Jawahir Tafasir
جواهر التفسير
Géneros
والاسلام بما شرعه من الانفاق يعالج النفس البشرية التي من طبعها حب المال، والرغبة في الاستكثار منه، فإنها إذا أرسل لها العنان في هذه الرغبة تجاوزت جميع الحدود، واستخفت بكل الواجبات الأسرية والاجتماعية، وأصبح همها الوحيد ما تكسبه من مال تستكثر به على الآخرين، ولن تبالي في هذه الحالة في الوطء على كل القيم والفضائل، وقطع جميع الوشائج والأواصر، ما دام في ذلك تحقيق لرغبتها الجامحة، وإرواء لظمئها الملتهب، وفي مثل هذه الحالات تنضب العواطف وتغور مشاعر الرحمة، ويغلظ الاحساس في الانسان، وتستعر البغضاء والعداوات حتى بين الأقرباء الأدنين، فلا والد يعطف على ولده، ولا ولد يوقر والده، كما هو الشأن السائد في المجتمعات التي تعبد المادة، وتقدس الثروة، وفي هذا الانفاق علاج لهذا المرض الفتاك، فهو يرهف الحس، ويفجر مشاعر الرحمة وعواطف الاحسان بين ذوي القربى خاصة، وسائر الناس عامة.
والله تعالى قدير على إغناء كل أحد حتى يستقل بمصالحه عن غيره، ولكنه أراد بما طبع عليه النفوس من الاحتياج إلى الغير، وأمر به من التعاون بين الناس، تربية الضمير الانساني وتمتين العلاقات بين أفراد الجنس البشري، وإنما انحراف الناس عن هذا المنهج المستقيم الواضح هو السبب في وجود العداوات في القلوب، وتأجج الأحقاد في الصدور، وتحول الانسان إلