أعمى، والعلم دون الدين كسيح)، وكذلك كان جاليليو ونيوتن. إلا أن هذا يعني اعتناق معتقدات دينية إلى حد ما؛ والبوذية والكونفوشيوسية والطاوية تحقق هذا. وحاليا بدأ بعض المسيحيين المنتمين للعقيدة البروتستانتية أيضا يتقبلون فكرة أن الله يوجد إلى حد كبير في ذهن المؤمن
33 (على الأرجح يدخل إليه عبر التنشئة). يكون هذا المفهوم مرضيا للبعض تماما مثلما يكون الفعل الإيثاري مرضيا لغير المؤمن. يتغلب هذا أيضا على مشكلة كون آلهة مختلفة مسئولة عن فعل الخلق نفسه.
ماذا نستطيع أن نستنتج أيضا من ذلك السرد القصير للطبيعة الروحية لسعي الإنسان المستمر؟ أن هذا الجانب جزء أساسي في سلوكه تماما مثل بحثه عن تكنولوجيا جديدة، أو تعبير فني، أو تفسيرات علمية. إن دفن الأموات كانت سمة مشتركة عند معظم ديانات الحضارات السبع الأساسية والحضارات التي تلتها، وكذلك في معتقدات المجتمعات البدائية في أماكن أخرى. فالرئيسيات الأخرى تدفع ببساطة أمواتها جانبا، رغم قدرتها على التعبير عن الأسى تماما مثل البشر.
34
ما الذي يكمن وراء دفن الإنسان للجثث؟ ربما يكون الخوف من العدوى أحد الأسباب، والحل الهندوسي المتمثل في استبدال حرق الموتى بالدفن حل منطقي. ومع ذلك يوجد أسلوب دفن الجثمان تحت الأرض، مثلما يحدث مع المخلفات، ويوجد أيضا تخليد ذكرى المتوفى بوضعه داخل تابوت بسيط أو داخل تابوت حجري ووضعه داخل أهرامات كما في بلاد سومر ومصر، أو قبور الأباطرة الصينيين، أو مساجد الحكام المسلمين، أو البانثيون في المسيحية. أشرت إلى أن خوف الإنسان من الموت كان سببا في عبادته للموتى، أما عالم النفس الدنماركي آرني بيترسون فيذهب إلى أبعد من هذا، ويقترح أن تبجيل الإنسان للموتى يتعلق بوعيه بكيانه؛ فهو نوع من الوعي الذاتي المستمد من الرمزية في اللغة، التي تؤدي إلى آراء الإنسان عن الحياة والموت.
35
باختصار، يعتبر الإيمان الديني نتيجة لظهور الكلام. أضف إلى ذلك المهارة اليدوية والقدرة العصبية، ويصبح لديك تفسير لتعبير الإنسان الجسدي عن إيمانه بالمجهول.
هوامش
الفصل الحادي عشر
العلم: التفسير والتجريب
ربما يجدر بنا تقديم ملخص وجيز عن ماهية العلم. على الأرجح لن يكون معظم قراء هذا الكتاب من العلماء. فأنا أفترض، وفي الواقع أرجو، أن يحدث هذا. أولا: لأن عدد غير المهتمين بالعلم يفوق بكثير أولئك الذين درسوا بعض جوانب هذا الفرع المعرفي في الكلية أو الجامعة (يشاركني الناشر في التطلع إلى نطاق واسع من القراء). وثانيا: لأنني أريد أن أقدم لعامة الناس، بما في ذلك رجال السياسة والبيروقراطيين، فرصة لقراءة استعراض محايد - غير متحيز قدر استطاعتي - للتقنيات المعاصرة للتعامل مع الكائنات المعدلة جينيا في الجزء الثالث. وثالثا: لأن أصدقائي المتخصصين في العلوم سيسارعون إلى ادعاء وافتراض أني تجرأت وأقدمت على انتقادهم. ألا تعتبر الرغبة التنافسية، قريبة الطموح، صفة بشرية بحتة؟ ورابعا: لأني شخصيا مولع بآراء تيرانس كيلي،
1
الذي جرؤ على افتراض أن التكنولوجيا أحيانا تنتج علما، وليس العكس، وأحيانا كلما قل ما تنفقه الحكومة على العلوم الأساسية، كان هذا أفضل؛ وبالطبع لا حاجة بنا إلى قول إنه لقي معاملة سيئة من زملائه من المتخصصين في مجال العلوم.
إذا كان العلم يعني أي شيء - وهو في الواقع يعني المعرفة - فبالتأكيد كان أول من أشعلوا نارا علماء. لكني عرفت المعرفة التي تكتسب عبر التجربة والخطأ على أنها تكنولوجيا؛ أما المعرفة التي تكتسب عبر التفكير المنطقي فهي علم.
2
ولا تكفي الملاحظة والتجريب؛ فلا يعتبر رسم خريطة لمواقع النجوم في السماء علما تماما، مثلما لا يعتبر رسم خريطة لساحل إحدى الدول أو رسم خريطة لجينوم الإنسان علما. فالمعرفة العلمية تتمثل في معرفة «لماذا» تبدو النجوم كأنها تتحرك (فهي فعليا أجرام ثابتة بالنسبة للأرض)، أو «لماذا» يوجد شكل معين للخط الساحلي (يتكون عبر عوامل التعرية ومستويات البحر المتغيرة)، أو إلى «ماذا» يشير تسلسل الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه (إلى بروتينات مختلفة والتحكم في وظائفها). نستطيع جميعا توقع - دون معرفة السبب الأساسي - أن الشمس إذا غربت في نقطة معينة في الأفق في نحو الثامنة من مساء اليوم، فإنها ستفعل ذلك غدا في مكان مختلف قليلا، في موعد مختلف قليلا (إلا إذا كنا عند خط الاستواء؛ حيث لا تحدث تغيرات كثيرة). إلا أن حسابات المستكشفين الأوائل للسماء كانت دقيقة للغاية لدرجة تستحق الذكر.
في مصر، توصل بناة أهرامات الجيزة منذ 4500 سنة إلى تفاصيل فلكية غاية في الدقة (كلها بالطبع دون استخدام تليسكوبات). فيشير جانبان من كل من الأهرامات الثلاثة إلى جهة الشمال بدقة إلى حد كبير. إذا افترضنا أن هذا كان هدف بناة الأهرامات، فكيف أمكنهم تحقيق مثل هذا التراصف؟ لم يكن القدماء المصريون يعرفون البوصلة المغناطيسية، ولم يكن النجم القطبي (الذي يظهر حاليا جهة الشمال طوال الوقت في نصف الكرة الشمالي) يظهر في هذا الوقت في سمائهم ليلا. ربما استخدموا الشمس (لتحديد جهة الجنوب)، لكن ثمة طريقة نجمية أخرى اقترحت مؤخرا. ربما استطاع المهندسون المعماريون محاذاة الأهرامات من خلال مد خط بين نجمتين ساطعتين - واحدة تقع ضمن مجموعة الدب الأصغر والأخرى ضمن مجموعة الدب الأكبر - حتى الأرض؛ وحتما كان هذا الخط سيشير إلى الشمال. أقول إن هذه المحاذاة كانت «دقيقة إلى حد كبير»؛ لأن اتجاه جانبي الأهرامات ينحرف عن جهة الشمال بنحو بضع دقائق قوسية،
3
ويختلف الخطأ قليلا في كل هرم. ومع ذلك، تعتقد المتخصصة في علم المصريات، كيت سبينس، أنها كانت دقيقة في وقت بناء الأهرامات، التي بني كل منها لحاكم مختلف؛ فقد حسبت مقدار التغير الطفيف الذي يحدث للخط الذي يربط النجمتين معا على مدار السنوات، وعلى أساس افتراض أن كلا منها كان دقيقا في وقت بنائه، استطاعت تحديد هذا التاريخ. ونتيجة لذلك توصلت إلى تسلسل زمني لفترات الحكم التي بنيت فيها هذه الأهرامات يتراوح مدى دقته في نطاق 5 سنوات قد تقل أو تزيد (مقارنة بالتقديرات السابقة التي كان مدى دقتها في نطاق 100 سنة قد تقل أو تزيد).
4
يعتبر علم الفلك الصيني مبهرا بالقدر نفسه، رغم أن عمره لا يزيد عن ألفي سنة. فقد استخدم علماء الفلك، الذين كانت مهمتهم تسجيل مواقع كافة النجوم بصفة يومية، هذه المعلومات في توقع نمط النجوم في السماء ليلا في أي يوم، بما في ذلك ظهور أكثر من 40 مذنبا. فالمذنب الذي وصفه هالي في نهاية القرن السابع عشر ظهر في الصين قبل هذا بقرنين. كانت تسجيلات الصينيين دقيقة للغاية، حتى إن علماء الفيزياء الفلكية في العصر الحديث يستخدمون هذه المعلومات من أجل التأكد من عمر نجوم معينة. وفي القرن الثالث عشر قدر طول السنة برقم به أربعة أرقام عشرية (365,2425 يوما).
5
في اليونان كان بطليموس يتوقع كسوف الشمس وخسوف القمر، ويصف على نحو صحيح حركة الكواكب في مداراتها، هذا في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي (كان يعتقد أنها مدارات دائرية؛ وكان يوهانز كيبلر في مطلع القرن السابع عشر من أدرك أنها بيضاوية وصاغ قانونه الثاني لحركة الكواكب ليضع هذا في اعتباره). (1) أساليب العلم
يعتبر الاستكشاف - على الأقدام أو بقارب، باليد أو بالعين - جزءا كبيرا من سعي الإنسان. يكمن الاستكشاف أيضا وراء تقدم العلم ؛ وفي هذه الحالة يكون السعي من أجل المعرفة. كما أن محاولة فهم طريقة عمل العالم ساقت الإنسان إلى المعتقدات الدينية. لكن كما رأينا للتو لا يقدم الدين إلا تفسيرات رمزية؛ فالعلم وحده القادر على تقديم تفسير منطقي. ومع ذلك، تجدر بنا الإشارة إلى تعليق نيلز بور بأن الفيزياء لا تهتم بماهية الطبيعة، بل بما نستطيع أن نقوله عنها،
6
وهو رأي لا يختلف كثيرا عن رأي إسحاق نيوتن قبل هذا بثلاثة قرون. ربما يكون الفضول صفة أساسية، لكن وحده لا يصنع عالما. فحتى تتصدى لمشكلة استعصت على كل من جاءوا قبلك، وحتى تصف جزءا من العالم بطريقة جديدة بوضوح ومنطق، لا تحتاج إلى مجرد الكثير من التفكير والتجريب، بل أيضا إلى قدر من البصيرة ولحظة إبداع. ولهذا يكون البحث عن الإلهام أمرا مشتركا بين العلماء والفنانين.
7
وتعتمد المفاهيم الجديدة في مجال العلم، كما في الرياضيات أو الفلسفة، على أفكار لم تخطر لأحد من قبل. فبديهيات مثل أن الأرض ليست مركز الكون، وأن جميع الأجسام يجذب بعضها بعضا، وأن القلب يضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم في دائرة مغلقة، وأن كثيرا من الأمراض تسببها الجراثيم المعدية، وأن الحياة على الأرض تطورت عبر عملية تغير تدريجية، وأن الزمن هو البعد الرابع للمكان؛ كلها أفكار مبتكرة تماما مثل مسرحيات شكسبير ولوحات فيرمير، وموسيقى موتسارت، وكتابات فولتير. والاختلاف الوحيد أنه إن لم يكن شكسبير أو فيرمير أو موتسارت أو فولتير قد عاشوا، لم تكن لتظهر «هاملت» و«الفتاة ذات القرط اللؤلئي» وسيمفونية «جوبيتر» ورواية «كانديد»؛ لكن إذا لم يولد كوبرنيكوس،
8
أو نيوتن أو هارفي أو كوك أو داروين أو أينشتاين، فإن شخصا آخر كان سيتوصل في النهاية إلى اكتشافاتهم.
9
ونحن نعلم أنه في الوقت الذي كان نيوتن يضع فيه أساس علم التفاضل والتكامل - أو بعده بفترة قصيرة - في إنجلترا، كان لايبنتس يصوغ المعادلات التفاضلية في ألمانيا (لم يكن أحدهما يعرف ما يعمل عليه الآخر). وبينما كان فلوري وتشين يعزلان البنسلين ويحددان تركيبه في أكسفورد، كان العلماء في هولندا يفعلون الأمر نفسه؛ لكن لم تظهر ثمار عملهم قط؛ لأنه في عام 1940 تعرضت هولندا للهجوم واجتاحت القوات الألمانية الدولة.
10
إن العلم، على عكس الفن، ليس عرضة للتأثيرات الإقليمية، ولا يتأثر كثيرا بمرور الوقت. فلا يوجد علم «غربي» أو «شرقي»، ولا يوجد علم قديم أو حديث، مثلما يوجد فن صيني أو مصري، بدائي أو كلاسيكي، تصويري أو تجريدي. فالتفسيرات التي يتوصل إليها العالم لها صلاحية عالمية. أنا أتجنب عن عمد استخدام كلمة «حقيقة»؛ فالحقيقة والكذب مفهومان ابتكرهما علماء الرياضيات والفلاسفة، أما العلماء فيستخدمونهما على مسئوليتهم. تتخطى التفسيرات العلمية حدود الزمن والمكان. ففكرة أن مدارات الكواكب توجد بفعل تأثيرات الجاذبية، وأن البرق والرعد يحدثان نتيجة تفريغ كهربائي، لا تختلف صحتها في العصر الحالي عما كانت عليه في عهد نيوتن أو بنجامين فرانكلين (الذي اخترع مانع الصواعق). كما أن هذه التفسيرات تكون صحيحة في كراكوف وكامبريدج تماما مثلما تكون في مدينة كوبه وكلكتا. كيف يمكننا التأكد؟ لأن جميع النظريات العلمية يمكن اختبارها من حيث المبدأ؛ بعضها على الفور، والبعض الآخر عند توافر التقنية المطلوبة، وأخرى عندما يجعل حدث عرضي الاختبار ممكنا. ومثال على الحالة الأولى فرضية جاليليو بأن السرعة التي تسقط بها الأشياء على الأرض لا علاقة لها بوزنها؛ إذ أجرى جاليليو التجربة على الفور. ومثال على الحالة الثانية فكرة داروين عن التطور؛ إذ مرت مائة سنة قبل أن يستطيع التحليل الجزيئي إثبات فرضيته. أما الحالة الثالثة فيظهر مثال عليها في نظرية أينشتاين عن النسبية العامة؛ حيث قدم كسوف للشمس حدث في وقت مناسب الدليل الذي كان ينتظره.
تستمد النظريات العلمية مصداقيتها من اختبار التنبؤات وتكرار التجارب التي تقوم عليها التفسيرات مرارا وتكرارا. بل والأكثر إقناعا هو غياب البيانات السلبية. فحتى نثق في إحدى الفرضيات، يجب أن نتمكن من إظهار أن كافة محاولات دحضها تفشل.
11
لقد أشرت ضمنيا إلى أن صحة التفسيرات العلمية لا تتغير بمرور الوقت؛ والآن علي الاعتراف الآن بأن هذا ليس به إلا قدر من الصحة. فمع تحسن تقنيات قياس الظواهر الطبيعية، تبدو نتائج الأمس مبهمة قليلا اليوم. فمفهوم الجاذبية يفسر حركة الكواكب حول الشمس جيدا، لكنه لا يفسرها بالكامل. أما عند الوضع في الاعتبار حقيقة أن المكان «منحن»، يمكن الحصول على إجابة أكثر دقة. يكون تأثير هذا طفيفا جدا على الأرض (لكنه يكون هائلا بالطبع على الكون)، ولم يستطع نيوتن قياسه، رغم أنه شك في أن الأمر كذلك. إن تفسيره لحركة الأجسام صحيح بالأساس؛ لكن التفاصيل الدقيقة فقط هي التي تحتاج إلى تعديل. وسنتعرض لمزيد من الأمثلة عن الحاجة إلى تنقيح فرضية معينة مع ظهور بيانات جديدة، عند حديثنا عن علم الأحياء الحديث. ومثال على فرضية خاطئة تماما افتراض أرسطو أن المادة مكونة من أربعة عناصر، هي التراب والنار والهواء والماء. وثمة مثال آخر ظهر في وقت متأخر من القرن السابع عشر يتمثل في افتراض أنه عند تسخين المعادن تفقد غازا يسمى «الفلوجستون». أظهر علم الكيمياء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن كلا الافتراضين خاطئان؛ فالعناصر التي تتكون منها المادة هي الهيدروجين والكربون والكبريت والسليكون وغيرها؛ وعندما تسخن المعادن فإنها «تكتسب» غازا، وهو الأكسجين تحديدا (حتى تصبح أكسيدات).
يعتبر ظهور اللغة، وتطوير التكنولوجيا،
12
ونشأة الدين، وصياغة القوانين، كلها عمليات تدريجية، فعليها يرتكز نمو المجتمعات عبر سعي مجموعات من الأفراد على مدار فترات زمنية طويلة. أما العلم فهو مختلف، مثل أكثر تكنولوجيا حديثة؛ فهو يتطور بسرعة فائقة، ويمكن نسب كل خطوة إلى الأمام لفرد معين.
13
ولهذا السبب سنركز في القسم التالي على علماء محددين، عمل كل منهم على نحو ملحوظ على تطوير معرفتنا بالعالم. (2) العلماء
كان أقدم المفكرين الذين حصلوا على مكانة العلماء هم اليونانيين القدماء. كان طاليس الملطي في مدينة إيونية (في تركيا حاليا)، الذي عاش من عام 624 تقريبا حتى عام 545 تقريبا قبل الميلاد، أولهم. وبخلاف معرفته بالرياضيات (إذ أخذ علم الهندسة من مصر وأدخله إلى اليونان)، ومعرفته الفلكية (إذ توقع حدوث كسوف الشمس في 28 مايو عام 585 قبل الميلاد)،
14
اقترح طاليس أيضا نظرية عن المادة . كان أساس نظريته الماء؛ فهو أساسي لنمو النباتات، وكل شيء يصدر الماء عند تسخينه (لأن كافة المواد البيولوجية، كما أصبحنا نعرف الآن، مكونة إلى حد كبير من الماء)؛ بالإضافة إلى هذا، فإن الماء مادة توجد في الأشكال الثلاثة للمادة؛ الصلبة والسائلة والغازية. وبعد مرور قرن من الزمن، اقترح أنكسيمانس
15
أن الهواء، وليس الماء، هو المادة الأساسية. وفي القرن الخامس قبل الميلاد، اقترح إيمبيدوكليس من صقلية أن المادة مكونة من أربعة عناصر أساسية: التراب والهواء والنار والماء. وبعد قرن من هذا تبنى أرسطو هذه الفرضية؛ كما كان أيضا أول من وضع نظرية محكمة لدراسة الميكانيكا. ورغم أن أيا من هذه الافتراضات بشأن الطبيعة الأساسية للمادة لم تثبت صحته،
16
على الأقل ارتكز كل منها على حجة منطقية، وليس خرافة. ثم ظهر علماء الرياضيات الكبار؛ فيثاغورس (الذي أدرك هو أيضا أن الأرض كروية وليست مسطحة)، وأبقراط الخيوسي،
17
وإيودوكسوس من كنيدوس، وإقليدس. إلا أن الرجل الذي تفوق على هؤلاء جميعا، وأول عالم ظلت نظرياته خالدة عبر التاريخ، كان أرشميدس. (2-1) أرشميدس
عاش أرشميدس في العصر الهيليني الذي ازدهرت فيه مدينتا سرقوسة والإسكندرية، في الفترة 287-212 قبل الميلاد تقريبا. تلقى تدريبه بصفته عالم رياضيات
18
واستخدم الرياضيات في وضع أسس علم الفيزياء. وندين بالفضل لأرشميدس في العلاقة البسيطة بين المسافة التي تؤدي فيها الطاقة المبذولة على رافعة إلى تحركها؛ ومن ثم رفع جسم على الطرف الآخر منها (مثل قوله: «أعطني نقطة ارتكاز وأنا أحرك لك العالم»). يمثل هذا المبدأ الرئيسي أساس قدر كبير من علم الميكانيكا، بداية من التوازن البسيط وأرجوحة التوازن في حديقة الأطفال، حتى الرافعات الأكثر تطورا المستخدمة في الهندسة. كان أرشميدس رجلا عمليا بالإضافة إلى كونه مفكرا. ومثل ليوناردو دافنشي اخترع أدوات حربية - لمنع الغزاة الرومان من الدخول إلى سرقوسة - وينسب إليه أيضا الفضل في اختراع اللولب المستخدم في رفع الماء من مستوى منخفض إلى مستوى أعلى.
نادرا ما تنتج اكتشافات علمية من الاضطلاع بمهمة. قد يحدث هذا للابتكارات التكنولوجية، والرحلات الاستكشافية بالتأكيد، والإبداعات الفنية طوال الوقت. ومن ثم فمن المدهش أن أحد أكثر الإنجازات الأساسية في مجال الفيزياء حدثت نتيجة للاضطلاع بمهمة. حصل هيرون ملك سرقوسة حديثا على تاج ذهبي، وكان الملك يشك في أنه تعرض إلى الخداع، وأن الصانع خلط الفضة بالذهب. فطلب من أرشميدس معرفة إذا كان هذا صحيحا. كان هذا العالم يدرك أن الذهب أثقل وزنا من الفضة، وأن وزن المادة يرتبط بحجمها.
19
إذا كان الشيء الذي طلب من أرشميدس حسابه مربعا أو كرويا، وهو ما يستطيع بسهولة حساب حجمه، لم يكن ليواجه أي صعوبة. لكن كيف يمكن قياس حجم شيء مثل التاج؟ يفكر معظمنا في مشاكله عندما نكون ساكنين؛ ونحن راقدون على السرير، أو جالسون في المرحاض، أو ننظر خارج إحدى النوافذ، أو ننقع أنفسنا في حمام دافئ.
20
كان أرشميدس يستحم، وفي أثناء نهوضه للخروج من حوض الاستحمام، أو ربما وهو يجلس فيه، انتبه إلى أهمية حقيقة أن مستوى الماء تغير. ويجب أن يكون مستوى هذا التغير مساويا لحجم الجسم. فاكتشف بذلك كيف يمكنه قياس حجم الأشياء التي ليس لها شكل هندسي؛ ببساطة عن طريق قياس مقدار الماء الذي تحل محله. وفي ظل معرفة وزن تاج الملك ومعرفة حجمه أيضا، لم يتطلب الأمر إلا قسمة أحدهما على الآخر من أجل الحصول على كثافته. وكان شك الملك في محله؛ فلم يكن تاجه مصنوعا من الذهب الخالص. (2-2) جاليليو
كان جاليليو جاليلي (1564-1642) (صورة 6)، مخترعا مثل ليوناردو دافنشي؛ وقد صمم تليسكوبات أفضل من أي شخص من قبل. لكن على عكس ليوناردو، لم يكن يقتصر عمله على الملاحظة والتدوين فحسب. فصمم تجارب من أجل تدعيم نظرية معينة أو دحضها. وبصفته مجربا يستخلص استنتاجات دقيقة من نتائجه، كان يشبه في ذلك أرشميدس ونيوتن. وتجدر بنا الإشارة إلى أن تجارب داروين كانت الطبيعة هي التي تجريها له؛ فلم يكن يفعل إلا مجرد (مجرد!) استنتاج المعنى الذي يكمن وراءها. وكذلك كانت نظريات أينشتاين؛ ففي حالته كان كل ما يحتاج إليه من أجل إثبات صحة نظريته بضعة قياسات أجراها آخرون.
حتى عصر جاليليو لم يشك أحد في رأي أرسطو الذي يقول إنه كلما زاد وزن الجسم زادت سرعة سقوطه على الأرض. قرر جاليليو إجراء تجربة. كانت بسيطة للغاية، ونحن جميعا نعرف النتيجة؛ فقد أخذ حجرين، أحدهما أثقل وزنا بعشر مرات من الآخر، وتسلق برج بيزا المائل. ومن على قمة البرج رمى كلا الحجرين؛ فوصلا إلى الأرض في الوقت نفسه. وإن كان أرسطو محقا فإن الحجر الأخف وزنا كان من المفترض به أن يأخذ وقتا أطول بعشر مرات حتى يسقط على الأرض. لا تحطم دوما تجارب بمثل هذه البساطة آراءنا الراسخة مسبقا عن العالم. ولم يترك جاليليو الأمر عند هذا الحد؛ فقد وضع حجة منطقية بالكامل لإظهار أن اقتراح أرسطو لا يمكن أن يكون صحيحا؛ حيث أدى إلى تضارب واضح.
21
سمحت تليسكوبات جاليليو له برصد البقع الشمسية واكتشاف أقمار المشتري. فكان إدراكه بأن أقمار المشتري تدور حوله وليس حول الأرض، مع حصوله على بيانات أكثر دقة حول مدار الزهرة، هو ما أقنعه أن اقتراح عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس كان صحيحا؛ فالأرض (والكواكب الأخرى) تتحرك بالفعل حول الشمس، وليس العكس. كان هذا الإصرار على أن الأرض ليست مركز الكون المعروف، هرطقة مؤكدة في نظر كنيسة روما. أدرك جاليليو هذا، لكنه قرر اتباع جوردانو برونو (القس الذي وسم فيما بعد بالهرطقة) في التأكيد على أن الإنجيل يجب اتباعه في تعاليمه الأخلاقية، وليس كمصدر للمعرفة الفلكية؛ فلماذا منح الله الإنسان عقلا إذا لم يكن يريد منه استخدامه؟ لذلك لم يحجم جاليليو عن نشر آرائه. أي عالم يمكنه أن يحجم عن تسجيل دلالة نتائجه الحالية؟ أحيانا لا يوجد خيار أمامهم. فاضطر العلماء السوفييت إلى منع أنفسهم؛ خوفا من الاضطهاد والنفي والموت، من الإشارة إلى أن آراء ليسينكو حول توريث الصفات المكتسبة بالتكيف محض هراء؛ فقد كان تروفيم ليسينكو صديق الرفيق ستالين وربيبه. فكان مكتب محاكم التفتيش متساهلا في هذه الحالة أكثر من مكتب المدعي العام في موسكو؛ فكل ما فعله هو طرده من الكنيسة. لم تكن محاكمته في عام 1633 مواجهة بين الدين والعلم بقدر كونها عداوة شخصية تجاهه، فكانت الأسباب الفعلية لمحاكمته تجاهله لمرسوم صدر مسبقا يحظر على وجه الخصوص مناقشة آراء كوبرنيكوس بأي طريقة؛ بصرف النظر عن تأييدها أو معارضتها. لم يعان كوبرنيكوس نفسه من مثل هذا الاستهجان؛ فلحسن حظه كان المناخ الديني في بولندا في القرن السادس عشر متحررا نسبيا. هل أجرؤ على الإشارة إلى أن هذا تزامن مع ظهور البروتستانتية في شمال أوروبا؟ (2-3) نيوتن
يمثل الانتقال من جاليليو إلى نيوتن عملية تطور سلسة؛ فقد ولد إسحاق نيوتن في العام الذي توفي فيه جاليليو. ومثل أرشميدس من قبله، كان نيوتن في المقام الأول عالم رياضيات علم نفسه بنفسه؛ وفي سن 27 عين لمنصب الكرسي اللوكاسي للرياضيات في جامعة كامبريدج، الجامعة التي التحق بها كطالب منذ 9 سنوات. تمحور التعليم الذي حصل عليه فيها حول الفلسفة؛ المنطق والأخلاق الأرسطية (التي كان يعرف معظمها قبل قدومه؛ ومن ثم فاقت معرفته بعلم المنطق معرفة معلمه). ومع ذلك، لم ينجز نيوتن معظم أعماله العظيمة داخل جدران الجامعة، بل في منزله في وولسثورب مانور بالقرب من جرانثام في لينكولنشير. وعندما حان وقت حصوله على ليسانس الآداب، بعد 4 سنوات من التحاقه بجامعة كامبريدج، أغلقت الجامعة؛ فقد وصل الطاعون مرة أخرى إلى إنجلترا. قضى نيوتن الشاب الجزء الأخير من عام 1665 وعام 1666 بأكمله في المنزل، في دراسة منعزلة. واتضح أن هذه الفترة كانت أكثر فترات حياته إثمارا.
أولا: واصل بحثه عن حل للنظرية ذات الحدين (أ + ب)
ن . أدى هذا إلى توصله إلى مفهوم المتسلسلة اللامتناهية في الرياضيات، ومنها إلى توصله إلى صياغة مبادئ علم التفاضل والتكامل (الذي أطلق عليه اسم «الفروق المستمرة»)؛
22
حيث شرح بمصطلحات علم الجبر العلاقة بين نقطة في الفضاء وحركتها بالزمن. كان يمكن لهذا الإنجاز وحده أن يجعله واحدا من أكثر علماء الرياضيات إبداعا على الإطلاق. إلا أن فضوله لم يتوقف عند هذا الحد؛ فقد كان مثل ليوناردو دافنشي مهتما بخصائص الضوء. وقد شعر بوجود خطأ ما في المفاهيم المعتمدة عن الألوان التي ابتكرها رجال مثل رينيه ديكارت وروبرت هوك في إنجلترا. كان الأخير قد نشر للتو كتابه «الفحص المجهري»، الذي أكد فيه على أن الألوان نشأت من امتزاج «الظلام» بالموجة الأساسية للضوء الأبيض؛ فقليل من الظلام ينتج اللون الأحمر، وتباعا تنتج زيادة الظلمة ألوان قوس قزح الأخرى، حتى الوصول إلى اللون الأزرق. كانت تساور نيوتن الشكوك بشأن هذا، واختار إجراء تجربة. اشترى منشورا زجاجيا، ربما من سوق القرية، وبدأ في تلميع جوانبه. ورتب غرفته بحيث ينعكس شعاع الضوء الذي يسقط على أحد جوانبه عبر الجانب الآخر على الحائط؛ فظهرت ألوان قوس قزح، من الأحمر حتى الأزرق. بعدها أخذ منشورا آخر انعكست عبره الألوان الفردية مرة أخرى. وكانت النتيجة ظهور الضوء الأبيض. بعبارة أخرى، يتكون الضوء الأبيض من مزيج من الألوان، وليس العكس.
بعد خمسين عاما أوجز نيوتن هذه الإنجازات ببلاغة قائلا: «في مطلع عام 1665 [لم يكن تعدى الثالثة والعشرين من العمر] اكتشفت طريقة لتقريب المتسلسلة والقاعدة الخاصة باختزال ... أي معادلة ذات حدين إلى مثل هذه المتسلسلة. في شهر مايو من العام نفسه اكتشفت طريقة حساب خط المماس ... وفي شهر نوفمبر توصلت إلى طريقة الفروق المستمرة المباشرة، وفي يناير من العام التالي وضعت نظرية الألوان (صورة 7)، وفي مايو التالي شرعت في الطريقة العكسية
23
للفروق المستمرة.»
24
ومثل تشارلز داروين، الذي جاء بعده بقرنين، كان نيوتن محبا للعزلة، ولم ينشر فرضياته في وقت تبلورها في ذهنه. ومثلما كان استنتاج ألفريد والاس بشأن الانتقاء الطبيعي هو ما دفع داروين للانتهاء من كتابه «أصل الأنواع»، ربما أسهم نشر لايبنتس لحساب التفاضل - بالإضافة إلى تشجيع إدموند هالي - في قرار نيوتن بتدوين نتائج اكتشافاته في كتاب «الأصول» (صورة 7)، الذي لم ينشر حتى عام 1686. وفي هذا الوقت كان نيوتن قد تمكن من الإجابة عن «سؤال» آخر من الأسئلة التي وضعها لنفسه (نظرا لكونه يتحدث اللاتينية بطلاقة منذ صباه، كتب كل أبحاثه العلمية باللغة اللاتينية). كان حول قضية أساسية؛ لماذا تتحرك الكواكب حول الشمس في مدارات بيضاوية؟ في الواقع، لماذا تتحرك على الإطلاق؟ يرد في القصة أنه بينما كان جالسا في حديقته في وولسثروب لاحظ تفاحة تسقط من على إحدى الأشجار؛ مما جعل مفهوم الجاذبية يتبادر إلى ذهنه. ومع ذلك، على عكس الإلهام المفاجئ الذي جاء إلى أرشميدس وهو في حوض الاستحمام، على الأرجح كان نيوتن يفكر في مسألة الحركة منذ فترة طويلة. وفي هذا الشأن، كما في علم البصريات، كان متأثرا كثيرا بأفكار ديكارت.
تمثل قوانين نيوتن للحركة، التي تقضي بأن «كل جسم يستمر على حالته من السكون أو الحركة المنتظمة ... ما لم تدفعه إلى تغيير حالته قوى تمارس عليه»، وأن «التغير في الحركة يتناسب مع القوة الدافعة المؤثرة ...» وأن «لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه»؛
25
أساس أفكاره عن الجاذبية. كما تمثل أيضا أساسا لعلم الفيزياء الحديث، الذي لم يتغير حتى يومنا هذا. نشأ الربط بين التفاحة التي سقطت والجاذبية وحركة الأجسام السماوية من الروايات حول نيوتن من بعض معاصريه. أحد هؤلاء كان جون كونديت، زوج كاثرين ابنة أخت نيوتن. كتب كونديت قائلا إن «... بينما كان يتأمل في حديقة تبادر إلى ذهنه أن قوة الجاذبية (التي أسقطت تفاحة من على الشجرة إلى الأرض) لم تكن مقتصرة على مسافة معينة من الأرض، بل لا بد أن هذه القوة تمتد إلى أبعد بكثير من الاعتقاد السائد. فقال في نفسه لماذا لا يمكنها أن تصل إلى القمر ...»
26
بعبارة أخرى: إن السبب في عدم تسبب الجاذبية في سقوط القمر على الأرض (أو سقوط الأرض على الشمس أيضا) هو أن الأجسام الأصغر حجما تمارس قدرا طفيفا من الجاذبية على الأجسام الأكبر حجما.
في عام 1684 كان السؤال الذي دار في أذهان أشهر زملاء الجمعية الملكية - إدموند هالي وروبرت هوك وكريستوفر رن على وجه الخصوص - كالتالي: إذا كانت الأجسام تجذب بعضها بقوة تتناسب عكسيا مع المسافة بينها، هل يمكن التنبؤ بمدارات الكواكب حول الشمس؟ سافر هالي إلى كامبريدج حتى يستشير نيوتن. ووصف عالم الرياضيات أبراهام دي موافر، عالم آخر من المعاصرين لنيوتن، هذا قائلا: «دكتور هالي ... سأله عما يعتقد سيكون عليه شكل المنحنى الذي ستصنعه الكواكب، على افتراض أن قوة جذبها تجاه الشمس تتناسب طرديا مع مربع المسافة الفاصلة عنها. أجاب نيوتن على الفور أنه سيكون بيضاويا، فأصيب الدكتور بالفرحة والذهول وسأله كيف عرف هذا، فرد الآخر قائلا، لقد حسبتها ...»
27
وهكذا أصبح لملاحظات كوبرنيكوس وجاليليو، وتيكو براهي ويوهانز كيبلر، أخيرا أساس رياضي متين.
تعبر إنجازات إسحاق نيوتن - بخلاف أي شيء قبلها أو بعدها - أصدق تعبير عن المكونات الأساسية للبحث العلمي؛ المتمثلة في الاستكشاف والتفسير. فطوال 85 سنة تجول عقله الهائم في الرياضيات وعلم الميكانيكا والبصريات والفلك (كما خاض أيضا في الخيمياء). وكما يعبر هذا النقش المكتوب على قبره، فيقول: «ليسعد البشر بظهور مثل هذه الشخصية العظيمة التي تعد فخرا للجنس البشري.»
28 (2-4) أينشتاين
كان ألبرت أينشتاين (1879-1955) (صورة 8) طالبا عاديا إلى حد ما، ترك المدرسة في سن الخامسة عشرة. فشل في محاولته الأولى للالتحاق بالجامعة، ولم يستطع الحصول على وظيفة أكاديمية بسبب كسله الواضح. حصل بدلا من ذلك على وظيفة كاتب مبتدئ في مكتب براءات الاختراع في برن. ومع توافر وقت الفراغ لديه،
29
وجد نفسه يفكر في القوانين الأساسية في الفيزياء. وفي عام 1905 - لم يكن تجاوز السادسة والعشرين من عمره - نشر نظريته عن النسبية الخاصة، التي ثبت أنها تماثل نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية الكونية تأثيرا. يتمثل ما حققه أينشتاين بالأساس في إظهاره رياضيا أن الزمن مفهوم نسبي، وهي نقطة أشار إليها جاليليو بالفعل قبل 300 عام من هذا. كان جزء من النظرية أن الطاقة
E
والكتلة
m
تربطهما معادلة
E = mc
2 ، حيث تعبر
c
عن سرعة الضوء.
30
لكن ثمة شيء عن الضوء لم يكن صحيحا. فقد اقترح نيوتن نفسه أن الضوء ينحرف عند مروره بجسم كتلته كبيرة، مثل كوكب أو نجم، بسبب قوة جذب الجسم الأكبر حجما على جسيمات الضوء الأصغر بكثير. ومع ذلك، منذ عصر نيوتن أظهر علماء الفيزياء أن الضوء ليست له كتلة ومن ثم لا يمكن أن ينحرف بسبب قوة الجاذبية، فيرى الذي عاصروا أينشتاين أن الضوء يتحرك في خطوط مستقيمة. على العكس من ذلك شعر أينشتاين أن نيوتن كان محقا - حتى إن كان هذا للسبب الخطأ - وأن الضوء ينحرف بالفعل عند مروره بجسم أكبر حجما. وعند التفكير في الأمر، ألا تسمح معادلة
E = mc
2
للمرء بالتفكير في التفاعلات النيوتونية بين الأجسام من حيث الطاقة - التي يمتلكها الضوء بالتأكيد - بدلا من الكتلة؟ هذا هو جوهر نظرية أينشتاين عن النسبية العامة، التي قدمها إلى الأكاديمية البروسية للعلوم في عام 1915؛ واستغرق إثباتها وقتا أطول.
مرت عدة سنوات على هذا، على الأرجح نظرا لانقطاع الاتصال بين ألمانيا والدول الأخرى بسبب الحرب العالمية الأولى. بعد هذا تعرف عالم إنجليزي، هو آرثر إدنجتون، على جوهر نظرية النسبية العامة. فقد أدرك، مثل أينشتاين، وجود اختبار بسيط لإثباتها بطريقة أو بأخرى. كان الهدف من هذا الاختبار تحديد ما إذا كان الضوء الصادر من نجم بعيد ينحرف بالفعل عند مروره بالقرب من الشمس أم لا؛ بعبارة أخرى، مقارنة المكان «س» لنجم بعيد عندما تكون الشمس بينه وبين المراقب على سطح الأرض، بمكان هذا النجم «ص» من الموقع نفسه عندما تكون الشمس وراء الأرض (شكل
11-1 ). إذا كان الضوء ينحرف، حينها فإن الموقع «س» سيكون منحرفا قليلا عن الموقع «ص»؛ وإن لم يكن ينحرف، فإن المكان «س» و«ص» سيظلان كما هما. لكن توجد مشكلة؛ فسطوع الشمس في الحالة «س» يمنع المرء من رؤية أي نجوم على الإطلاق. ومن ناحية أخرى، إذا أراد المرء قياس المكان «س» عند حدوث كسوف كلي للشمس (عندما يكون القمر بين الشمس والأرض، ويخيم الظلام مؤقتا على الأرض)، فمن المفترض أن يكون من الممكن رؤية نجم بعيد بما يكفي لقياس الموقع «س». قرر إدنجتون إجراء التجربة في الفرصة التالية. وفي 29 مايو عام 1919 مكن كسوف كلي للشمس المراقبين في موقعين من إجراء الملاحظات اللازمة. كان أحد الموقعين في جزيرة برنسيب عند ساحل غرب أفريقيا، والآخر في بلدة سوبرال في شمالي البرازيل. واجه المراقبون في أفريقيا صعوبة في رؤية أي نجوم بسبب السحب، لكن مع ذلك توصلوا إلى نتيجة 1,61 ± 0,4 ثانية قوسية
31 (يعبر رمز ± عن الخطأ المعياري)، بوصفه الفارق بين الموقع «س» و«ص». أما المجموعة الثانية في البرازيل، فقد كان الطقس لديها أفضل وتوصلوا إلى رقم 1,98 ± 0,16؛ كان الرقم الذي توقعه أينشتاين 1,74؛ وبذلك ثبتت صحة نظرية النسبية العامة. بطبيعة الحال في كل مرة كان يحدث فيها كسوف كلي للشمس فيما بعد، كان العلماء يحاولون صقل نتائج ملاحظات عام 1919 لرؤية ما إذا كان يمكنهم الاقتراب من رقم 1,74، مع تقليل الخطأ المعياري. وفي عام 1922 ظهرت فرصة لفعل هذا من أستراليا. وقد كان أينشتاين في وسط إلقاء محاضرته المفضلة عن النسبية في برلين (التي حضرتها والدتي)، عندما قال عفويا لجمهوره: «والآن علي الاستئذان منكم للحظة لأذهب إلى الهاتف لانتظار مكالمة تصلني من أستراليا.» بعد بضع دقائق عاد بابتسامة ترتسم على وجهه وقال: «تأكدت تنبؤات النظرية مرة أخرى للتو.»
شكل 11-1: انحراف الضوء. مأخوذة من بيتر كولز، المرجع السابق، ص43. انظر النص لمعرفة التفاصيل.
سيلاحظ القارئ عدم إدراجي لأربعة من علماء الأحياء البارزين في هذا الجزء الذي أتحدث فيه عن العلماء؛ هم ويليام هارفي وتشارلز داروين وجيمس واطسون وفرانسيس كريك. السبب في هذا بسيط؛ فقد تحدثت عن اكتشافات هارفي في كتاب سابق لي،
32
كما تحدثت عن نظرية داروين وتجارب واطسون وكريك المستنيرة في الفصل الثاني. (3) أسس الطب
يرجع الفضول بشأن أجسامنا والبيئة المحيطة بنا إلى وقت ظهور الإنسان نفسه، ولهذا يعتبر علم الطب والفلك من بين أقدم الفروع المعرفية المدرسة. يطلق على ممارسة الطب - المداواة - فن بحق (بمعنى المهارة)؛ كما أنها تكنولوجيا ترجع إلى أكثر من 4 آلاف سنة. متى ظهرت لأول مرة تفسيرات منطقية بشأن طريقة عمل أجسامنا؟ ومتى أصبح الطب علما؟ حسنا، في الواقع لا يعتبر الطب علما؛ فإن المعرفة التي يرتكز عليها، من تشريح وفسيولوجيا وكيمياء حيوية وأحياء مجهرية وعلم الأجنة والنفس والمناعة والأورام، هي التي تمثل علما. ولم تعد هذه الفروع المعرفية علما هي الأخرى إلا حين استطاعت تقديم تفسيرات منطقية لطريقة عمل الأشياء. فلا يمثل التعرف على العظام والعضلات المختلفة والأوعية الدموية والأعصاب وتحديد أسمائها علما، تماما مثلما لا يعتبر تدوين الأنواع المختلفة للنباتات والأشجار والحيوانات والنجوم كذلك. فيتمثل العلم في معرفة سبب قوة العظام، وانقباض العضلات، وماهية المواد التي تنتقل عبر الأوعية الدموية، وطريقة نقل الأعصاب للنبضات. فإن وصف أن الكبد يتكون من أربعة فصوص وأن ثمة زوج من الكلى والغدد الكظرية والرئتين، لا يشرح وظيفتها. يمكن القول إن علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) لم يبدأ إلا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما أظهر روبرت بويل (أبو الكيمياء وابن إيرل كروك) أن الحيوانات المحرومة من الأكسجين تموت، وأظهر ويليام هارفي كيف يتمكن القلب من ضخ الدم في جميع أنحاء الجسم دون خسارة. ولم يبدأ علم الكيمياء الحيوية - وصف الحياة من الناحية الكيميائية - حتى وقت متقدم من القرن العشرين، بعد التوصل إلى تركيب جزيئات، مثل الكربوهيدرات والدهون والبروتينات والأحماض النووية، ومعرفة وظيفتها.
اكتشف فان ليفينهوك وجود الجراثيم في القرن السابع عشر، وأطلق عليها ببعد نظر اسم «الحيوانات الصغيرة». ولم تتضح أهمية الجراثيم في الطب إلا بعد 200 سنة على يد علماء مثل روبرت كوخ في ألمانيا ولويس باستور في فرنسا. فقد أظهرا أن أمراضا مثل الجمرة والكوليرا وداء الكلب والسل كلها تنتج من الإصابة بنوع ما من العوامل المسببة للأمراض؛ في حالة أمراض الجمرة والكوليرا والسل اتضح أن هذا العامل يكون العصيات (بكتيريا). تمثل الاكتشاف الأكثر أهمية، إن لم يكن ذا أهمية أكبر، في اكتشاف باستور أن التطعيم بجرعة صغيرة معالجة بالحرارة من عامل ممرض يوفر الحماية من إصابة لاحقة. ومن الواضح أن نجاح عملية التجدير،
33
التي طبقها الصينيون ثم الأتراك طوال عدة قرون سابقة لمقاومة الجدري، ووضع لها إدوارد جينر أساسا علميا في أواخر القرن الثامن عشر،
34
نتج عن استجابة عامة داخل الجسم. أحدث استخدام التطعيم في الوقاية من الأمراض المعدية ثورة في ممارسة الطب، وأدى إلى انشغال العلماء بالبحث عن لقاحات جديدة حتى يومنا هذا.
35
طوال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بحث موظف اسكتلندي يعمل في وحدة الخدمات الطبية الهندية،
36
في المرض الذي يقتل المزيد من الأطفال في عصرنا الحالي (عبر حدوث خلل دماغي) أكثر من أي مرض آخر؛ الملاريا.
37
اتضح أن الملاريا ينتقل عبر لدغة حشرة، تماما مثلما ينتقل داء الكلب إلى الإنسان عبر عضة كلب (وينتقل مرض الكوليرا عبر ابتلاع بكتيريا عصوية سامة، وينتقل مرضا الجمرة والسل عبر استنشاقهما). لكن كيف بالضبط تسبب لدغة بعوضة الإصابة بالمرض؟ هل يكون هذا من خلال إدخال بعض الجزيئات السامة إلى مجرى الدم، مثل تلك التي تدخل إليه من لسعة نحلة أو لدغة ثعبان؟ رأى الجراح القائد رونالد روس، الذي عمل في مدينة سيكوندر آباد، أن هذا غير صحيح. فقد شعر بأن نوعا ما من الكائنات كان له دور في هذا. وبعدما أقنعه معلمه، الدكتور باتريك مانسون،
38
بتزويد نفسه بمجهر، بدأ روس في فحص عينات دم مأخوذة من مرضى بالملاريا. ومن أجل زيادة فرص نجاحه، عمل في منطقة موبوءة بالملاريا بشدة، وكان يتناول كميات كبيرة من مادة الكينين يوميا. ومثل آخرين من قبله، عثر على أجسام غريبة في خلايا الدم الحمراء لدى المصابين بالمرض. والآن كان عليه إظهار أن هذه الطفيليات انتقلت إلى البعوض الذي يتغذى على البشر المصابين بالمرض. فاصطاد مئات الحشرات وأطلقها الواحدة تلو الأخرى على مرضى موافقين على هذا يرقدون تحت شبكة. ثم أزال معدة أي بعوضة تغذت بوضوح على دم البشر، وبحث فيها عن طفيليات بمساعدة مجهره. واجه فشلا تلو الآخر؛ فلم يكن يعلم أن عددا قليلا من البعوض يعمل كناقل عدوى للأمراض البشرية. فمعظم الحشرات التي استخدمها كانت بعوضا إما من نوع كوليكس أو البعوض الزاعج، ولم يستخدم بعوضة الأنوفيلة المميتة؛ لكنه ثابر.
في 20 أغسطس عام 1897 أثمر بحث روس؛ فقد عثر على جسم كروي (بيضة متكيسة) في جدار معدة بعوضة أنوفيلية لدغت أحد المرضى من قبل (الذي كان يحصل على عملة نقدية نظير كل بعوضة تلدغه ويقبض عليها بنجاح؛ وفي هذا اليوم حصل حسين خان على 10 عملات نقدية). لكن كيف يمكن إظهار أن الطفيليات الموجودة في هذه البيضة المتكيسة ستكمل دورة حياتها وستنتقل عبر اللدغة التالية؟ لم يكن إجراء تجارب على البشر غير المصابين أمرا واردا. ومع ذلك، كان روس يعلم أن الملاريا تستهدف الطيور أيضا. لذا بعد مرور عام ، وكان في هذا الوقت يعمل في أحد المختبرات في كلكتا، بدأ فحص بعوض كوليكس المعروف بلدغه للطيور. ولم يعثر على بيض متكيس فحسب داخل معدة ناقلات الفيروسات هذه، بل رأى أيضا أنه عند انفجار أحدها تطلق أعدادا هائلة من الطفيليات الخيطية؛ يمكن تتبعها حتى وصولها إلى الغدد اللعابية للحشرة. فبدت حقيقة أن بعوضة الكوليكس لا تصيب البشر غير مهمة. في هذه الحالة كان روس يتصرف كعالم حقيقي؛ فمعظم التجارب التي يقوم عليها الطب الحديث كانت تجرى على كائنات غير الإنسان. فقد شرح ويليام هارفي الدورة الدموية عمليا على الثعابين، كما شرح علماء الكيمياء الحيوية في القرن العشرين المسارات الأيضية والمركز المحوري لثلاثي فوسفات الأدينوسين باستخدام كبد فأر وعضلة حمامة، كما شرحت طريقة انتقال النبضات العصبية باستخدام أعضاء حبار. أقرت الأكاديمية السويدية سريعا إسهام روس وحصل على جائزة نوبل في عام 1902 (ثاني عام على منح هذه الجائزة).
39
رغم أن تكوين البكتيريا (السل والجمرة) والفيروسات (الجدري وداء الكلب) والبروتوزوا (الملاريا) ودروة حياتها داخل جسم الإنسان لم يوضحا إلا بعد هذا بفترة طويلة، فإن إسهامات جينر وكوخ وباستور وروس كانت مثالا واضحا على البصيرة العلمية. وعندما أوضح العالم الأمريكي بيتون روس في عام 1910 أن ثمة فيروسا يستطيع نقل مرض السرطان إلى الدجاج، ولدت فعليا دراسة علم الأحياء الدقيقة كعلم لا يتجزأ عن الطب.
40
لم يصبح علم النفس والطب النفسي علما حتى القرن العشرين. فلم تنسب حالات مزاجية وسلوكية معينة إلا في العقد الأخير تقريبا منه لعمل جزيئات محددة. تطلق هذه الجزيئات، التي تعرف باسم الناقلات العصبية، من أحد أطراف الخلية العصبية، وتتفاعل مع بداية خلية أخرى. وبالتدريج بدأت تفسيرات منطقية لسلوكياتنا تظهر. ازدهرت تكنولوجيا ابتكار جزيئات تعزز عمل ناقلات عصبية معينة أو تضعفه لدرجة أن ثمارها - عقاري فاليوم وبروزاك، على سبيل المثال - أصبحت من أكثر العقاقير التي توصف حاليا؛ فأصبح علم عقاقير الأعصاب فرعا مربحا للغاية في صناعة الأدوية والتكنولوجيا الحيوية؛ إذ تقدر أرباحه بمليارات الدولارات.
أما علم الأورام - دراسة السرطان - فلم يصبح علما حتى أواخر القرن العشرين. فكان الاكتشاف المبكر لفيروس ساركوما الذي يصيب الدجاج
41
على يد بيتون روس بشيرا بنصف قرن من المزاعم والمزاعم المضادة. مثلا، لا تعتبر الفيروسات مسئولة عن إصابة الإنسان بالسرطان؛ ففيروسات الساركوما نادرة إلى حد ما؛ وأكثر أنواع السرطان شيوعا هو سرطان الأنسجة الطلائية - سرطان الأنسجة المبطنة للأعضاء مثل الثدي والرئة والأمعاء والقولون والرحم والبروستاتا - ولا توجد علاقة بين هذه الأمراض والفيروسات. كما أن بعض أنواع السرطان تكون متوارثة في العائلات، لذلك يبدو الأصل الجيني الاحتمال الأرجح. كلا، بل ثمة فيروسات تسبب السرطان، مثلا انظر إلى لمفومة بيركت،
42
وهو مرض متعلق بزيادة الوحيدات العدائية الذي يسببه فيروس إبشتاين بار. لا، يعتبر هذا استثناء هو الآخر. واستمر الأمر هكذا. لم يؤيد إلا عدد قليل من العلماء الجادين إحدى هذه الفرضيات بحماس؛ إذ لا توجد ببساطة أدلة مقنعة في أي من الجانبين. ثم في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بدأت الأمور تتحرك. ففي هذا الوقت اتضح أن أنواع السرطان، مثل أمراض أخرى شائعة، مثل مرض القلب والسكري - أمراض أخرى ترتبط بالفيروسات أحيانا - تنتج عن مزيج من الأسباب الوراثية والبيئية. يشمل العنصر الوراثي جينات مثل
BRCA1
و
BRCA2 ، التي يرتبط امتلاكها كثيرا بزيادة قابلية الإصابة بسرطان الثدي. وتتمثل العوامل البيئية في النظام الغذائي، والعوامل المعدية مثل الفيروسات،
43
والتلوث. يكون العامل الأخير هذا مسئولا عن الإصابة بسرطان الرئة بسبب دخان التبغ، وسرطان الدم بسبب الغبار الذري المشع.
حدث تقدم كبير عندما أمكن، أخيرا، ربط الدراسات التي تجرى حول تكاثر الخلايا السرطانية في المختبر ربطا مباشرا بتحليل أنواع السرطان التي تصيب الإنسان في التجارب السريرية. وحتى الآن، تحددت على الأقل ثلاث خطوات، تنتج من خلل في وظيفة بروتينات معينة ، تؤدي إلى الإصابة بالسرطان (جرى الاعتقاد لفترة طويلة أن السرطان مرض متعدد العوامل). تكون بعض البروتينات موروثة، مثل تلك التي تنتج من جيني
BRCA1
و
BRCA2 ، بينما تنشأ بروتينات أخرى من طفرة جينية يسببها أحد العوامل البيئية المذكورة آنفا. فتتسبب البروتينات المعيبة في المرحلة الثانية في تغلب الخلايا على الضوابط التي تحد عادة من تكاثرها.
44
أما المرحلة الثالثة فتتطلب بروتينات تضطلع بإمداد الدم للكتلة النامية من نسيج الورم؛ فدون العناصر الغذائية لا تستطيع الأورام السرطانية زيادة حجمها. يمكن رصد الأشكال المتغيرة من الجينات الأساسية في كل مرحلة لدى مرضى السرطان باستخدام ابتكار يعرف باسم تقنية رقائق الحمض النووي. كما أن معرفة الجينات المسئولة عن حدوث نوع معين من السرطان تعطي العلماء فرصة لإصلاح الوضع.
45
أصبح علم الأورام - تماما مثل علم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة أحد تطبيقاته، بالإضافة إلى علم الأدوية العصبية - علما من خلال شرح التغيرات الجزيئية وراءها.
تنقل الاكتشافات العلمية أحيانا بعض الأمراض من أحد فروع الطب إلى فرع آخر. فتحدث معظم الاضطرابات، كما رأينا، نتيجة تفاعل خفي بين الجينات والبيئة. منذ بضع سنوات، ظهر دور غير متوقع تماما للعدوى الميكروبية في الإصابة بقرح المعدة. فطالما اعتبر الضغط العامل الرئيسي الذي يؤدي للإصابة بالقرح؛ مثل قلق المرء على وظيفته، أو على تحصيل المال، أو حزنه على وفاة عزيز عليه أو مرضه. يكون الفرق بين الذين يصابون بالقلق والذين يستطيعون التعامل مع المآسي بهدوء دون أن تؤثر فيهم، وراثيا إلى حد ما؛ لكن ظهر جليا أن العدوى البكتيرية تمثل سببا حاسما في الإصابة بالقرح تماما مثل الضغط. كما تحدد الكائن المسئول عن هذا؛ وهي جرثومة تسمى «ملوية بوابية» تعيش بسعادة على وجه الخصوص في البيئة الحمضية للمعدة. أذكر هذا الاكتشاف، الذي له أهمية واسعة لأن القرحة يمكن أن تتطور لتصبح سرطانا، من أجل توضيح أن التطورات في البحث الطبي تكشف عادة صلات غير متوقعة، ومن أجل التأكيد مرة أخرى على الفوائد التي نحصل عليها من دراسة العدوى الميكروبية.
ينطبق الأمر نفسه على العلاجات؛ فقد يتضح أن أحد الأدوية المصنوع لمقاومة أحد الأمراض فعال في مقاومة داء لا علاقة له به تماما. فقد صنع دواء إيدوكسوريدين كعقار محتمل مقاوم للسرطان، واتضح أن له فعالية أكبر في مقاومة التهابات العين التي تسببها الفيروسات الهربسية. كما أن دواء كويناكرين عقار مضاد للملاريا يعتمد على مادة الكينين (وهي مادة طبيعية توجد في لحاء شجرة السنكونا)؛ كان يستخدم في تخفيف بعض أعراض مرض كروتزفيلد جاكوب،
46
الذي ارتبط بتناول لحم مصاب بالتهاب الدماغ الإسفنجي البقري. (4) علم الأحياء الجزيئية
أعود الآن للحديث عن أمثلة لفرضية صحيحة تحتم تعديلها في ضوء النتائج التجريبية الجديدة. وحتى نفهم ما يلي علينا العودة إلى الجزيئات.
في أثناء كشف العلاقة بين الدي إن إيه والبروتينات، أصبح من الواضح أن الشفرة التي تستخدم بها المعلومات الموجودة في الدي إن إيه من أجل تصنيع أحد البروتينات
47
لا تقرأ مباشرة من الدي إن إيه، بل عبر الآر إن إيه. يشبه الآر إن إيه الدي إن إيه في معظم صفاته،
48
فيما عدا أنه أقصر بكثير؛ فهو في طول البروتين تقريبا، الذي يكون أيضا في طول الجين.
49
تشبه الآلية التي ينسخ بها امتداد من الدي إن إيه ليتحول إلى آر إن إيه، جوهريا، آلية تضاعف الدي إن إيه.
50
ومن ثم عرف علماء الأحياء الجزيئية في ستينيات القرن العشرين الفرضية الأساسية في علمهم بأن «الدي إن إيه يصنع دي إن إيه، كما يصنع الدي إن إيه أيضا الآر إن إيه الذي يصنع البروتينات.» في الواقع أطلقوا على هذه الفرضة اسم «عقيدة» علم الأحياء الجزيئية، لكني سأتجنب استخدام هذه الكلمة لنفس سبب تجنبي استخدام كلمة «حقيقة» مسبقا. فتشير كلمتا «عقيدة» و«حقيقة» ضمنيا إلى الاعتقاد الديني، الأمر البعيد كل البعد عن جوهر العلم.
لم تظهر أي تجربة أجريت منذ هذا الوقت أن الدي إن إيه لا يصنع دي إن إيه، أو أن الدي إن إيه لا يصنع آر إن إيه، أو أن الآر إن إيه لا يصنع بروتينات. كما أن هذه الفرضية صحيحة حاليا تماما مثلما كانت منذ 40 سنة. إلا أن حقيقة أن جينات كثير من الفيروسات - مثل الحصبة والنكاف وداء الكلب وشلل الأطفال - تتألف من الآر إن إيه وليس الدي إن إيه، كانت تعني أن العلماء المتخصصين في الفيروسات كان عليهم إدراج نتيجة ملازمة للفرضية الأساسية. فبما أن فيروسات الآر إن إيه تستطيع استنساخ نفسها - داخل عائل نباتي أو حيواني مناسب - من ثم لا بد من إضافة عبارة «الآر إن إيه يصنع آر إن إيه». ومع ذلك، فإن الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الطرح الأصلي، والقائل بأن المعلومات بين العناصر الثلاثة الأساسية - الدي إن إيه والآر إن إيه والبروتين - تنتقل في اتجاه واحد فقط من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه، ومن الآر إن إيه إلى البروتين، يبدو صحيحا.
حدث أمر آخر بعد هذا؛ فبينما كان العلماء يدرسون سلوك الفيروسات بتفصيل أكبر - وهو بحث كان مدفوعا باحتمال أن الفيروسات تسبب السرطان - اتضح أن الآر إن إيه يصنع بالفعل دي إن إيه، في حالة فيروسات آر إن إيه معينة،
51
بالإضافة إلى صنع المزيد من الآر إن إيه والبروتينات (تسبب مثل هذه الفيروسات مرض السرطان من خلال صنع دي إن إيه من الآر إن إيه). تظل سلامة فرضية أن المعلومات تنتقل من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه ومنه إلى البروتين سارية، لكنها تحتاج حاليا إلى تنقيح؛ «فالدي إن إيه يصنع دي إن إيه، ويصنع أيضا آر إن إيه الذي يصنع البروتينات بدوره؛ كما أن الآر إن إيه يصنع آر إن إيه ويستطيع أيضا أن يصنع دي إن إيه.» وحتى الآن لم تناقض أي تجربة فرضية أن انتقال المعلومات بين الآر إن إيه والبروتين يحدث في اتجاه واحد فقط. تحدث مثل هذه التعديلات - إعادة صياغة أكثر دقة للفرضيات - طوال الوقت في علم الأحياء.
يرجع افتراض أن «الإنزيمات هي بروتينات» إلى أكثر من نصف قرن. فالإنزيم، كما تذكر، هو محفز بيولوجي؛ جزيء يعمل على تسريع التفاعلات بين الجزيئات الأخرى. فتحفز الإنزيمات عمليات مثل هضم الطعام، وانقباض العضلات، وتصنيع الدي إن إيه والآر إن إيه والبروتينات والدهون والكربوهيدرات في الجسم. فبدلا من أن تستغرق سنوات تحدث هذه التفاعلات في غضون ثوان؛ فمن دون الإنزيمات لا تستطيع الحياة على وجه الأرض كما نعرفها أن تستمر. فمنذ نحو 3,5 مليارات سنة، عندما ظهرت الكائنات الحية لأول مرة على سطح الأرض، على الأرجح كانت التفاعلات بين الجزيئات تستغرق سنوات لتحدث. ثم ظهرت فئة من البروتينات لديها نشاط تحفيزي، وأصبحت الأشياء أسرع. أما ما اتضح حاليا فهو أن بعض أنواع الآر إن إيه تتمتع بنشاط تحفيزي أيضا؛
52
فهي تسرع التفاعلات التي تنفصل بها أجزاء من جزيئاتها. في الواقع، إن كافة الإنزيمات التي شرحت مسبقا، والتي وصفت بعبارة «الإنزيمات هي بروتينات.» هي بروتينات. إلا أن هذه العبارة يجب تعديلها الآن فبما أن «الإنزيمات هي بروتينات؛ فإن الآر إن إيه يمكنه أيضا أن يكون محفزا.»
حتى عقد مضى تقريبا كان افتراض أن كل عوامل نقل العدوى - سواء كانت بروتوزوا أو فطريات أو بكتيريا أو فيروسات - تحتوي على دي إن إيه أو آر إن إيه، معترف بصحته. فنظرا لكون البروتوزوا والفطريات والبكتيريا كائنات خلوية، فإنها تحتوي بالطبع على كل من الدي إن إيه والآر إن إيه. وما حدث بعد هذا أن اتضح أن فئة من البروتينات، تدعى البريونات، معدية في حد ذاتها. والبريونات هي عوامل مسئولة عن انتقال التهاب الدماغ الإسفنجي البقري (مرض جنون البقر) ومرض كروتزفيلد جاكوب.
53
لذلك كانت هذه الفرضية تحتاج إلى تعديل. فمع ظهور معرفة جديدة، يجب تعديل التفسيرات، وتصبح أكثر شمولا، أو أقل. ولهذا تحديدا لا يمكن للعلم - الفرع المعرفي القائم على التجربة - افتراض «حقائق» مثلما يحدث في الرياضيات أو الفلسفة. فنظرا لكونه فرعا معرفيا تجريبيا، لا مفر من سعي ممارسيه طوال الوقت للعثور على عدسات أكثر وضوحا لاختبار الطبيعة من خلالها. وكلما زاد وضوح العدسة، زادت التفاصيل التي تظهر. ومع ظهور تفاصيل جديدة، تحتاج الفرضيات إلى تعديل. وهذا هو السبيل لتحقيق التقدم العلمي؛ البحث عن تفسيرات للعالم بتفاصيل أكثر.
خاتمة
إذا كانت الممارسة العلمية مستمرة منذ مئات السنين، ما الذي بقي لاستكشافه أو شرحه؟ يوصل العلماء الانجذاب إلى أضخم الكيانات في الكون وأصغرها؛ فينجذب علماء الفيزياء الفلكية إلى أبعد النجوم، وعلماء فيزياء الجسيمات إلى الجسيمات دون الذرية. يكون الفرق بين الاثنين في الحجم هائلا؛ فأقرب نجمة إلى شمسنا (بروكسيما سنتوري) تبعد نحو 4,2 سنوات ضوئية؛
54
كما تبعد أقرب مجرة (أندروميدا) عن مجرتنا (درب التبانة) نحو 1,5 مليون سنة ضوئية. ومن ناحية أخرى، تمثل مكونات الجسيمات الأولية - الميزونات والكواركات - التي تتكون منها الذرات، جزءا متناهي الصغر من حجم أصغر الجزيئات.
55
ومع ذلك، يوجد الهدف نفسه لدى علماء الفيزياء الفلكية والفيزياء الجزيئية؛ فكل منهما يبحث عن تفسير لحدث لا يقل أهمية عن نشأة الكون نفسه.
لا تكون تكلفة إجراء مثل هذا البحث زهيدة؛ فقد بلغت تكلفة مسبار فضائي حديث يقيس الإشعاع الميكروني بدلا من الضوء، 150 مليون دولار. هذا مبلغ زهيد نسبيا. فستقدر تكلفة تليسكوب فضائي سيسجل الأشعة تحت الحمراء، من المخطط إطلاقه في عام 2010، بنحو 2,8 مليار دولار.
56
كما أن ثمة تليسكوبا أوروبيا بصريا تقليديا بالغ الكبر يصمم حاليا - ربما يصل عرض مرآته إلى 60 مترا - ستكون تكلفة بنائه مليار دولار أمريكي، كما أن تكاليف تشغيله السنوية ستفوق كامل الميزانية التي ترصدها أوروبا لعلم الفلك.
57
ستستطلع تليسكوبات مثل هذه مولد النجوم والكواكب، وستستكشف التخوم البعيدة للكون. ونتيجة لها سنعرف المزيد عن الأحداث التي تلت الانفجار العظيم بفترة قصيرة (تعني «فترة قصيرة» نحو 500 ألف سنة). وستكشف لنا كذلك عما إذا كان الكون يتمدد بالفعل أم لا، وإذا كان كذلك، فما معدل حدوث ذلك.
يتمثل الهدف من استكشاف التفاعلات التي تحدث بين الجسيمات دون الذرية في معرفة ماذا حدث في غضون جزء من مليون المليون جزء
58
من الثانية بعد الانفجار العظيم. كانت التكلفة المبدئية المقدرة لمصادم هائل فائق التوصيل صمم من أجل تسريع الجسيمات المشحونة كهربائيا، مثل الإلكترونات والبروتونات ونظائرها في المادة المضادة، ثم ملاحظة تبعات تصادمها،
59
تبلغ نحو 4,4 مليارات دولار؛ وفي غضون بضع سنوات تضاعفت هذه التكلفة. بدأ حفر حفرة دائرية يبلغ محيطها نحو 54 ميلا في جنوب دالاس في تكساس، ثم توقف المشروع في عام 1993 بسبب تكلفته المرتفعة (أنفق بالفعل 2 مليار دولار حتى هذا الوقت). والآن عاد المشروع مرة أخرى.
60
وتخطط مجموعة من الهيئات الأوروبية بناء آلة مشابهة هي مصادم الهدرونات الكبير.
هل هذه التكاليف، التي يتحملها في النهاية دافعو الضرائب في العالم، مجدية؟ فهل معرفة أن الكون يشبه في شكله كرة قدم أمريكية مفرغة من الهواء (هذا الوصف مناسب للنسخة الأمريكية؛ أما بالنسبة لبقية الأماكن الأخرى نقول إنه يشبه كرة رجبي)، سيثري حياتنا؟
61
وهل إدراك أن مقابل كل جسيم له جاذبية يوجد جسيم مضاد، سيساعد في علاج السرطان؟ أعتقد أن الإجابة عن أول سؤالين هي نعم؛ وعن السؤال الثالث: ربما؛ فيستحيل توقع أي أجزاء من المعرفة العلمية سيؤدي في يوم ما إلى اكتشافات جديدة، وإلى تكنولوجيا جديدة. على أي حال، يؤمن كثيرون بفرضية أن «العلم ينتج التكنولوجيا، والتكنولوجيا تصنع الثراء، ويمكن استخدام جزء من هذا الثراء فيما بعد في دعم المزيد من العلم.» لكن مثلما أشرت في الفصل التاسع وفي بداية هذا الفصل،
62
هذه الحجة مفرطة في التبسيط، خاصة عندما تبدأ المبالغ التي تنفق على العلم في تخطي المنافع المحتملة.
بعدما نستكشف حدود الكون من ناحية، والتكوين الأساسي للمادة من ناحية أخرى، هل بذلك لن نجد أي شيء آخر لنكتشفه؟ ثمة من يرون أن المزيد من الاكتشافات مجرد تفاصيل، وأن العالم من حولنا سيمكن عما قريب شرحه باستخدام الفيزياء الأساسية فحسب؛
63
ويعارض آخرون هذا الرأي.
64
أنا أنحاز إلى وجهة النظر الثانية؛ فمنذ عقد واحد اكتشف جزيء ناقل للعدوى غير متوقع تماما؛ البريون. كيف لنا أن نتأكد من عدم وجود عوامل أخرى مسببة للمرض تختبئ على هذه الأرض؟ يبلغ عمر مبادئ علم الأحياء الجزيئية أقل من 50 سنة. ونحن لا نعرف أساس التفكير والذاكرة والحب والكره، كذلك نجهل طبيعة الأحلام وآلية الإبداع، ولم نتوصل حتى الآن إلى معرفة التفاصيل الجزيئية للفضول، فكيف تكمل النبضات التي تنتقل بين 10
65
وصلات عصبية في دماغنا بعضها بعضا؟ هل وصلنا بالفعل إلى حد من العجرفة يجعلنا نرفض مثل هذه المعرفة باعتبارها تافهة؟
هوامش
الجزء
الجدل الدائر: السعي الحالي
الفصل الثاني عشر
التلاعب بالجينات 1: الأطعمة المعدلة جينيا
لا يوجد جانب في علم الأحياء يشهد سعيا دائبا في عصرنا الحالي للتوصل إلى تكنولوجيا جديدة أكثر من جانب تعديل الجينات؛ جينات النباتات والحيوانات، وجينات نوعنا نفسه. وتسببت تبعات هذا البحث - المتمثلة في إنتاج أطعمة وأشخاص معدلين جينيا - في ظهور جدل كبير سأكون مقصرا إن أغفلت ذكره. ولهذا السبب، أضفت جزءا ثالثا إلى قصتي من أجل الحديث عن هذه الموضوعات.
ظهرت إمكانية عزل الجينات وإدخالها في كائنات خارجية - مثل إدخال جين بشري في خنزير، أو جين بكتيري في نبات القطن - نتيجة بحث مختلف تماما؛ هو البحث عن علاج للسرطان. فقد شهدت فترة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين إحياء لفكرة أن السرطان ربما تسببه الفيروسات. وكما رأينا في الفصل السابق، اتضح قبل هذا بأكثر من نصف قرن أن نوعا معينا من سرطان الدجاج يسببه نوع من الفيروسات، لكن ظلت هذه الملاحظة منسية حتى عام 1966 عند حصول مكتشفها العالم الأمريكي بيتون روس على ما يستحقه من تقدير عبر فوزه بجائزة نوبل. وبما أن هذه الجوائز لا تمنح إلا للأشخاص الأحياء القادرين على تسلمها بأنفسهم، كان من حسن الحظ أن بيتون روس كان رجلا يتمتع بالصحة؛ إذ استطاع الانتظار حتى بلغ السابعة والثمانين من العمر حتى يذهب في هذه الرحلة إلى ستوكهولم.
في أوائل سبعينيات القرن العشرين قرر الرئيس ريتشارد نيكسون أن باستطاعته الحصول على بعض رأس المال السياسي من خلال زيادة سخية في ميزانية المعهد الوطني للسرطان، أحد المعاهد الوطنية للصحة بالقرب من واشنطن، أكبر مركز أبحاث طبية في العالم؛ فتقرر أن تذهب الأموال إلى تمويل الأبحاث التي تهدف إلى تحديد سبب فيروسي للسرطان. جاءت النتيجة مختلفة تماما؛ فكما ذكرنا، اتضح أن عددا قليلا من أنواع السرطان تسببه إصابة فيروسية مباشرة. ومن ناحية أخرى ، اتضحت الآليات الأساسية التي تنمو بها الفيروسات داخل خلايا عائلها، وتندمج أحيانا في أحد كروموسوماته. فكانت معرفة كيف يحدث انتقال الجينات، من الفيروس إلى دي إن إيه الحيوان، هي التي مهدت الطريق أمام اكتشاف التكنولوجيا المطلوبة لإدخال جينات مأخوذة من أحد الأنواع في نوع آخر . لكن توجد مشكلة.
يتعرض العلم، مع دخولنا في الألفية الجديدة، إلى نقد مستمر من وسائل الإعلام، فينقلب البحث عن المعرفة بالسوء علينا؛ ففي أوروبا، يدمر المتظاهرون ضد الأطعمة المعدلة جينيا المحاصيل التجريبية، ويقولون إن بيئتنا في خطر وحياتنا مهددة. كما أن إمكانية استنساخ البشر تمثل بيئة خصبة للصحفيين. لم تعد التطورات التي تحدث في العلوم الفيزيائية تقلق العامة كثيرا في عصرنا الحالي؛ فقد خمد إلى حد كبير الجدل النووي الذي نشب في ستينيات القرن العشرين، ولم تعد تقلق أحدا حقيقة أن عدد الأقمار الصناعية للتواصل عن بعد التي تدور حول الأرض يجعل من الصعب على علماء الفيزياء الفلكية معرفة معلومات عن المجرات الموجودة فيما وراء حدود مجموعتنا الشمسية، أو أن كل قمر صناعي يطلق في الغلاف الجوي للأرض يحدث ثقبا صغيرا فيه. هل يوجد مبرر لمخاوفنا بشأن التكنولوجيا الطبية الحيوية الجديدة؟ من حق كل إنسان أن يكون له رأيه الخاص، خاصة إذا كان قائما على اعتناق معتقدات دينية بإخلاص. لكن إذا كانت الآراء قائمة على فهم خاطئ للحقائق، فإن الحل يكون بالتأكيد شرحا للمبادئ الأساسية على نحو أفضل، وبلغة بسيطة يمكن للجميع فهمها. صحيح أن وسائل الإعلام تقوم بعمل رائع، إلا أن قصصها تكون عادة محرفة ومتحيزة لاتجاه معين. فقد روجت إحدى الصحف الإنجليزية (ذا صنداي تايمز) لعدة سنوات - على خلاف كافة الأدلة العلمية - لفكرة أن مرض الإيدز ينتج عن تعاطي المخدرات، وأن الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري ليست السبب الرئيسي له. وظهر مرة أخرى رأي مماثل بشأن الإيدز في الأجزاء الجنوبية من أفريقيا، وأدى إلى خسارة آلاف الأرواح. تتمثل المشكلة في مثل هذه التقارير أنها تصل إلى قطاع أكبر من الجمهور مقارنة بالمقالات النقدية التي يكتبها العلماء. لهذا يتحتم علينا أن نحسن شرح تعقيدات العلم للعامة. وفي الفصلين اللذين يتألف منهما الجزء الثالث سأحاول أن أستعرض بحيادية موضوع الأطعمة والبشر المعدلين جينيا؛ إذ إن أحد أكثر الجوانب التي يساء فهمها في هذه التكنولوجيا الحديثة، ويظهر في كل مرة يذكر فيها استخدام الكائنات المعدلة جينيا، هو طبيعة المخاطر. (1) المخاطر
تتعلق المخاطر بالاحتمالات، وتتحكم الإحصائيات في الاحتمالات. افترض أن عيد ميلادك في شهر يناير، عندئذ فإن احتمال أن تقابل شخصا آخر عيد ميلاده في شهر يناير أيضا يكون 1 إلى 12؛ نظرا لوجود 12 شهرا في السنة. أما إذا كان عيد ميلادك في 27 من يناير (مثل موتسارت)، فإن احتمال أن يكون عيد ميلاد صديقك الجديد أو صديقتك الجديدة في اليوم نفسه يبلغ تقريبا 1 إلى 12 × 30، أي 1 إلى 360، نظرا لوجود 30 يوما في الشهر تقريبا.
1
وإذا كنت تعتقد أن عمر أحد معارفك أكبر أو أصغر من عمرك بعشر سنوات، فإن احتمال أن يكون عيد ميلاده في نفس يوم عيد ميلادك وفي نفس الشهر ونفس السنة يبلغ 1 إلى 12 × 30 × 10، أي 1 إلى 3600. وإذا كنت تعرف أنك ولدت في الساعة الخامسة صباحا، فإن احتمال أن يكون صديقك ولد في الساعة نفسها واليوم نفسه والشهر نفسه والسنة نفسها التي ولدت أنت فيها هو 1 إلى 12 × 30 × 10 × 24، أي 1 إلى 86400. بعبارة أخرى: كلما زاد تحديدك لتفاصيل عيد ميلادك، قلت فرص لقائك بشخص في مثل عمرك تماما. لا تعني الأرقام التي حسبناها للتو أنك لا بد أن تقابل 86400 شخص قبل أن تعثر على شخص ولد في الوقت نفسه في اليوم نفسه من الشهر نفسه والسنة نفسها التي ولدت فيها. فربما تنطبق هذه المواصفات على أول شخص تلتقي به. إلا أن احتمالات عدم حدوث هذا تقدر بنحو 86400 إلى 1. كما أن احتمالات عدم فوزك باليانصيب في المملكة المتحدة (ستة أرقام كل منها بين 1 و50، مع رقم «إضافي»)، تقدر بنحو 14 مليونا إلى 1. إن الاحتمال هو نقيض اليقين، وما ينطبق عليه ينطبق على المخاطر. فإن حساب مخاطر حدوث شيء ما لا يعني أن هذا الشيء سيحدث فعلا؛ وإنما يعبر هذا فقط عن احتمال أنه ربما يقع.
2
يكون احتمال وفاة أي شخص 1، لكن يعتمد احتمال وفاته في سن معينة بوضوح على هذه السن؛ ففي سن 16 يكون 1 من ألفين، وفي سن المائة يكون 1 من 2. يتفاوت كذلك خطر الوفاة إثر مرض معين إلى حد كبير . ففي أي نوع من أنواع السرطان يكون خطر الوفاة 1 من 4 (في الذكور) أو 1 من 5 (في الإناث). ويشكل سرطان الرئة نحو 1 من 4 من كافة أنواع السرطان التي تصيب الذكور، ونحو 1 من 6 من جميع أنواع السرطان لدى الإناث؛ ومن ثم يمثل خطر الوفاة إثر سرطان الرئة 1 من 4 × 4، أي 1 من 16 (فعليا 1 من 14) في الذكور، و1 من 5 × 6، أي 1 من 30 (فعليا 1 من 25) في الإناث. يعبر هذا عن المتوسط، فتكون النسبة أعلى لدى المدخنين؛ نحو 1 من 8 بناء على مقدار استهلاك الفرد من الدخان وجنسه. أرجو أن ينتبه المدخنون إلى أن خطر وفاتهم بسبب أزمة قلبية يكون أعلى بكثير من خطر الوفاة إثر الإصابة بسرطان الرئة. يلعب السن أيضا دورا في الإصابة بمرض السرطان؛ فيمثل خطر إصابة سيدة بسرطان الثدي - الذي يموت أقل من نصف السيدات بسببه حاليا - 1 من 11 عندما تكون المرأة في سن الخامسة والثمانين، ويكون في سن الأربعين تقريبا 1 من 220، وبين سن العشرين والثلاثين يكون 1 من 2165. لنفكر في التطعيم ضد الإصابة بالتهاب السحايا البكتيري؛
3
فيكون خطر إصابة طفل لم يحصل على التطعيم بمرض السحايا البكتيري نحو 1 من الألف. أما إذا حصل على التطعيم فتكون النسبة 1 من المائة ألف. كما تكون نسبة تسبب المصل في الإصابة بالمرض أقل من 1 في العشرة ملايين؛ فلم ترد أي حالات إصابة ناتجة عن التطعيم ضد التهاب السحايا من النوع «ج»، رغم حقيقة أن 14 مليون طفل يطعمون به في المملكة المتحدة. ونتيجة لبرنامج التطعيم يتلاشي تدريجيا الميكروب المسبب للمرض، كما أن عدد الحالات الجديدة في انخفاض. صحيح أن من بين هؤلاء الأطفال الذين يقدر عددهم بأربعة عشر مليون أصيب 16 ألفا
4
بأعراض جانبية؛ مثل نوبات دوار وصداع، لكنها تعتبر أمرا طبيعيا في أي علاج؛ كذلك حدثت 11 حالة وفاة،
5
لكن لم يكن أي منها بسبب الإصابة بالتهاب السحايا من النوع «ج» نتيجة للقاح.
6
هل قرار تطعيم طفلك أو عدم تطعيمه بمثل هذه الصعوبة فعلا؟
سأتحول الآن إلى الحديث عن خطر الوفاة جراء الإصابة بنوع جديد من مرض كروتزفيلد جاكوب (بديل مرض كروتزفيلد جاكوب) يقال إنه ينتج عن تناول لحم من ماشية مصابة بالتهاب الدماغ الإسفنجي البقري (المعروف باسم مرض «جنون البقر»). في ثمانينيات القرن العشرين حدثت حالات تفش خطيرة لهذا المرض في المزارع الإنجليزية. وكان السبب المرجح لانتشار المرض على هذا النحو ممارسة تغذية الماشية على بقايا الذبائح، مثل المخ، المأخوذة من ماشية أخرى أو من الأغنام. حدثت أول حالة وفاة من بديل مرض كروتزفيلد جاكوب في عام 1995؛ وطوال السنوات الخمس التالية سقط 70 ضحية أخرى لهذا المرض المميت. بعبارة أخرى: أكثر من نحو 10 حالات في السنة، من بين نحو 59 مليون نسمة؛ ومن ثم فإن احتمال الوفاة حاليا إثر الإصابة ببديل مرض كروتزفيلد جاكوب هو نفسه تقريبا احتمال الإصابة بصاعقة البرق؛ نحو 1 في 10 ملايين. وهذا احتمال ضئيل للغاية مقارنة بخطر الموت إثر حادث سيارة، الذي يبلغ تقريبا 1 في 8 آلاف. لكن علينا ألا نستخف بالخطر المستقبلي؛ ففترة حضانة بديل مرض كروتزفيلد جاكوب طويلة للغاية، ويتطور المرض على مدار عدة سنوات بعد تناول اللحم المصاب بمرض جنون البقر. كما أن عدد ضحايا هذا المرض في تزايد طوال الوقت، وفي غضون بضع سنوات يتوقع أن يصل العدد إلى حالة وفاة يوميا أو حتى أكثر، رغم أن بيع اللحوم التي يحتمل أن تكون مصابة بمرض جنون البقر قد توقف منذ عدة سنوات. بالطبع علينا ألا نغفل الأسباب المنخفضة الخطورة. فيعتبر مرض كروتزفيلد جاكوب مرضا مؤلما ومميتا على الدوام. وإذا أردنا تجنبه، فإن مهمة العلماء تتمثل في إخبارنا بطريقة فعل هذا. لكن إذا أقلع أي شخص عن تناول لحم البقر خوفا من الإصابة ببديل مرض كروتزفيلد جاكوب، فعليه أن يدرك نوع الخطر الذي يكمن وراء هذا القرار. فنظرا لذبح كل القطعان المصابة بجنون البقر في المملكة المتحدة - نحو مليونين ونصف مليون رأس من الماشية بحلول عام 1998 - فلم تعد حاليا نسبة الإصابة بمرض جنون البقر في المملكة المتحدة أعلى من نسبته في الأجزاء الأخرى من أوروبا؛ لذلك فإن تناول الهامبرجر في لندن لا يمثل خطرا أكبر من تناوله في فرانكفورت. إلا أن إجمالي التكلفة التي تحملها دافع الضرائب البريطاني نظير فشل حكومته في التصرف سريعا لم تكن زهيدة؛ نحو 3 مليارات جنيه إسترليني حتى يومنا هذا. وبينما يكون من الأسهل عادة إصدار حكم على الأمور بأثر رجعي من استباق الأمور، فهل يصعب حقا إدراك أن تناول لحم حيوانات مريضة للغاية وتترنح في فناء المزرعة حتى تنهار لن يكون على الأرجح أمرا جيدا؟
يختلف إدراك المخاطر باختلاف الثقافات، ومثال على ذلك عقار ديبو بروفيرا المانع للحمل. يؤدي هذا العقار مفعوله لدى النساء عند حصولهن على حقنة واحدة كل ثلاثة أشهر في العضل. ولأنه ينطوي على خطر كبير يتمثل في الإصابة بنزيف وأعراض جانبية أخرى، لم يعد يستخدم في معظم دول العالم المتقدمة. لكن هذا الأمر لا ينطبق على الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. فالسيدات هناك مستعدات لمواجهة احتمال الإصابة بمضاعفات نتيجة استخدام عقار ديبو-بروفيرا؛ لأن هذه المخاطر أقل بكثير من مخاطر عثور الزوج على أقراص منع الحمل أو لولب رحمي. فالأزواج يرمون بهذه الأشياء ويعرضون السيدات لحمل آخر من أجل إنجاب طفل لا يملك والداه المال الكافي لإطعامه؛ لذا من الأسهل إخفاء مكان أخذ الحقنة ومواجهة العواقب. مرت إحدى زميلاتي مؤخرا عبر قرية في جامبيا، في غرب أفريقيا. وذعرت عندما رأت سيارة جديدة لامعة تشق طريقها عبر الشوارع القذرة تعلن عن ماركة شهيرة للسجائر. كان المروجون يوزعون سجائر مجانية أيضا؛ وليس هذا فحسب، لكن كل علبة سجائر كانت تحتوي على كوبون يعطيك فرصة ربح هذه السيارة. يحدث هذا في قرية تفتقر إلى كافة سبل الراحة بداية من مياه الشرب النظيفة فصاعدا. تحدثت زميلتي إلى مجموعة من أهالي القرية؛ ألا يدركون أن التدخين يسبب السرطان؟ بلى ، كانوا يدركون المخاطر، لكنهم شعروا بأن سرطان الرئة لا يصيب إلا كبار السن، وأنهم على الأرجح سيموتون بسبب الملاريا أو الدوسنتاريا عند بلوغهم سن الخمسين. فبالنسبة لهم كان تدخين السجائر أحد المتع القليلة التي يجدونها في الحياة.
7
ففي رأيهم تعتبر الوفاة من السرطان رفاهية، وخطرا يستحق المجازفة .
النقطة التي أريد الإشارة إليها هي أن كل شيء نفعله يحمل قدرا معينا من المخاطر؛ الطعام الذي نأكله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي نتنفسه. فيمكن أن يكون عبور الطريق عملا محفوفا بالمخاطر. كما أن الجلوس تحت نخلة في المنطقة الاستوائية له مخاطره.
8
هل تتوقف عن السباحة لأنك ربما تصاب بتشنجات في معدتك وتغرق؟ وهل تتوقف عن استخدام الطائرات بسبب خطر التعرض للموت في إحدى الكوارث الجوية؟ إن السفر بالطائرة أقل خطرا من قيادة السيارة. ففي المملكة المتحدة في عام 1999 حدثت 11 حالة وفاة في حوادث جوية، و33 حالة في حوادث قطارات، و3423 حالة في حوادث الطرق؛ ففي مقابل كل 50 مليار كيلومتر تقطع جوا تحدث حالة وفاة واحدة، ومقابل كل 2 مليار كيلومتر يقطع بالقطار تحدث حالة وفاة واحدة، وأمام كل 0,3 كيلومتر تقطع بالسيارة تحدث حالة واحدة. بالطبع يعتمد احتمال التعرض للقتل جوا على اختيار خط الطيران؛ فمع أفضل الخطوط الجوية المعروفة في أوروبا وأمريكا الشمالية، يكون مجرد خطر التعرض إلى حادث جوي - وليس بالضرورة التعرض للوفاة - أقل من واحد في المليون؛
9
بينما في بعض الشركات العاملة حاليا في دول الاتحاد السوفييتي السابق، تزيد هذه النسبة 3 آلاف ضعف. ويحمل القلق بشأن هذه الأمور مخاطر أيضا؛ لأن القلق يؤدي إلى الضغط، والضغط أحد العوامل المساهمة في الإصابة بأمراض شائعة، مثل السرطان أو النوبة القلبية. ذكرت السفر كمثال لنشاط يحمل مخاطر كبيرة، فهل نتج عن سعي الإنسان المستمر للسفر على نحو أسرع ظهور أشكال ذات خطورة متزايدة؟ والإجابة هي لا، عند وضع عدد المشاركين فيه في الاعتبار. وتعتبر أكثر الوسائل الشائعة حاليا للسفر داخل القارة في أوروبا القطار أو السيارة؛ فقبل هذا كانت تستخدم العربة التي تجرها الخيول ، فكانت سرعة السفر أقل بكثير. ومع ذلك فإن السيارات والقطارات أكثر أمانا من المركبات المكتظة بالركاب التي تجرها الخيول التي تترنح على طول الطرق الوعرة. كذلك، فإن البواخر العابرة للمحيطات أكثر أمانا من المراكب الشراعية التي كانت موجودة في السابق، والطائرة النفاثة أكثر أمانا من منطاد زبلين. وفيما يتعلق بالنقل العام، تماشى سعي الإنسان لتحقيق الأمان مع بحثه عن سرعة أكبر، وأنا أعتقد أن هذا ينطبق على الطعام أيضا. (2) الحاجة لأطعمة جديدة
أدى البحث الناجح عن تحسينات في الرعاية الصحية والصحة والنظافة العامة على مدار بضع مئات السنين الماضية إلى انخفاض معدل وفيات الأطفال وزيادة متوسط العمر المتوقع. ونتيجة لهذا يزيد عدد سكان العالم بمعدل أسرع من أي وقت مضى؛ فعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة وحدها زاد العدد أكثر من الضعف - من مليارين ونصف مليار إلى 6 مليارات نسمة - ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد على مدار السنوات الخمسين القادمة بنحو 3 مليارات نسمة أخرى. تحدث النسبة الأكبر من الزيادة في أفقر دول العالم، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية،
10
رغم ارتفاع معدلات وفيات الأطفال في هذه المناطق. وإذا لم تكن أساليب جديدة للزراعة قد اخترعت، كانت هذه الدول ستفشل في توفير الغذاء لسكانها على نحو أسوأ من الموجود حاليا؛ إذ يعاني أكثر من 800 مليون شخص
11
من نقص في أكثر من 300 سعر حراري - ما يعدل وعاء من الأرز - يوميا؛ ويموت نحو 40 ألف شخص، نصفهم من الأطفال، يوميا بسبب سوء التغذية. تمثل المياه والأرض المناسبة العوامل الرئيسية التي تحد من إنتاج الطعام في العالم الثالث، كما تزيد الخسائر الناتجة عن الفساد وقلة الكفاءة الأمر سوءا. يجب زيادة البحث عن أشكال جديدة من الطعام تزيد الإنتاج إذا لم نكن مستعدين لتعريض سدس سكان العالم لحوادث من المجاعات الجماعية. لحسن الحظ أصبحت تقنيات تعديل جينومات النباتات والحيوانات، التي تم التوصل إليها حاليا، جاهزة للاستخدام. بالطبع يجب تشجيع إنتاج محاصيل معدلة جينيا، مثل القمح والذرة والشلجم (الكانولا) والقطن وبنجر السكر والبطاطس - خاصة لاستخدامها في الدول الفقيرة في العالم - أو على الأقل تقييمها، وليس منعها.
إن الحجة التي تقول إنه يوجد، على مستوى العالم، طعام يكفي في الوقت الحاضر خاطئة. فمن غير الواقعي أن نتوقع من دول أمريكا الشمالية وأوروبا، القادرة على إنتاج فائض من الحبوب والأطعمة الأخرى، توزيع المحاصيل بانتظام على الدول ذات الإنتاج المنخفض؛ فكونها تفعل هذا في أوقات الأزمات أمر محمود. ولأجل احترامها لذاتها فقط، يجب مساعدة بعض من الدول سالفة الذكر في زيادة إنتاجها الزراعي. ففي الوقت الحالي يعتبر إنتاج المحاصيل في معظم أنحاء القارة الأفريقية الأقل في العالم؛ فعلى سبيل المثال، يقدر إنتاج محصول الذرة بنحو 1,7 طن للهكتار، ويبلغ المتوسط العالمي 4 أطنان. أما إنتاج محصول البطاطا، التي تعتبر الغذاء الرئيسي لكثير من الأفارقة، فيقدر بستة أطنان للهكتار، بينما المتوسط العالمي 14 طنا (ويصل في الصين إلى 18 طنا). ما السبب في مثل هذا الإنتاج المنخفض؟ بالطبع يرجع هذا جزئيا إلى الطقس - كوجود فترات جفاف طويلة - لكن أكثر من 50٪ من المحاصيل تدمر سنويا بسبب النمو المتزايد للحشائش الضارة وهجوم الفيروسات والعفن والآفات الحشرية. ونتيجة لهذا تحتاج أفريقيا إلى استيراد أكثر من 25٪ من استهلاكها من الحبوب.
12
وفي روسيا يفقد تقريبا نصف محصول البطاطس بسبب ما يصيبه من دمار بفعل خنفساء كولورادو ومرض اللفحة المتأخرة الفطري؛ وأصبح نقص البطاطس يمثل مشكلة خطيرة طوال العقد الماضي؛ هذا لأن سياستي «البريسترويكا» و«الجلاسنوست» التي منحت كل فرد في الاتحاد السوفييتي السابق حرية ديمقراطية، أدت إلى سوء حال جموع الشعب كثيرا من الناحية الاقتصادية، ودفعتهم إلى الاعتماد على أطعمة أساسية زهيدة الثمن، مثل البطاطس. ربما يسعد الروسيون بقبول المنتجات المعدلة جينيا، لكن ثمة شعوب أخرى تكون أقل إذعانا. فرغم ما تعاني منه مناطقهم من عجز، دخلت مجموعة من الدول الأفريقية، بقيادة إثيوبيا، في معركة قانونية ضد الدول المصدرة للحبوب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن حق الدول الأفريقية في حظر استيراد الطعام المعدل جينيا إذا لم تره آمنا؛ بالتأكيد يرجع القرار إليهم، لكن كنا نأمل أن يكون هذا مبنيا على أدلة علمية ، وليس على أساس هوى سياسي.
ماذا عن الدول التي تنتج ما يكفي لاستخدامها الخاص؟ ربما تدعي الهند حاليا أن لديها اكتفاء ذاتيا - رغم حقيقة أن 30٪ من السكان يعيشون في فقر مدقع - إلا أن إنتاجها الزراعي الحالي لن يستطيع تحمل الزيادة المتوقعة في عدد سكانها؛ من مليار نسمة حاليا إلى نحو مليار ونصف مليار نسمة في غضون 30 سنة. حاولت أنديرا غاندي ببسالة الترويج لتنظيم الأسرة على مدى عدة عقود ماضية، باستخدام إجراءات مثل توزيع مئزر مجاني على كل رجل يوافق على إجراء عملية قطع للقناة المنوية؛ لكن فشلت محاولاتها، ولم يتغير الوضع كثيرا منذ ذلك الحين. فيصعب إقناع الناس بتغيير نمط حياتهم إذا لم يعتادوا السعي للتجديد، الذي تتسم به الحياة في العالم الغربي. لم ينجح تنظيم الأسرة في الصين إلا بسبب حظر إنجاب طفل ثان. ورغم أن الهند تحتل المرتبة الأولى أو الثانية على مستوى العالم في إنتاج الأرز والقمح واللبن والسكر والشاي والسوداني والفواكه والخضراوات، يقل محصولها عن المتوسط العالمي بنحو من 20 إلى 40٪. فعلى سبيل المثال، يبلغ إنتاجها من الأرز 1,9 طن للهكتار، بينما يبلغ الرقم العالمي 3,7، وتصل الصين إلى ما يقرب من 6 أطنان.
13
كما أن محصولها من الفول السوداني يبلغ 900 كيلوجرام للهكتار، أما المتوسط العالمي فيقدر بنحو 1500 كيلوجرام للهكتار، ويصل محصول الولايات المتحدة الأمريكية إلى 3 آلاف كيلوجرام للهكتار. تحدث كثير من هذه التفاوتات بسبب مشكلات المناخ بالإضافة إلى الاختلافات في الكفاءة الزراعية، إلا أن هذا يجعل البحث عن بذور جديدة، تقاوم الجفاف مثلا، أكثر إلحاحا. تتمثل إحدى الصعوبات الأخرى التي تعاني منها الهند - مثل ورثة الاتحاد السوفييتي - في إهدار منتجاتها وفسادها؛ فيفقد من 20 إلى 30٪ من الفاكهة والخضراوات حتى قبل وصولها إلى السوق. فإذا استطاعت التعديلات الجينية زيادة المحصول وتقليل الخسارة، ألن يكون استغلاها هدفا يستحق العناء؟ أصبحت مثل هذه التحسينات في علم الزراعة ممكنة حاليا، ومن غير الملائم بالتأكيد أن يقنع المجادلون الجاهلون بالموضوع الشعب بوجه عام بتجاهل إنجازات العلماء. (3) مخاطر تناول أطعمة معدلة جينيا على الصحة
ظهرت شكوك بشأن سلامة النباتات المعدلة جينيا. إلا أن تحسين جودة المحاصيل باستخدام الهندسة الحيوية - لمقاومة الصقيع أو الجفاف، والفساد أو الأمراض، والحشرات أو الحشائش الضارة - لا يختلف كثيرا عن تهجين النباتات أو الماشية الذي مارسه الإنسان منذ 10 آلاف سنة؛ فالفلسفة واحدة. ويتمثل الاختلاف الوحيد في أن تقنية إنتاج أطعمة وحيوانات معدلة جينيا تعتمد على إدخال جينات معينة، ندرك وظيفتها، في كائن آخر. أما تقنية التهجين فتتمثل في خلط الجينات دون أي معرفة بالنتيجة. يستغرق استيلاد أجيال جديدة من الحيوانات أو النباتات سنوات عديدة؛ أما إدخال جين في بويضة حيوان أو بذرة نبات فيستغرق أقل من ساعة. وأرى أن تغيير جينات النباتات بطريقة أو بأخرى يكون أقل دمارا للصحة من تناول أطعمة نمت في حقول رشت بمبيدات حشرية.
إذا كان إدخال الجينات في أحد الكائنات أكثر فاعلية في تغيير تركيبه الجيني من عملية التهجين التقليدية، فلماذا كل هذه الجلبة؟ حسنا، أولا يقول المنتقدون إن ثمة خطورة من أن المحصول المعدل جينيا، سواء أتى إلى طاولتك في صورة شريحة من الخبز أو قطعة بطاطس مخبوزة أو معجون طماطم أو وعاء من الأرز، سيصيبك بالمرض. لماذا؟ فإذا كان الجين الذي أدخل هو أحد جينات القمح أو البطاطس أو الطماطم أو الأرز، فإن خطر الإصابة بالمرض جراء أكل هذه الأطعمة لا يزيد عنه عند تناول خبز أو بطاطس أو طماطم أو أرز غير معدل. أما إذا أدخل جين غريب، لميكروب مثلا، فإن الخطر يكون أكثر لكنه يظل ضئيلا للغاية، لماذا؟ لأن الجين هو جزء من الدي إن إيه، وهو ينتج البروتين. يوجد الدي إن إيه والبروتينات في كل الأطعمة وتفكك إلى منتجات غير ضارة - النيوكليوسيدات في حالة الدي إن إيه، والأحماض الأمينية في حالة البروتينات - قبل امتصاصها في مجرى الدم. تشبه نيوكليوسيدات الجراثيم وأحماضها الأمينية - والخاصة بالنباتات أيضا - تلك الموجودة لدى الإنسان وكافة الحيوانات الأخرى. وأما ما يجعل أحد جزيئات الدي إن إيه أو البروتين مختلفا عن غيره فهو ترتيب النيوكليوسيدات داخل الدي إن إيه ، وترتيب الأحماض الأمينية داخل البروتين. ومن الصحيح أنه في بعض الأحيان يصيبنا بروتين غريب على أجسامنا، مثل ذلك المأخوذ من أحد النباتات أو الجراثيم، بالمرض بسبب الاستجابة المناعية قبل تحلله بالكامل داخل الجهاز الهضمي. وثقت ردود الفعل التحسسية من هذا النوع لبروتينات توجد في أطعمة، مثل الفول السوداني والشكولاتة ، أو منتجات مصنوعة من القمح، جيدا؛ فهي تحدث لبعض الأشخاص أكثر من البعض الآخر. ومع ذلك، حتى الآن لا يبدو أنه جرى تسجيل ردود فعل تحسسية تجاه بروتين صنعه جين أدخل عن قصد في أحد النباتات. إن آلية إحداث رد فعل مناعي من خلال بروتين في الأمعاء تماثل، بالمصادفة، طريقة عمل اللقاحات الشفهية، مثل لقاح شلل الأطفال. وللأسف، تتكون معظم اللقاحات الأخرى من بروتينات لا تعمل على هذا النحو؛ ومن ثم لا بد من أخذها عن طريق خدش الجلد أو الحقن في مجرى الدم حتى تكون فعالة؛ ليت الأمر كان بخلاف هذا.
إن الجراثيم التي لا تتحلل في الأمعاء هي الجراثيم المتماسكة والمعدية؛ هذا لأن لديها طبقة واقية من جزيئات خاصة تغطيها. هذه الجراثيم، مثل البكتيريا الإشريكية القولونية والسالمونيلا تيفيموريم، هي التي تسبب التسمم الغذائي. أما الجراثيم الأخرى، مثل بكتيريا الضمة الكوليرية والبكتيريا الوتدية الخناقية، فتؤدي إلى أمراض أسوأ. في كل حالة يكون من الضروري هضم الجرثومة بأكملها، وليس أحد بروتيناتها أو حمضها النووي، حتى تسبب المرض. ويعتبر خطر الإصابة بالمرض من تناول أطعمة معدلة جينيا أقل بكثير من خطر تناول طعام بدأ يفسد بسبب تلوث جرثومي. في الواقع، إن الهدف من أحد أنواع الطماطم المعدلة جينيا هو زيادة عمرها التخزيني؛ أي الفترة السابقة على بدء فسادها. تذكر أن معظم الأطعمة، مهما كانت طازجة، تحتوي على بعض البكتيريا فيها، ويحدد فحسب المعدل الذي تبدأ فيه بالتكاثر تاريخ «صلاحيتها». إذن هل من الآمن تناول الأطعمة المعدلة جينيا؟ أنا أعتقد أنها آمنة مثل أي طعام آخر. زاد إنتاج الأطعمة المعدلة جينيا من 1,6 مليون هكتار تزرع في جميع أنحاء العالم منذ بضعة أعوام إلى 40 مليون هكتار مع مطلع هذا القرن. ومنذ ذلك الحين يتناولها الناس يوميا في جميع أنحاء كندا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والصين وأستراليا، دون الإبلاغ عن أي آثار جانبية حتى الآن. ومن جانبي أنا مستعد للانضمام إليهم وتناول أي أطعمة معدلة جينيا من أي نوع تحدثنا عنه تريد تقديمه لي .
على العكس من ذلك، قد يكون تناول أطعمة معدلة جينيا معينة مفيدا للصحة. يكفينا ذكر ثلاثة أمثلة عن هذا. فيساعد مركب يسمى بيتا-كاروتين، يوجد في الجزر وخضراوات أخرى، في منع الإصابة بالعمى لأنه يتحول داخل الجسم إلى فيتامين «أ»، وهو جزيء يلعب دورا مهما في عملية الإبصار. يقال أيضا عن البيتا-كاروتين إنه يقوي جهاز المناعة ويقاوم مرض القلب والسرطان. تحتوي الطماطم، التي تعتبر أحد أكثر أنواع الخضراوات التي يتناولها الناس على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، على كميات قليلة نسبيا من البيتا-كاروتين، ويمكن عن طريق التلاعب الجيني زيادة محتواها من البيتا-كاروتين ثلاثة أضعاف، وبمجرد أن يصبح هذا النوع من الطماطم متاحا تجاريا، سيمثل «غذاء صحيا» حقيقيا. وبدلا من تعزيز البيتا-كاروتين لماذا لا ندخل فيتامين «أ» نفسه في الأطعمة الشائعة؟ نحصل في الوقت الحالي على فيتامين «أ» بالأساس من تناول منتجات الأسماك باهظة الثمن، مثل زيت كبد الحوت. ونظرا لأن الأرز يمثل أحد الأطعمة الأساسية لدى نصف سكان العالم تقريبا، فإنه يمثل أحد الأهداف الواضحة. سيكون تعديل الأرز حتى ينتج فيتامين «أ» أمرا ملائما للغاية بسبب ارتفاع نسبة العمى في أجزاء من آسيا يزرع الأرز فيها ويتناوله الناس؛ فيصاب نحو ربع مليون طفل في جنوب شرق آسيا بالعمى نتيجة لنقص فيتامين «أ». ومن ثم فإن التقرير الذي يقول إن العلماء تمكنوا من إنتاج نوع من الأرز يحتوي على بروفيتامين «أ»، وهو جزيء يتحول بسهولة إلى فيتامين «أ» في الجسم، يبدو مشجعا. ومع ذلك، من ناحية فاعلية التكلفة، يصعب التغلب على جرثومة تدعى «سبيرولينا» تنمو في البرك الموجودة في المنطقة الاستوائية؛ فلا يكلف نمو هذا الكائن فعليا أي شيء، وعند إعطاء بضعة جرامات مجففة منه لطفل يعاني من حالة شديدة من سوء التغذية يحصل على كل مقدار فيتامين «أ» - بالإضافة إلى الحديد واليود وفيتامين «ب
12 » وغيرها من المغذيات الزهيدة المقدار - الذي يحتاج إليه حتى يتماثل للشفاء تماما. يتعلق مثالي الثالث بالداء البطني «حساسية القمح»، وهو اضطراب في الجهاز الهضمي يصيب عددا يصل إلى فرد واحد في كل 300 فرد في دول العالم المتقدم (لا نعرف الأرقام في الدول النامية). ينتج هذا المرض من تناول بروتين يدعى الجلوتين يوجد في الأطعمة المصنوعة من الشعير والقمح والجاودار (لكن ليس المصنوعة من الأرز أو الذرة). يتسبب هذا البروتين لدى المصابين بالحساسية من الجلوتين في رد فعل مناعي (تحسسي)، يؤدي إلى تدمير الخلايا المعوية. قد يكون رد الفعل تجاه الجلوتين شديدا؛ فإن تناول قطعة واحدة من البسكويت الرقيق كل أسبوع يكفي لإصابة الأطفال المصابين بهذه الحساسية بالقيء والإسهال. ويتمثل أحد سبل التغلب على هذه المشكلة في إزالة مادة الجلوتين من الأطعمة الشائعة (وقطع البسكويت الرقيق)؛ وهذا عمل شاق ومكلف. وربما يكون لتغيير تركيب الحبوب المزروعة باستخدام التعديل الجيني بحيث تحتوي على بروتين الذرة غير السام بدلا من جلوتين القمح السام، فائدة واضحة على قطاع عريض من الناس؛ ويجري حاليا العمل على مثل هذه التجارب. (4) أخطار الأطعمة المعدلة جينيا على البيئة
تتمثل الحجة البيئية المناهضة لانتشار الأطعمة المعدلة جينيا فيما يلي. هذه التكنولوجيا الجديدة «غير طبيعية» ولهذا السبب وحده لا بد من تحجيمها؛ فالطرق العضوية في الزراعة هي التي لا بد لنا من تشجيعها. لاحظ أن كلمة «عضوي» كانت تعني في الأصل غياب الملوثات غير العضوية، مثل النترات، وتجنب الأسمدة غير العضوية، مثل فوسفات الأمونيوم. أما الآن فقد اتسع استخدام الكلمة لتستثني أي منتجات مصنعة، مثل قاتل صناعي للحشائش الضارة أو مبيد للحشرات، بصرف النظر عن حقيقة أن مثل هذه العوامل هي جزيئات عضوية، وليست غير عضوية. الأهم من هذا، يوجد تناقض واسع النطاق في تعريف الأطعمة العضوية؛ ففي المكسيك يمكن تسميد المحاصيل بمياه الصرف الصحي البشري واعتبارها عضوية؛ أما في أماكن أخرى فلا يمكن أن يحدث هذا. وفي المملكة المتحدة يمكن إعطاء الخنازير مضادات حيوية واعتبارها عضوية، لكن لا ينطبق هذا على الدجاج، وهكذا. ورغم هذه التناقضات، لا يوجد عيب في الهدف العام المتمثل في محاولة تغذية العالم على محاصيل مزروعة عضويا. تتمثل المشكلة الوحيدة في عدم نجاح هذا الأمر؛ فتكون المحاصيل أقل حجما والتكلفة أكثر ارتفاعا.
14
تمثل الزراعة العضوية رفاهية تتمتع بها الطبقات الثرية في غرب أوروبا (يزرع 3 ملايين هكتار)، وفي أستراليا (1,7 مليون هكتار)، والولايات المتحدة الأمريكية (مليون هكتار)، وربما تحقق العودة إلى استخدامها نجاحا على نطاق عالمي - بالطبع كانت أساليب الزراعة كلها في الأصل عضوية - فقط إذا كان تعداد السكان في العالم في حالة انخفاض حاد. إلا أنه يشهد بدلا من ذلك ارتفاعا مستمرا (رغم أنه ربما ليس بالسرعة المتصورة في وقت ما). وحتى المؤيدون للزراعة العضوية تساورهم بعض الشكوك. إليك ما قاله أحد المؤيدين النموذجيين: «استقلت في العام الماضي من منظمة السلام الأخضر بسبب غضبي من إصرارهم بتزمت على أن كل الأشياء المعدلة جينيا سيئة والأشياء العضوية جيدة ... فقد اشتريت مؤخرا بعض من عيدان الكرفس العضوية باهظة الثمن للغاية ورميت معظمها لأنها كانت مليئة باليرقات التي أكلت نصفها. لم أكن أقدر على إعادتها وإخبارهم بأنهم كان يجب عليهم استخدام المزيد من المبيدات الحشرية، أليس كذلك؟» على أي حال، تحتوي النباتات على مبيدات حشرية «طبيعية» - وهي جزيئات تدافع عنها ضد المفترسات - توجد في الطعام سواء كان مزروعا عضويا أم لا؛ وقد خضعت نصف هذه الجزيئات لاختبارات لاحتمال كونها مواد مسرطنة وثبت هذا بالفعل. مرة أخرى، اتضح أن أكثر من نصف مكونات القهوة المحمصة التي خضعت للاختبار لديها خصائص يحتمل تسببها في الإصابة بالسرطان. بالطبع بوجه عام يكون تركيز هذه الجزيئات في الطعام الذي نتناوله منخفضا للغاية بحيث لا يسبب مشكلة، لكن الخطورة تظل موجودة.
فيما يتعلق بالبيئة، فإن زراعة محاصيل تقاوم الجليفوسات، مثلا، أو تحتوي على السم المستخرج من البكتيريا الممرضة للحشرات (سنتحدث عن هذا بعد قليل)، تفيدها على نحو مباشر. على أي حال، ألا نستخدم ثمار التكنولوجيا الحيوية في المنزل والحديقة طوال الوقت دون وجود عواقب خطيرة؟ فإذا كانت لديك رقعة مزروعة خضراوات، هل أنت متأكد من عدم لجوئك قط إلى أي إجراءات من أجل القضاء على الحلزون الذي يتغذى على الخس والكرنب الذي تزرعه؟ وإذا كنت تملك حيوانا أليفا، ألم تستخدم أبدا دواء «فرونت لاين» (فيبرونيل) أو دواء «أدفنتيج» (إيميداكلوبريد) من أجل القضاء على البراغيث التي تصيب قطتك، أو دواء «إنترسيبتور» (ميلبيمايسين أوكسيم) من أجل القضاء على الديدان التي تصيب كلبك؟ ألن تستخدم أدوية مشابهة إذا اكتشفت إصابتك ببراغيث أو ديدان؟ أمتأكد من أنك لم تستخدم رشا للذباب في المناخ الحار، أو تستخدم - إذا كنت تعيش في إحدى الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية - الهكسافلوميرون أو مسحوق بيرميثرين ضد النمل الأبيض الذي يمكنه تدمير أساسات منزلك إن لم تفعل هذا؟ يأتي رد المنتقدين على هذا: أجل، لكن هذه كلها إجراءات قصيرة الأمد؛ فهم يرون أنهم لا يغيرون البيئة على نحو دائم. لكن أليس هذا ما يفعله الإنسان بالضبط منذ بدأ في تقطيع الأشجار، وتربية حيوانات أليفة، وحراثة الحقول منذ عصر الهولوسين فصاعدا؟ هل تعتقد حقا أن البيئة كانت تشبه حينها ما هي عليه في عصرنا الحديث ولو من بعيد؟ أعتقد أن التدمير المتعمد لمساحات شاسعة من الغابات المطيرة الطبيعية أمر مستهجن؛ فهو لا يؤدي فقط إلى خسارة أنواع قيمة من النباتات والحيوانات، بل إلى زيادة مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من خلال منع امتصاص أوراق الأشجار له؛ ومن ثم يسهم هذا في الاحترار العالمي عبر تأثير «الصوبة الزجاجية». ولأن ثاني أكسيد الكربون يطلق باستمرار في الغلاف الجوي نتيجة للأنشطة التي يمارسها الإنسان،
15
فيؤدي الافتقار إلى إعادة امتصاصه عبر قطع الأشجار إلى تغير واضح في درجة الحرارة. على سبيل المثال، في حوض نهر الأمازون وحده، أصبح معدل تضاؤل حجم الغابات المطيرة مثيرا للقلق؛ ففي عام واحد فقط (1996) فقد نحو 18 ألف كيلومتر مربع، ويضاف إلى ذلك مساحة من 10 آلاف إلى 15 ألف كيلومتر مربع من أوراق الأشجار نتيجة لتقطيع الأشجار داخل الغابة نفسها. ومع ذلك، فإن مثل هذا العبث بالبيئة لا يشبه الاستعاضة عن الذرة بطيئة النمو بنوع سريع النمو.
تشهد أوروبا حاليا احتجاجا عنيفا بشأن نبات تفل العنب؛ فلا يمكن لأي مسافر عبر أوروبا أو أمريكا الشمالية ألا يلاحظ الحقول ذات اللون الأصفر الزاهي في بداية فصل الصيف، وهذا نبات الشلجم أو الكانولا، أحد أقارب نبات الخردل؛ حيث حل نبات الشلجم تدريجيا محل محاصيل الحبوب في نصف الكرة الشمالي، ومنذ ذلك الحين بدأت أسعار هذا النوع من الحبوب ينخفض نتيجة لفرط الإنتاج. يتسم الشلجم بغناه بالزيوت، التي تستخدم في أطعمة الحيوانات، وفي صنع السمن الصناعي، وزيوت الطهي ومنتجات أخرى. وعند اكتشاف أن معظم حبوب الشلجم «الخالية من التعديل الجيني» التي زرعت في أجزاء من أوروبا كانت تحتوي بالفعل على نسبة مقدارها نحو 1٪ من الحبوب المعدلة جينيا،
16
اشتد غضب المحتجين. فتحدثوا بغضب عن الأخطار المحتملة على البيئة وبدءوا في تدمير الحقول. ولم يكونوا بحاجة إلى فعل هذا؛ فمن أجل تهدئتهم أصدرت الحكومة البريطانية وحكومات دول الاتحاد الأوروبي أمرا بتدمير المحاصيل - 12 ألف فدان في المملكة المتحدة وحدها - ودفعت تعويضا للمزارعين؛ فقد طغى الخوف من فقدان الأصوات الانتخابية على إرهاق الإقناع وصعوبته؛ فهذه في النهاية مجرد أموال دافعي الضرائب التي تعوض ضعف الوزراء. ومع ذلك لم يكن يوجد أي دليل على أن بذور الشلجم المعدلة جينيا تشكل تهديدا على البيئة. ماذا كانت طبيعة محتوى البذور المعدلة جينيا التي بلغت نسبتها 1٪؟ كانت تحتوي على جين يجعل النبات - سواء كان شلجما أو ذرة أو صويا - يقاوم مبيد الأعشاب الضارة الذي يسمى جليفوسات. بعبارة أخرى: يؤدي التعديل الجيني إلى مجرد «حماية» النباتات التي تزرع ضد منع نموها نتيجة لاستخدام الجليفوسات. يعتبر الجليفوسات مبيدا آمنا ورخيصا وفعالا للأعشاب الضارة، لكنه ليس انتقائيا ويقتل كل النباتات النامية؛ ومن ثم يكون استخدامه في الزراعة محدودا، إلا إذا أمكن التوصل إلى كائنات تقاومه؛ وهذا ما حققته تكنولوجيا التعديل الجيني بالضبط. فمثل هذه المحاصيل المعدلة جينيا لا تمثل تهديدا على الحيوانات أو البشر أكثر من الجليفوسات نفسه؛ يرجع هذا إلى أن التمثيل الغذائي لدى الحيوانات يختلف عن الموجود لدى النباتات من حيث التفاعلات التي يمنعها الجليفوسات، فلا تتأثر الحيوانات ولا البشر لا بتركيب جينات مقاومة الجليفوسات ولا بمنتجاتها.
ماذا لو انتقل جين المقاومة بشكل أو بآخر إلى محاصيل أخرى؟ سيكون هذا بالتأكيد أمرا جيدا؛ إذ سيجعلها تتأقلم بالمثل بسهولة مع رشها بمبيد الأعشاب الضارة. صحيح أنه يوجد احتمال لنمو «أعشاب فائقة» معدلة جينيا، لا تتأثر هي نفسها بالجليفوسات، لكن خطرها لن يكون أكبر من خطر تحول الأعشاب لتصبح مقاومة لأي مبيد آخر للأعشاب يستخدم حاليا. ومع ذلك يخضع ذلك الجيل غير المتعمد من الأعشاب الفائقة للمراقبة بعناية.
17
لا يزيد الخطر من تغيير البيئة عبر استخدام محاصيل معدلة جينيا عن الخطر الذي تسببه طرق الاستنبات التقليدية. فإذا انتقلنا لدقيقة من الافتراضات بشأن تكنولوجيا التعديل الجيني إلى الحقيقة، سيصبح الوضع واضحا. أدخلت البذور المعدلة جينيا في الزراعة منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأجريت أكثر من 24 ألف تجربة ميدانية عليها في الولايات المتحدة وحدها، وطوال هذه الفترة لم تحدث حالة مثبتة واحدة من الدمار للبيئة (أو الصحة أيضا). وأنا أرى أن الحجج ضد إدخال جينات توفر مقاومة لمبيدات الأعشاب، ومقاومة للجفاف وللصقيع، وتؤدي إلى محاصيل أكثر، أقل ما يقال عنها إنها غير مقنعة.
ويستمر النقاش؛ ففترة عشر سنوات فترة قصيرة نسبيا لاختبار تكنولوجيا جديدة. فربما يكون للتعديل الجيني آثار غير متوقعة طويلة الأمد خارج سيطرتنا. انظر لما حدث مع جنون البقر في إنجلترا؛ أتذكر كارثة الثاليدوميد؟ توجد لمثل هذه الذكريات جاذبية عاطفية، لكنها تفتقر إلى المنطق. حدثت كارثة مرض جنون البقر بسبب تجاهل المزارعين للتقاليد القديمة، وجعل ماشيتهم تتغذى على جثث النافق منها؛ فكان لا بد لهم من معرفة أن أكل الحيوان لحيوان مثله ليس من أصول تربية الحيوانات الناجحة. وكان لا بد على الحكومة إنهاء العملية بمجرد معرفتها بها. يتمثل وجه التشابه بين كارثة جنون البقر والجدل حول التعديل الجيني في شك الناس في اختبارات أجريت في دولة مختلفة؛ فقد رفض الفرنسيون والألمان تقبل الاختبارات البريطانية التي أظهرت أن لحم البقر أصبح تناوله آمنا أخيرا (وربما لم تغب الفوائد الاقتصادية لحظر استيراد منتج منافسهم بالكامل عن تفكيرهم). وحاليا يتجاهل المعارضون للأطعمة المعدلة جينيا في أوروبا الاختبارات التي لا حصر لها التي تجرى في الولايات المتحدة الأمريكية.
حدثت كارثة الثاليدوميد بسبب عدم كفاية الاختبارات الحيوانية التي أجريت قبل طرح الدواء، الذي كان الهدف منه منع الغثيان الصباحي الذي يصيب السيدات الحوامل. وقد يتسبب هدف حركات «تحرير الحيوان» في أوروبا وأمريكا الشمالية - المتمثل في منع استخدام الحيوانات في اختبار سلامة الأدوية الجديدة - في تكرار مثل هذا الموقف مرة أخرى. ورغم الآثار المدمرة للثاليدوميد على نمو الجنين، عاد الدواء للاستخدام الطبي مرة أخرى بوصفه مساعدا مفيدا لمنع الشعور بالغثيان لدى مرضى السرطان الذين يتلقون علاجا كيميائيا أو إشعاعيا، ويعتبر دواء مقاوما للسرطان في حد ذاته. وكما رأينا في الفصل السابق، يؤدي البحث عن علاج لأحد الأمراض عادة إلى اكتشاف إجراء علاجي نافع ضد مرض آخر. وإذا لم يكن مرضى السرطان الذين يتناولون الثاليدوميد يريدون إنجاب أطفال - وهو احتمال ضعيف للغاية - فلا يوجد سبب يمنع استخدامهم لهذا الدواء.
لم تشتمل أي من أزمة جنون البقر أو مأساة الثاليدوميد على ترك جينات حيوانية أو نباتية عائلها فجأة واقتحام كائنات أخرى، وهو السيناريو الذي يتصوره المعارضون لتكنولوجيا التعديل الجيني. صحيح أن «العوامل الناقلة للعدوى» تفعل هذا بالضبط، كما حدث في أزمة مرض جنون البقر، لكن هذا يحدث طوال الوقت؛ ففي النهاية هذه هي طريقة انتشار الجراثيم، التي تبحث عن عوائل جديدة. لكن من غير المعروف أن تعبر العدوى الحدود بين المملكتين النباتية والحيوانية. على أية حال، فإن الجينات التي تدخل إلى النباتات والحيوانات لا تكون عوامل معدية، مثل البريونات (عامل ناقل للعدوى في مرض جنون البقر) أو فيروسات . ورغم أن هذه الجينات تؤخذ أحيانا من بكتيريا - أحدها الجين المقاوم للجليفوسات، وسنتحدث عن الآخر بعد قليل - فالجينات نفسها نادرا ما تسبب العدوى. يدرك العلماء جيدا طريقة خروج العوامل المعدية، مثل الفيروسات، من أحد الكائنات وانتشارها بين جموع السكان. أما الجينات التي تضاف إلى البذور فتفحص بعناية لضمان أنها لا تحتوي على أي دي إن إيه فيروسي قد يسمح لها بفعل هذا، رغم أنني أعترف أن هذا الجانب من تكنولوجيا التعديل الجيني هو الأقل إثباتا من الناحية العلمية. ومن ناحية أخرى، لا يوجد سبب لافتراض انتقال جين أدخل عمدا إلى أحد النباتات إلى نبات آخر، تماما مثلما لا يحدث هذا مع الجينات التي يمتلكها النبات بالفعل. وبالطبع يوجد احتمال استقرار بعض من الحبوب المعدلة جينيا التي تحملها الرياح ونموها في حقل مجاور تماما مثل الحال مع الحبوب غير المعدلة جينيا. إذا كنت مزارعا (ولست معارضا حصل على معرفته عن الزراعة وتربية الحيوانات والكيمياء الحيوية والأحياء الدقيقة وعمل الأدوية والجينات بين ليلة وضحاها)، هل تمانع حقا إذا أصبح محصولك فجأة أكثر إنتاجا ومقاومة للجفاف أو الصقيع، وأقل عرضة للدمار الذي تسببه الحشرات أو مبيدات الأعشاب؟ كل هذا من دون تحملك أي تكلفة؟
18
ثمة تحول آخر في الجدل؛ ماذا عن تأثير المحاصيل المعدلة جينيا على صور الحياة البرية الأخرى، مثل الطيور والحشرات؟ ألم يكن لرش المحاصيل بالدي دي تي في خمسينيات القرن العشرين آثار كارثية؟ إلى حد ما، لكن هذا تحديدا أحد أسباب ضرورة تفضيل تكنولوجيا التعديل الجيني؛ فهذه التقنية انتقائية؛ ومن ثم تحمل الآثار السيئة لاستخدام العلاجات العشوائية، مثل الدي دي تي. فعلى الأرجح لن يؤثر حقل من الذرة المعدلة جينيا، على أسوأ الأحوال، في البيئة أكثر مما يؤثر حقل مماثل يرش بالمواد الكيميائية من طائرة. وفي أحسن الأحوال سيكون تأثيره أقل بكثير. كما أن النحلة التي تتغذى على زهرة نبات الطماطم المعالج جينيا بحيث تظل ثمرته طازجة لوقت أطول، على الأرجح لن تحدث دمارا في نباتات الطماطم الأخرى، ولا بين النحل الآخر أو بين المستهلكين النهائيين الذين يتناولون عسلها. ومع ذلك، صحيح أنها ربما تنقل حبوب لقاح مقاومة لمبيدات الأعشاب إلى أحد الأعشاب الضارة، مما يتسبب في مشكلة. وبالطبع يمكن أن يحدث هذا سواء كانت حبوب اللقاح من نبات معدل جينيا أم لا، لكن هذا يضع قيودا على أنواع المحاصيل التي يمكن تعديلها جينيا بأمان. أما بشأن الطيور التي تجد نفسها محرومة فجأة من وجبتها المفضلة، فمن غير المحتمل أن يكون لهذا نفس تأثير قطع الأسيجة والغابات - بالطرق غير الجينية المتمثلة في المنشار والجرار - فقد انخفض عدد 13 نوعا من الطيور التي تعيش فقط في الأراضي الزراعية، مثل طائر قبرة السماء، بمعدل 30٪ بين عامي 1968 و1995 في المملكة المتحدة. ومع ذلك، من خلال استخدام المحاصيل المعدلة جينيا تعود طيور قبرة السماء، بالإضافة إلى أبو طيط والبرقش، إلى الظهور مرة أخرى في بريطانيا.
19
وقد أدت الجوافة الحمراء - وهي نوع من الفاكهة الصغيرة القابلة للأكل «العضوي» بالكامل أدخل مؤخرا إلى هاواي من موطنه الأصلي في البرازيل - إلى تدمير الحياة النباتية، لدرجة أن الجوافة الحمراء تعتبر حاليا من أسوأ الآفات في هذه الجزر. تتعرض البيئة إلى التغيير طوال الوقت، لكننا نادرا ما نفعل شيئا حيال هذا؛ فقد خسرت المملكة المتحدة نسبة أكبر من غاباتها الطبيعية - بسبب الزراعة وبناء المساكن - مقارنة بالبرازيل. وربما تأسف الأجيال الأكبر سنا من ظهور أبراج الكهرباء في الأفق، بينما قد لا تلاحظ الأجيال الأصغر عمرا وجودها من الأساس. وربما نفضل أنا وأنت صوت أجراس الكنيسة على ضوضاء طائرة البوينج 747 في المساء، لكن أطفالنا على الأرجح لن يكترثوا بأصوات أي منهما. الفكرة التي أريد الإشارة إليها بسيطة للغاية؛ فأنت لا تستطيع تجميد البيئة في أي لحظة زمنية معينة؛ فلا يمكن منع الإنسان من تغييرها، ولا يمكن إيقاف سعيه المستمر للتغيير. (5) مقاومة المضادات الحيوية
توجد لدي تحفظات على تناول الطعام الذي قد يحتوي على مضادات حيوية؛ فكما ذكرت في فصل سابق، هي جزيئات تمنع البكتيريا من التكاثر. ومعظم المضادات الحيوية التي اكتشفت حتى عصرنا الحالي هي منتجات موجودة طبيعيا تفرزها أنواع مختلفة من العفن؛ ومن الأمثلة على ذلك البنسلين والستربتوميسين والتيتراسايكلين والسيفالوسبورين. وظهرت المشتقات المصنعة كيميائيا في محاولة للتغلب على مشكلة المقاومة البكتيرية. تظهر هذه المشكلة لأنه داخل كل مستعمرة من البكتيريا المتكاثرة يوجد دوما قليل من البكتيريا التي لا يقتلها المضاد الحيوي ، وتكون مثل هذه البكتيريا الطافرة المقاومة غير حساسة للمضاد الحيوي لأنها تستطيع تحليله أو التخلص منه. ومع ذلك فإن قدرتها على العدوى لا تتضرر؛ فإذا حصل شخص مصاب بعدوى بكتيرية على مضاد حيوي، فعلى الأرجح ستقتل كل البكتيريا الحساسة له قبل أن يتمكن العدد القليل للغاية من البكتيريا المقاومة له من التكاثر بما يكفي للتسبب في عدوى (وفي النهاية تدمر معظم البكتيريا على يد جهاز الجسم المناعي). لكن إذا لم يحدث هذا، فإن البكتيريا المقاومة ستنمو أكثر من النوع الحساس بسرعة، وستكون مستعمرة من البكتيريا المسببة للعدوى والمقاومة للمضاد الحيوي، وهذه العملية تشبه العملية الأساسية في تطور أنواع الحيوانات؛ فتحل بالتدريج الأنواع القادرة على التكاثر على نحو أسرع محل الأنواع الأخرى. وبالطبع يمكن للإنسان المصاب حاليا بعدوى تسببت فيها بكتيريا تقاوم المضاد الحيوي المستخدم، أن يعالج باستخدام فئة مختلفة من المضاد الحيوي، تكون هذه البكتيريا حساسة لها. وقد يحدث الأمر نفسه مرة أخرى؛ لذا تستمر العملية. تتمثل المشكلة في وجود عدد محدود فقط من فئات المضادات الحيوية المتاحة - لا يزيد عددها حاليا عن ست فئات - وبعدها لا يوجد سبيل للقضاء على الإصابة. وقد تتفاقم المشكلة بسبب حقيقة أن البكتيريا تستطيع اكتساب مقاومة ضد العديد من المضادات الحيوية المختلفة في وقت واحد، ويشار إلى هذا الموقف باسم المقاومة للأدوية المتعددة. ونظرا لكون المضادات الحيوية الأدوية الفعالة الوحيدة المتاحة حاليا لمقاومة الأمراض المميتة المحتملة، مثل الالتهاب الرئوي البكتيري أو مرض تعفن الدم، فإن استخدامها لا بد أن يكون محدودا ومراقبا بعناية شديدة. إلا أن عدد الإصابات التي تحدث بسبب البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في زيادة سريعة
20
ويتسبب في مشكلات صحية كبرى. ورغم أن هذه الأضرار تكون واضحة للمتخصصين في الأحياء الدقيقة طوال الوقت، لا يلاحظها الأطباء إلى حد كبير. وتكون المشكلة مختلفة أحيانا في حالة العدوى ذات الأصل الفيروسي؛ فلا تتأثر الفيروسات بوجود المضادات الحيوية؛ لذلك يوجد بحث دءوب عن أدوية جديدة توقف تكاثر هذه الفيروسات.
من ثم يكون من غير المفضل جعل الماشية تتناول المضادات الحيوية من أجل منع تعرضها للإصابات. ورغم التحذيرات التي ظهرت مع بداية اكتشاف المضادات الحيوية منذ 50 سنة،
21
فإنه في السنوات الأخيرة يقدم نحو 25 مليون رطل - أكثر من 10 ملايين كيلوجرام - من المضادات الحيوية سنويا لتتناولها الماشية والخنازير والدواجن في الولايات المتحدة وحدها. يمثل هذا خطرا مزدوجا؛ يتمثل الخطر الأول في احتمال ظهور سلالات مقاومة للمضاد الحيوي تقتل الماشية في النهاية، في حالة سقوطها فريسة لعدوى. والثاني أنه عند تناول لحم الماشية الذي يحتوي على المضاد الحيوي يوجد خطر انتقال بعض من المضاد الحيوي إلى جسم الإنسان. لا يمثل هذا خطرا كبيرا؛ لأن المضادات الحيوية تدمرها الحرارة بوجه عام؛ ومن ثم ستعمل عملية الطهي على إبطال مفعولها. كذلك فإن القدر الموجود منها في هذه الأجزاء من جسم الحيوان التي تؤكل يحتمل أن يكون منخفضا. إلا أن المضادات الحيوية، على عكس البروتينات، لا تتحلل في الأمعاء، ولهذا السبب تكون فعالة عند تناولها بالفم. ولأنها جزيئات أصغر حجما بكثير - في حجم جزيء الكوليسترول، على سبيل المثال - فإنها تمتص بسهولة؛ ومن ثم يحتمل أن نتناول قدرا من المضادات الحيوية، التي تتناولها الماشية، سليما مع طعامنا. وبمجرد دخولها إلى أجسامنا، يوجد خطر أن يحفز هذا المضاد الحيوي البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية على التكاثر حتى قبل علاج الشخص المصاب بمضاد حيوي.
قد يشعر الناس بالخوف عند قراءة بعض المقالات الصحفية، ويعتقدون أن تناول الأطعمة التي تحتوي على مضادات حيوية سيجعلهم يقاومون فيما بعد العلاج بالمضادات الحيوية، وهذا خطأ تماما؛ فالبكتيريا هي التي تصبح مقاومة للمضاد الحيوي، وليس البشر أو الحيوانات. على العكس من ذلك، فإن السبب في كون المضادات الحيوية تمثل أدوية فعالة للغاية أنها لا تؤثر بأي شكل على الإنسان أو الحيوان؛ فالمضادات الحيوية تدمر الجراثيم الموجودة داخل أجسامنا فقط.
لنعد إلى الحديث عن خطر تناول مضادات حيوية دون داع، فنحن نحمل في أجسامنا - في الأمعاء وعلى جلدنا - حشدا من البكتيريا الممرضة المحتملة.
22
فعادة يحفظ التوازن بين السلالات الحساسة للمضاد الحيوي وتلك المقاومة له. ومع ذلك إذا تعرضنا لمضادات حيوية لأي فترة من الوقت، فإن الضغط الانتقائي سيفضل نشأة سلالات مقاومة له.
23
ويكون الوضع أسوأ في حالة المحاصيل التي ربما يكون جين المضاد الحيوي (المعزول من العفن الذي يصيبها) أضيف إليها، وفي هذه الحالة سيوجد المضاد الحيوي بتركيز مرتفع في نوع الخضار أو الفاكهة، ويكون من المؤكد امتصاصه بجرعات مؤثرة. وهذا في النهاية هو الهدف من التعديل الجيني؛ تناول المضاد الحيوي في صورة ثمرة طماطم بدلا من حبة دواء. أنا لا أعرف إذا كانت مثل هذه المحاصيل «المصممة» ظهرت بالفعل أم لا؛ ويجب عدم التفكير في اختراعها.
من ناحية أخرى، يبحث العلماء أيضا عن طرق لتعديل جينات اللقاحات
24 - بما في ذلك اللقاح المضاد للخصوبة الذي يمكنه أن يوفر طريقة جديدة لتحديد النسل - الموجودة في النباتات. إذا كانت هذه اللقاحات من النوع الذي يشبه لقاح شلل الأطفال، الذي يستطيع إحداث استجابة مناعية عند تناوله بالفم، فيكون هذا جيدا؛ أما إن لم تكن كذلك، فلا فائدة من الأمر؛ حيث سيكون اللقاح معطلا عند تناول النبات. يبدو أن العديد من اللقاحات النباتية تؤدي عملها عبر تناولها بالفم، فبعد اختبارها على الحيوانات، تجري حاليا التجارب السريرية على استهلاك الإنسان لها. ومع ذلك ربما يظل من الأفضل أخذ اللقاح بالطريقة المطلوبة وعند الحاجة إليه، وليس عشوائيا مع كل مرة يؤكل فيها وعاء من الأرز (رغم أن هذا الأخير ربما يكون في النهاية أرخص؛ ومن ثم أكثر فائدة لدول العالم الثالث). وأنا أعتقد أن تناول بضع قطرات من لقاح شلل الأطفال يعتبر أقل أنواع الأدوية إزعاجا على الإطلاق. وإذا كنا نفكر في استخدام اللقاحات المعدلة جينيا، فمن الأفضل إعطاؤها لأنفسنا مباشرة. فعلى سبيل المثال، حقن البشر بقدر يسير من شفرة الدي إن إيه لبروتين جرثومي لا يقدر وحده على إحداث إصابة، لكنه يوفر الحماية المناعية ضد المرض المتعلق به، يعتبر تقدما طبيا يستحق السعي وراءه. وحاليا يجري تصنيع «لقاحات الدي إن إيه» المضادة هذه لعدد من الأمراض منها الملاريا.
في ربيع عام 2001 حدث تفش شديد لمرض القدم والفم (الحمى القلاعية) في إنجلترا، وكان هذا يعني ضرورة التخلص من أكثر من مليون خنزير وخروف وماشية، الأمر الذي كانت له عواقب كارثية على بقاء الصناعة الزراعية. وثمة تكنولوجيا أخرى ربما تكون لها فائدة اقتصادية حقيقية؛ وهي تتمثل في إدخال تعديل جيني على الماشية حتى تصنع لقاحاتها الخاصة ضد أمراض مثل مرض القدم والفم باستخدام تقنيات التلقيح الصناعي.
25
وللأسباب التي ذكرناها مسبقا، على الأرجح لن يسبب تناول لحوم هذه الماشية المعدلة جينيا ضررا أو نفعا لأحد. ينطبق الأمر نفسه على تعزيز إفراز هرمون النمو عبر التعديل الجيني من أجل جعل حيوانات المزرعة أكبر حجما. تكون النتيجة مماثلة تماما لاختيار الحيوانات التي تنمو بأحجام كبيرة باستخدام التهجين، أو تسمينها باستخدام سعرات حرارية مفرطة. على الأرجح لن يتأثر المستهلك لأن هذا الهرمون هو بروتين يتحلل في الأمعاء بعد تناول كميات صغيرة منه دون عمد.
26
وتعتبر زيادة مستوى هذا الهرمون لدى الحيوانات والبشر ممارسة معروفة (لكنها أحد أسباب تحول المستهلكين للحيوانات التي تتغذى على هذا الهرمون إلى تلك التي تربى بأسلوب «عضوي» بدلا من ذلك). هذا ويأخذ مرضى السكر هرمون الأنسولين (برجاء ملاحظة، المأخوذ من الخنازير) طوال نصف قرن، وقد أنقذ حياة الكثيرين ولم يدمرها. وتحصل السيدات في سن اليأس على كثير من الراحة من تعديل مستويات الهرمونات لديهن من خلال العلاج بالهرمونات البديلة. (6) الجينات الغريبة
سيشير منتقدو المحاصيل المعدلة جينيا إلى حقيقة أن أحد أكثر الجينات التي تضاف إلى النباتات شيوعا جين غريب؛ جين البكتيريا الممرضة للحشرات.
27
هذا النوع هو جرثومة تنتج سما يقتل اليرقات وأنواع الحشرات الأخرى (شكل
12-1 ). وتكون النتيجة أن يحتاج المزارعون إلى استخدام مبيدات حشرية أقل من المطلوبة بخلاف هذا؛ فيقال إن البكتيريا الممرضة للحشرات في نبات القطن تقلل استخدام المبيد الحشري بنسبة تصل إلى 60٪،
28
وتزيد المحصول في الوقت نفسه بنسبة تصل إلى 8٪. كيف يفعل هذا السم هذا؟ من خلال إحداث ثقوب في الجدار المبطن لمعدة أي يرقة يكون حظها سيئا بما يكفي لابتلاع جزيء السم. لا يختلف عمل هذا السم - البروتين - كثيرا عن عمل البروتينات المكونة للمسام؛ فتفرز هذه السموم البكتيريا المكورة العنقودية الذهبية، أو البكتيريا العقدية الرئوية، أو البكتيريا المطثية الحاطمة، التي تسبب مرض تعفن الدم البكتيري أو الالتهاب الرئوي البكتيري، أو الغرغرينا. سيقول المنتقدون إن معرفتي بهذا تجعل الأمور أسوأ، إلا أن الاعتراف به يظهر عدم تحيزي. ورغم ذلك لا يصاب القطن أو الذرة بمرض تعفن الدم، ولا تكون عرضة لسم البكتيريا الممرضة للحشرات، تماما مثلما لا يسقط الإنسان فريسة لمرض اللفحة الذي يصيب البطاطس أو فيروس تبرقش التبغ. فاليرقات التي تتغذى على المحاصيل وتدمرها هي التي يقضي عليها السم. بالطبع لا يكون هذا أسوأ من رش المحاصيل بمبيد الحشرات، لكن بالتأكيد ليس أفضل منه. في الواقع تمثلت التجارب الأولى باستخدام سم البكتيريا الممرضة في هذا؛ رش المحاصيل بالبكتيريا المجففة.
29
حققت النتيجة نجاحا بالغا من حيث حماية المحصول لدرجة أدت إلى اختراع الأسلوب الأقل تدميرا المتمثل في تعديل النباتات جينيا حتى تنتج جزيء السم بنفسها. ويكون هذا السم، على عكس البكتيريا المستخرج منها، غير معد على الإطلاق، ولا يمكن أن ينتشر من كائن لآخر.
شكل 12-1: تكنولوجيا سم البكتيريا الممرضة للحشرات. أعيدت طباعتها من مجلة ريجيولاتوري توكسيكولوجي آند فارماكولوجي، المجلد 32، مقال إف إس بيتس وبي جي هاموند وآر إل فوكس «أمان النباتات المحمية بالبكتيريا الممرضة للحشرات وفوائدها في الحد من الحشرات والآفات»، الصفحات من 156 إلى 173، حقوق الطبع 2000، بإذن من إلزفير سانس.
مع ذلك تظل ثمة مشكلة موجودة؛ تتمثل فيما يلي؛ داخل أي تجمع من الحشرات التي تتغذى على المحاصيل التي تحتوي على سم البكتيريا الممرضة للحشرات، سواء كانت عثة ديدان لوز القطن التي تستمتع بتناول وجبة من القطن المعدل جينيا، أو يرقة تأخذ قضمات صغيرة من الذرة المعدلة جينيا، ثمة احتمال لوجود بعض من الكائنات المقاومة لسم البكتيريا الممرضة للحشرات. ستنمو هذه في النهاية لتفوق عدد السلالات الحساسة له، وربما حتى تنقل المقاومة لحشرات أخرى من النوع نفسه عبر التزاوج الطبيعي فيما بينها. ورأينا مسبقا كيف بدأت سلالات من البكتيريا المقاومة لمضاد حيوي تحل محل السلالات الحساسة له في وجود المضاد الحيوي، وينطبق الأمر نفسه على الحشرات. حدث هذا مع مقاومة الحشرات للدي دي تي، وسيحدث هذا مع المحاصيل المعدلة جينيا. إنها ظاهرة عالمية تحدث حتى مع الخلايا البشرية؛ فتتمثل إحدى مشكلات العلاج الكيميائي للسرطان في ظهور خلايا مقاومة للدواء ونموها ليفوق عددها عدد الخلايا الحساسة له في ظل وجود الدواء المستخدم. اخترع الأطباء السريريون استراتيجيات خاصة من أجل التكيف مع هذه المعضلة، ويجب على المزارعين وعلماء البيئة أيضا التعامل مع المشكلة نفسها فيما يتعلق بالمحاصيل المعدلة جينيا. لا يعني هذا البعد عن استخدامها؛ فلم يتوقف العلاج الكيميائي للسرطان بسبب اكتشاف وجود مقاومة له؛ إنما تعرض للتعديل (التلاعب بالألفاظ ليس مقصودا هنا).
ثمة طريقة بديلة لحماية المحاصيل من الحشرات التي تتغذى عليها تتمثل في التخلص من الآفات مباشرة. جربت هذه الطريقة منذ عدة عقود باستخدام الدي دي تي وأدت في النهاية إلى ظهور الحشرات المقاومة للدي دي تي. لكن ماذا لو أدخل جين قاتل في الخلايا الجنسية للحشرات؛ بحيث ينتقل جين «التدمير الذاتي» إلى الذرية في أثناء التزاوج؟ هكذا سيصعب أكثر على الحشرات أن تصبح مقاومة وربما يقضى على مستعمرة بأكملها حتى قبل تكونها. على هذا النحو قد يؤدي هذا إلى الانقراض المتعمد لنوع ما، وهو ما يراه بالتأكيد المهتمون بالحفاظ على البيئة أمرا بغيضا. وسيكون على مؤيدي مثل هذا المشروع إقناع المعارضين بأن فقدان أحد الأنواع ثمن يستحق أن ندفعه من أجل منع تدمير أحد المحاصيل المهمة. أحد الآفات المستهدفة هي دودة لوزة القطن التي تتغذى على محاصيل القطن، والجين المراد إدخاله هو جين بكتيري يعمل على صنع إنزيم (
RNAse )، الذي يدمر الآر إن إيه؛ ومن ثم قدرة الخلايا على صنع البروتينات. قبل وضع هذه الاستراتيجية في حيز التنفيذ، ستجرى تجارب من أجل معرفة مدى سرعة انتشار هذا الجين بين عث هذه الدودة.
30
بالطبع يمكن تطبيق مثل هذه التكنولوجيا أيضا على آفات أخرى، بالإضافة إلى الحشرات إجمالا؛ من أجل معرفة مدى سرعة انتشار الجينات الغريبة بين مجموعة في البرية.
يتحول الجدل مرة أخرى؛ إذ يجري حاليا تصنيع محاصيل معدلة جينيا بحيث تحتوي على جين آخر مندمج بداخلها؛ ما يعرف باسم الجين «المدمر»، الذي يجعلها عقيمة، أشبه بثمار العنب أو البرتقال الخالية من البذور التي لا يمكن استخدامها في صنع كرمات جديدة. على النحو نفسه، لا يمكن استخدام البذور المأخوذة من محاصيل تحتوي على جين مدمر في صنع جيل آخر. إلا أن المزارعين، خاصة في الدول الأكثر فقرا، يستخدمون عادة بعضا من حصادهم في الزراعة في العام التالي؛ ففي الهند يحتفظ المزارعون بما يصل إلى 80٪ من أفضل حبوبهم من أجل زراعتها في العام التالي. وفي ظل وجود بذور تحتوي على جين مدمر سيضطر المزارع إلى شراء بذور جديدة من جديد في كل سنة.
31
وعليه، ربما لا يبدو إدخال جينات مدمرة ممارسة جيدة حتى الآن من منظور مصالح الدول النامية. ويدرك هذا رعاة مثل هذه التكنولوجيا، وعلى رأسهم شركة مونسانتو العملاقة التي يقع مقرها في ميزوري؛ فهم يعلمون أنه لا فائدة من تعديل البذور جينيا باستخدام الجين المدمر إذا لم يشتر المزارعون مثل هذه الحبوب. ومع ذلك يصعب على شركة مونسانتو تقبل هذا الأمر؛ نظرا لكونها دفعت 1,2 مليار دولار من أجل الاستحواذ على شركة دلتا آند باين، شركة البذور الأمريكية التي تمتلك براءة اختراع الجين المدمر. إلا أن شركة مونسانتو أعربت عن عزمها تجنب صناعة منتجات تحتوي على جين مدمر.
32
على أي حال، علينا ألا نكون قساة في الحكم على شركة مونسانتو؛ فهي في النهاية مؤسسة تجارية، ولاؤها الأساسي لحملة الأسهم بها، الذين يستثمرون مبالغ طائلة من المال في الأبحاث التي لا تستطيع الحكومات تحمل تكلفتها. ودعونا لا ننسى أيضا أن الهدف من المحاصيل المعدلة جينيا، مثل محصول القطن ذي البكتيريا الممرضة للحشرات، هو تقليل الحاجة للمبيدات الحشرية؛ ومن يكون أحد المصنعين الرئيسيين لمثل هذه المبيدات الحشرية؟ شركة مونسانتو. وعليه ، فإن تكنولوجيا التعديل الجيني تضر بأحد منتجاتها؛ ومن ثم يصعب اتهامها في هذه الحالة بأن الجشع هو دافعها الوحيد.
تسبب الفيروسات ضررا للنباتات يماثل الضرر الذي تسببه للحيوانات والبشر. كان أول فيروس يعزل على الإطلاق فيروسا نباتيا؛ فيروس تبرقش التبغ. لا توجد فائدة غذائية لنبات التبغ - العكس هو الصحيح - لكن هذا لا ينطبق على بنجر السكر والشلجم والبطاطس. فإذا أمكن «تطعيم» هذه المحاصيل ضد الفيروسات التي تصيبها
33
فسيكون لهذا فائدة اقتصادية كبرى. تقدم لنا تكنولوجيا لقاحات الدي إن إيه الحل لهذا؛ فتوضع جينات معينة مأخوذة من الفيروسات (تكون كلها فيروسات دي إن إيه) في العائل المعرض للخطر. لا يتسبب هذا في أي إصابة، لكنه يجعل النبات مقاوما الآن لهجوم الفيروس المعني. أجريت أبحاث كثيرة للغاية من أجل اختبار ما إن كان هذا الإجراء سيؤدي إلى إنتاج المزيد من سلالات الفيروسات الفتاكة، التي ربما تغزو نطاقا أوسع من العائلات. حتى الآن جاءت النتائج مشجعة، فمن غير المرجح حدوث أسوأ السيناريوهات المتوقعة. ثمة نقطة مهمة لا بد من وضعها في الاعتبار؛ وهي أن إدخال جينات فيروسية في النباتات لا يشكل خطرا على صحة الإنسان أو الحيوان؛ فلم يتضح أن الفيروسات النباتية تصيب المملكة الحيوانية (ولا تصيب الفيروسات الحيوانية النباتات).
خاتمة
بدأت هذا الفصل بالحديث عن المخاطر. بالطبع يوجد خطر إصابة شخص ما، في مكان ما، بالمرض عقب تناوله الأطعمة المعدلة جينيا. وفي الواقع نحن نعلم أن هذا سيحدث، لكن لا يوجد سبب لافتراض أن احتمال حدوث هذا أكبر من احتمال الإصابة بالمرض من تناول الأطعمة غير المعدلة جينيا. حلل مؤخرا العلماء الذين عينتهم وزارة الزراعة وصيد الأسماك والتغذية في المملكة المتحدة 567 عينة من الأطعمة العادية غير المعدلة جينيا المعتمدة على الحبوب، مثل الدقيق؛ ووجدوا أن أكثر من 20٪ منها تحتوي على سوس. بالطبع توجد مخاطر من أن يؤدي إدخال أحد الجينات مباشرة إلى النبات، بدلا من تغيير جيناته بالاستيلاد، إلى عواقب غير متوقعة على الإطلاق. حاول العلماء تخيل ما يمكن أن تكون مثل هذه العواقب، لكنهم فشلوا في التوصل إلى اقتراحات معقولة. وقد ظلوا يراقبون الوضع أيضا طوال عقد من الزمن، ولم يعثروا على دليل على أي آثار سلبية. ويستطيع المعارضون للأطعمة المعدلة جينيا تخيل سيناريوهات للهلاك الوشيك، لكن هذا لأنهم غير مقيدين بالمعرفة العلمية. فإن المطالبة بالتوقف عن كل صور زراعة البذور المعدلة جينيا، مع المطالبة في الوقت نفسه بإجراء المزيد من التجارب؛ أمر يفتقر إلى المنطق، فكيف نستطيع اختبار الطريقة المنهجية إذا كنتم تمنعون تطبيقها؟ اتضح منذ وقت طويل أن الاختبارات التي أجريت داخل المختبر لا تحمل أي خطورة واضحة؛ وإذا أردنا إجراء المزيد من الاختبارات، فيجب إجراؤها على يد المزارعين. وعدت في بداية هذا الفصل بالحديث دون تحيز عن الأطعمة المعدلة جينيا. والآن بعدما عرضنا جانبي النقاش لا يسعني إلا استنتاج أن مخاطر المنتجات المعدلة جينيا على المستهلكين، والمخاطر على البيئة من زراعة المحاصيل المعدلة جينيا، كلاهما منخفضان. وإذا كنت لا تصدقني، فابحث عن المزيد من المعلومات، اقرأ كتاب آلان ماكهوجن «دليل المستهلك للأطعمة المعدلة جينيا: من الجينات الخضراء إلى الرنجة الحمراء»،
34
وغيره من المراجع الحيادية الأخرى.
35
هوامش
الفصل الثالث عشر
التلاعب بالجينات 2: البشر المعدلون جينيا
طبقت تكنولوجيا تحديد تسلسل الدي إن إيه - ونعني بها التحديد الدقيق لمكان كل قاعدة أدينين وسيتوسين وجوانين وثيامين على طوله - مؤخرا على كافة الكروموسومات البشرية التي يبلغ عددها 23. ونظرا لوجود 3 مليارات قاعدة، لم تكن المهمة بسيطة. أعد مشروع دولي من أجل إتمام هذه المهمة، تموله حكومات ومؤسسات خيرية خاصة، يدعى مشروع الجينوم البشري. وتمثل هدفه في نسخة مطبوعة من التسلسل الدقيق لكل جين - بالإضافة إلى تسلسل امتدادات الدي إن إيه الأطول منها بعشر مرات التي تفصلها بعضها عن بعض - داخل جسم الإنسان. ربما تتساءل كيف يمكن للتحليل الكيميائي للدي إن إيه التمييز بين المناطق الوراثية وغير الوراثية؟ الإجابة عن هذا أنه لا يستطيع.
1
كان من المزمع الانتهاء من المشروع في عام 2005، وفي الواقع انتهى المشروع قبل هذا بخمس سنوات، لماذا؟ بسبب دخول عالم ورائد أعمال أمريكي مبتكر يدعى كريج فينتر في هذا المجال. اخترع فينتر طريقة أسرع بكثير لتجميع تتابعات الدي إن إيه المتعددة التي تنتجها آلات تحديد التسلسل. وتجدر الإشارة إلى أن دي إن إيه أي كروموسوم هو عبارة عن جزيء كبير للغاية؛ بحيث لا يسهل على المرء البدء في تحديد تسلسله من أحد أطرافه والاستمرار إلى الطرف الآخر. فيجب أولا تقسيم الجزيء إلى آلاف الامتدادات الأقصر طولا - يكون كثير منها متداخلة - يمكن عندها تحديد تسلسلها وترتيبها تسلسليا. استطاع فينتر، الذي أنشأ شركة تجارية من أجل توفير الموارد المالية الضرورية، فعل هذا أسرع من علماء مشروع الجينوم البشري. تعتبر المنافسة أمرا صحيا، ويؤدي بحث مجموعتين عن الهدف نفسه إلى احتمال الوصول إليه أسرع. وبمجرد الوصول إليه يمكن مقارنة المجموعتين من البيانات؛ ويعمل التطابق بينها على إثبات صحة النتائج. ثمة عقبة واحدة فقط؛ فتفترض فرق مشروع الجينوم البشري طوال الوقت أن اكتشافاتهم ستنشر في المراجع العلمية؛ ومن ثم تكون متاحة للجميع بالمجان. أما فينتر وشركته، التي أطلق عليها اسم مناسب هو سيليرا (بمعنى «سريع»)، فيحتاج إلى استعادة تكالفيه. ولفعل هذا سيتحتم عليه تسجيل براءة اختراع لنتائجه؛ لذلك حدث خلاف كبير بين الجانبين (ودخلت شركات تجارية أخرى في الشجار)، لكن في النهاية توصلوا إلى حل وسط إلى حد ما. النقطة المهمة لنا هي أنه من حيث المبدأ أصبح تركيب كل بروتين في أجسامنا الآن معروفا. يوجد تحفظان؛ الأول: أن معرفة تسلسل أحد البروتينات لا تخبرنا أي شيء عن وظيفته؛ ولذلك فإن معرفة الوظيفة الفعلية لكل البروتينات الموجودة في أجسامنا (البروتيوميات) هي المهمة التالية، وعلى الأرجح ستستغرق الفترة نفسها التي استغرقها التعرف عليها في المقام الأول . الثاني: أن البروتينات التي حدد تسلسلها عبر جيناتها لا تخصني ولا تخصك. فكما ذكرت مسبقا، تكون بعض البروتينات - مثل الأنسولين - واحدة لدى كل البشر. لكن معظم البروتينات - خاصة التي تكمن وراء تفرد الإنسان - تختلف على نحو طفيف من شخص لآخر؛ فقد حدد الفريقان تسلسل الجينات (الكثيرة في الواقع) الخاصة بإنسان ما، مما أعطانا فكرة جيدة عن التكوين العام للبروتينات الموجودة في أجسامنا. لكن إذا أردنا تحديدا معرفة أي من البروتينات الموجودة لدينا فربما يكون معيبا أو حتى مفقودا بالكامل؛ ومن ثم يعرضنا إلى الإصابة ببعض الأمراض، فلا بد لنا من تحديد تسلسل جيناتنا. وأدت إنجازات مشروع الجينوم البشري وفينتر، المتمثلة في تحديد مكان وجود الجين المسئول عن صنع كل بروتين بعينه على طول الكروموسومات، إلى جعل هذه المهمة بسيطة نسبيا. وقريبا سيصبح من السهل تحليل جيناتك تماما مثلما تقيس نسبة الكوليسترول لديك. (1) العلاج الجيني
يعني إدراك أن بعضا من أكثر الأمراض الموهنة للصحة يحدث نتيجة لجين واحد فاسد؛ أن العلاج عن طريق إدخال نظير صحي لهذا الجين (أو القضاء على الجين الفاسد إذا كان مسيطرا)
2
أمر ممكن من الناحية النظرية. تشمل مثل هذه الأمراض فرط ثلاثي جليسيريد الدم (وجود كم كبير من الدهون في مجرى الدم)، وفرط كوليسترول الدم (وجود كم كبير من الكوليسترول)، والتليف الكيسي (خلل في وظيفة الرئتين والبنكرياس)، وخلل هيموجلوبين الدم (اضطرابات في الدم نتيجة لوجود خلل في الهيموجلوبين)، وغيرها الكثير. إن هذه الأمراض جميعها نادرة إلى حد ما، وأكثرها شيوعا هو فرط كوليسترول الدم، الذي يصيب شخصين من بين كل ألف شخص يولد؛ والتليف الكيسي الذي يحدث بنسبة 0,5 (أو أقل في مجتمعات معينة) من بين كل ألف شخص يولد. في الحالات التي توجد بها طرق علاج بسيطة نسبيا، مثل تقليل كمية الكوليسترول والدهون الأخرى، يكون هذا السبيل الواضح لاتباعه. لكن التحكم في النظام الغذائي وحده عادة لا يكفي، حتى إن هذا ليس اختيارا متاحا في حالة التليف الكيسي؛ إذ يواجه الذين يعانون من المرض أسلوب حياة صعبا، ويتعرضون في معظم الحالات إلى وفاة مبكرة. تحدد الجين المسئول عن المرض واتضح أن البروتين الذي يصنعه هذا الجين معيب ومتنح؛ بمعنى أنه لا ينشط في حالة وجود النسخة الطبيعية «الصحية» من البروتين بجواره في الخلية.
2
جرى عزل النظير الصحي للجين المسئول عن حدوث التليف الكيسي وهو جاهز لإدخاله في أولئك الذين يعانون من هذا المرض. ربما يحق للقارئ التساؤل: لماذا ننشغل بالجين ولا نحقن البروتين الصحي مباشرة، كما حدث مع الأنسولين في حالة مرض السكري منذ نصف قرن؟ السبب في هذا أن البروتينات تتحلل باستمرار داخل خلايا الجسم، بينما الدي إن إيه يكون مستقرا نسبيا، والأهم من ذلك أن الدي إن إيه يضاعف نفسه؛ ومن ثم يستمر في صنع البروتين المناسب. وفي حالة مرض السكري، لا توجد حاجة لدخول الأنسولين إلى الخلايا؛ فهو يعمل من خارجها، من داخل مجرى الدم حيث لا يتحلل بمثل هذه السرعة. ومع ذلك، كما يعلم كل مريض سكر يعتمد على الأنسولين،
3
يمثل الحقن بالأنسولين مرة أو أكثر في اليوم عبئا كبيرا. فسيسعد مرضى السكر المعتمدون على الأنسولين، تماما مثل الذين يعانون من التليف الكيسي، إذا نجح إدخال جين واحد، أو حتى جين عرضي. لكن توجد صعوبات في تحقيق ذلك؛ ففي حالة مرض السكري سيتحتم حقن جين الأنسولين - على عكس الأنسولين نفسه - في مجموعة صغيرة ومحددة من الخلايا تعرف باسم «الجزر» داخل البنكرياس، مسئولة عن صنع الأنسولين وإفرازه؛ ومثل هذا الإجراء ليس متاحا في الوقت الحالي. من ناحية أخرى، تنجح زراعة هذه الخلايا الجزر من شخص متوفى حديثا يتمتع بالصحة، مثل ضحايا حوادث الطرق، تماما مثل زراعة أعضاء مثل القلب والكلى. لا توجد حاجة إلى استبدال هذه الجزر داخل البنكرياس؛ فزراعتها في الكبد (الذي يسهل أكثر الوصول إليه) تنجح أيضا؛ نظرا لأن الوظيفة الوحيدة التي تؤديها هذه الجزر هي مراقبة الجلوكوز في الدم وإفراز الأنسولين عندما يرتفع تركيز الجلوكوز. بالطبع لا بد من إعطاء المرضى أدوية مثبطة للمناعة، كما هو الحال في أي زراعة أخرى.
تكون المشكلات المرتبطة باستهداف جينات معينة مشكلات عامة؛ فهي تصيب، على سبيل المثال، أولئك الذين يعانون من التليف الكيسي، لكن نظرا لعدم وجود بديل، تجرى حاليا اختبارات على الإدخال المباشر للدي إن إيه الذي يحتوي على الجين المفقود. ويعتبر الخلل في وظيفة الرئتين أكثر خطورة من قلة كفاءة عمل البنكرياس؛ فمعظم الذين يعانون من التليف الكيسي يموتون بسبب إصابة في الرئتين بسبب المخاط المتراكم، وليس بسبب قصور في البنكرياس. ومن ثم صنعت عدة مستحضرات كأدوية استنشاق حتى يمكن توصيل الجين الضروري إلى الرئتين مباشرة. وحتى الآن لم تكن نتائج هذه التجارب السريرية مشجعة، ويرجع هذا إلى حقيقة أن التكنولوجيا المستخدمة في إدخال الجين إلى عدد كبير من الخلايا في وقت واحد ليست سهلة؛ وكذلك لم يكن ممكنا إدخال الجين في الكروموسوم المعني من أجل ضمان تكراره. وهكذا يتطلب العلاج تكرار إدخال الجين. ومع ذلك تعتبر هذه مشكلات فنية يجب أن يتمكن المزيد من الأبحاث والتطوير من حلها. وربما يتشجع المرضى عندما يعلمون أن ثمة سبيلا قريبا للتقليل من ألمهم، وأن العلاج المحتمل لم يعد بعيدا.
لقد شرحت العلاج الجيني لمرض التليف الكيسي ببعض التفاصيل؛ لأن الأسلوب المتبع يمكن تطبيقه من حيث المبدأ على الاضطرابات الأخرى التي يسببها خلل في جين واحد. على سبيل المثال، بدأت بالفعل التجارب السريرية باستخدام العلاج الجيني لمرض يعرف باسم نقص إنزيم نازع أمين الأدينوسين، الذي يعاني فيه المرضى من عوز مناعي شديد، منذ عقد مضى. كما أن ضمور العضلات وفرط كوليسترول الدم من بين الأهداف المستقبلية. ومع ذلك فإن معظم الأمراض الشائعة التي تصيبنا، لا تكون نتيجة غياب جين واحد أو تحوره، بل تنتج عن حدوث خلل في وظيفة عدة جينات في وقت واحد، مصحوبا بتأثيرات بيئية قوية، مثل نوبات من العدوى أو نظام غذائي غير مناسب. ومع ذلك، حتى إذا كان العامل الوراثي طفيفا، فإن هذا لا يعني أن العلاج الجيني لا يمكنه المساعدة في التخفيف من المشكلة. من الواضح أن مثل هذه الأمراض تكون أصعب في التعامل معها من الاضطرابات التي تحدث بسبب خلل في جين واحد، لكنها ما زالت ضمن أهداف المستكشفين العلميين في العصر الحالي. ويتمثل المرشحون المحتملون لذلك في الأمراض القلبية الوعائية، والتهاب المفاصل، وحتى السرطان بوجه عام وسرطان الدم. في اعتقادي لا توجد معارضة أخلاقية كبيرة تجاه هذا النوع من العلاج باستبدال الجينات. وبالتأكيد تعتبر حقيقة أنه حتى الآن لم يعمل بالكفاءة المطلوبة لأنه ما زال في مراحله الأولية، خارج سياق الحديث. فهل سيحرم الذين يعانون من هذه الأمراض من الأمل عن طريق حظر هذه التكنولوجيا؟
يكون المعارضون للعلاج الجيني على أرض أكثر صلابة في حال إدخال جينات لا علاقة لها بأحد الأمراض الخطيرة. فيختلف إعطاء جين هرمون النمو لطفل يفتقر إليه ومصيره أن يصبح قزما حين يكبر، عن إعطاء المرء لجرعة إضافية من الجين لأحد أبنائه لأنه يريده أن يصبح أطول من الأولاد الآخرين في المدرسة.
4
وما زال التلاعب بالجينات بحيث يوجد احتمال أن تحصل ذريتك على أعين زرقاء أو شعر أشقر، أو تصبح تنافسية أو مطيعة، لم يظهر بعد، لكن من المؤكد أن تظهر مثل هذه القضايا على مدار العقود التالية. وأصبح الآن بالفعل ممكنا من حيث المبدأ حقن الجينات في الخلايا الجنسية حيث تنتقل منها من جيل لآخر، بدلا من حقنها في أعضاء مثل الرئة أو الكبد أو البنكرياس أو الكلى أو القلب أو المخ؛ حيث تعمل على تخفيف معاناة الفرد دون التأثير في ذريته. وحاليا يجري الترويج لهذا النوع من العلاجات بوصفه قادرا على منع الإصابة بالأمراض المميتة (والقضاء عليها على المدى الطويل). وسيتمثل الهدف الأول في مرض ضمور العضلات، الذي يصيب الذكور في الأغلب، عن طريق حقن الجين المرتبط به في الخصيتين. فلم يعد يفصلنا وقت طويل عن وجود «أطفال حسب الطلب»؛ ففي الواقع تجعل تقنية التلقيح الصناعي (التي سنتحدث عنها فيما يلي)، مصحوبة بالعلاج الجيني، تحقيق هذا أمرا ممكنا بطريقة سهلة إلى حد ما. فهل يمكن إقرار هذه الطريقة من أجل إنجاب ذرية كانت ستصاب بخلاف هذا بمرض مميت؟ فهل سيكون أمرا سيئا أن يختفي جين به خلل من التعداد السكاني؟ في الواقع إن هذه القضايا مطروحة للنقاش العام؛ ففي حالة الحيوانات يحدث إدخال جينات في الخط الإنتاشي بالفعل لأغراض الاستيلاد وكذلك، كما سنوضح فيما بعد تحت عنوان زراعة الأعضاء، من أجل تصنيع البروتينات البشرية في الحيوانات. (2) التلقيح الصناعي
ماذا عن أطفال الأنابيب واستنساخ البشر؟ تتمثل الفكرة الأساسية في هذه التقنيات إدراك أن الحمل لا يتطلب بالضرورة الاتصال الجنسي. فيمكن جمع المني من السائل المنوي الذكوري وإدخاله صناعيا إلى مهبل أنثى قادرة على التبويض؛ وتكون الذرية النهائية طبيعية من كافة النواحي. جرى استخدام التلقيح الصناعي في استيلاد الخيول والخراف والماشية لقرون. يوجد شرط واحد فقط؛ لا بد أن يكون السائل المنوي مأخوذا حديثا، أو يجمد على الفور. والسبب في هذا هو التالي؛ فلا بد للحيوان المنوي أن يقطع مسافة كبيرة أعلى القناة الرحمية حتى يقابل بويضة خرجت حديثا، ويعتمد على الزائدة الشبيهة بالسوط لتزويده بالحركة المطلوبة. أما الحيوان المنوي الهرم الذي ينتج طاقة غير كافية
5
لدفع محركه السوطي فلن يستطيع التحرك عبر سائل القناة الرحمية تماما مثل قائد الزورق المتعب الذي لا يستطيع دفع زورقه أعلى مياه القناة الكبرى في إيطاليا. إذا تعرض الحيوان المنوي - أو أي خلية أخرى أيضا - إلى التجميد والتخزين بعناية في نيتروجين سائل،
6
فإن تمثيله الغذائي يتوقف لكنه لا يتدمر. ويمكن تخزين الخلايا بهذه الطريقة لسنوات. وعند إذابة الثلج عنها تستعيد قدرتها على توليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين من خلال أكسدة العناصر الغذائية، وفي حالة الحيوانات المنوية، تستعيد أيضا قدرتها على الحركة. ومن المثير للدهشة أن التلقيح الصناعي لدى البشر يمارس منذ فترة طويلة. فقد ورد أن جون هنتر، الجراح المبتكر الذي عمل في مستشفى سانت جورج في لندن في القرن الثامن عشر، استخدم حقنة لتلقيح سيدة بالحيوانات المنوية لزوجها، الذي كان يعاني من تشوه خلقي يعرف باسم الإحليل التحتي. في هذا المرض لا ينتهي مجرى البول عند طرف العضو التناسلي الذكري، مما يجعل من المستحيل إطلاق الحيوانات المنوية إلى داخل المهبل مباشرة. وباستخدام تدخل جون هنتر ولد طفل معافى لهذين الزوجين الشاكرين. توفي هنتر بعد هذا بفترة قصيرة في 16 أكتوبر 1793، في يوم إعدام ماري أنطوانيت على المقصلة في باريس، وكان من الممكن لها وزوجها تعيس الحظ لويس السادس عشر الاستفادة من مساعدة جون هنتر قبل هذا بثلاث وعشرين سنة.
7
توجد أسباب أخرى للفشل في إنجاب الأطفال؛ فإذا كان الرجل ينتج عددا قليلا إلى حد ما من الحيوانات المنوية في السائل المنوي، ربما لن يوجد ما يكفي ليصل ولو واحدا منها إلى الرحم؛ فمن بين العديد من ملايين الحيوانات المنوية في السائل المنوي الطبيعي، لا يصل معظمها أبدا إلى وجهته النهائية؛ إذ يحدث فقدان القدرة على الحركة سريعا. وفي بعض الحالات تفتقر الحيوانات المنوية لقدرة كافية على الحركة في المقام الأول. ومن ناحية السيدات، يعتبر انسداد قناة فالوب
8
أحد الأسباب الشائعة إلى حد ما لعدم القدرة على الإنجاب. ومن أجل التغلب على مثل هذه المشكلات اخترع التلقيح الصناعي.
تعتبر تقنية التلقيح الصناعي سهلة من حيث المبدأ؛ فيؤخذ عدد من البويضات من السيدة جراحيا في وقت التبويض وتخلط بالحيوانات المنوية لشريكها في صحن مصنوع من الزجاج أو البلاستيك (ومن هنا جاء الاسم «إخصاب في المختبر»)، في ظل ظروف شديدة التعقيم. وبمجرد تخصيب الحيوانات المنوية للبويضات، يسمح لعملية النمو بالبدء وتحدث بضع انقسامات في الخلية. بعد هذا يزرع بعض من الأجنة الناتجة مباشرة في رحم الأنثى المتبرعة. تكمن الصعوبة في ضمان عدم تدمير البويضة المخصبة بأي طريقة، واستمرار الجنين المزروع حتى نهاية فترة الحمل. حاليا يصل عدد الأجنة التي تفعل هذا بالكاد إلى 15٪، ولهذا السبب يحدث زرع لأكثر من جنين واحد. وإذا زرعت أجنة كثيرة واكتمل نموها كلها بنجاح، فعلى الأرجح تكون النتيجة نمو توائم ثنائية وثلاثية ورباعية وأكثر، وهو أمر لا يكون مرغوبا فيه دوما؛ ومن ثم، بوجه عام، يحدث زرع لجنينين فقط وأحيانا ثلاثة. كذلك يجري فحص الأجنة لاكتشاف أي تشوهات محتملة قبل عملية الزرع والتخلص من الأجنة المشكوك في أمرها، على تحسين معدل النجاح وتقليل عدد الأجنة التي يجب زرعها. وعلى الأرجح ستلجأ في المستقبل السيدات اللاتي يتكرر فشل محاولاتهن للحمل إلى التلقيح الصناعي، يليه الفحص الوراثي. تفاقمت المشكلات الفنية عندما بدأ التلقيح الصناعي في بريطانيا منذ أكثر من 20 سنة بسبب الاحتجاج العنيف من الرأي العام على العبث بالطبيعة بهذه الطريقة. عارضت مهنة الطب في البداية التلقيح الصناعي على أساس أنه لن يحقق نجاحا؛ وعندما ثبت نجاح التجارب الأولية على الأرانب، انضموا للرأي العام في إدانته لأسباب أخلاقية. استمد رجلان الشجاعة من قناعاتهما، بأن تمكين زوجين عقيمين من الحصول على طفل ليس أمرا مذموما أخلاقيا، وثابرا. وقد زرع روبرت إدوارد، المتخصص في علم وظائف الأعضاء الذي قاد التجارب التي أجريت على الأرانب، وباتريك سيبتو، طبيب الولادة، في أواخر عام 1977، جنينا تكون بالتلقيح الصناعي في رحم سيدة غير قادرة على الإنجاب طبيعيا. وفي 25 يوليو 1978، ولدت أول طفلة أنابيب، لويز جاي براون، وكانت طبيعية وتتمتع بالصحة، وما زالت حتى يومنا هذا. ومنذ ذلك الحين، أصبح التلقيح الصناعي شائعا إلى حد ما في دول مثل أستراليا وبلجيكا ومصر وفرنسا وماليزيا وهولندا وباكستان وتايلاند وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا. وبحلول عام 1995 ولد 150 ألف طفل في جميع أنحاء العالم باستخدام تقنية التلقيح الصناعي، ومن المقدر أن يصل هذا العدد إلى 500 ألف في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بحلول عام 2005. [بمحض الصدفة، وأنا أكتب هذه الكلمات الآن تتزاوج ذبابتان على سطح مكتبي (فنحن الآن في منتصف صيف أندلسي حار). وعلى عكس التلوي الذي يحدث في نوعنا، تظل الذبابتان ثابتتين معا، ساكنتين تماما لساعة تقريبا. ما لا تدركانه أن السرير الذي اختارتاه لإتمام زواجهما هو السطح الخارجي لزجاجة رش الذباب الخاصة بي.]
تشمل الأرقام المذكورة سابقا الوضع عندما لا يزرع الجنين في رحم الأم المتبرعة بل في رحم أم بديلة، تحمل الجنين حتى اكتمال نموه. في هذه الحالة تحمل الذرية جينات الأم والأب المتبرعين ، لكن سيتأثر تعبير بعض من هذه الجينات على البيئة داخل رحم الأم المستقبلة. قد تتمثل الأسباب الطبية لتأجير الأرحام في افتقار الأم المتبرعة لرحم مناسب، أو حقيقة أنها تعاني من مرض خطير؛ في بعض الأحيان يكون مرضا مميتا، مثل السرطان. كذلك تعني القدرة على تخزين الحيوانات المنوية أو البويضات إمكانية تأجيل الحمل، بوجه عام عبر تأجير الأرحام، إلى ما بعد الوصول إلى سن اليأس؛ حيث تستطيع السيدة في خلال هذه الفترة الاحتفاظ بوظيفة بدوام كامل. من المحتمل أيضا أن يصبح التلقيح الصناعي شائعا في حالة وجود خطر وراثة جينات مميتة أو تسبب الضعف. توجد حاليا طريقتان للتشخيص السابق للولادة؛ أخذ عينات من الزغابات المشيمية، حيث تؤخذ بضع خلايا من المشيمة التي ما تزال في طور النمو، وذلك في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل؛
9
والبزل السلي، الذي تؤخذ فيه عينات من خلايا الجنين السائل الأمينوسي، والذي يجرى عادة في الأشهر الثلاثة الثانية. في كل حالة يستطيع التحليل الجيني للخلايا توقع الإصابة بحالات، مثل متلازمة داون أو التوحد أو شلل الحبل الشوكي، أو اضطرابات محتملة مثل ضمور العضلات أو التليف الكيسي أو حتى سرطان الثدي في مرحلة متقدمة في الحياة.
قد يتبع التشخيص إجراء إجهاض إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وأحيانا لا يكون هذا ضروريا من الأساس؛ لأن بعض الأمراض التي تسبب العجز يمكن كبحها إذا بدأ العلاج في مرحلة مبكرة بما يكفي. ومع ذلك، بوجه عام، لا يحدث هذا وينهي الحمل. وعندما يوجد شك في والد الجنين، أصبح من الممكن حاليا معرفة هذا أيضا باستخدام التشخيص السابق للولادة، ويتخذ الإجراء المناسب. وبالطبع في الدول
10
التي تغلب فيها المعتقدات الدينية على اختيار الوالدين، ويحظر فيها الإجهاض أو يحدث في أضيق الحدود، لا يمثل هذا اختيارا. وعلى المناهضين للإجهاض إدراك أن عدد حالات الإجهاض التي تحدث في دول تحظر فيها هذه الممارسة يفوق كثيرا عدد الحالات في الدول التي يسمح فيها القانون بذلك.
11
ويعني التحليل الجيني لجنين تكون باستخدام التلقيح الصناعي أن الجنين الذي يحتمل أن ينمو ليصبح طفلا ضعيفا لا يزرع ببساطة. ولا تكون التقنية المعروفة باسم التشخيص الجيني قبل الزرع ضارة بالضرورة؛ فعند توافر المهارة والتدريب السليم، يمكن إزالة خلية أو اثنتين من الجنين في المرحلة التي يكون فيها مكونا من 8 خلايا، دون الإضرار بقدرة كتلة الخلايا المتبقية على النمو لتصبح جنينا طبيعيا. قد يكون التحليل الجيني المعتمد على مواد مأخوذة من خلية أو خليتين صعبا، لكنه ممكن، خاصة مع التطور المستمر للتكنولوجيا المستخدمة لفعل هذا. فبالنسبة لكثير من الناس الذين يعلمون أنهم يحملون جينات مميتة محتملة، يكون قرار استخدام التلقيح الصناعي وعدم زرع الجنين إذا جاءت نتيجة التشخيص سيئة، أقل إيلاما من قرار إنهاء الحمل. ومن يدري ربما تغير المؤسسات الدينية موقفها وتتوصل إلى الرأي نفسه. (3) الاستنساخ
منذ بضع سنوات حصلت النعجة دوللي - وبعدها بسنة الفأرة كومولينا - على شهرة عالمية؛ فقد نشأت كل منها باستخدام «الاستنساخ». تتمثل التقنية تقريبا فيما يلي؛ تعزل الخلايا من نسيج حيوان بالغ، ولا يهم كثيرا من أي جزء في الحيوان تؤخذ الخلية، سواء من قطعة من الأمعاء أو الكبد، ولا يهم أيضا ما إن كانت من ذكر أم أنثى. بعد هذا يحدث تكاثر للخلايا خارج الجسم في صحن، حيث تنقسم مرارا وتكرارا، حتى تتكون مستعمرة من الخلايا المتطابقة. تؤخذ بعد ذلك واحدة من هذه الخلايا وتوضع مع نواتها، مستودع المادة الوراثية، داخل ماصة زجاجية (أنبوب ضيق بالأساس). بعد هذا تحقن النواة في بويضة أنتجتها الأنثى وتوضع في صحن، على نحو يشبه تكنولوجيا التلقيح الصناعي. يتمثل الاختلاف الوحيد أن البويضة في هذه الحالة تزال منها نواتها وترمى. فعلى عكس البويضة الطبيعية المخصبة التي تحتوي على مجموعة من جينات الأب مأخوذة من الحيوانات المنوية ومجموعة من جينات الأم مأخوذة من البويضة، تحتوي البويضة منزوعة النواة التي تحقن فيها النواة المأخوذة من الخلية البالغة على كل من جينات الأب والأم لنواة المتبرع، ولا تحتوي على أي جينات من البويضة نفسها. تنشط البويضة
12
ويسمح لها بالنمو لتصبح جنينا. يزرع هذا الجنين فيما بعد في أنثى مستقبلة مناسبة (إما المتبرعة الأصلية بالبويضة، أو أنثى أخرى)، تماما مثل الحال في التلقيح الصناعي لدى البشر. عندما يولد الصغير - يبدو أن مصطلح «ذرية» لم يعد مناسبا - أخيرا، يكون في حقيقته مستنسخا، أو نسخة طبق الأصل، من الحيوان الذي أخذت منه النواة؛ فإذا أخذت النواة من ذكر فإنه يكون ذكرا، وإذا أخذت من أنثى فإنها تكون أنثى.
حسنا، لن يكون نسخة طبق الأصل بالضبط، وهذا لسببين؛ الأول: أن البويضة منزوعة النواة تسهم ببعض الجينات في هذه الذرية، هذا بسبب وجود بعض الجينات في السيتوبلازم الموجود في الخلية خارج النواة، في التكوينات تحت الخلوية التي تدعى الميتوكوندريا، التي يوجد منها نحو 100 ألف في بويضة الثدييات. تحمل جينات الميتوكوندريا إلى حد كبير شفرة صنع البروتينات المتعلقة بالتمثيل الغذائي للطاقة. وكما رأينا في فصل سابق، تنتقل دوما عبر الخط الوراثي للأنثى؛ لأن الحيوانات المنوية لا تسهم بأي جينات ميتوكوندرية عند تخصيب البويضة.
13
ويتمثل السبب الثاني في عدم كون الحيوان المستنسخ نسخة طبق الأصل تماما لمتبرعه، في أن بيئة الأم التي ينمو فيها الجنين تؤثر في تعبير جينات معينة من جيناته. ويتمثل السبب في إغفال الصحف العامة، وكذلك الأبحاث العلمية التي وصفت استنساخ دوللي وكومولينا، ذكر هذه الحقائق في أنه لم يبد أن جينات الميتوكوندريا ولا البيئة داخل الرحم كان لها تأثير على ملامحها الخارجية؛ فقد بدت هذه الذرية نسخا طبق الأصل تماما من المتبرعين. جرى مؤخرا استنساخ قطة صغيرة من قطة متبرعة. في هذه الحالة كان لون فرائها - مخططا أبيض في أسود - يشبه القط المتبرع إلى حد كبير، لكن ليس بالكامل. وبما أن لون فراء الأم البديلة كان مختلفا تماما (مما يستبعد أي تأثير لجينات الميتوكوندريا)، يبدو أن ظهور هذا اللون تأثر جزئيا بالبيئة التي نما فيها الجنين.
14
ينطبق الأمر نفسه على صفات أخرى، مثل الذكاء والقابلية للإصابة بأمراض، مثل مرض السكري أو الأزمات القلبية أو السكتات الدماغية، المعروفة بتأثرها بعوامل غير وراثية داخل الرحم؛ فقد تلعب الجينات الميتوكوندرية لدى الأم البديلة دورا في حالات إصابة هذه الأمر بأحد الاضطرابات النادرة المرتبطة بخلل وظيفة الجين الميتوكوندري.
تجدر بي الإشارة إلى حقيقة أخرى. إن الإجراء بأكمله المتمثل في تخليق كائن كامل من نواة إحدى خلاياه المتمايزة، مثل النسيج الطلائي للأمعاء، يعتمد على حقيقة أن جميع الجينات في معظم الخلايا تكون نسخة طبق الأصل من الجينات الموجودة في البويضة المخصبة. نحن نعرف أن الدي إن إيه - الجينوم بأكمله - يستنسخ بدقة مع كل انقسام خلوي. يعني هذا أن تخصص الخلية - تكوين الكبد والقلب، والمخ والأمعاء، والعضلات والكلى - لا يكون نتيجة لتغير في المحتوى الجيني للخلايا التي تكون هذه الأعضاء، بل لتغير في تعبيرها. بعبارة أخرى، تتمتع نواة الخلايا المتمايزة بالقدرة على التمايز إلى أنواع أخرى من الخلايا. ظهرت هذه الحقيقة العلمية المهمة منذ أكثر من 30 عاما على يد عالم إنجليزي يدعى جون جوردون، الذي كان يعمل في هذا الوقت في أكسفورد. فقد نقح المحاولات السابقة في هذا الاتجاه التي أجراها العالمان الأمريكيان، روبرت بريجز وتوماس كينج، واستطاع إنتاج شرغوف يسبح بحرية من نواة خلية معوية مأخوذة من ضفدع بالغ.
15
كان هذا اكتشافا علميا يستحق جائزة نوبل (ما زال العالم في انتظارها). كان استنساخ دوللي وكومولينا تقدمين تكنولوجيين بارعين كيفا تقنية اتضح نجاحها من قبل مع البرمائيات بحيث أمكن استخدامها مع الثدييات.
ما احتمال أن نستطيع في المستقبل استنساخ نسخ شبه مطابقة لأنفسنا؟ توجد التكنولوجيا التي تسمح بهذا إلى حد كبير؛ لذلك فإن النقاش ليس بشأن الإمكانية العلمية، بل بشأن تقبل جموع الناس للنتيجة. في الوقت الحالي ثمة معارضة للسماح باستنساخ البشر. لكن الآراء تتغير؛ فمنذ وقت ليس ببعيد، كان الانتحار يعتبر جريمة في دول تسمح به الآن؛ وما زال الزعماء الدينيون يدينونه.
16
فيعتبر القتل الرحيم جريمة في معظم الدول، لكن هولندا تمثل استثناء بارزا. وقد تحدثت من قبل عن مدى اختلاف المواقف تجاه الإجهاض؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية تحولت القضية الأخلاقية إلى قضية سياسية. كذلك منذ مئات السنين كان الرجال يشنقون لارتكابهم سرقة صغيرة، أما الآن فلم تعد عقوبة الإعدام في جرائم القتل موجودة في معظم الدول. فمن يمكنه أن يقول ماذا سيكون موقف المجتمعات المختلفة تجاه استنساخ الإنسان بعد 10 سنوات أو 100 سنة؟ شن الفيزيائي الأمريكي، الدكتور ريتشارد سييد، حملة لاستنساخ إنسان، رغم أنف المعارضة.
17
ما أكرر ذكره أن التطورات العلمية لا تتوقف؛ فتعطش الإنسان للمعرفة والتجديد لا يمكن إخماده. على أي حال، في المعتاد لا تصير التقنيات المحتملة النابعة من الاكتشافات العلمية واضحة للعيان قبل مرور عدة سنوات، وبعد ذلك قد تؤدي إلى فائدة بقدر ما تتسبب في ضرر. هل يقدم الاستنساخ - ليس استنساخ البشر - أي فوائد؟
يحدث هذا بالفعل؛ وفيما يلي نقدم مثالا، رغم أنه ليس عن «الاستنساخ» بمعنى استيلاد كائنات كاملة. فقد أصبح الآن من الممكن زيادة عدد الخلايا المأخوذة من كائن بالغ، أو من طفل أيضا، لتنتج كتلة من الخلايا المتطابقة؛ وقد كان استخدام الخلايا المتمايزة لفعل هذا يمثل عقبة في الماضي، لكن اكتشفت حاليا تقنيات يمكن استخدامها في تحقيق هذا؛ ومن ثم أصبح من الممكن أخذ خلايا من الجلد، على سبيل المثال، وإنتاج شريحة من أنسجة الجلد. من المحتمل أن توجد فائدة هائلة لهذا للذين يعانون من حروق فادحة. في الوقت الحالي أصبح تطعيم المناطق المصابة بقطع كاملة من الجلد مأخوذة من أحد أجزاء الجسم الحل الوحيد. لذا يكون أخذ بضع خلايا فقط نعمة واضحة. بالطبع سيضطر المريض لانتظار الخلايا حتى تنمو لتصبح قطعة كبيرة بما يكفي لاستخدامها؛ لذلك يجري البحث عن طرق لتسريع عملية الانقسام الخلوي. من حيث المبدأ، يمكن للمرء تجميد خلايا الجلد المأخوذة من فرد يتمتع بالصحة، حتى يستخدمها فيما بعد عند حدوث حالة طارئة؛ بالنسبة للرجال تكون القلفة أسهل مصدر؛ فهي لا تقدم مجرد القليل من الخلايا، بل الملايين منها في المرة الواحدة؛ فمن قطعة واحدة من القلفة يمكن صنع كمية من أنسجة الجلد تعادل في حجمها مساحة ملعب كرة قدم في وقت قصير نسبيا. يكون استبدال الأعضاء والأنسجة الأخرى أكثر صعوبة لكنه يعد بمكاسب أكثر أهمية؛ خلايا كبد لشخص يعاني من التهاب الكبد الوبائي، أو خلايا قلب لشخص يعاني من فشل في القلب، أو خلايا كلى لمن يعاني من التهاب الكلى، أو خلايا بنكرياس لشخص مريض بالسكر، أو خلايا ثدي لمريضة عليها أن تخضع لعملية استئصال للثدي بسبب وجود ورم خبيث، أو خلايا رئة لشخص يعاني من السل، والقائمة لا تنتهي. في كل من هذه الحالات لا تتعرض الخلايا المدخلة حديثا للرفض لأنها مأخوذة من الشخص نفسه؛ حيث يوجد تحمل مناعي كامل. ولن توجد اعتراضات أخلاقية كثيرة على هذا الإجراء؛ لأن المرء لا يعمل إلا على تكاثر الخلايا المتمايزة؛ فلا تدخل الخلايا الجنسية في العملية. توجد مشكلة واحدة فقط؛ أن إمكانية تطبيق هذه التقنية ما زالت نظرية إلى حد كبير في الوقت الحالي. ويتمثل الحل البديل، الذي ينشد بنشاط، في البدء باستخدام التلقيح الصناعي.
شكل 13-1: الاستنساخ العلاجي وتكنولوجيا صنع الخلايا الجذعية. أعيدت طباعتها بإذن من خوسيه بي سيبيلي وروبرت بي لانزا ومايكل دي ويست، مقال «أول جنين بشري مستنسخ»، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد 286 (يناير)، الصفحات من 42 حتى 49، 2002.
يؤخذ حاليا في المعتاد نحو 10 بويضات أو ما شابه من المتبرعة التي تخضع للتلقيح الصناعي، يخصب منها نحو بويضتين وتزرعان. وربما تجمد البويضات المتبقية حتى تخصب وتزرع في وقت لاحق، أو يمكن استخدامها في «الاستنساخ العلاجي». في هذه الحالة تنزع النواة أولا من بويضة المتبرع، ثم تحقن نواة الخلية المأخوذة من الشخص المراد صنع «قطع غيار» له - ذكرا كان أو أنثى - في البويضة منزوعة النواة. تنشط الخلية ويسمح للجنين الناتج بالنمو لمدة من 5 حتى 6 أيام في كيسة أريمية، التي تكون في الأصل كرة من الخلايا غير المتمايزة. ونظرا لعدم تكون جهاز عصبي في هذه المرحلة،
18
يمكن وصف الجنين بأنه لم يصبح «حيا» بعد، أو على الأقل لا يستطيع الشعور بالألم. إذا أزيلت كتلة من الخلايا من مركز الكيسة الأريمية واستنبتت في صحن، فإننا نحصل على ما يعرف باسم الخلايا الجذعية الجنينية
19 (شكل
13-1 ). تتمتع هذه الخلايا بالقدرة على التمايز إلى أنواع مختلفة من الخلايا، مثل الكبد أو الجلد أو العضلات أو القلب. يمكن أيضا تجميدها وتخزينها من أجل التمايز فيما بعد إلى أنواع الخلايا هذه. بعبارة أخرى، سيتمكن الأفراد - رجالا أو نساء - من اللجوء إلى الخلايا المأخوذة من أي من أعضائهم للعلاج بالإعاضة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وفي هذه الحالة يكون التحمل المناعي مضمونا.
20
بالطبع مع استخدام الأدوية المناسبة المثبطة للمناعية، لا يحتاج مستقبل الخلايا الجذعية الجنينية أن يكون هو نفسه المتبرع بالنواة البالغة الأصلية. لا يزال الاستنساخ العلاجي في مراحله الأولية إلى حد كبير،
21
وربما يستخدم في المقام الأول في تصنيع خلايا من أجل إصلاح نسيج متضرر، بدلا من صنع أعضاء بأكملها. ومن المفترض أن يصبح من الممكن في المستقبل البعيد زراعة حتى خلايا عصبية، مصنعة بالطريقة نفسها، في المخ. في الوقت الحالي، تقتصر هذه التقنية على استخدام خلايا مأخوذة من جنين مجهض؛ فيوجد احتمال أفضل لقبول خلايا الجنين من شخص لا يمت له بصلة من خلايا الشخص البالغ، لكن مشكلة الرفض المناعي لم تحل بالكامل. فربما يكون حان الوقت بالفعل لمساعدة الذين يعانون من مرض باركنسون وألزهايمر وغيرهما من الاضطرابات العصبية.
أشرنا في الفصل السابق إلى احتمالات تغيير المحاصيل عن طريق إدخال جينات جديدة في بذورها. وبالمثل، يمكن أيضا إدخال جينات في أجنة الحيوانات والبشر باستخدام تقنيات التلقيح الصناعي والاستنساخ. فأحيانا لا يكون الجين هو نفسه الذي يحمل شفرة صنع بروتين معين، بل جزء الدي إن إيه الذي يعمل على تشغيل الجين المنقول أو إيقاف عمله. تذكر أن جزءا كبيرا من الدي إن إيه الموجود في كروموسوماتنا لا يعمل على تصنيع بروتينات معينة، إنما يعزز محتواها في الخلايا أو يقلله عن طريق تنظيم تعبير الجين المتعلق بها. في حالة استيلاد الحيوانات، على سبيل المثال، يمكن التلاعب بمقدار هرمون النمو الذي يسري في مجرى دمها بهذه الطريقة، ويمكن إنتاج حيوانات أكبر من الطبيعي. الأهم من ذلك احتمال إنتاج حيوانات مقاومة للأمراض. سيمكن هذا المزارعين في الدول الغربية من تقليل كمية المضادات الحيوية التي يجعلون الماشية تتناولها (وهي ممارسة غير مرغوب فيها شرحناها في الفصل الثاني عشر)، وسيساعد المزارعين في الأجزاء الاستوائية والأكثر فقرا في العالم في تربية حيوانات مقاومة لطفيليات الدم مثل المثقبية البروسية،
22
وفيروسات مثل مرض القدم والفم. وسنتحدث بعد قليل عن تعديل لهذه التكنولوجيا بحيث يمكن إدخال جينات بشرية - وليست حيوانية - في حيوانات المزرعة. (4) زرع الأعضاء
أعطت زراعة الأعضاء، مثل الكلى أو القلب أو الكبد أو الرئة، المأخوذة من جثث الموتى للمرضى الميئوس من شفائهم أملا جديدا في الحياة على مدار العقود الماضية. ثمة مشكلتان ترتبطان بهذا الإجراء. تتمثل الأولى في رفض الجهاز المناعي للأعضاء الغريبة. فحتى الأنسجة المتوافقة مناعيا قدر الإمكان بين المتبرع والمتلقي قد تتعرض للرفض. ويمكن لإعطاء الأدوية المثبطة للمناعة، مثل سيكلوسبورين، التغلب جزئيا على المشكلة وتمكين المرضى من الحياة بالكلى أو الكبد أو القلب المزروعين لأكثر من 20 سنة في أفضل الحالات. إلا أن العدوى تمثل مشكلة كبرى للمرضى المثبطة مناعتهم لأن الجهاز المناعي، الذي يعمل عادة على منع العدوى، يكون عمله متوقفا فعليا. أما الصعوبة الثانية فتتمثل في نقص توافر الأعضاء المناسبة؛ فحاليا ينتظر أكثر من 150 ألف مريض في جميع أنحاء العالم الخضوع لعملية زرع أعضاء، ويتزايد الطلب سنويا بنحو 15٪. وسيحالف الحظ فعليا ثلث هذا العدد ليحصل على عملية زرع قبل فوات الأوان. ما الذي يمكن فعله لحل هذا الوضع؟ يتمثل أحد الحلول في صنع عضو بديل للإنسان باستخدام «الاستنساخ العلاجي». وثمة طريقة أخرى تتمثل في استخدام أعضاء حيوان، مثل الخنزير، تكون في حجم قريب من أعضاء البشر. وهذا كل ما يتعلق بزراعة الأعضاء.
23
طبقت زراعة كبد الخنزير لعدة سنوات، وتبدو فعالة إلى حد ما في حالة فشل الكبد. وبوجه عام لا توجد أهمية لحقيقة أن كبد الخنزير يرفضه الجسم بعد عام؛ لأن الكبد لديه القدرة على إعادة تجديد نفسه. بعبارة أخرى، يكفي توفير مصدر بديل لخلايا الكبد لفترة محدودة فقط، تعمل في أثنائها خلايا الكبد الصحية المتبقية على إعادة تجديد نفسها ببطء. وبمجرد حدوث هذا، تختفي الحاجة للعضو المزروع، ويكون رفض الجسم عندها في الواقع مفيدا. وثمة تطور حديث لا يعتمد على زرع كبد سليم على الإطلاق. فيمكن عزل خلايا كبد الخنزير ووضعها داخل عمود زجاجي يضخ عبره الدم المأخوذ من المريض. تجري خلايا الخنزير كل التغيرات الأيضية الضرورية، مثل تحويل الأمونيا القلوية في الدم إلى يوريا محايدة وتزيل سمية الجزيئات الضارة الأخرى، دون الحاجة إلى علاج مثبط للمناعة. للأسف، لا يحدث تجديد ذاتي في الأعضاء الأخرى مثلما يحدث في الكبد، ويجب أن تبقى أنسجة الكلى أو القلب أو البنكرياس أو الأعضاء الأخرى المزروعة في مكانها إلى أجل غير مسمى. ومؤخرا تحول اهتمام العلماء الذين استنسخوا النعجة دوللي إلى الخنازير. فتوصلوا إلى استنساخ خنازير صغيرة أزيل من أجسامها الجين المسئول عن الرفض المناعي من جسم مستضيف أجنبي؛
24
ومن ثم فهي توفر مصدرا مفيدا لأعضاء يمكن زراعتها. تبدو هذه طريقة ذات قيمة محتملة للتغلب على كلتا المشكلتين المرتبطتين بزراعة الأعضاء للبشر؛ الرفض المناعي ونقص الأعضاء المتوافرة. ومع ذلك يوجد جانب سلبي لاستخدام أعضاء الحيوانات؛ فقد يحمل النسيج المزروع فيروسا ربما لا يكون له ضرر على الخنازير ولكن هذا لا ينطبق على البشر. يصعب جدا التحقق من هذا الاحتمال، خاصة في حالة الفيروسات القهقرية، مثل فيروس العوز المناعي البشري وفيروسات معينة تسبب سرطان الدم.
25
نحمل جميعنا بالطبع تتابعات جينات الفيروسات التي دخلت أجسامنا دون عمد طوال فترة حياتنا أو كانت لأجدادنا ونحملها في كروموسوماتنا. إذن هل يكون تهديد الحصول على تتابع آخر من خنزير خطير للغاية؟ مبدئيا، لا، خاصة عندما يعاني المرء من مرض يهدد حياته. إلا أن العلماء لديهم ما يكفي من الحكمة ليحذروا من الاستخدام العشوائي لزراعة الأعضاء بهذا الشأن. فيقولون: تذكر ما حدث (على الأرجح) عندما وجد فيروس قهقري لقرد نفسه بالصدفة داخل عائل بشري؛ إذ أدى هذا إلى ظهور فيروس العوز المناعي البشري، الذي وصل حاليا إلى مستويات وبائية في أفريقيا ومسئول عن أكثر من مليون حالة وفاة تحدث سنويا بسبب مرض الإيدز الذي يسببه.
يوجد استخدام محتمل آخر لزراعة الأعضاء والاستنساخ والتلقيح الصناعي؛ هو حفظ أنواع الحيوانات التي على وشك الانقراض.
26
فتحقن خلية مستنسخة من أحد أفراد النوع المهدد في بويضة منزوعة النواة لنوع مختلف غير مهدد. تنشط البويضة ويسمح لها بالنمو لتصبح جنينا في مراحله المبكرة، يزرع فيما بعد في أنثى الحيوان المتبرعة بالبويضة. من المفترض أن يولد حيوان يتمتع بالصحة، شريطة أن تكون الخلية المستنسخة معدلة وراثيا بطريقة تمنع الرفض المناعي من الحيوان المتلقي، تماما مثل التعديل المناعي المذكور آنفا عن الأعضاء التي تزرع من الخنزير في الإنسان. كان المرشح الأول لهذه التقنية الغور، وهو حيوان يشبه الثور يعيش في أجزاء من الهند وجنوب شرق آسيا ومهدد بخطر الانقراض. وقع الاختيار على بقرة آيوا عادية لتؤدي دور الأم البديلة. ولدت بالفعل ذرية تتمتع بالصحة ظاهريا، لكنها للأسف نفقت بعد 48 ساعة بسبب عدوى بكتيرية.
27
الحيوان التالي على القائمة هو الباندا العملاقة (وستكون الأم البديلة الدب الأسود الأمريكي). ويوجد متنافس آخر يتمثل في الظبي الجبلي الذي يدعى بونجو، الذي يقتصر عدده على 50 حيوانا تقريبا تعيش في منطقة صغيرة في كينيا؛ وستكون أمه البديلة حيوان الإيلاند.
ظهرت محاولات لاستنساخ الماموث الصوفي، الذي انقرض منذ 10 آلاف سنة، من عينة نافقة عثر عليها في منطقة الجليد الدائم في سيبيريا (وتكون الأم البديلة فيلا)؛ وحتى الآن لم ينجح هذا الأمر؛ فقد تعرض الدي إن إيه لدمار كبير. ومع ذلك يوجد افتراض أن بعض المجموعات المنعزلة من الماموث الصوفي ربما بقيت على قيد الحياة في أجزاء نائية من سيبيريا، وإذا اتضح أن هذا صحيح فربما تكون الفرصة ما تزال متاحة لإنقاذ هذا النوع. وبالمثل ثمة مشكلات تتعلق بعدم استقرار الدي إن إيه تكتنف محاولات استنساخ الثايلسين أو النمر التسماني من جرو محفوظ في كحول منذ عام 1866.
28
ومن ثم توجد فرصة ضئيلة للغاية في أن يعدو استنساخ عينات الديناصورات التي يبلغ عمرها 65 مليون سنة أكثر من كونه مجرد خيال علمي. من ناحية أخرى، ربما نرى الاستنساخ ينقذ أنواعا مهددة مثل الفهد والأسلوت. سيظهر لنا الوقت وحده مدى فاعلية هذا الأسلوب حقا في منع انقراض الحيوانات المعرضة للخطر.
يتمثل أحد التطورات الطبية المهمة في زرع جينات بشرية في جنين حيوان باستخدام التلقيح الصناعي من أجل تصنيع كميات هائلة من البروتينات البشرية. يحتاج المرضى إلى مثل هذه البروتينات من أجل التصدي لغياب بروتين معين أو فقدانه، أو تعزيز وجوده. ومثال على الحالة الأولى الأنسولين في حالة مرضى السكر؛ ويعتبر الألبومين في حالة فقدان الدم في أثناء حادث أو عملية جراحية مثالا على الحالة الثانية؛ ويعد إنزيم الثرومبوكيناز، الذي يساعد في إذابة جلطات الدم، مثالا ثالثا. توجد قيود واضحة على عزل هذه البروتينات من مصادر بشرية. أما استخدام البروتين نفسه المستخرج من حيوان فيعتبر أحد الحلول، وقد نجح في الماضي مع الأنسولين. وبدلا من هذا يمكن استخدام تكنولوجيا الجينات مع الجراثيم؛ فتوضع الجينات البشرية في البكتيريا ثم تفرز المنتج المطلوب. إلا أن هاتين العمليتين باهظتا الثمن، وتكون النواتج منخفضة. وتقدم زراعة الأعضاء حلا بديلا؛ ولهذا توصل العلماء إلى فكرة إدخال الجين البشري الخاص بالبروتين المطلوب في الخلايا الجنسية لحيوانات تنتج الحليب، مثل الأبقار أو الخراف أو الماعز.
29
فمن خلال إضافة الجين إلى جين لا يظهر عمله إلا في غدد الثدي، فإن البروتين يفرز في اللبن. وعندها يكون عزل البروتين البشري النقي بكميات كبيرة إجراء سهلا.
توجد تقنية أخرى تتمثل في إدخال الجينات البشرية في الخلايا الجنسية للدجاج، حتى تظهر البروتينات المعنية في زلال بيضها، ومن هنا يمكن عزلها بسهولة، ومرة أخرى يكون هذا بكميات كبيرة. تصنع حاليا بروتينات لديها القدرة على أن تعمل كعوامل مضادة للسرطان باستخدام هذه التقنية. ومن أجل استخدام حيوانات المزارع في إعداد البروتينات البشرية، من الضروري بالطبع ألا تكون مصابة بأي عامل يحتمل أن يلوث المنتج البروتيني. من المهم على وجه الخصوص خلو الأبقار من جنون البقر، والخراف من الراعوش،
30
والدجاج من السالمونيلا أو فيروس مرض نيوكاسل . إلا أن هذه التقنيات تبدو أنها تعمل بنجاح، وتستمر ذرية الحيوانات المعدلة جينيا في إنتاج البروتينات المطلوبة لأجيال وأجيال. هذا مثال جيد على تكنولوجيا حيوية نشأت من علم الجينات؛ ولأنها تعتمد على استخدام حيوانات المزارع سميت «التصيدل». وربما يتساءل القارئ لماذا يتكبد المرء عناء فصل البروتين، ويعقمه ويحقن به المرضى ؛ لماذا لا يمكننا ببساطة شرب اللبن أو أكل البيض؟ كما ذكرنا سابقا، تتعرض البروتينات إلى قدر كبير من التحلل في الجهاز الهضمي، ولهذا السبب يكون تناولها عبر الفم غير فعال بوجه عام.
يوجد دمج محتمل لتقنيتي إدخال الجينات البشرية في الحيوانات وزرع أعضاء الحيوانات في البشر، ويتمثل في زرع خلايا بشرية كاملة في الحيوانات. تنشط الخلايا بعد هذا لتنمو فتصبح أعضاء وأنسجة؛ ويمكن بعدها إزالتها من العائل الحيواني البديل وزرعها في البشر مرة أخرى. لا توجد مشكلة بشأن الرفض المناعي لهذه الأعضاء؛ لأن مصدرها إنسان، وليس حيوانا.
31
لكن لماذا لا تتعرض الخلايا البشرية للرفض من العائل الحيواني في المقام الأول؟ تتمثل الحيلة التي ابتكرتها مجموعة في معهد العلوم الجراحية للأطفال في فيلادلفيا، في حقن الخلايا في أجنة لم يتكون لديها أجهزة مناعية بعد. تكون هذه الخلايا خلايا «جذعية» تشبه الخلايا الجذعية الجنينية التي شرحناها من قبل؛ فتكون غير متمايزة وتوجد جزيئات مناعية قليلة على سطحها. وما اكتشفه العلماء الأمريكان عند حقن خلايا جذعية بشرية في أجنة الحمل، أنه من الممكن جعل الحملان البالغة تحمل خلايا بشرية داخل أنسجة، مثل العضلة الهيكلية والقلب والغضروف. (5) موجز
لنعاود الحديث عن موضوع المخاطر، الذي يقوم عليه الفصلان اللذان يتكون منهما الجزء الثالث. في مواقف معينة نحسب تلقائيا المخاطر - أحيانا لا إراديا؛ فعندما نوشك، على سبيل المثال، على عبور شارع مزدحم، ننظر لنرى حركة المرور التي تقترب منا على الجهتين ثم نأخذ قرار عبور الطريق أو عدم عبوره. لا يخلو أي شيء نفعله في حياتنا من المخاطر؛ فمعظم الأشياء التي تحدث لنا تعتمد إلى حد معين على أحداث خارجة عن سيطرتنا؛ ومن ثم تحتوي على عنصر المخاطرة. فبالنسبة لمعظمنا لا يوجد ما يسمى «القضاء والقدر»؛ فتوجد مجرد ظروف بعيدة الاحتمال للغاية، فيمكن، من حيث المبدأ، حساب احتمالات حدوث أي موقف معين. وهذا في النهاية ما تفعله شركات التأمين ووكلاء المراهنات طوال الوقت. ربما لا يستطيع علماء الأرصاد الجوية أن يتوقعوا بدقة حدوث فيضان في بنجلاديش أو زلزال في كاليفورنيا، لكنهم يستطيعون حساب الاحتمالات. وبالطبع يساعدهم في فعل هذا الحصول على البيانات ذات الصلة بشأن الحوادث السابقة. وفي النقاش بشأن تأثير المحاصيل المعدلة جينيا على البيئة وسلامة الأطعمة المعدلة جينيا على الصحة، كانت هذه النقطة تحديدا هي التي أكد عليها المعارضون لهذه التكنولوجيا الجديدة؛ فلأنها جديدة لا سبيل لحساب احتمالات وقوع خطأ ما، إلا أن هذا الرأي ليس صحيحا كليا.
لا يحدث تقدم تكنولوجي ضخم للغاية بحيث يستحيل أن نحسب - على الأقل تقريبيا - نتائجه الضارة المحتملة. فقد أدرك العلماء جيدا الدمار المتوقع أن تحدثه القنبلة النووية الأولى، وأخبروا رجال السياسة بهذا، ففي النهاية كان هذا سبب اختراعها؛ لإحداث أقصى حد من الأذى الجسدي ومن ثم إيقاف الحرب. صحيح أن العلماء لم يعرفوا بالضبط ما الآثار المحتملة طويلة المدى لوجود عنصر السترونتيوم المشع في الجسم (على أي حال لم يكن لهذا علاقة بقرار استخدام القنبلة)، لكن كانت لديهم فكرة تقريبية عن أن السقط الإشعاعي، مثل الغاز السام أو الجراح الناتجة عن طلق ناري أو الخوف من التعرض للقتل في معركة، سيؤدي إلى مشكلات إكلينيكية. واسمحوا لي أن أذكر الخائفين من الموت الذين يريدون وقف جميع عمليات التعديل الجيني التي تتعرض لها الأطعمة والبشر بما يلي: عندما بدأ إدوارد جينر التطعيم ضد مرض الجدري، اتهم بتدميره لنظام الطبيعة، تماما كما يحدث للعلماء المشتغلين بأبحاث التعديل الجيني في العصر الحالي؛ ومع ذلك لن ينادي كثيرون الآن بضرورة توقف التطعيم ضد أمراض قاتلة، مثل الجدري أو شلل الأطفال أو التيفويد أو السل. وعندما صنع جورج ستيفنسون أول قطار سكك حديدية في العالم، حذر الأطباء من أن الجسم البشري لن يستطيع تحمل السرعات العالية المستخدمة (كان يسير بسرعة 20 ميلا في الساعة).
ثمة أمر لا يمكن توقعه في التكنولوجيا الجينية - سواء أكانت مطبقة على الطعام أم على البشر - يتمثل إلى حد كبير فيما يلي. عند التلاعب بالدي إن إيه لا يمكننا التأكد أبدا من أن الجين أو العنصر المتحكم في عمل هذا الجين لن يتصرف بأسلوب غير متوقع عند نقله من كائن
32
إلى آخر. كذلك يوجد احتمال انتقال تتابعات فيروسية غير معروفة وخاملة. هل أنا بذلك أغير رأيي بشأن مخاطر الأطعمة المعدلة جينيا، التي لخصتها في نهاية الفصل السابق وقلت إنها منخفضة؟ لا، على الإطلاق. أنا أفقط أستعرض الأمر بحيادية، كما وعدت في البداية؛ ولهذا سأعترف بسهولة أن ثمة مجموعة بحثية ألمانية اختبرت فاعلية الفيروسات القهقرية غير المسببة للعدوى بوصفها عوامل نقل لإدخال الجينات المعدلة داخل الفئران، واكتشفت أن الفيروس تسبب دون قصد في إصابة بعض الحيوانات بسرطان الدم.
33
إلا أن العلماء المشرفين على هذه التجارب أشاروا إلى أن مئات الآلاف من الحيوانات التي تماثلت للشفاء بهذه الطريقة لم تصب بالسرطان؛ فاحتمالات إصابتها بهذا المرض تقدر تقريبا بحالة واحدة في كل 10 ملايين حيوان، ومع ذلك ثمة حاجة واضحة لمزيد من الأبحاث. كذلك جرى استعراض احتمال عثور الجينات التي تدخل إلى الخلايا الجسدية، مثل الرئة أو الكبد، على وسيلة للانتقال إلى الخط الإنتاشي.
34
أما بالنسبة لخطر الإصابة بالمرض بسبب تناول الأطعمة المعدلة جينيا، أكرر أن هذا الخطر ليس أكبر من خطر الإصابة بالمرض بسبب تناول الأطعمة المزروعة عضويا، أو أي نوع آخر من الأطعمة. أما خطر تأثير المحاصيل المعدلة جينيا على البيئة فهو أكبر، لكن عواقبه بسيطة مقارنة بالتغيرات التي أحدثها الإنسان بالفعل في الطبيعة على مدار 10 آلاف سنة مضت. يتناول الأطعمة المعدلة جينيا ملايين الناس، وتزرع المحاصيل المعدلة جينيا منذ عدة سنوات، دون أي إفادات بوجود تأثير واضح على الصحة أو البيئة. وإذا رضخنا لحماة البيئة المولعين بالجدل، فربما ندمر النسيج نفسه الذي يريدون الحفاظ عليه؛ ومثال على هذا الدمار الذي يلحق بالمحاصيل من أسراب الجراد. ثبتت فاعلية دواء يدعى ديلدرين كإجراء مضاد للحشرات، لكن استخدامه توقف بسبب اعتراضات بشأن احتمال سميته تجاه أشكال أخرى من الحياة البرية؛ فحل محله دواء أخف وأقل فاعلية يدعى فينيتروثيون. والنتيجة؟ يعيش الملايين في أفريقيا في خوف من عودة أسراب الجراد، وما تحمله من تبعات اقتصادية مدمرة. وبالمثل يكون خطر التلاعب بالجينات البشرية متواضعا؛ فثمة عنصر خطورة في جميع التدخلات الطبية، بداية من تناول الأسبرين حتى الخضوع لعملية زرع قلب. ما نحتاج إلى فعله في كل موقف هو الموازنة بين الخطورة والفائدة المحتملة.
أؤكد أن فائدة الأطعمة المعدلة جينيا لمليارات البشر الذين يعانون من نقص في الغذاء في أفريقيا وآسيا - معظمهم من الأطفال - يفوق أي أخطار محتملة، خاصة تلك التي يتخيلها المحتجون غير الملمين بالموضوع. وأعتقد أن فائدة التكنولوجيا الجينية لمن يعانون من أمراض مميتة، مثل التليف الكيسي وضمور العضلات والسرطان، وفائدة التلقيح الصناعي لزوجين عقيمين يريدان إنجاب طفل، وفائدة استنساخ خلايا المخ لشخص يعاني من مرض باركنسون، وفائدة زراعة الأعضاء لمريض كبد على شفير الموت، تفوق كلها المخاطر. علينا أن نشكر العلماء على سعيهم المستمر للتوصل إلى تقنيات جديدة، لا أن نعاقبهم؛ فالأبحاث الطبية الحيوية ليست هي التي تحتاج إلى تحكم، بل تطبيقها غير المناسب. أدرك هذه المعضلة بالفعل في أوائل القرن السابع عشر الفيلسوف ورجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون؛ فبما أن «المعرفة قوة»، يجب على العلماء القسم على «السرية، على إخفاء الأشياء التي نرى أنه من المناسب إبقاؤها سرا؛ رغم أن بعض هذه الأشياء نظهرها بالفعل للدولة وبعضها لا نظهره.»
35
وفي عصرنا الحالي، لن يصح بالطبع ترك هذا الأمر في أيدي المخترعين.
36
فتطبيق العلم مسألة يقررها الجميع - العلماء وعامة الشعب، رجال السياسة والمنتخبون. لكن رجاء دع المنطق، وليس العبارات الرنانة، هو الذي يحدد النتيجة.
هوامش
الجزء
تأمل متبصر: نظرة مستقبلية
الفصل الرابع عشر
انقراض الفضول البشري أم بقاؤه؟
تتمثل إحدى خصائص البحث في عدم معرفة ما ستعثر عليه. فقد كان كولومبوس يبحث عن طريق للوصول إلى جزر الهند من خلال السفر غربا عبر المحيط الأطلنطي، وبدلا من هذا عثر على الأمريكتين؛ وبعد 400 سنة كان ديفيد ليفينجستون يبحث عن منبع نهر النيل؛ فعثر على منابع نهر الكونغو. وكان نيوتن يبحث عن تفسير لحركة الكواكب، فاكتشف الجاذبية؛ وكان واطسون وكريك يبحثان عن التركيب الصحيح للدي إن إيه، فاكتشفا طريقة تعبير الجينات وتناسخها. وطالما أن الحال كذلك، يستحيل توقع التطورات التي تنتظرنا. فإذا كنت طلبت من أي شخص في عام 1900 توقع كيف ستكون حياة الإنسان في عام 2000، ربما كانوا سيتوقعون ظهور السيارة بوصفها وسيلة انتقال أكثر راحة من الحصان أو العربة التي تجرها الخيول أو قطار السكك الحديدية الذي يسير في مسار محدد، لكنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن تصبح شوارع بومباي وبانكوك وكاراكاس وجاكرتا أكثر ازدحاما بالسيارات من شوارع لندن أو باريس أو نيويورك. كذلك لم يكن ليفاجئهم اختراع الطائرة - فقد ظهرت آلات الطيران على لوحات الرسم منذ عصر ليوناردو دافنشي - لكن كان سيفاجئهم الانتقال من لندن إلى نيويورك في أقل من 4 ساعات. كان من الممكن كذلك أن يتوقعوا ظهور وسائل الاتصال الإلكترونية - فقد اخترع التلغراف في منتصف القرن وسرعان ما تبعه الراديو، وبث ماركوني أول إرسال له عبر مصب نهر سيفرن من مدينة بينارث إلى ويستون-سوبر-مير في عام 1896 - لكن لم يكن ليخطر ببالهم أن كل طفل في المدرسة وأمين مكتبة وموظف في بنك وممرضة وبائع في متجر سيبرع في استخدامها. وربما كانوا سيتوقعون اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي، وتسلق جبل إفرست، لكنهم لم يكونوا ليتخيلوا أنه من الممكن للبشر السير على القمر.
عندما وضع ماكس بلانك نظريته عن الكم في عام 1900، لم يتوقع أي عالم أن مدلولاتها ستؤدي إلى الاستخدام اليومي لأجهزة الترانزستور أو الليزر أو التصوير بالرنين المغناطيسي. تتسم طبيعة الاكتشافات العلمية بالعشوائية، ويكون معدل التقدم التكنولوجي سريعا للغاية، بحيث يصعب توقع المستقبل. يرفض العلماء الجادون توقع مسار العلوم الأساسية. عندما طلبت من صديق (حاصل على جائزة نوبل) توقع الاكتشافات المستقبلية التي ستحدث في مجال تخصصه، رد قائلا: «أنا عالم تجريبي، ولست منجما.» وأحيانا لا تكون التوقعات بها قدر كبير من التفاؤل؛ فتكون التكنولوجيا المطلوبة والدعم المادي دون المستوى، كما يمكن للرأي العام أن يدمر أكثر المشروعات براعة. في عام 1955 كان من المتوقع أنه في خلال 5 سنوات أو في أسوأ الأحوال 15 سنة، ستعبر الطائرات التي تعمل بالطاقة الذرية المحيط الأطلنطي في 30 دقيقة. مرت 50 سنة ولم يحدث شيء؛ فقد جعلتنا مخاطر استخدام الطاقة النووية نحتاط. (1) القرن القادم
هل تريد مني توقع كيف سيكون شكل الحياة في عام 2100 نتيجة لأبحاثنا؟ بما أني لن أكون موجودا - ولا أنت أيضا، على ما أظن، وكذا معظم قرائي إلا إذا كانوا متعلمين منذ سن مبكرة للغاية، وينعمون في الوقت نفسه بطول العمر الفائق
1 - فليس لدي ما أخسره. يعتقد المتشائمون بالطبع أن الحياة كما نعرفها ستنتهي فعليا؛ فسيؤدي تلاعبنا بالطبيعة وبأنفسنا - المحاصيل المعدلة جينيا والبشر المعدلين جينيا - إلى كارثة مفجعة. أما أنا فلا أتفق معهم في هذا الرأي للأسباب المذكورة في الفصول السابقة. فيوجد أناس يتوقعون وقوع أحداث كارثية مع كل كسوف كلي للشمس ومع كل ألفية جديدة، ويتحدثون عن دقة تنبؤات نوستراداموس منذ 500 عام التي توقعت اغتيال الرئيس كينيدي، وانتهاء الحرب الباردة، وغزو صدام حسين للكويت، ووفاة الأميرة ديانا أميرة ويلز. عندها أبتسم بأدب وأغير الحوار؛ فعندما يغيب المنطق في منتصف الحوار، من الأفضل التوقف عنه.
بالطبع من الممكن أن يضرب الأرض كويكب ضخم مثل ذلك الذي ارتطم بالأرض منذ 65 مليون سنة.
2
وفي الواقع ستكون عواقب مثل هذا الحدث كارثية، لكن احتمالات حدوثه ضئيلة.
3
ومع ذلك يوجد أكثر من 100 ألف كويكب في حجم ملعب كرة القدم في مجموعتنا الشمسية وحدها.
4
ونحن نعلم أن احتمال ارتطام كويكب صغير بالأرض بقوة مائة قنبلة نووية - كالتي ضربت هيروشيما - في 21 سبتمبر 2030 هو مجرد 1 في 500. تحدد مؤخرا أيضا كويكب آخر، «إن تي 7»، في مسار الاصطدام بالأرض. تبلغ كتلته 11 مليار طن، ويبلغ قطره من 1 إلى 2 ميل، ويدور حول الشمس بسرعة 17 ميلا في الثانية. إذا ضرب الأرض، فإنه سيفعل هذا - في 1 فبراير 2019 - بقوة تزيد عن قوة مليون قنبلة هيدروجينية. لكن لا تيأس؛ فالعلماء يخططون من الآن لطرق تجعله يحيد عن مساره الحالي؛ عن طريق إلصاق شراع ضخم يعمل بالطاقة الشمسية به، أو دفعه جانبا باستخدام مفاعل نووي، أو تفجيره بالطبع باستخدام قنبلة نيوترونية.
5
مع ذلك بين كل أنواع الحيوانات والنباتات التي ربما تنقرض، بالتأكيد سيكون الإنسان الأقل تأثرا؛ فسعيه للبقاء قوي للغاية. بالطبع سيؤدي بحث الإنسان عن مساحة إضافية للحياة وعن طعام ومياه عذبة إلى حالات من التوتر؛ فيزيد عدد سكان العالم بمعدل 24 شخصا كل 10 ثوان، ومع كل 8 ثوان تمر يفقد هكتار من الأرض المزروعة.
6
إن عصرنا الحالي يضم ثلثي البشر الذين وصلت أعمارهم إلى 65 عاما على الإطلاق. وفي غضون 20 سنة، سيعيش نصف سكان الدول النامية في مناطق حضرية مقارنة بأقل من الثلث في العصر الحالي. وسيحاول الناس ذوو النوايا السيئة استغلال مثل هذه المواقف
7
بتوفير مزيد من أسلحة الدمار الشامل الفعالة. وبالفعل توجد بين أيدينا تكنولوجيا لتدمير الناس انتقائيا؛ ومثال على هذا القنبلة النيتروجينية والجراثيم الفتاكة، فضلا عن التعقيم الجماعي. لكن من غير المحتمل أن يخرج مثل هذا الهجوم عن السيطرة بما يكفي للقضاء على الإنسان العاقل على سطح الأرض. فصفة العملية، التي تعتبر واحدة من الصفات المميزة للإنسان، توفر قيدا يعمل على تحجيم الأهداف الخبيثة ذات الأبعاد العالمية. تذكر الحرب الباردة التي حدثت مؤخرا، واستمرت 40 عاما بين الاتحاد السوفييتي والدول الديمقراطية الغربية، التي انتصر فيها ضبط النفس على انتهاز فرصة استخدام الأسلحة النووية.
بعض جوانب الحياة في عام 2100 لن تتغير؛ فستظل الخلافات بشأن التكنولوجيا الجديدة موجودة.
8
وستظل تقع مشاجرات وتندلع حروب، وتخرق معاهدات ووعود. وستكون الفوضوية منتشرة تماما مثلما كان الحال في عام 2000 أو 1900، وسيستمر تبرير أعمال الإرهاب على أسس دينية، كما كان الحال منذ أول حرب صليبية اندلعت منذ ألف سنة. وسيظل عدد الاكتشافات العلمية هو نفسه تقريبا كما كان في خلال القرن الماضي، لكن من المتوقع أن تصبح التطورات التكنولوجية التي تنتج عنها ضخمة. ولن يزيد عدد الكتب المميزة التي تؤلف، أو المقطوعات الموسيقية التي تلحن، أو الصور التي ترسم، عن العدد الذي ظهر في أثناء السنوات المائة الماضية؛ فسيشعر بالراحة أولئك الذين يرون أن جودة الفن في العصر الحالي أصبحت بالفعل في حالة من التراجع المستمر؛ مثال لذلك الروايات التي تطعم بمواد إباحية، والموسيقى الناتجة عن تنافر الأصوات، وأشكال الصور التي تحصد الجوائز ولا تزيد عن كونها علبة حساء أو حيوان محفوظ في الفورمالدهايد. ويرجع السبب في هذا الثبات في الإنجاز، كما أشرت سابقا، إلى أن صفات الكره والشر، وانعدام الكفاءة وانعدام الأمانة، والتميز العلمي والإبداع الفني، موزعة عشوائيا بيننا، ونسبة المحظوظين أو الملعونين بواحدة أو أكثر من هذه الصفات لا تتغير على مدار مائة سنة فقط. تعكس هذه الصفات عمل مزيج الجينات التي نرثها عن والدينا. تتعرض الجينات إلى إعادة توزيع مع كل جيل، لكن إجمالي التجميعة الجينية يظل ثابتا إلى حد ما. في الواقع تتعرض تجميعة الجينات للتغيير لكن على مدار ملايين - وليس مئات - السنين؛ فربما تظهر أنواع جديدة من الإنسان العاقل - لا بل هي تظهر بالفعل - لكننا لا ندركها؛ فالتغييرات التي تحدث بسيطة للغاية.
تتغير البيئة بمعدل أسرع، وقد أكدت على أن وظائف أجسامنا يحددها التفاعل بين العوامل الوراثية والبيئية. فهل التغيرات التي تحدث في هذه الأخيرة ستؤثر علينا بحلول عام 2100؟ من المتوقع أن يعمل الاحترار العالمي على رفع متوسط درجة الحرارة في العالم إلى نحو 60 درجة مئوية على مدار السنوات المائة التالية، مقارنة بارتفاع قدره 0,6 درجة مئوية في القرن الماضي. وسيكون التأثير الأكبر على القطبين؛ فسيذوب كل الجليد في القطب الشمالي مع مطلع القرن القادم؛ مما سيجعل القطب الشمالي في وسط محيط. ويتمثل السبب في ارتفاع درجة الحرارة هذا في تأثير الصوبة الزجاجية، الذي ينتج جزئيا من ثاني أكسيد الكربون الذي يصدره الإنسان من خلال وسائل المواصلات والتلوث الصناعي، وجزئيا من إنتاج غاز الميثان مع زيادة عدد الحيوانات المجترة، وجزئيا من انخفاض نسبة ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصه النباتات بسبب تدمير الغابات. وتعادل الزيادات في درجة الحرارة أو تعمل على تفاقمها تغيرات لا يستطيع الإنسان التحكم فيها؛ مثل التغيرات التي تحدث في دورة الكربون في العالم وفي الإشعاع الشمسي. تنتج الأولى من ثاني أكسيد الكربون الذي يصدر من الانفجارات البركانية ويدخل في الغلاف الجوي ويعود إلى الأرض في صورة أمطار حمضية؛ ويسهم في ذلك أيضا التقلبات في كمية ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصه النباتات
9
والتغيرات في المحتوى الميكروبي في المحيطات.
10
أما التغير الثاني فيكون نتيجة للبقع الشمسية. ربما يمثل التلوث الذي يتسبب فيه الإنسان عاملا رئيسيا في الاحترار العالمي على مدار القرن التالي،
11
لكنه لا يكون بأي حال من الأحوال العامل الوحيد.
12
ستكون آثار الاحترار العالمي إقليمية؛ فسيذوب الجليد على قمة جبل كليمنجارو، لكن ربما يصبح الشتاء في شمالي أوروبا في الواقع أكثر برودة. وسيؤدي ذوبان جليد القطب الشمالي إلى برودة المحيط الأطلنطي وإبطال مفعول الدفء الذي يجلبه تيار الخليج حاليا إلى الجزر البريطانية وشمال غرب أوروبا. وقد انخفضت سرعة تيار الخليج بالفعل بنحو 20٪ على مدار السنوات الخمسين الماضية. ونتيجة لهذا سيكون الشتاء في لندن وبروكسل أكثر شبها بالشتاء في مناطق أخرى على خط العرض نفسه؛ مثل خليج سانت لورانس وسهول سيبيريا، اللتان تتجمدان كليا في منتصف الشتاء.
13
وعلى العكس من هذا، سترتفع درجة حرارة جنوبي أوروبا، وربما يعود البعوض الحامل للأمراض - الذي ينقل فيروسات مثل فيروس حمى الضنك وفيروس حمى النيل الغربي وطفيل الملاريا - ليصبح مستوطنا.
14
كذلك ربما يرتفع مستوى سطح البحر بما يقرب من متر، وستحتاج كثير من المدن الساحلية في إنجلترا إلى حماية الخنادق التي تمنع حاليا مياه بحر الشمال والقناة الإنجليزية من الدخول إلى هولندا. تتفاقم هذه المشكلات بزيادة الرياح المطيرة؛ فبنهاية هذا القرن ستحمل السماء فوق جنوبي إنجلترا مزيدا من الأمطار بنسبة 50٪ من الموجودة حاليا.
15
لكن هل الاحترار العالمي فعليا أمر كارثي للغاية؟ يرى الثنائي المنفرد برأيه، الراحل فريد هويل وشاندرا ويكراماسينج، اللذان التقينا بهما في الفصل الثالث، أن زيادة الاحترار العالمي ستكون مفيدة للأرض؛ إذ ستنقذنا من عصر جليدي آخر.
16
ربما يكونان محقين على المدى الطويل، لكن فيما يتعلق بهذا القرن، لا يتفق مع وجهة نظرهما إلا عدد قليل.
ستتحدى التغيرات المناخية براعة المتأثرين بها، لكنها لن تؤثر كثيرا على كيميائهم الحيوية، فسيعادل التهديد بعودة الملاريا إلى إيطاليا احتمال إتاحة لقاح لها بحلول ذلك الوقت. ثمة تغيرات بيئية أخرى من المرجح أن تترك أثرا في تعداد البشر؛ وأحدها انتشار فيروس العوز المناعي البشري. ففي أفريقيا، حيث تصل نسبة إصابة السكان بهذا الفيروس إلى 40٪ في بعض الدول، من المحتمل أن ينجب المقاومون للإصابة بمرض الإيدز
17
ذرية تفوق في عددها الغالبية العظمى المعرضة لخطر الإصابة به. تحدث مثل هذه التغيرات في التكوين الجيني للسكان طوال الوقت؛ فكثير من الذين نجوا من وباء الإنفلونزا في عام 1918 (الذي قتل 40 مليونا) ربما حدث لهم هذا بسبب تمتعهم بميزة جينية. مع الأسف، لا يتمتع بالضرورة أحفادهم الموجودون حاليا بحماية مستقبلية من الأوبئة؛ لأن الفيروس تعرض لتغييرات مستمرة؛
18
فأحفاد المقاومين حاليا لفيروس العوز المناعي البشري ربما يقعون فريسة له غدا. ما أريد الإشارة إليه أن الجراثيم المسببة للعدوى في البيئة مسئولة عن الانحراف الجيني الذي يحدث بين السكان؛ فهو جزء من عملية التطور. لكن على حد علمنا، لا ترتبط قابلية الإصابة بالمرض بصفات مثل الإبداع أو الذكاء أو العدوانية أو الطيبة. ولهذا السبب لن يختلف سعي الإنسان في عام 2100 كثيرا عنه في عام 2000.
تزدهر حضارات وتتدهور حضارات، وأصبح الآن مصطلح «مجتمع» ملائم أكثر من مصطلح «حضارة»؛ حيث أصبح الإنسان «متحضرا» في جميع أنحاء العالم، ليس بالضرورة من خلال الاضطرار إلى تسلق بضع درجات من سلم الإنجاز بنفسه، لكن من خلال الارتقاء دون جهد منه. ألم أقل من قبل أن السلم نفسه يرتفع إلى الأعلى باستمرار؟ وأنه سلم متحرك؟ أفكر على وجه الخصوص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي تعرضت لأشكال أوروبية من الحكم والتكنولوجيا عبر الغزو والاندماج لعدة قرون.
19
وفي حين أفنت المذابح والعبودية سكانها منذ قرنين، تضطلع المجاعات والإيدز بهذا الدور في عصرنا الحالي. إلا أن الناجين يستفيدون من التكنولوجيا الغربية في مجالات معينة ويعيشون حتى سن متقدمة؛ ولهذا السبب يحتاج إنتاج الطعام لديهم إلى أن يتضاعف باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
بحلول عام 2100 ستتغير الخريطة السياسية والاجتماعية للعالم؛ فستنمو بعض المجتمعات، وستضعف مجتمعات أخرى. وقد عبر المؤرخ أوزفالد شبنجلر عن هذا منذ قرن مضى فقال: «الثقافات ... تزدهر وتهرم ... لكن «البشرية» لا تهرم. فلكل ثقافة إمكانياتها الجديدة للتعبير عن ذاتها، وهي ترتقي وتنضج وتتحلل ولا تعود أبدا ... [فهي] تنمو دون هدف تماما مثل الزهور في الحقل.»
20
ويكون المعيار الذي نقيس به النجاح مزيجا من التأثير والثروة؛ فقد كان الاتحاد السوفييتي طوال معظم القرن العشرين يتمتع بتأثير كبير مع قليل من الثروة، بينما تمتعت سويسرا وبروناي بثروة كبيرة لكن مع تأثير ضئيل. ومنذ منتصف القرن العشرين (ويقول بعض المؤرخين حتى قبل هذا) كانت أوروبا في حالة تدهور. أدرك رئيس الوزراء الإنجليزي اللورد ساليسبوري هذا منذ مائة سنة، عندما كانت الإمبراطورية البريطانية لا تزال في أوج ازدهارها؛ إذ قال: «أيا كان ما سيحدث [في السياسة الخارجية] فإنه سيكون للأسوأ؛ ومن ثم من مصلحتنا أن يحدث أقل قدر ممكن.» والجمود بلا شك هو عدو السعي.
قابل اضمحلال تأثير أوروبا على مدار القرن السابق ارتفاع شأن الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما تزال مهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين. لا أعتقد أن اتحادا أوروبيا فيدراليا يستطيع حاليا تغيير ما حدث في القرن الماضي؛ فإن بيروقراطيته الخانقة وقوانين العمل غير المرنة ستجعله غير قادر على المنافسة مع الدول الأخرى. وفي المقابل من المفترض أن تصل الصين والهند، التي تسهم كل منهما حاليا بنحو 20٪ من تعداد السكان في العالم، إلى كامل قدرتهما الاقتصادية، ويصبح لهما دور مسيطر على الساحة العالمية. يفترض هذا عدم انفصال جنوب الصين عن الشمال - المنافسة القديمة بين متحدثي الكانتونية في الجنوب والمندارين في الشمال - وأن تظل الهند دولة ديمقراطية علمانية، دون أن يحصل إقليم كشمير والأقاليم المسلمة الأخرى على استقلالها عن الحكومة المركزية في نيودلهي. ومن المحتمل أيضا أن تفقد الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا من تأثيرها، خاصة إذا آثرت ولايات معينة داخل الاتحاد - تتبادر إلى الذهن تكساس وكاليفورنيا - الحصول على استقلال أكبر؛ فستكون الاختلافات السياسية والاجتماعية أسبابا للانفصال، وهذه المرة من دون حرب أهلية. وداخل أوروبا، ربما تحصل مناطق، مثل اسكتلندا وويلز وكتالونيا وإقليم الباسك، على استقلالها من حكامها الحاليين. ومن غير المحتمل أن يحصل الشرق الأوسط مرة أخرى على المكانة التي كان يتمتع بها في النصف الأول من الألفية الماضية (من القرن الحادي عشر حتى القرن الخامس عشر)؛ فالأصولية الإسلامية ستعيق حدوث هذا، كما سينفد البترول. وستشهد أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أكبر تغيير من بين القارات الأخرى؛ فربما يحين أخيرا وقت زيادة ازدهارها - الذي يحدث حاليا بسبب انخفاض كبير في عدد السكان نتيجة لمرض الإيدز - بمجرد انحسار الوباء.
إذن ستتحول الأهمية الثقافية والسياسية والاقتصادية مرة أخرى - بعد 500 سنة من التفوق الغربي - إلى الشرق؛ من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى الهند والصين وجنوب شرق آسيا واليابان. ما السبب في تأكيدي على هذا؟ جزئيا «تراجع المستوى الفكري» - الانحطاط إلى أقل قاسم مشترك - الذي نشهده حاليا في العالم الغربي؛ في التعليم والثقافة أيضا. فهو بمنزلة النزول لبضع درجات أسفل سلم التنوير. وبصرف النظر عما إذا كانت التكنولوجيا في الغرب تواصل المضي قدما أم لا، فإن التعليم الذي يتلقاه الغالبية العظمى في أوروبا وأمريكا الشمالية سيبدأ في التدهور، كما يحدث حاليا بالفعل، ورغم ذلك ستظل دوما مجموعات متفرقة من النخبة موجودة.
أجرت الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي مؤخرا دراسة على الأطفال في سن الرابعة عشرة (في الصف الثامن) في 38 دولة في مادة العلوم، احتلت إنجلترا المرتبة التاسعة، بعد تايوان وسنغافورة واليابان وكوريا (الجنوبية)، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك في المرتبة السادسة عشرة؛ وفي الرياضيات احتلت إنجلترا المرتبة العشرين والولايات المتحدة الأمريكية المرتبة التاسعة عشرة، بينما احتلت سنغافورة وكوريا وتايوان وهونج كونج واليابان المراكز الخمسة الأولى.
21
ومن بين الدول الأوروبية، تفوقت الدول التي تنتمي للكتلة الشرقية السابقة، مثل المجر وجمهورية التشيك وروسيا نفسها، في المتوسط على الدول الديمقراطية الغربية؛ فيحقق أسلوبها التعليمي نتائج أفضل. صحيح أن الفروق في التحصيل لم تكن كبيرة؛ ففي مادة العلوم حققت الدول متوسطة المستوى نتيجة 88٪ مقارنة بالدول الأكثر تفوقا، بينما في الرياضات كانت النسبة 82٪. ومع ذلك فإن التوجه واضح؛ فأخلاقيات العمل في الشرق الأقصى تؤدي إلى إنتاج أطفال تعليمهم أفضل مقارنة بالأسلوب الأكثر تكاسلا المعمول به في الغرب. ويعتبر أداء الأطفال اليوم مؤشرا على أداء دولتهم غدا. فعندما ينخفض التعطش للمعرفة، سرعان ما تتلاشى المنافسة. ويتبع هذا انخفاض عام في المعايير، ويصحبه التزام «باللياقة السياسية» الذي يكون فعليا غير صائب.
لا يسمح لأي شخص في عصرنا الحالي بالفشل في أي امتحان (فهذا من قبيل التمييز). يستطيع خريجو الجامعة بالكاد كتابة مقال مترابط. في المملكة المتحدة منذ عدة سنوات، تضاعف عدد الجامعات بين عشية وضحاها؛ فهل ارتفع فعليا فجأة عدد الطلبة المؤهلين والمدرسين الأكفاء الذين يستطيعون التدريس لهم؟ أكد رجال السياسة والبيروقراطيون على أن هذا حدث، وأن مجموعة كبيرة من الطلاب في الثامنة عشرة من عمرهم والمحاضرين الأذكياء ينتظرون منذ فترة طويلة دورهم للحصول على فرصة للاشتراك في الحياة الأكاديمية. عندما كنت أدرس في أكسفورد منذ 30 عاما، أرسلت مجموعة منا «الأساتذة» الشباب في جميع أنحاء بريطانيا بحثا عن بعض من هؤلاء الدارسين البائسين الذي فشلوا في التمكن من دخول الجامعة. لم نعثر عليهم، لكني حددت مكانهم فيما بعد؛ فكانوا بالفعل طلابا ومعلمين يتمتعون بموهبة استثنائية، لكنهم محبطون بسبب حظهم. إلا أنهم لم يكونوا في مانشستر أو هال أو برمنجهام أو لستر؛ فقد كانوا في كلكتا وبانكوك، وفي أكرا وبغداد، وفي كاراكاس ومكسيكو سيتي. ومن أجل تمكين بعض منهم - الذين يرغبون في تحقيق إمكانياتهم في مجال العلوم الطبية الحيوية - أنشأت فيما بعد مركز أكسفورد الدولي للطب الحيوي. هذا استطراد.
ماذا حدث للجامعات الجديدة في بريطانيا؟ ازدهرت، إلا أن الطلاب فيها لا يدرسون الفلسفة أو الفيزياء أو علم النفس، بل التعبئة وتجارة العطور وإدارة مشروعات تربية الخنازير ودراسات الموسيقى الشعبية؛ ويشغل مدرسوهم منصب الأستاذية ليس في اللغويات أو القانون أو الأدب، بل في تكنولوجيا صناعة الجلود وإدارة وقت الفراغ وتصميم الإضاءة. إذا كنت تعتقد أني أبالغ، اقرأ بنفسك كتاب ماسكيل وروبنسون «فكرة جديدة عن الجامعة».
22
علينا ألا نتفاجأ بهذا التوجه؛ فالجامعات الجديدة نشأت إلى حد كبير من كليات فنية ومتعددة التقنيات، وظلت مخلصة لهدفها الأصلي فحسب؛ فلم تصحب الطفرة التي حدثت في مكانتها طفرة مماثلة في الفضول الفكري. إنها تقدم مثالا جيدا لما عنيته بتراجع المستوى التعليمي. ولا يقتصر هذا الانخفاض في المعايير على المملكة المتحدة؛ فهو يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية أيضا. في الواقع كانت معظم التغيرات الثقافية التي حدثت منذ القرن التاسع عشر مثل الرياح السائدة، انتشرت عبر المحيط الأطلنطي من الغرب إلى الشرق. وللإنصاف، على مدار السنوات المائة الماضية ارتفع عدد الأطفال والشباب الذين يتلقون تعليما في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للغاية. تتمثل النقطة التي أريد توضيحها في أن النمو يتحقق حاليا على حساب الجودة. وحتى الآن، لم يصب تراجع المستوى الفكري جيوبا متناثرة من التعليم الحقيقي في هارفرد ويال وهايدلبرج وأوبسالا. ولا يرغب المرء في توقع ما إذا كانت مثل هذه المجموعات ستتمكن من مقاومة ضغوط الانحدار الفكري في المجتمع على مدار السنوات المائة التالية؛ فقد بدأت الصدوع تظهر بالفعل.
يعرف القارئ آرائي بشأن الاتجاه الذي يتبعه الفن الغربي المعاصر؛ إحلال الوقاحة محل الموهبة، والتبلد محل الجمال، والفضلات محل الأعمال الأدبية.
23
إلا أن تراجع المستوى الفكري يشمل المجتمع بأكمله؛ فلا يقضي معظم الناس - سواء كانوا أطفالا أو كبارا، متزوجين أو غير متزوجين - فترات المساء في القراءة (واختفت كتابة الخطابات تماما)، أو الاستماع إلى الموسيقى، بل يشاهدون التليفزيون.
24
أصبحت أشهر البرامج هي برامج المسابقات، وبرامج الألعاب، والمسلسلات التليفزيونية الدرامية الاجتماعية، وبرامج الثرثرة التي لا طائل منها عن «المشاهير» (نجوم الأفلام، ونجوم موسيقى البوب، ورجال السياسة سيئي السمعة والقتلة المتسلسلين). وحل الكسالى الذين يشاهدون التليفزيون طوال الوقت محل الأشخاص الذين يكتبون يومياتهم، وحل الباحثون عن الحانات والشواطئ الرملية محل المحبين للسفر بحثا عن ثقافات أخرى. وكما هو الحال في التعليم فقد تمكن مزيد من الناس من الاستفادة من الترفيه والسفر أكثر مما كان يحدث منذ قرن مضى، وستزيد الأعداد أكثر خلال السنوات المائة القادمة. ومرة أخرى، تكون مثل هذه الزيادة تحديدا مسئولة عن تراجع المستوى الفكري. هل ما أشير إليه هو أن الفضول الفكري لدى الغالبية العظمى أقل من الموجود لدى الأقلية؟ نعم؛ فضمن أي مجموعة من البشر، سيكون البعض أكثر ابتكارا من الناحية الفكرية، والبعض أكثر مهارة يدوية، والبعض أكثر تفوقا رياضيا، والبعض الآخر أكثر تميزا فنيا. فكان البحث - عن المعرفة وعن تكنولوجيا جديدة - من جانب نسبة قليلة من السكان هو ما أدى إلى إقامة الحضارات الرئيسية منذ 5 آلاف سنة، وإلى الارتقاء فيما بعد بمستوى خلفائهم. حتى القرن الماضي، لم تكن آراء الغالبية العظمى لها تأثير كبير على أفعال الأقلية، التي كانت تضم المبتكرين والمعلمين والحكام؛ فلم يكن معظم الناس لديهم حتى الحق في التصويت.
هل يؤدي إذن ارتفاع مستويات المعيشة ووجود رأي للأغلبية في حكم الدولة حتما إلى انهيارها؟ لا على الإطلاق؛ فكانت بريطانيا أكثر قوة في نهاية القرن التاسع عشر من أي وقت مضى، ومع ذلك استطاع في هذا الوقت عدد متزايد من الرجال التصويت عقب قوانين الإصلاح في أعوام 1832 و1867 و1884-1885، كما أن مستوى المعيشة تحسن منذ منتصف القرن. ثمة مثال آخر عن اليابان في العقود التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد خسرت اليابان الحرب، لكن كفاح شعبها (مع مشروع مارشال) عوض الدمار الذي لحق بالدولة وخسارة مكانتها. فحصل السكان على طعام أفضل، ومساكن أفضل، وتعليم أفضل من أي وقت مضى، وأصبحوا الآن هم الذين يختارون الزعماء السياسيين في البرلمان (تذكر ملاحظاتي بشأن الحكام بالوراثة في الفصل السادس). إن وجود أغلبية متعلمة لا يضعف الدولة، بل يقويها. لكن وجود أغلبية متكاسلة وغير تنافسية يحكم على الدولة بالانهيار. ألم يكن هذا أحد أسباب سقوط شعب جزيرة الفصح؟ أولم يسهم هذا في زوال الإمبراطورية الرومانية؟ فعندما يحل الاكتفاء محل البحث، يهبط المجتمع بضع درجات أسفل السلم. فيعتبر الطموح عنصرا أساسيا لإحراز التقدم؛ ويكون الجهل عدوه. كان النازيون يتمتعون بالاثنين، لكن الثاني كان هو الأقوى، وسرعان ما أدى إلى انهيارهم؛ وعلى الصين أن تتوخى الحذر. وبصرف النظر عن الملاحظة الأخيرة، أكرر أنه بحلول عام 2100 ستصبح الدول التي تمتد جذورها في الحضارات الهندية والصينية - الهند والصين وكوريا واليابان وماليزيا وتايلاند - مرة أخرى مسيطرة على العالم؛ فقد بدأت الحضارة الأوروبية منذ 3 آلاف سنة، والآن تتدهور ثقافتها. هذه ليست وجهة نظر تمييزية؛ اقرأ ما كتبه الكاتب الفرنسي جون جامبل،
25
الذي توقع حدوث تطور مماثل لا يعتمد كثيرا على «تدهور المستوى الفكري» بقدر اعتماده على التدهور الاقتصادي وما يتبعه من انخفاض في التكنولوجيا القابلة للتطبيق. فيبدو أنه لا يمكن إنكار العلاقة بين السعي والتنمية البشرية.
من المستحيل توقع كيف ستغير التكنولوجيا نمط حياة أولئك الذين سيعيشون في عام 2100؛ فمن المفترض أن تزيد سرعة السفر جوا بمعدل أسي تقريبا، وربما يقضي السياح معظم وقتهم في الفضاء أو على القمر. وقد تعمدت أن أقول «من المفترض»؛ فكما رأينا في بداية هذا الفصل، لم يكن السفر بالطاقة الذرية اخترع حتى القرن الماضي، وكذلك السفر التجاري بالصاروخ، هذا رغم إعلان شركة بيل للطيران في ولاية بافلو في عام 1955 أن المسافرين سيتمكنون قريبا من السفر من نيويورك إلى سان فرانسيسكو - بحرا بسرعة 7500 ميل في الساعة - في 75 دقيقة. تحدد موعد الرحلة الأولى للصاروخ في عام 1961، لكن الخطط تأجلت فيما بعد. هل يكون توقع حدوثها بعد 140 سنة أمرا مفرطا في التفاؤل؟
سيرتدي الناس بالتأكيد في عام 2100 ملابس مختلفة، وستكون تصفيفات شعرهم مختلفة أيضا. ستكون فرص حدوث الأمر الثاني هذا محدودة؛ فربما تعود أشكال معينة من الشعر المستعار للظهور، رغم أن الصلع لن يحتاج إلى هذا، حيث سيصبح الشعر المعدل جينيا - من أي لون ولا يشيب أبدا - متاحا. كذلك سيكون الطعام الذي يتناولونه مختلفا، وسيعيشون في منازل مختلفة ويقودون مركبات مختلفة.
26
ربما ستظهر السيارة التي تنطلق عموديا في هذا الوقت؛ أنا أتعجب طوال الوقت من أنها لم تخترع حتى يومنا هذا.
27
وسيشمل التواصل الإلكتروني العروض المرئية، التي تصنع حتى في عصرنا الحالي، وسيتاح للجميع استخدامها في معظم أنحاء العالم في غضون عقد. ماذا عن الخصوصية؟ حسنا، أفترض أنك تستطيع دوما غلق أي شيء أو غلق عينيك عن الشاشات التي تحدق فيك من كل مكان في منزلك؛ تعرض لك درجة الحرارة والرطوبة والتلوث داخل المنزل وخارجه، وتفاصيل عن قرضك البنكي الذي لم يبت فيه، وسعر الأفوكادو والوجبات الفورية المكونة من ثلاثة أطباق في السوبر ماركت الكبير في منطقتك السكنية، وسبل الترفيه التي في انتظار أن تحضرها هذا المساء، وتقرير عن حالة الخضرة في ملعب الجولف المفضل لك (سواء القريب منك أو الموجود في تسمانيا)، وأخبار من المدن والقرى من جميع أنحاء العالم؛ بما في ذلك المغامرات الجنسية وحالة كبد كل سياسي ونجم تمثيل أو كرة قدم (ثمة أنشطة ترفيهية أخرى ربما تتفوق على الجولف وكرة القدم، لكن الحجة تظل قائمة).
إن السبب في تنبؤاتي بسيط للغاية؛ توقف لحظة وفكر في نمط حياة أجدادك. عندما كانوا في مثل سنك، منذ نحو نصف قرن أو ما شابه، ألم تكن حياتهم مختلفة عن حياتك الآن؟ ربما كانت قديمة الطراز قليلا، أليس كذلك؟ فنحن لا يمكننا - حتى إذا أردنا - مقاومة الأدوات الجديدة التي تفرضها التكنولوجيا الجديدة علينا، ووتيرة الحياة المتسارعة. فنادرا ما يظل العلم والتكنولوجيا جامدين؛ فالفضول والتغيير في جيناتنا. إذن هل تعلمنا كيف نسيطر على الأعاصير والفيضانات والبراكين والزلازل؟ حاليا نحن لا نستطيع توقع آخر اثنين، ناهيك عن التحكم فيهما. إلا أن الزلازل حصدت وحدها حياة 10 ملايين شخص في جميع أنحاء العالم على مدار القرن الماضي، نتيجة لهزات زلزالية استمرت في مجملها أقل من ساعة واحدة. وعلى الأرجح أمكن احتواء الفيضانات من خلال بناء السدود في حجم الكاتدرائيات على طول ضفاف نهر المسيسيبي، وشواطئ بنجلاديش، وأنهار شمالي أوروبا والخط الساحلي بها؛ ويحتمل أنه بحلول عام 2100 أن تصبح تكنولوجيا إسقاط الأمطار على مناطق تعاني من الجفاف أكثر تطورا ومجدية اقتصاديا، بما أنه يجري تطويرها حاليا بالفعل. إلا أن فرص التحكم في الأعاصير وحرائق الغابات والانفجارات البركانية والزلازل - ناهيك عن منع حدوثها - ليست جيدة.
منذ عقدين فقط لم يستطع رئيسا أكبر دولتين على وجه الأرض - ميخائيل جورباتشوف زعيم الاتحاد السوفييتي وجورج بوش (الأب) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - عقد لقاء على مدمرة بحرية في البحر الأسود لأن الأمواج كانت عاتية للغاية بحيث منعت زورقيهما من أن يقترب كل منهما من الآخر بما يكفي. لقد صنع بلد كل منهما في هذا الوقت أكثر تكنولوجيا متطورة عرفها الإنسان، وأرسل كل منهما رواد فضاء روسا وأمريكانا إلى السماء، لكنهما اضطرا إلى إلغاء موعدهما. وفي المناخ المضطرب لا تستطيع المعديات التي تقطع القناة الإنجليزية (المانش) بين دوفر وكاليه أن ترسو، وتضطر إلى الانتظار لساعات خارج مدخل الميناء حتى تهدأ الأمواج. وفي حال وجود ضباب على الأرض لا تستطيع الطائرات الهبوط، وإذا تعرضت أطراف أجنحتها إلى التجمد لا يمكنها الإقلاع. وتؤدي عاصفة ثلجية كبيرة إلى دخول كثير من المدن في الولايات المتحدة الأمريكية في حالة من الجمود التام. فربما استطاع الإنسان تطويع الحيوانات والنباتات الموجودة على القشرة الأرضية لخدمة احتياجاته، لكنه لم يستطع التحكم في العناصر الموجودة فوق القشرة أو تحتها. فيمثل تطويع قوى الطبيعة الأكثر عنفا تحديا من غير المحتمل أن يعثر الإنسان عن حلول له في غضون 100 سنة.
من ناحية أخرى، يخطط الإنسان للسفر إلى المريخ. من حيث حجمه يشبه المريخ الأرض أكثر من القمر؛ فالجاذبية على سطحه ثلث الجاذبية على الأرض، وليست سدسها. ستستغرق الرحلة 6 أشهر؛ ومن المخطط أن يمكث أول مستكشفين لسطح المريخ سنة ونصف سنة عليه. بالطبع سيحتاجون إلى أخذ أكسجين وطعام معهم؛ ويقال إن الماء موجود هناك، في حالة متجمدة. رغم أنه بحلول هذا الوقت ربما تكون اخترعت طريقة لبناء نظام بيئي صغير ذاتي الاستدامة - نباتات تصدر كمية كافية من الأكسجين والعناصر الغذائية - ستكون الشمس المصدر الأساسي للطاقة، تماما مثل الحال على الأرض. وبينما ينشغل بعض العلماء بتعديل جينات خضراوات مناسبة من أجل تحقيق هذا، يدرس آخرون عادات النوم لدى الدببة السوداء.
28
يرجع هذا إلى وجود كثير من الأمور التي نتعلمها من الحيوانات التي تدخل في سبات شتوي عن تجنب ضمور العضلات في أثناء الفترات الطويلة من انعدام النشاط والوزن. ومع ذلك، من المتوقع أن يفقد المسافرون في رحلة الذهاب والعودة من المريخ المقترحة نحو 40٪ من كتلتهم العضلية. ومن المحتمل أن تنخفض كثافة عظامهم بنحو 25٪؛ مما يجعل الإصابة بهشاشة العظام نتيجة محتملة. بالإضافة إلى هذا، ستزيد نسبة الإشعاع الذي يمتصونه في الطريق من احتمالات إصابتهم بالسرطان. إلا أنه في ظل التطورات التي تحدث حاليا في الإجراءات الطبية، يحتمل التغلب على هذه المشكلات. ما الذي يتوقع المستكشفون العثور عليه على سطح المريخ الأجدب؟ سيبحثون
29
عن آثار لأي كائنات ربما تكون عاشت عليه في وقت ما. لا يوجد أي شيء في تعقيد النباتات أو الحيوانات الأرضية، لكن ربما توجد بعض أنواع البكتيريا البدائية. ففي النهاية، احتلت الكائنات أحادية الخلية وحدها الأرض لأكثر من ملياري سنة - تقريبا نصف عمرها حتى الآن. وإذا لم تظهر أي صور للحياة على هذا الكوكب الأحمر، فإن الجزء الأكثر متعة بالطبع سيكون تحليل الجزيئات المكونة له؛ سواء ثبت أنها تشبه بأي طريقة الجزيئات التي تطورت على الأرض أم لا.
ثمة أهداف أخرى ستشغل العلماء طوال هذا القرن؛ أحدها البحث عن حياة على كوكب خارج مجموعتنا الشمسية. وتعتبر احتمالات اكتشاف هذا بحلول عام 2100 مرتفعة. فتحتوي درب التبانة وحدها، التي تمثل المجرة الرئيسية التي ننتمي إليها، على 100 مليار نجم؛ وتعتبر مجرتنا واحدة فقط من بين نحو 125 مليار مجرة في الكون كله. ألا يمكن أن تكون الغازات المنبعثة من بعض من هذه النجوم على الأقل تجمعت لتكون كواكب مثلما حدث مع الأبخرة المنبعثة من الشمس والتي كونت كواكب الزهرة والأرض والمريخ والمشتري؟ الإجابة أن هذا حدث بالفعل؛ فقد اكتشف بالفعل في أثناء تأليفي لهذا الكتاب 75 كوكبا في مجموعات شمسية أخرى،
30
ومن المحتمل أن يزيد هذا الرقم إلى ملايين، إن لم يكن مليارات، بحلول عام 2100؛ ومن ثم يوجد احتمال جيد أن يكون بعضها، على الأقل، خضع لتسلسل أحداث مشابه لذلك الذي حدث على الأرض. إن الظروف التي تسمح بحدوث هذا - البرودة الكافية (لكن غير المبالغ فيها) وتكوين غلاف جوي عازل بحيث يمكن نمو الجزيئات العضوية وبعض أشكال الحياة - صارمة للغاية وبعيدة الاحتمال؛ ومع ذلك نحن نعلم أن هذا حدث بالفعل مرة من قبل. وبما أن الحياة استغرقت مليار سنة حتى تنشأ على الأرض، وأن كثيرا من النجوم يبلغ عمرها ضعف عمر شمسنا، يبدو افتراض أن مثل هذه الأحداث تحدث في مكان آخر لا يمكن دحضه. وفي الواقع، ربما تحتوي على كائنات أكثر تطورا من الإنسان العاقل.
من أجل اختبار هذا الاحتمال، يبحث العلماء في الكون عن علامات دالة على وجود ذكاء خارج الأرض. ضبطت محطة إذاعية في الغابة المطيرة في بورتوريكو، وأخرى في مركز جودرل بانك في بريطانيا. تفحص هاتان المحطتان معا 20 مليون تردد، وتستمعان إلى أي شيء ربما يصدر من مكان عميق في الفضاء. في الوقت نفسه تبحث معدات أخرى عن موجات ميكرونية وإشارات تشبه الليزر ذات طول موجي منخفض.
31
حتى الآن لم تعثر على شيء. لكن في غضون قرن، من يدري؟ وإذا كانت ثمة أشكال أخرى للحياة في الخارج، فهل ستزورنا بحلول عام 2100؟ بالطبع سيقول لك المؤمنون بالأجسام الطائرة الغريبة إن هذا بالضبط ما فعلته هذه الأشكال بالفعل. أما بقيتنا فيدرك حقيقة أن أقرب كوكب اكتشف حتى الآن (في كوكبة السرطان) يبعد 41 سنة ضوئية. فإذا كان يأوي كائنات وصلت للمعرفة التي تمكنها من بناء مركبة فضاء تشبه الموجودة لدينا،
32
فكان لزاما عليها الانطلاق عندما كان الإنسان المنتصب يسير عبر أوراسيا؛ لأنها ستستغرق أكثر من 400 ألف سنة لتصل إلينا. أما سفينتنا الفضائية (غير المأهولة) بيونير 10، التي انطلقت منذ 30 سنة، فإنها تتجه إلى كوكبة الثور. لقد تخطت حدود مجموعتنا الشمسية منذ 19 عاما، لكنها ستستغرق مليوني سنة أخرى حتى تصل إلى وجهتها. (2) المليونية القادمة
دعونا إذن ننظر إلى أبعد من عام 2100، وإلى أبعد من الألف سنة القادمة، ونتدبر ما سيحدث بعد مليون عام.
33
وربما يكون السؤال الذي تريد الحصول على إجابة عنه الآن هو: هل من المحتمل أن يؤدي بحثنا الدءوب إلى حدوث كارثة ما تنهي سعي الإنسان إلى الأبد؟ هل الإنسان الفضولي مصيره إلى الانقراض؟ ثمة سيناريوهات وصفت لحدوث خلل في أجهزة الكمبيوتر وتسببها في أحداث كارثية، ولخروج كائنات معدلة جينيا عن السيطرة وقضائها على الجنس البشري، ولاستيلاء الروبوتات على العالم، ولم يقتصر هذا على الذين يستخدمون الخيال العلمي. كما ذكرت سابقا، أنا لا أشاركهم هذه المخاوف؛ فالإنسان هو أكثر الكائنات ذكاء على الأرض؛ فقد استطاع التحكم في العواقب المحتملة لكارثة نووية باستخدام المنطق السليم، ونتائج الكوارث البيولوجية - تفشي فيروس العوز المناعي البشري، على سبيل المثال
34 - من خلال البحث العلمي والابتكار التكنولوجي والتحذيرات الصحية المتكررة؛ ومن ثم فإن استنتاجي بسيط؛ إذا ظهرت مخاطر جديدة غير متوقعة، لا يوجد كائن أفضل من الإنسان لمواجهتها. فقدرته على البحث عن حلول جديدة، وقدرته العقلية التي تمكنه من العثور عليها، ستضمن بقائه رغم كل الصعوبات.
ثمة تساؤل آخر يدور في أذهان كثيرين؛ هل يحتمل أن تظهر أنواع جديدة من البشر بمرور الزمن، بحيث تحل في النهاية محل الإنسان الفضولي، مثلما كان هو (ربما) مسئولا عن زوال إنسان نياندرتال؟ نوع جديد ينحدر منا، أو من أقاربنا من الرئيسيات، الشمبانزي الشائع والبونوبو؟ من غير المحتمل حدوث كلا الأمرين؛ ففي الحالة الأولى، لا يتطور نوع جديد إلا في حالات انفصال مجموعتين أو أكثر من أسلافه عن بعضهما. وهذا ما أعطى تشارلز داروين المفتاح لأصل الأنواع؛ فقد توصل إلى استنتاج أن طيور البرقش الموجودة على جزر جالاباجوس المتعددة كانت مختلفة لأنها فقدت القدرة على الطيران لمسافة طويلة؛ ومن ثم انفصلت عن أقرانها من النوع نفسه. وبالتدريج أصبح عدد من الأشكال المختلفة موزعا على كل جزيرة. ومن بين هذه الأنواع، نما نوع واحد أكثر من الأنواع الأخرى؛ لأنه اتضح أن قدرته على البقاء أفضل، ربما كان السبب في ذلك تجنبه للمفترسات - تمتعه، على سبيل المثال، بلون ريش يضاهي تماما لون بيئته - أو قدرته الأكبر على العثور على الطعام أو التزاوج. ونظرا لاختلاف الظروف قليلا على كل جزيرة، يوجد اختلاف طفيف أيضا في الأنواع التي نجحت في البقاء ؛ فأصبحت أنواعا متمايزة. استعمر الإنسان الكرة الأرضية بالكامل؛ لذلك لم تعد توجد مجموعات متفرقة منعزلة. كما يحدث التزاوج بين كل الأفراد على نطاق واسع، بحيث يوجد احتمال ضئيل لبقاء تجميعة من الجينات منعزلة عن الجينات الأخرى لأي فترة من الزمن. بالطبع تتغير الجينات ببطء وباستمرار عبر الطفرات، وربما ينتج عن طفرة معينة مقاومة متزايدة لسلالة جديدة من الفيروسات القاتلة. وسيتمتع أحفاد الشخص المقاوم لهذه السلالة، الذين يرثون الجين، بميزة انتقائية مقارنة بكل الأشخاص الآخرين. إلا أنه للأسباب المذكورة توا - قدرة الإنسان على التحرك وتزاوجه غير المقيد - لن تتطور هذه المجموعة من الأفراد لتصبح نوعا مميزا. ومن حيث التطور من جنس منفصل مثل الشمبانزي، فالاحتمال أقل بكثير. فتتعرض القردة الشائعة والبونوبو إلى خطر الانقراض بسبب الإنسان وتقليصه المستمر للمنطقة التي تعيش فيها، فليس لديها نعمة التوسع. وفي الواقع تكون احتمالات تكرار 5 ملايين سنة من التطور البشري في واد ما في صدع شرق أفريقيا ضئيلة. وإذا فكرت في تقليد هذه العملية في قفص أو في حظيرة صناعية للعدد نفسه من السنين، فإن خيالك أكثر جموحا من خيالي.
المكان الوحيد الذي يحتمل أن يعثر فيه الإنسان على أرض خصبة منعزلة ربما يكون خارج حدود كوكب الأرض؛ على القمر أو المريخ،
35
أو على متن محطة فضائية في مدار حول الأرض. لكن حتى لو أمكن توفير كل العناصر المطلوبة - الأكسجين والماء والغذاء على سبيل المثال - على نحو مستديم يمكن مجتمعا من البقاء لأشهر وسنوات بل وملايين السنين، أفلا تعتقد أنه من المرجح أن يسيطر فضول الإنسان عليه قبل هذا بوقت طويل، ويرغب الموجودون على الأرض في زيارة الموجودين في الفضاء والعكس؟ وبمجرد حدوث هذا، سيحدث اختراق للمجموعة المنعزلة. ومع ذلك، ربما ينطلق مجتمع مكتف ذاتيا، مثل نسخة عصرية من سفينة نوح، خارج مجموعتنا الشمسية بالكامل، ويبحث عن حياة على كوكب آخر في ركن مختلف من مجرتنا، أو في مجرة أبعد من ذلك. كما أشرت مسبقا، إن أقرب نجم اتضح حتى الآن أن ثمة كوكب يدور حوله يبعد أكثر من 40 سنة ضوئية. لذا بالمعدل الحالي للسفر في الفضاء سيستغرق الوصول إليه نحو 400 ألف سنة أو 20 ألف جيل. حسنا، أنت تقول إن هذا يمثل متسعا من الوقت لنشأة الإنسان - الإنسان الفضائي - في الطريق. أجد نفسي عاجزا عن دحض هذا؛ لأنه كلما زاد إمعان الاقتراح في المستقبل، زادت صعوبة العثور على حجج تدحضه. لكن مرة أخرى، ربما تكون كائنات لديها ذكاء أكبر ومعرفة تكنولوجية أكبر في طريقها إلينا بالفعل، بحثا عن عالمنا الصغير. إن كان هذا هو الحال، فإن الوقت في صفهم؛ فأمامهم 7 مليارات سنة أخرى قبل احتراق شمسنا ذاتيا واختفاء الضوء على الأرض. ومع ذلك، قبل حدوث هذا بوقت طويل سنكون قد هلكنا بالفعل. هذا لأنه قبل زوالها ستشتعل الشمس بأكثر من 100 ضعف حجمها وترفع حرارة كوكبنا لدرجة أن مياه المحيطات ستبدأ في الغليان، وفي ظل غياب الماء ودرجات الحرارة هذه، ستكون الحياة على الأرض مستحيلة تماما مثل استحالتها حاليا على عطارد أو الزهرة. وبذلك سينتهي سعي الإنسان.
هوامش
الخاتمة
لا يضيف التلخيص الصريح للموضوعات المذكورة في أحد الكتب كثيرا لرسالة الكتاب، كما أن التكرار هو الملجأ الأخير للكاتب الذي استنفد طاقته. من ناحية أخرى، فإن تقييم حصافة الاقتراح، بأثر رجعي، ليس فقط أمرا مسموحا به، بل هو بالتأكيد أمر ضروري. دعونا إذن نلقي نظرة شاملة.
عرضت في المقدمة ثلاثة اقتراحات تمثل جوهر هذا الكتاب. يتعلق الأول بالفروق الجينية بين الشمبانزي والبشر؛ فقد اتضح منذ عقدين تقريبا أن جينومي النوعين - مجموع جزيئات الدي إن إيه لديهما - متشابهين بنسبة تزيد عن 95٪. ثمة تفسيران لهذه النتيجة؛ الأول أن معظم جينات الشمبانزي والإنسان هي نفسها، مع وجود عدد صغير - أقل من 5٪ - يكون بوجه عام حكرا على الشمبانزي أو حكرا على الإنسان. أما التفسير الثاني فيتمثل في أن كل الجينات، في المتوسط، أكثر من 95٪ يشبه بعضها بعضا وأن أقل من 5٪ هي المختلفة. اخترت أنا التفسير الثاني، الذي يؤدي إلى استنتاج أن الجينات الخاصة «بالبشر» لا وجود لها. ربما يبحث العلماء عنها ، لكنهم لن يعثروا عليها؛ فكل ما سيكتشفونه هو نسخ بشرية من الجينات الموجودة في الرئيسيات الأخرى.
1
رأينا في الفصل الثاني أن تحليل الأحداث الجزيئية التي يحدث بسببها انفصال الأنواع يدعم هذا الرأي تماما. تنسحب هذه الحجة بالطبع على عملية التطور بأكملها؛ فلا توجد جينات خاصة ب «القرد» في مقابل جينات ل «السعدان»، وهكذا. فجميع الكائنات التي عاشت على الإطلاق مكونة من جينات يمكن تتبعها حتى أول فرد متعدد الخلايا في المملكة الحيوانية ظهر منذ نحو 500 مليون سنة. وحتى هذا الكائن ورث الجينات المسئولة عن عملية التمثيل الغذائي لديه من البكتيريا العتيقة التي عاشت قبل هذا بمليوني سنة. لا ينتج التطور جينات جديدة خاصة بنوع واحد؛ فإن ما يفعله مجرد تعديل في الجينات الموجودة بالفعل ويضيف عليها بعض الأشكال. نحن ننخدع بالتنوع الموجود في أشكال الحيوانات؛ من قنافذ البحر وقنديل البحر، وديدان الأرض والنمل، والتماسيح والأفيال. وعند فحصنا للجينات الأساسية، نجد أن ثمة علاقة بين جناح النحلة وذراع الغوريلا، وجلد الأفعى وجلد القندس؛ فكل التكوينات هي في النهاية أشكال متنوعة من فكرة مشتركة. بالطبع إذا قارنا جينات الشمبانزي بجينات دودة مثل الربداء الرشيقة فسنجد اختلافا كبيرا، إلا أن السبب في هذا أن هذين الكائنين يفصلهما أكثر من 500 مليون سنة من التطور. فكر في هذا؛ يوجد أكثر من 10 ملايين نوع من الحيوانات تعيش في عصرنا الحالي،
2
و10 مليارات نوع آخر انقرضت، ونحن نشترك مع كل منها على الأقل في 50٪ من تكويننا الجيني، لكننا لا نملك إلا 30 ألف جين؛ ألا يجعل هذا وجود جينات مقصورة على نوع معين وضعا بعيد الاحتمال للغاية؟
تمثل اقتراحي الثاني في أن البحث جزء أساسي لدى كل شكل من أشكال الحياة. فتبحث النباتات عن ضوء الشمس الذي يساعدها في النمو، وتبحث النباتات آكلة اللحم عن غذاء لها أيضا، ويفعل كثير من الجراثيم الأمر نفسه. ومن هذا المنطلق توسعت في تطبيق أفكار أليستر هاردي،
3
التي أشرت لها في الفصل الأول، إلى أبعد من مملكة الحيوان، بحيث امتدت إلى أول جرثومة عاشت على الإطلاق. وقد أمكن التعرف على بعض الجينات، ومن ثم البروتينات، الأساسية في عملية البحث. إذن هل يوجد تماثل بين البروتينات المشتركة في عملية البحث عن الضوء، التي تقوم بها النباتات والجراثيم، والعمليات البصرية لدى الحيوانات، التي يكون دون وجودها البحث عن الرفيق والطعام والماء مستحيلا؟ والإجابة أن ثمة تماثلا؛ فأوضحت في الفصل الثالث أن كثيرا من الجزيئات التي تدخل في عملية الإبصار لدى الحيوانات (والبشر) تشبه تلك المسئولة عن البحث واستخدام الضوء لدى النباتات والبكتيريا التي تمارس التمثيل الضوئي. ثمة تسلسل في التركيب الجزيئي من أبسط أشكال الحياة إلى أكثرها تعقيدا؛ فإذا كان الدافع الاستكشافي لدى الحيوانات يعتمد على الضوء، فيمكن إرجاع أصوله إلى أول بكتيريا ظهرت على سطح الأرض منذ 3 مليارات سنة. وبكتابتي لهذه الجملة، أجد نفسي أكرر تعليقا قاله الفيلسوف كارل بوبر منذ عقد مضى: «كل الكائنات الحية تبحث عن عالم أفضل. البشر والحيوانات والنباتات وحتى الكائنات الأحادية الخلية تكون دوما في نشاط؛ فهي تحاول تحسين وضعها، أو على الأقل تجنب تعرضها للتدهور.»
4
إن تطور الكائنات من حيث القدرة المتزايدة على السعي يحل المشكلات التي واجهت بعض أتباع داروين - خاصة جيمس مارك بولدوين - في أواخر القرن التاسع عشر. ففي اعتقادهم لم يكن عقل الحيوانات يلعب دورا مهما بما يكفي في عملية التطور، في تكوين كائنات جديدة. فيقول عن هذا الفيلسوف الأمريكي دان سي دينيت إنهم «شرعوا في إثبات أن الحيوانات، نتيجة لأفعالها الذكية في العالم ربما تعجل أو ترشد عملية تطور نوعها.»
5
ويستخدم دينيت الرافعة كتشبيه هندسي لوصف كيف من المحتمل أن تعمل الحيوانات، من خلال وجود «خدعة جيدة»، على تحسين تنظيمها فيما يطلق عليه «مساحة التصميم». أما أنا فقد وسعت نطاق هذه الفكرة لتشمل جميع الكائنات - النباتات والجراثيم بالإضافة إلى الحيوانات - وعرفت استخدام بولدوين «للعقل» ودينيت للرافعة أو الخدعة الجيدة، بقدرة الكائن على البحث؛ وكلما زادت مهارته في ذلك، أصبح أكثر نجاحا من الناحية التطورية.
6
بدا الاقتراح الثالث للوهلة الأولى متناقضا؛ فيبدو ثمة تناقض بين الإشارة إلى أن جميع الكائنات تمارس البحث، وفي الوقت نفسه اقتراح أن البحث هو ما يميز الإنسان عن الشمبانزي. يختفي هذا التعارض عند تعريف سعي الإنسان على نحو أكثر دقة؛ فليس البحث في حد ذاته هو الذي يميز الإنسان، بل قدرته المتزايدة على فعل هذا. إن الاختلاف بين الإنسان والشمبانزي كمي وليس نوعيا. وأرى أن هذا الاختلاف يعتمد على تفاعل بين أربع صفات، يسهم المزج بينها في السلوك المميز للبشر. ظهرت المشية المستقيمة، الضرورية من أجل تحرير اليدين، بالفعل في رئيسيات مثل الأوسترالوبيثكوس وإنسان كينيا، التي سبقت الأنواع الأولى للإنسان بعد ملايين من السنين. وعلى مدار مليوني سنة تالية ظهرت الصفات الأخرى التي تميز البشر بالتدريج؛ أولا المهارة اليدوية عبر الإبهام الدوار بالكامل، ثم صندوق الصوت الذي يعطي صاحبه القدرة على الكلام؛ وتزامن مع هذين التطورين زيادة حجم القشرة الدماغية في المخ تدريجيا. ويتطلب امتلاك كل من هذه الصفات حدوث تغير طفيف في وظيفة الجزيئات الأساسية المعنية، وحدوث أقل قدر ممكن من التغير داخلها؛ على سبيل المثال، لا يوجد اختلاف بين الشمبانزي والإنسان في أكثر من اثنين من أصل 715 حمضا أمينيا في حالة البروتين
FOXP2
الأساسي في الحديث واللغة. يتناسب هذا بالتأكيد مع الاقتراح الأول بعدم وجود شيء يسمى جينا «بشريا».
منذ مائة ألف سنة، عندما كانت مجموعات من الإنسان العاقل تسير عارية على طول الوادي في صدع شرق أفريقيا، وتأكل التوت وتصطاد الطرائد - وإن كان هذا باستخدام أسلحة وأدوات بدائية صنعها بالفعل جدهم الإنسان المنتصب والإنسان الماهر - لم يكن يوجد اختلاف كبير بينهم وبين الشمبانزي الشائع الذي كان يعيش حولهم في هذا الوقت. منذ ذلك الحين بالكاد تغيرت جينات الإنسان العاقل؛ تماما مثل جينات الشمبانزي الشائع. فقد كانت قدرة الإنسان على الكتابة والرسم، والتحليل والبناء، والقمع والذل، موجودة منذ 100 ألف سنة. لقد كنا في ذلك الوقت نتمتع بقدر من الذكاء وحب الانتقام تماما بقدر ما نتمتع به في عصرنا الحالي. فكل ما حدث - خاصة على نحو سريع في آخر 10 آلاف سنة - هو تراكم للإنجازات. وكما أشرت في الفصل السادس، المعرفة تراكمية؛ فتنتقل إنجازات أحد الأجيال رأسيا إلى الجيل التالي، وتنتشر أفقيا في جميع أنحاء العالم مثل عشب الطيور. من ناحية أخرى، ظل المنطق السليم دون تغير، شأنه شأن حجم كبدنا أو طول أحبالنا الصوتية. إذن إلى أي مدى يصمد الافتراض الثالث؟
كلما زاد ما نعرفه عن تصرفات الحيوانات، وخاصة الرئيسيات، اتضح أكثر أن قدرة الإنسان على التفكير - الإنسان العاقل - ليست ما يميزه عن الأنواع الأخرى. وأنا لا أعتقد أيضا أن الوعي صفة خاصة بالإنسان. في الواقع ثمة من لا يرون الوعي لدى البشر أكثر من مجرد إدراك للبيئة، ومن هذا المنطلق يستطيعون تتبع حيازته وصولا إلى البكتيريا؛ فقد رأينا في الفصل الثالث كيف تتجنب بكتيريا، مثل سالمونيلا تيفيموريم، وبروتوزوا، مثل ستنتور، المحفزات الضارة باستخدام الزوائد الشبيهة بالسوط أو الأهداب لتحرك نفسها إلى موضع جديد. إن مثل هذا الإدراك يمثل أساس التطور الذي تعرضت له مملكة الحيوان، وأنا أقول إن تجنب الخطر ما هو إلا الوجه الآخر للبحث عن الطعام. منذ ربع قرن مضى اخترع ريتشارد دوكينز كلمة «الميم» كوحدة للمحاكاة لوصف النظير الثقافي للجين. اشتق الكلمة من الكلمة الإغريقية
mimeme
لكنه اختصرها حتى تشبه في نطقها كلمة «جين»، وأراد منها أيضا أن تعبر عن جوانب «الذاكرة» وكلمة «نفس» بالفرنسية.
7
فمثلما يكون الجين «أداة نسخ» للمعلومات الجزيئية - إذ تنسخ بأمانة من جيل لآخر، لكنها تتعرض في غضون وقت التطور إلى تغير بطيء - فإن الميم هو «أداة نسخ» للأفكار؛ وللقصص والأغاني؛ وللعادات والمهارات؛ وللاختراعات والإجراءات. فتتعرض هذه الأشياء للنسخ، إلى حد ما مثل الجينات - بالمحاكاة في هذه الحالة - من جيل إلى جيل. وتصبح الميمات، مثل الجينات، متنوعة بمرور الوقت، لكن بمعدل أسرع بكثير؛ في غضون سنوات، وليس ألفيات. يعتقد علماء النفس، مثل سوزان بلاكمور في إنجلترا، أن الميمات هي التي تفرق البشر عن الرئيسيات الأخرى.
8
يبدو هذا بعيد الاحتمال، فنحن نعلم أن الحيوانات بداية من الأسماك حتى الثدييات تقلد بعضها طوال الوقت؛ وبالطبع تدرك بلاكمور هذا، وتضع بعض القيود الصارمة على استخدامها لكلمة «تحاكي» حتى تستثني أي شيء غريزي، مثل تجنب الخطر. ومع ذلك، كما ذكرنا في الفصل الرابع، لا يكون تجنب الخطر دوما أمرا غريزيا؛ فحيوان الموظ الذي يعيش في حديقة يلوستون الوطنية فقد قدرته على التعرف على الحيوانات المفترسة مثل الدب الرمادي والذئاب بعد اختفائها من الحديقة. وحتى يدرك مرة أخرى أن هذه الكائنات تنذر بالخطر عليه أن يتعلم هذا، مثل الميم. وتظهر التجارب على طيور الشحرور أنها تملك القدرة على تقليد بعضها لبعض لأسباب أخرى بخلاف حاجتها لذلك؛ فمثل البشر الذين يهتفون في مباراة لكرة القدم، فإن هذه الطيور تصدر صوتا حادا لمجرد أن أعضاء أخرى في مجموعتها تفعل هذا.
9
وماذا عن القدرات اللغوية لدى الشمبانزي القزم بانبانيشا والغوريلا كوكو، الواردة في الفصل الرابع؟ إلا أن اللغة، في رأي بلاكمور، هي ميم نموذجي. ويمكن لمفهوم الميم تفسير بعض من طرق استخدام الإنسان لصفاته المتمثلة في المهارة اليدوية والكلام ومستوى الذكاء الأكثر ارتفاعا، في صنع أنماط ثقافية، لكن يجب ألا يقتصر على «الإنسان العاقل وحده».
10
بالإضافة إلى ذلك، فهو يستثني الصفة التي اعتبرتها بشرية بالدرجة الأولى؛ التفكير المبتكر. فلا تستطيع الميمات تفسير إبداع ليوناردو دافنشي أو لايبنتس أو شوبرت أو شكسبير. بالتأكيد يكون الاختراع والإلهام عكس المحاكاة. وإذا لم تكن الميمات هي التي تكمن وراء وضع الإنسان، فما الذي يكمن وراءه؟ هل تكون في النهاية القدرة المتزايدة على السعي - الجسدية والعقلية أيضا - صفة مناسبة أكثر لتميز نوعنا عن الأنواع الأخرى؟
أرى أن هذا صحيح؛ فتظل الرئيسيات الأخرى داخل بيئتها، أما الإنسان فقد استعمر معظم العالم؛ وتظل الرئيسيات الأخرى على الأرض، في حين تعلم الإنسان السباحة (والطيران، بمساعدة بسيطة)؛ وتلتزم الرئيسيات الأخرى بنظامها الغذائي، بينما يغير الإنسان نظامه الغذائي في كل فرصة؛ وتعيش الرئيسيات الأخرى إلى حد كبير كما كان أجدادها يعيشون، أما الإنسان فلا يتوقف عن تحسين أسلوب بنائه لمأواه. ربما يستطيع الشمبانزي استخدام أدوات، مثل العصي في جمع النمل الأبيض ، أو الحجارة في كسر الجوز، أو أوراق الشجر في تنظيف نفسها، لكن لم ير حتى الآن شمبانزي في البرية وهو يصنع أداة أو يشعل نارا. ألا يعتبر البحث عن أفكار جديدة أكثر معيار مناسب يمكن أن يوصف به اختراع الإنسان لتكنولوجيا أبعد من أي شيء يمكن تخيله في عالم الحيوان؟ يمكنك القول إن السمات الدماغية التي تميز الإنسان عن الشمبانزي تظهر بوضوح أكبر في صفات مثل الطموح لتحقيق النجاح، والدافع للإبداع، والرغبة في الاستكشاف، والتعطش للمعرفة، واشتهاء الفهم، والتلهف للتحدي. لكن أليس النجاح والإبداع والاكتشاف والمعرفة والفهم ثمارا للبحث؟ وألا يعتبر التلهف لمواجهة تحديات جديدة أحد أشكال السعي؟ وما الاختراع الذي لم يشتمل على تجربة وخطأ، وبحث ورفض؟ أولم تنجح الحضارات التي صنعها الإنسان بسبب البحث عن أساليب جديدة للحكم - كالحكم الفردي والديمقراطي والبيروقراطي - وللتواصل؛ كاللغة والنصوص المكتوبة ورقاقة السليكون؟ وأي ثقافة ابتكرها الإنسان لم تكن نتيجة للسعي لتحقيق المنفعة والكفاءة والفن؟ أولم تكن الاكتشافات العلمية نتيجة للبحث عن تفسير منطقي؟ أوليست جودة حياتنا نتيجة للبحث عن تحسين؟ أوليس السعي هو سبب ظهور التطورات الحالية التي حدثت في التكنولوجيا الوراثية من أجل زيادة الإنتاج الزراعي، وتحسين فاعلية تشخيص الأمراض وعلاجها؟ فربما يتساءل الشمبانزي والكلاب والدلافين أيضا عن العالم من حولهم ويحاولون تغييره، لكنهم يكونوا مقيدين بافتقارهم النسبي للصفات التي أشرت إلى كونها أساسية في الكفاءة المتزايدة لسعي الإنسان.
إذن هل يدعم وصفي للأحداث التي وقعت على مدار آخر 100 ألف سنة - التي تشكل معظم هذا الكتاب - مفهوم كون سيطرة الإنسان على العالم الذي يعيش فيه نتيجة لبحثه؟ أترك للقارئ الحكم على هذا، وأنتظر رده بترقب شديد، وكذلك أنتظر رأي النقاد المحترفين بقدر من التخوف. وحتى أتجنب بعضا من هذه الانتقادات، دعوني أعود إلى نقطة تحدثت عنها في فصل سابق. عند إشارتي إلى مجتمعات تعيش حياة زراعية بسيطة بعيدا عن جيرانها «المتحضرين» - في الوادي الكبير في بابوا غينيا الجديدة أو على طول شواطئ نهر أورينوكو في غابات الأمازون - حرصت على ألا أنسب إليهم عدم الرضا؛ فكل ما ذكرته أنهم صعدوا سلم الإنجاز تماما كغيرهم. لكن ثمة بعض الذين لا يرون أن السلم المتحرك (الفصل السادس) يؤدي إلى الأعلى على الإطلاق. فبالنسبة لهم يكون الاتجاه إلى الأسفل؛ فيكون التحضر مدمرا، وليس خلاقا. استمع إلى كلمات أحد المعتنقين لوجهة النظر هذه، عالم الأنثروبولوجيا روبن فوكس: «منذ تطور الإنسان ليصبح نوعا يصطاد ويقتات على الحيوانات والنباتات، ترتب على هذا تدميره للحيوانات والنباتات وحتى الأفراد الآخرين من نوعه الذين يهددونه.»
11
كانت ذروة تاريخ الإنسان في العصر الحجري القديم. فمن أجل منع انقراض نوعنا، علينا الكفاح من أجل استعادة الظروف التي كانت موجودة في العالم السابق لظهور الزراعة. فعلينا اعتماد نمط حياة شعب الكونج الصائد جامع الطرائد في صحراء كالاهاري في أفريقيا، أو قبيلة يانومامي في فنزويلا، أو السكان الأصليين لأستراليا في المناطق النائية بها. لا يفعل فوكس أكثر من مجرد ترديد آراء الكتاب القدماء، مثل اختصاصي السلوك عند الحيوانات النمساوي (والحاصل على جائزة نوبل عن أبحاثه على سلوك الإوز) كونراد لورنتس. يرى لورنتس أن الحضارة تشبه تماما عملية استئناس الحيوانات؛ فهي حدث مؤسف وغير طبيعي. ورغم فصلي عند حديثي عن سيطرة الإنسان على العالم بين تطور ظهور الزراعة وتأسيس الحضارات - كما يفصلهما زمنيا نحو 5 آلاف سنة - فإن هذه تعتبر نقطة ثانوية. فإذا اختار علماء أحياء محددون رؤية آخر 10 آلاف سنة على أنها «انحدار الإنسان»، فإن هذا من حقهم.
يختلف رأيي أنا عن هذا؛ فالحضارة ليست أكثر من مجرد نتيجة لجيناتنا؛ فامتلاكنا إبهاما متحركا، وأحبالا صوتية مكانها منخفض، وعددا كبيرا من الخلايا العصبية في القشرة الدماغية؛ كانت كلها نتيجة لطفرات بالمصادفة في الدي إن إيه لدينا جعلت الإنسان العاقل ينجو في وقت العصر الحجري الحديث، بينما انقرضت كل أنواع البشر الأخرى، مثل إنسان نياندرتال. لماذا؟ ربما لأنها كانت أقل قدرة على التنافس مع القدرة المتزايدة عند الإنسان العاقل على البحث. ويعتبر احتكار الإنسان للعالم - الذي يشتمل أحيانا، بالفعل، على تدميره الوحشي لبيئته والكائنات الأخرى - مجرد استمرار لبحثه . عليك أن تعتبر هذا هبوطا أو صعودا كيفما تشاء؛ أنا أختار الثانية ببساطة لأن معظم الناس يرون أن أسلوب الحياة الأكثر تطورا يعد تقدما، وليس تراجعا. ومع ذلك، فإن مضمون حديثي لا يتسم بالذاتية؛ فإن معدل التغيير في نمط حياتنا أكبر من أي كائن آخر، سواء كان نحلة أو حوتا أو غوريلا. وتكون هذه السرعة نتيجة للقدرة المتزايدة على ممارسة الدافع الفطري على السعي الموجود داخل كل كائن حي. بالطبع سأتهم بكوني داروينيا اختزاليا يرى سلوك الإنسان الفريد على أنه مجرد سلوك حيوان متطور إلى حد ما. حسنا، ليكن هذا. ألم أفترض في فصل سابق
12
أن كل شعور إنساني، سواء كان سعادة أو يأسا، إيمانا أو شكا، إبداعا أو كرها، يمكن في النهاية تفسيره بالتفاعلات الجزيئية؟ إن عقلنا جهاز في غاية التعقيد، لكن هذا التعقيد ليس مرادفا لعدم القدرة على التفسير. بالطبع تؤثر البيئة التي نعيش فيها على طريقة تفاعل الجزيئات؛ ومن ثم تؤثر في سلوكنا تماما مثل تأثيرها في تمثيلنا الغذائي؛
13
وبما أن أفعالنا تغير البيئة - بداية من إحلال الأراضي الزراعية والمدن محل الغابات، ووصولا إلى تلوث الماء والهواء - توجد دائرة من التعزيز المتبادل بين الاثنين. لكن لا يوجد سبب لاستدعاء علاقة «خارج الجزيئات» بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه من أجل تفسير تطور مخه وظهور الثقافة والحضارة. •••
إذن ما هي رسالة هذا الكتاب؟ ليس للأفراد فحسب، بل للمؤسسات والمجتمعات ودول العالم؟ إنها رسالة بسيطة: استمروا في البحث. فلم تستمر دولة مثل أفغانستان تحت حكم طالبان، الذين ألغوا الابتكار والتعليم والفن.
14
أما دولة مثل الصين، التي تتسم بالجرأة والإبداع، والتي تجرب أساليب جديدة حتى إن أخفقت أحيانا، فتظل باقية. استخدم الخصائص التي منحت إليك - اليدين والصوت والعقل - حتى تطلق العنان لفضولك. فمن يبحث عن دروب جديدة في الحياة يزدهر أكثر ممن يتبع المسار الذي يسير فيه الجميع. فالإنسان الذي يتقاعد ليصبح شخصا كسولا ينهار؛ أما الذي يبدأ مشروعات جديدة في سن متقدمة فيظل يقظا؛ فالخلايا العصبية مثل العضلات، تبقى وقتا أطول عند استخدامها. وبالفعل لاحظ ليوناردو دافنشي منذ 500 سنة أنه «كما يصدأ الحديد عندما لا يستخدم، وتصبح المياه كريهة الرائحة عند ركودها أو تتحول إلى جليد عن تعرضها للبرودة، يتدهور الذكاء عند التوقف عن استخدامه.» لا يعني البحث الذهني أن عليك اعتناق الاتجاهات الموجودة في عصرنا الحالي. فإذا لم تكن تحب المراكز التجارية الحالية، أو الطرق السريعة ذات الحارات الثماني، أو حدائق الملاهي الصاخبة التي تقام حول منزلك، وإذا لم تكن ترغب في الانضمام إلى زملائك في رحلتهم الأولى إلى القمر وأبعد من ذلك، وإذا لم تكن ترغب في معرفة الأصوات والرؤية المقبولة في الفن في العصر الحالي، فعليك الانضمام إلي في سعيي؛ لنذهب إلى بقعة في الريف يمكننا فيها الاستماع إلى تغريد العصافير وحفيف أوراق الأشجار، وحيث يمكننا استنشاق عبير الطبيعة ورائحة دخان الحطب، وحيث يمكننا مشاهدة سنجاب يجري مرتعدا مع غروب الشمس وتلاشيها في الأفق، وحيث يمكنك التخطيط لمشروعك الجديد ويمكنني أنا تأليف كتابي التالي.
أيا كانت طبيعة مشروعك من المؤكد أنه سينطوي على عنصر البحث؛ من أجل الحصول على نتيجة ناجحة، إن لم يكن لأي شيء آخر. لكنك حتى عندما تطلق العنان لهذه الصفة البشرية الخالصة، علي أن أحذرك من أن رحلتنا هذه مستمرة:
الإنسان هو المكوك، الذي على بحثه الدائر،
ومروره عبر هذه الأنوال،
كتب الله عليه الحركة، لكنه لم يقض له بالراحة.
15
هوامش
صورة 1: مستكشفون من العصر الحديث. (في الأعلى) كريستوفر كولومبوس على متن السفينة سانتا ماريا. أجرى الطباعة الحجرية إم إف توبين، عام 1892، وأعيدت طباعتها بإذن من مكتبة الكونجرس، الولايات المتحدة الأمريكية/مكتبة الصور العلمية، لندن. (في الصفحة الخلفية) أول رجال على القمر. تظهر الصورة إدوين (باز) ألدرين، ويظهر انعكاس صورة نيل أرمسترونج والمركبة القمرية في قناع خوذته. بإذن من بيتر صور بيتر نوورك الأمريكية، باث، المملكة المتحدة.
استكمال الشكل السابق.
صورة 2: الأهرامات المصرية؛ أهرامات الجيزة الثلاثة. انظر الفصل السابع لمزيد من التفاصيل. أعيدت طباعتها بإذن من كريس كالديكوت/مكتبة صور الجمعية الجغرافية الملكية، لندن.
صورة 3: أحد أهرامات أمريكا الوسطى. يوجد المعبد في مونتي ألبان (حضارة الزابوتيك). مثل معمار المايا، تأثر معمار الزابوتيك كثيرا ببناة مدينة تيوتيهواكان. انظر الفصل السابع لمزيد من التفاصيل. أعيدت طباعتها بإذن من كريس كالديكوت، مكتبة صور الجمعية الجغرافية الملكية، لندن.
صورة 4: حجر رشيد، انظر الفصل الثامن لمزيد من التفاصيل. صورة بإذن من
TopFoto.co.uk
حقوق الطبع للمتحف البريطاني، لندن.
صورة 5: البحيرة في هانجتشو. قضى المؤلف يوما لا ينسى هناك في عام 1992؛ في الصباح لقاء رائع مع جراح وباحث ومترجم صيني، وفي المساء بحث عن السكينة بين التلال. صورة بإذن من مكتبة صور الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، الولايات المتحدة الأمريكية.
صورة 6: جاليليو جاليلي، صورة التقطها بارني شارات، وأعيدت طباعتها بإذن من مكتبة كلية أوشاو، جامعة درم، المملكة المتحدة.
صورة 7: أعمال نيوتن الكبرى. في الأعلى غلاف كتاب «البصريات»، الطبعة الأولى، عام 1704؛ وفي الصفحة المقابلة، غلاف كتاب «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، الطبعة الثانية، عام 1713. كلا الكتابين موجود في مكتبة كلية وستر في أكسفورد، وأعيدت طباعة الصور بإذن من نائب مدير الجامعة والحاصلين على زمالة الجامعة.
استكمال الشكل السابق.
صورة 8: ألبرت أينشتاين، صورة رسمها ليونيد باسترناك (صورة يمتلكها المؤلف). في إحدى جلسات الرسم دعا ليونيد باسترناك أينشتاين لتناول الشاي، واقترح عليه إحضار آلة الكمان الخاصة به حتى يعزف مع زوجة باسترناك روزاليا، عازفة البيانو في الحفلات والتي كانت عازفة عبقرية منذ طفولتها. في البداية اعترض أينشتاين؛ لأنه شعر أن عزفه لا يرقى لمستوى رزواليا، لكنه اقتنع في النهاية. وصفت والدة المؤلف فيما بعد، التي حضرت عزف أينشاتين مع رزواليا، هذا المشهد بأنه كان أحد أكثر التجارب التي لا تنسى في حياتها.
مسرد المصطلحات
التعريفات التالية للمصطلحات الطبية والعلمية مأخوذة بالأساس من مسرد المصطلحات في كتاب تشارلز باسترناك «الجزيئات بداخلنا: جسمنا في الصحة والمرض» (المرجع السابق). وللاطلاع على المزيد من المصطلحات العلمية يمكنك الاستعانة بكتب مرجعية مثل «القاموس الطبي الموجز الملون»، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، 1998، وللحصول على المزيد من المعلومات الكيميائية الحيوية يمكنك الرجوع إلى موسوعة جيه سي كندرو «موسوعة علم الأحياء الجزيئي»، بلاكويل ساينس، أكسفورد، 1995.
إيميا:
لاحقة بمعنى دم.
أحادي الجين:
حالة، عادة ما تكون اضطرابا، يتحكم فيه جين واحد (عكس
متعدد الجينات ).
أحادي المنشأ:
جلوبين مناعي
مشتق من
خلية ليمفاوية
واحدة (عكس
متعدد المنشأ ).
آر إن إيه:
الحمض النووي الريبوزي؛ جزيء يتكون من سلسلة طولية من
النيوكليوتيدات .
الابتناء:
هو عملية البناء المتمثلة في صنع
جزيئات
أكثر تعقيدا باستخدام التخليق الحيوي (عكس
الأيض الهدمي ).
الأحماض الأمينية:
هي
جزيئات
تمثل حجر الأساس
للبروتينات ، المكونة من 20 حمضا أمينيا مختلفا.
الاختزال:
إضافة الهيدروجين إلى جزيء، أو نزع الأكسجين منه.
الاستسقاء:
تراكم السوائل داخل أنسجة الجسم.
الأكسدة:
إضافة الأكسجين إلى الجزيء، أو إزالة الهيدروجين منه.
الالتهاب الكبدي:
التهاب الكبد.
الأليل:
أحد الأشكال البديلة
للجين .
الإمراض:
نشوء المرض، مسبب المرض هو عامل (مثل الجرثومة) يسبب الإصابة بالمرض.
الانجذاب الكيميائي:
تحرك الجراثيم نحو المحفز الكيميائي أو بعيدا عنه.
الإنزيم:
بروتين له وظيفة تحفيزية.
الأنسولين:
هرمون
ذو طبيعة بروتينية يفرزه البنكرياس يدعم امتصاص
الجلوكوز
في الأنسجة.
الانقسام الاختزالي:
نوع خاص من انقسام الخلية يحدث في الغدد التناسلية (الخصيتين لدى الذكور والمبيضين لدى الإناث) من أجل إنتاج الحيوانات المنوية والبيوض (تنمو الثانية فيما بعد لتصبح بويضات). ينتج عن هذا أربع خلايا وليدة (ليس اثنتين كما في
الانقسام المتساوي )، تحتوي كل منها على مجموعة واحدة فقط من الكروموسومات. ونظرا لأن انقسام أزواج الكرموسوم يكون عشوائيا، تحتوي خلية الحيوان المنوي أو البويضة على خليط من الكرموسومات؛ يكون بعضها من الأب والبعض الآخر من الأم. يحدث مزيد من التنوع من خلال عملية «التعابر» التي تحدث قبل انقسام الخلية، التي يحدث فيها تبادل في أماكن داخل الكرموسوم (
جينات
معينة) بين كرموسومات الأب والأم.
الانقسام المتساوي:
هو انقسام الخلية في أثناء نمو الكائن الحي ينتج عنه خليتان وليدتان متطابقتان.
الأنيميا:
نقص كمية
الهيموجلوبين
في الدم.
الإيدز:
متلازمة نقص المناعة المكتسبة؛ هو مرض يتسم بعدم القدرة على شن دفاع مناعي ضد الجراثيم المسببة للعدوى، وتسببه الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري قبل هذا ببضع سنوات.
الأيض الهدمي:
تفكيك الطعام أو جزيئات التخزين (مثل الطاقة، عكس
الابتناء ).
الأيون:
هو
ذرة
حصلت على شحنة سالبة أو أكثر (إليكترونات)،
Cl − (أيون الكلوريد) أو
SO
4 −2 (أيون الكبريتات)، أو
ذرة
فقدت شحنة سالبة أو أكثر، مثل
H + (أيون الهيدروجين)، أو
K + (أيون البوتاسيوم)، أو
Na + (أيون الصوديوم)، أو
Ca +2 (أيون الكالسيوم). وعند إذابة أملاح مثل
NaCl (كلوريد الصوديوم أو الملح الشائع) في الماء، فإنها تنفصل إلى
Na +
و
Cl − .
الببتيد:
جزيء مكون من عدة بقايا
للحمض الأميني (عادة من 3 إلى 12)؛ ومن ثم تكون جزءا من
البروتين .
البروتين:
جزيء مكون من سلسلة طولية من
الأحماض الأمينية .
البريون: «بروتين مسبب للعدوى»؛
بروتين
يوجد في الجسم عادة، ترتبط الأشكال
الطافرة
منه بأمراض مثل
جنون البقر
الذي يصيب الماشية
ومرض كروتزفيلد جاكوب
لدى البشر.
البوليمر:
جزيء ضخم مكون من عدة وحدات أصغر متكررة، مثل
البروتينات والآر إن إيه والدي إن
إيه والجليكوجين والنشا واللدائن.
التطعيم:
إعطاء
اللقاح
من أجل الحماية من الأمراض المعدية.
التليف الكيسي:
مرض وراثي يسد فيه المخاط البنكرياس والرئتين؛ وينتج عن هذا عادة التهابات حادة في الجهاز التنفسي.
التمايز:
زيادة تخصص الخلايا في أثناء نموها.
التمثيل الضوئي:
العملية التي تصنع بها النباتات وبعض البكتيريا
الكربوهيدرات
من ثاني أكسيد الكربون والماء، مستغلة في ذلك طاقة الضوء.
التهاب الدماغ الإسفنجي البقري (جنون البقر):
اضطراب عصبي مرضي تنكسي يصيب الماشية، يرتبط بخلل في بروتين
البريون .
التهاب الدماغ:
هو التهاب يحدث في المخ.
التهاب المفاصل:
هو التهاب لمفصل أو أكثر، ويضم التهاب المفاصل الروماتويدي (الذي يرتبط عادة
بمرض المناعة الذاتية )، وهشاشة العظام (الذي يرتبط عادة بكبر السن).
الجزيء:
هو أصغر جزء من المادة العضوية يكون مستقرا في ظل الظروف الموجودة على سطح الأرض (مثل الأكسجين والماء و
الجلوكوز والبروتين والدي إن إيه ).
الجلوبين المناعي:
بروتين
يرتبط
بمستضد
أو
مادة مسببة للحساسية .
الجلوكوز:
جزيء صيغته
C
6
H
12
O
6 ؛ نوع السكر الأكثر شيوعا في الخلايا والمكونات الأساسية
للكربوهيدرات ، مثل الجليكوجين والنشا.
الجهاز القلبي الوعائي:
جهاز القلب مع الأوعية الدموية.
الجين :
امتداد من الدي إن إيه يحدد
بروتين
معين.
الجينوم:
المادة الوراثية بالكامل للكائن الحي؛ ويشير أيضا إلى إجمالي
الدي إن إيه
لدى الكائن الحي.
الحاجز الدموي الدماغي:
يمنع دخول كثير من مكونات الدم إلى الدماغ والسائل الدماغي الشوكي، والعكس.
الحمل:
نمو البويضة المخصبة إلى مولود.
الخلايا اللمفاوية:
فئة من
كريات الدم البيضاء
تشترك في
المناعة .
الدهن الفسفوري:
جزيء يحتوي على
حمضين دهنيين ؛ الجليسرول والفوسفات، مع أحد الرواسب مثل الكولين أو الأينوزيتول. تعتبر الدهون الفسفورية المكونات الأساسية للأغشية الحيوية، مثل غشاء البلازما الذي يحيط بالخلية.
الذرة:
جزء من
الجزيء ، وتتفاوت كتل الذرات (على سبيل المثال،
H
2
و
C
12
و
N
14
و
O
16 ... إلخ).
الربو:
ضيق الممرات الهوائية في الرئتين؛ مما يؤدي إلى السعال وإصدار أزيز وصعوبة في التنفس، وعادة ما ينتج عن
مادة تسبب الحساسية .
الربيطة:
جزيء يرتبط بجزيء آخر، على سبيل المثال،
هرمون
أو
ناقل عصبي
أو أي إشارة أخرى ترتبط
ببروتين
مستقبل.
السببيات:
سبب المرض.
الستيرويد:
جزيء، مثل
الكوليسترول
أو التيستوستيرون أو الأستروجين، له شكل حلقي مميز.
السرطان:
ورم
خبيث .
السمنة:
حالة مرضية تنتج عن تراكم الدهون داخل الجسم؛ إجمالا الوزن الزائد.
الضمور:
إصابة نسيج أو عضو بالضعف.
الطفرة:
تغير في
الدي إن إيه
ربما ينتج عنه تغير في
النمط الظاهري ؛ وتنتقل التغيرات في الخلايا الجنسية إلى الجيل التالي، أما التغيرات في الخلايا (الجسدية) الأخرى فلا تنتقل.
الظهارة:
طبقة من الخلايا تبطن سطحا، مثل الجلد (البشرة) أو الجهاز الهضمي (الغشاء المخاطي).
العصبون:
خلية عصبية.
العلاج الكيميائي:
علاج أحد الأمراض بالمواد الكيميائية.
الغدد الصماء:
تفرز الهرمونات.
القشرة الدماغية:
الطبقة الخارجية للمخ؛ تشكل 40٪ من دماغ الإنسان وتحتوي على 15 مليار
خلية عصبية
تعمل في الوعي والإدراك والذاكرة والتفكير والقدرة العقلية والذكاء.
الكربوهيدرات:
جزيء يتكون من وحدات سكر؛ ربما يكون سكرا أحاديا مثل
الجلوكوز ، أو ثنائيا مثل اللاكتوز أو السكروز، أو وحدات سكر متعددة (
بوليمر ) مثل الجليكوجين أو النشا.
الكروموسوم:
تكوين داخل الخلية يخزن فيه معظم الدي إن إيه.
الكروموسومات الجنسية:
كرموسومات
X
و
Y
لدى الفرد؛ تكون الإناث
XX
والذكور
XY .
الكوليسترول:
جزيء (نوع من
الستيرويد ) يوجد في الأطعمة الدهنية، بالإضافة إلى وجوده في الجسم.
اللقاح:
مستحضر من جرثومة، أو جزيء مستخرج منها، يؤدي إلى
مناعة
من المرض الذي تسببه هذه الجرثومة.
اللوكيميا (سرطان الدم):
مرض
خبيث
ينتج فيه
نخاع
العظام كما مفرطا من
كريات دم بيضاء
غير الناضجة أو غير طبيعية. قد يكون
حادا
أو
مزمنا .
المرض الحاد:
هو مرض يظهر بسرعة وتكون أعراضه حادة ومدته قصيرة (عكس
مزمن ).
المرض المزمن:
مرض طويل الأمد يشتمل على تغيرات بطيئة، ويظهر عادة بالتدريج (عكس
حاد ).
المستضد:
مادة غريبة، مثل بروتوزوا أو بكتيريا أو فيروس، ترتبط
بجسم مضاد ؛ ومن ثم تثير استجابة
مناعية .
المطفر:
عامل (جزيء أو إشعاع) يسبب
طفرة .
المناعة الذاتية:
مرض يسببه هجوم جهاز
المناعة
في الجسم على أعضاء أو أنسجة معينة.
المناعة:
الحماية من الأمراض المعدية.
النخر:
هو موت بعض خلايا عضو أو نسيج أو جميعها.
النظير:
أشكال مختلفة من الذرة؛ تكون أشكال منها أكثر وزنا غير مستقرة وتصدر إشعاعات مشعة (على سبيل المثال، قارن بين
الكربون −14
والكربون −12 ).
النقيلة:
هو انتشار ورم
خبيث
من موقع نشأته.
النمط الظاهري:
صفة واضحة أو يمكن قياسها بأي طريقة أخرى لكائن حي تنتج من
نمطه الوراثي .
النمط الوراثي:
التكوين الوراثي للكائن الحي (عكس
النمط الظاهري ).
النيوكليوتيد:
جزيء يمثل المكون الأساسي للأحماض النووية؛ تحتوي النيوكليوتيدات في الآر إن إيه على الريبوز، أما في
الدي إن إيه
فتحتوي على ريبوز منقوص الأكسجين. يحتوي
ثلاثي فوسفات الأدينوسين
أيضا على نيوكليوتيد.
الهربس:
نوع من الفيروسات.
الهرمون:
جزيء، يكون بوجه عام
بروتينا
أو أحد مشتقات
الأحماض الأمينية
أو
ستيرويدا ، يفرزه نوع من الأنسجة أو الأعضاء ويؤثر في وظيفة نسيج أو عضو آخر.
الهيم:
جزيء يحتوي على
الحديد
يرتبط
ببروتين
الجلوبين في
الهيموجلوبين .
الهيموجلوبين:
البروتين
الأساسي المكون لخلايا الدم الحمراء، الذي يرتبط بالأكسجين ويحمله من الرئتين إلى جميع الأعضاء والأنسجة في الجسم.
الورم الخبيث:
هو
ورم
ينتشر ويغزو أنسجة أخرى (عكس
حميد ).
الوفيات (معدل):
حالات الوفاة في تعداد من السكان في فترة معينة.
الوليد:
الطفل الحديث الولادة؛ الفترة في أول 4 أسابيع بعد الولادة.
أندروجين:
هرمون
ستيرويدي (مثل التيستوستيرون) يحفز على تطور الصفات الجنسية لدى الذكور.
بطاني:
السطح المبطن للأوعية الدموية وغيرها من التجويفات المملوءة بالسائل.
تصلب الشرايين:
تكون صفائح دهنية في جدران الشرايين تحد من تدفق الدم، وتجعل الجسم عرضة للإصابة بتجلط الدم.
تصلب شرياني:
مرض تتكون فيه لويحات عصيدية.
تعدد الأشكال:
خاصية وراثية توجد في عدة أشكال مختلفة، تعكس وجود
أليلات
مختلفة.
تكون الورم:
حدوث نمو غير طبيعي أو
ورم ؛ يمكن أن يكون
حميدا
أو
خبيثا .
تولد الأوعية:
تكوين أوعية دموية جديدة، وهو أمر أساسي في تكون
الأورام .
ثلاثي الجليسريد:
جزيء مكون من الجليسرول وثلاثة
أحماض دهنية ؛ هو المكون الأساسي للأطعمة الدهنية والنسيج
الدهني .
ثلاثي فوسفات الأدينوسين:
جزيء يتصرف بمثابة «عملة الطاقة» للخلايا؛ فينتج عن طريق
تأكسد
المواد الغذائية (
الجلوكوز والأحماض الدهنية ) أو من خلال عملية
التمثيل الضوئي ، ويستخدم في انقباض العضلات (بما في ذلك ضخ القلب للدم)، وضخ الأيونات عبر الأغشية، والتخليق الحيوي لجزيئات مثل
الكربوهيدرات والبروتينات والآر إن إيه والدي إن إيه .
جسم مضاد:
بروتين، يسمى أيضا
الجلوبين المناعي ، يرتبط
بمستضد .
حالة مرضية:
الإصابة بالمرض.
حسي:
النبضات العصبية المشتقة من الحواس التي تنتقل إلى المخ.
حمض دهني:
جزيء يتكون من سلسلة من ذرات الكربون (عادة من 16 إلى 24 ذرة كربون). يمكن أن يكون مشبعا (تكون كل ذرات الكربون مهدرجة بالكامل) أو غير مشبعة (تكون بعض ذرات الكربون غير مهدرجة بالكامل).
حميد:
ورم
أو إصابة أخرى ليست
خبيثة .
خارجي المنشأ:
ينشأ خارج الجسم أو الخلية (عكس
داخلي المنشأ ).
خلقي:
حالة توجد منذ الولادة.
داء السكري :
اضطراب يحدث فيه خلل في امتصاص
الجلوكوز
وتمثيله الغذائي في الخلايا؛ ويسببه نقص
الأنسولين ، أو عدم الحساسية تجاهه.
داخلي المنشأ:
ينشأ من داخل الجسم أو الخلية (عكس
خارجي المنشأ ).
دهني:
متعلق بالدهون، على سبيل المثال، نسيج دهني.
دورة الخلية:
تسلسل الأحداث بين كل انقسام للخلية والانقسام التالي عليه.
دي إن إيه:
حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين؛ جزيء مكون من سلسلة طولية من
النيوكليوتيدات ، وتمثل امتدادات معينة من الدي إن إيه
الجينات .
سابق للولادة:
تشخيص يحدث قبل الولادة من أجل رصد الأمراض المحتملة باستخدام بزل السائل الأمنيوسي، أو أخذ عينات من الزغابات المشيمية، أو تقنيات أخرى.
سام عصبي:
سام على
الخلايا العصبية .
شعيرة دموية:
أضيق نوع من الأوعية الدموية.
صدمة الحساسية:
هي رد فعل
تحسسي
حاد ومنتشر يتسبب في انتفاخ القصيبات في الرئتين واحتباس الماء فيها وانقباضها، وكذلك تتسبب في قصور في القلب، وهبوط في الدورة الدموية وأحيانا الوفاة.
ضغط الدم المفرط:
ارتفاع ضغط الدم.
عديم الأعراض:
عدم إظهار أي علامات للمرض، سواء كان المرض موجودا أو لا.
علم الأنسجة:
دراسة تركيب الأنسجة.
علم الأوبئة:
دراسة الأوبئة؛ ظهور الأمراض داخل الشعوب أو انتشارها.
علم الدم:
دراسة الدم وتكوينه.
علم الشكل:
علم دراسة شكل جسم الكائنات الحية وأعضائها وبنيتها.
عوز الأكسجين:
حالات تحصل فيها أنسجة الجسم على كميات غير كافية من الأكسجين.
فرط كوليسترول الدم:
ارتفاع الكوليسترول في الدم.
فرط كوليسترول الدم:
وجود كم كبير من الكوليسترول في الدم.
في الجسم الحي:
بمعنى أنه يحدث داخل الجسم.
في المختبر: «في أنبوب»، بعبارة أخرى، في صحن أو أنبوب اختبار؛ أي يحدث خارج الجسم.
فيروس العوز المناعي البشري:
فيروس يؤدي إلى الإصابة بمرض
الإيدز .
قشرة (قشري):
الطبقة الخارجية لعضو، مثل المخ.
كبدي:
يتعلق بالكبد.
كرات الدم الحمراء:
خلايا الدم الحمراء الناضجة.
كلوي:
متعلق بالكليتين.
مادة حيوية دخيلة:
مادة غريبة على الجسم البشري؛ ينطبق الاسم على الأدوية وعلى أنسجة الحيوانات (على سبيل المثال، الأعضاء المزروعة).
مادة مسببة للحساسية:
هي مادة، مثل حبوب اللقاح أو نبات القراص أو الجلوتين، تتسبب في رد فعل
مناعي
لدى الأفراد ذوي الحساسية المفرطة، قد تنتهي بالإصابة
بصدمة الحساسية .
مادة مسرطنة:
مادة تسبب السرطان.
مادة مناهضة:
مادة مثبطة لعمل
هرمون
أو
ناقل عصبي (عكس
الناهضة ).
متعدد الجينات:
حالة، عادة ما تكون اضطرابا، تتحكم فيها عدة
جينات
مختلفة (عكس
أحادي الجين ).
متعدد المنشأ:
جلوبين مناعي
مشتق من أكثر من
خلية لمفاوية
واحدة (عكس
أحادي المنشأ ).
متغاير اللواقح:
وراثة
أليلات
مختلفة لأي
جين
من كل من الوالدين (عكس
متماثل اللواقح ).
متلازمة:
مجموعة من الأعراض الخاصة بمرض معين.
متماثل اللواقح:
وراثة الأليل نفسه من أي جين من كلا الوالدين (عكس
متغاير اللواقح ).
متنح:
تشير إلى
أليل
يوجد على
كروموسوم
لا يحدد الحالة أو
النمط الظاهري (التي يحددها الأليل الموجود على الكروموسوم الآخر؛ عكس
مسيطر ).
محيطي:
بالقرب من السطح أو نحو الأطراف.
مرض الخلية المنجلية:
اضطراب تتخذ فيه خلايا الدم الحمراء شكلا منجليا؛ ويسببه وجود خلل في
الهيموجلوبين .
مرض ألزهايمر:
اضطراب عصبي يتسم بالفقدان التدريجي للذاكرة قصيرة الأمد، وتدهور في الأداء السلوكي والذهني، وبطء في التفكير.
مرض كروتزفيلد جاكوب:
اضطراب عصبي تنكسي يرتبط بخلل في بروتين
البريون ؛ أحد أشكال المرض الذي يبدو أنه يحدث بسبب تناول لحوم مصابة بمرض جنون البقر.
مرض مستوطن:
يحدث باستمرار في منطقة معينة أو شعب معين.
مستضدات الكريات البيضاء البشرية:
بروتين
على سطح الخلايا المسئولة عن التعرف على المركبات الغريبة. ويمكن للأفراد الذين لديهم النوع نفسه من مستضدات الكريات البيضاء البشرية تقبل النسيج الحي من بعضهم.
مسيطر:
تشير إلى أليل على
كروموسوم
يحدد الحالة أو
النمط الظاهري (عكس
متنح ).
مضاد حيوي:
مركب تنتجه الجراثيم عادة يثبط انتقائيا أو يقتل جراثيم أخرى (مثل البنسلين).
معدي (معوي):
يتعلق بالمعدة.
مناعي:
رد
فعل الخلايا اللمفاوية
تجاه جسم غريب مثل جرثومة مسببة للعدوى، ورد فعل الخلايا البدينة
لمادة مسببة للحساسية .
ناقل عصبي:
جزيء يعمل على نقل النبضات العصبية.
ناهضة:
مادة تحفز استجابة في الخلية، مثل هرمون أو ناقل عصبي (عكس
المناهضة ).
نطاق:
جزء محدد التكوين أو الوظيفة في
البروتين .
ورم:
انتفاخ، يحدث عادة نتيجة لخلل في تكاثر الخلية كما يحدث في مرض
السرطان ، انظر
تكون الورم .
المراجع
تضم القائمة التالية بعضا من المقالات والكتب التي استعنت بها. وسيجد القارئ، الذي يرغب في التعمق أكثر في موضوعات معينة من المذكورة في هذا الكتاب، هذه القائمة مفيدة، بالإضافة إلى بعض من الكتب الدراسية التي أدرجتها.
Lesley and Roy Adkins.
The Keys of Egypt: the Race to Read the Hieroglyphs.
Harper Collins, London, 2000.
Bruce Alberts, Alexander Johnson, Julian Lewis, Martin Raff, Keith Roberts and Peter Walter.
Molecular Biology of the Cell,
4th edn. Garland Science, NewYork, 2002.
Karen Armstrong.
Buddha.
Weidenfeld & Nicolson/Phoenix, London, 2000.
Design for a Life. How Behaviour Develops.
Jonathan Cape, London, 1999.
David Berlinski.
Newton’s Gift. How Sir Isaac Newton Unlocked the System of the World.
Duckworth, London, 2001.
John H. and Evelyn Nagai Berthrong.
Confucianism: a Short Introduction.
Oneworld, Oxford, 2000.
Baruch S. Blumberg.
Hepatitis B: the Hunt for a Killer Virus.
Fernand Braudel.
Civilization and Capitalism. Fifteenth-Eighteenth Century,
vol I, 1981, and vol II, 1982 (English translation). William Collins Sons & Co, London.
British Medical Association.
The BMA Guide to Living with Risk.
1990.
John Brockman (ed.).
The Next Fifty Years.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2002.
R. A. Buchanan.
History and Industrial Civilisation.
Macmillan, London, 1979.
Nigel Calder.
Technopolis. Social Control of the Uses of Science.
MacGibbon & Kee, London, 1969.
Luigi L. Cavalli-Sforza.
Genes,
Allen Lane/Penguin, London, 2000.
Father Bernabe Cobo.
Inca Religion and Customs (translated by Roland Hamilton). University of Texas Press, Austin, TX, 1990.
Einstein and the Total Eclipse.
Icon Books, Cambridge/Totem Books, NewYork, 1999.
Glenn C. Conroy.
Reconstructing Human Origins: a Modern Synthesis.
W. W. Norton, NewYork, 1997.
Nicholas Crane.
Mercator: the Man who Mapped the Planet.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2002.
Richard Dawkins.
The Selfish Gene.
Oxford University Press, Oxford, 1976; new edition, 1989.
Richard Dawkins.
Unweaving the Rainbow. Science, Delusion and the Appetite for Wonder.
Daniel C. Dennett.
Darwin’s Dangerous Idea. Evolution and the Meanings of Life.
Allen Lane, Penguin, London, 1995.
Jared Diamond.
The Rise and Fall of the Third Chimpanzee,
Vintage edn. Random House, London, 1992.
Robin Dunbar.
Grooming, Gossip and the Evolution of Language.
Faber and Faber, London, 1996.
Extinction. The Causes and Consequences of the Disappearance of Species.
Victor Gollancz, London, 1982.
John L. Esposito.
Islam.
Oxford University Press, NewYork, 1988.
Caesar E. Farah.
Islam. Beliefs and Observances,
5th edn. Barron’s Educational Series Inc., Hauppauge, NY, 1994.
Steven Roger Fischer.
A History of Language.
Reaktion Books, London, 1999.
Steven Roger Fischer.
A History of Writing.
Reaktion Books, London, 2001.
Robin Fox.
The Search for Society: Quest for a Biosocial Science and Morality.
Rutgers University Press, New Brunswick, NJ, 1989.
Henry Gee (ed.). Nature Insight: Astrobiology (features articles on 'The habitat and nature of early life’, 'The search for extraterrestial intelligence’, 'Humans in space’ and other topics).
Nature
409: 1079-1122; 2001.
Gerd Gigerenzer.
Reckoning with Risk: Learning to Live with Uncertainty.
Allen Lane/Penguin, London, 2002.
Marija Gimbutas.
The Language of the Goddess: Unearthing the Hidden Symbols of Western Civilisation.
Thames and Hudson, London, 1989.
Jean Gimpel.
The End of the Future. The Waning of the High-Tech World (translated from the French by Helen McPhail). Adamantine Press, London, 1995.
Jane Goodall.
The Chimpanzees of Gombe.
Bellknap Press, Harvard, MA, 1986.
Graham Hancock.
Underworld.
Michael Joseph, London, 2002.
A. C. Hardy.
The Living Stream: a Restatement of Evolution Theory and Its Relation to the Spirit of Man.
Collins, London, 1965.
Sir Thomas Heath.
Archimedes.
a volume in
Men of Science , G. Chapman (ed.). Society for Promoting Christian Knowledge, London, 1920.
Thor Heyerdahl.
The Ra Expeditions.
George Allen & Unwin, London, 1971.
Leo Tan Wee Hin and R. Subramanian. 'Scientific societies build better nations’.
Nature
399: 633; 1999.
Thomas Hobbes.
Leviathan, or the Matter, Forme and Power of a Commonwealth Ecclesiastical and Civil,
Michael Oakeshott (ed.). Blackwell, Oxford, 1960; originally published 1651.
Mark Honigsbaum.
The Fever Trail.
Macmillan, London, 2001.
David Horrobin.
The Madness of Adam and Eve: how Schizophrenia Shaped Humanity.
Bantam, London, 2001.
Nicholas Humphrey.
The Mind Made Flesh. Essays from the Frontiers of Psychology and Evolution.
Oxford University Press, Oxford, 2002.
Road to Riches, or The Wealth of Man.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2000.
Terence Kealey.
The Economic Laws of Scientific Research.
Macmillan, London, 1996.
John Kobler.
The Reluctant Surgeon: the Life of John Hunter.
Heinemann, London, 1960.
Jaroslav Krejči.
The Human
and History.
St Martin’s Press/Macmillan, Basingstoke, 1993.
Richard Leakey.
The Origin of Humankind.
Weidenfeld & Nicolson, London, 1994.
Roger Lewin.
Human Evolution: an Illustrated Introduction,
3rd edn. Blackwell Scientific, Oxford, 1993.
Roger Lewin.
Human Evolution.
Blackwell Scientific, Oxford, 1998.
Bernard Lewis.
The Multiple Identities of the Middle East.
Weidenfeld & Nicolson, London, 1998.
David Lewis-Williams.
The Mind in the Cave. Consciousness and the Origins of Art.
Thames and Hudson, London, 2002.
Bruce Lincoln.
Warriors, and Cattle. A Study in the Ecology of Religions.
University of California Press, Berkeley, CA, 1981.
C. Scott Littleton (ed.). The Sacred East Series.
Hinduism (Mary McGee);
Buddhism (Ornan Rotem);
Confucianism (John Chinnery);
Daoism (John Chinnery); and
Shinto (C. Scott Littleton). Macmillan, London, 1996.
John Maddox.
What Remains to Be Discovered. Mapping the Secrets of the Universe, the Origins of Life, and the Future of the Human Race.
Macmillan, London, 1998.
Kenan Malik.
Man, Beast and Zombie. What Science Can and Cannot Tell Us about Human Nature.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2000
Vincent H Malmström.
Cycles of the Su, Mysteries of the Moon. The Calendar in Mesoamerican Civilization.
University of Texas Press, Austin, TX, 1997.
Duke Maskell and Ian Robinson.
The New Idea of a University.
Haven Books, London, 2001.
Alan McHughen.
A Consumer’s Guide to Genetically Modified Food. From Green Genes to Red Herrings.
Oxford University Press, Oxford, 2000.
Steven J. Mithen.
The
Religion and Science.
Thames and Hudson, London, 1996.
J. R. McNeill.
Something New Under the Sun: an Environmental History of the Twentieth Century World.
Allen Lane/W.W. Norton, NewYork, 2000.
Ernst Mayr.
What Evolution Is.
Basic Books, NewYork, 2001, and Weidenfeld & Nicolson, London, 2002.
John Merson.
Roads to Xanadu. East and West in the Making of the Modern World.
Weidenfeld & Nicolson, London, 1989.
Giles Milton.
Nathaniel’s Nutmeg. How One Man’s Courage Changed the Course of History.
Sceptre/Hodder & Stoughton, London, 1999.
Gary F. Moring.
The Complete Idiot’s Guide to Understanding Einstein.
Alpha Books, Macmillan, Indianapolis, IN, 2000.
David L. Nelson and Michael M. Cox.
Lehninger Principles of Biochemistry,
3rd edn.Worth, NewYork, 2000.
Daniel Nettle.
Strong Imagination: Madness, Creativity and Human Nature.
Oxford University Press, Oxford, 2001.
New Encyclopaedia Britannica,
vols 1-29. Encyclopaedia Britannica Inc, NewYork, 1994.
Sherwin B. Nuland.
Leonardo da Vinci.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2000.
Edwin R. Nye and Mary E. Gibson.
Ronald Ross: Malariologist and
Macmillan, Basingstoke, and St Martin’s
Haim Ofek.
Second Nature. Economic Origins of Human Evolution.
Cambridge University Press, Cambridge, 2001.
Stephen Oppenheimer.
Eden in the East. The Drowned Continent of South-east Asia.
Weidenfeld & Nicolson, London, 1998.
Oxford Paperback Encyclopedia.
Oxford University Press, Oxford, 1998.
Charles Pasternak.
The Molecules Within Us: Our Body in Health and Disease.
1998.
Sir Flinders Petrie.
Religious Life in Ancient Egypt.
Cooper Square Publishers, NewYork, 1972.
Steven Pinker.
How the Mind Works.
1997.
Roy Porter.
The Greatest Benefit to Mankind: a Medical History of Humanity from Antiquity to the Present.
Harper Collins, London, 1997.
V. S. Ramachandran and Sandra Blakeslee.
Fourth Estate, London, 1998.
John H. Relethford.
Genetics and the Search for Modern Human Origins.
Wiley-Liss, NewYork, 2001.
Hilary and Steven Rose (eds).
Alas, Poor Darwin. Arguments Against Evolutionary Psychology.
Jonathan Cape, London, 2000.
Richard Rudgley.
Lost Civilisations of the Stone Age.
Arrow Books, London 1999.
Carl Sagan and Ann Druyan.
Shadows of Forgotten Ancestors. A Search for Who We Are.
Random House, NewYork, 1992.
Denise Schmandt-Besserat.
Before Writing, Volume One: From Counting to Cuneiform.
University of Texas Press, Austin,TX, 1992.
Michael Sharratt.
Galileo. Decisive Innovator.
Blackwell, Oxford, 1994.
Dava Sobel.
Galileo’s Daughter.
Fourth Estate, London, 2000.
Jacques Soustelle.
Los Mayas (originally
Les Maya ). Fondo de Cultura Economica, Mexico, DF, 1992.
Irving Stone.
The Origin.
Corgi Books, London, 1980.
Sun Tzu.
The Art of War.
Foreword by James Clavell. Hodder & Stoughton, London, 1981.
Bryan Sykes.
The Seven Daughters of Eve.
Bantam Press, London, 2001.
Keith Thomas (ed.). Founders of Faith Series:
the Buddha (Michael Carrithers);
Confucius (Raymond Dawson);
Jesus (Humphrey Carpenter); and
Muhammad (Michael Cook). Oxford University Press, Oxford, 1986.
J. Eric S. Thompson.
Maya History and Religion.
University of Oklahoma Press, Norman, OK, 1970.
Arnold J. Toynbee.
A Study of History,
vols I-VI (abridged by D. C. Somervell). Oxford University Press, NewYork, 1946.
Eric Trinkhaus and Pat Shipman.
The Neandertals. Changing the Image of Mankind.
Colin Tudge.
The Day before Yesterday.
Jonathan Cape, London, 1995.
James D.Watson.
The Double Helix.
Weidenfeld & Nicolson, London, 1968.
A Terrible Beauty. A History of the People and Ideas that Shaped the Modern Mind.
Weidenfeld & Nicolson, London, 2000.
Steven Weinberg.
Facing Up. Science and Its Cultural Adversaries.
Harvard University Press, Cambridge, MA, 2001.
Richard S.Westfall.
Never at Rest. A Biography of Isaac Newton.
Cambridge University Press, Cambridge, 1980.
Michael White.
Leonardo. The First Scientist,
Little, Brown, London, 2000.
Taoism.
Thorsons, London, 2000.
Endymion Wilkinson.
Chinese History. A Manual.
Harvard University Asia Center, Cambridge, MA, 2000.
Ian Wilmut, Keith Campbell and Colin Tudge.
The Second Creation.The Age of Biological Control by the Scientists who Cloned Dolly.
Headline Book
Edward O. Wilson.
Sociobiology. The New Synthesis.
Harvard University Press, Cambridge, MA, 1975.
Edward O. Wilson.
The Diversity of Life.
Harvard University Press, Cambridge, MA, 1992.
Edward O. Wilson.
The Future of Life.
Little, Brown, London, and Alfred A. Knopf, NewYork, 2002.
Lewis Wolpert.
The Unnatural Nature of Science.
Faber and Faber, London, 1992.
Alexander Wood.
ThomasYoung, Natural Philosopher, 1773-1829.
Cambridge University
J. Z. Young.
An Introduction to the Study of Man.
Oxford University Press, Oxford, 1971.
R. C. Zaehner.
Hinduism.
Oxford University Press, Oxford, 1962.
Semir Zeki.
Inner Vision-an Exploration of Art and the Brain.
Oxford University
Página desconocida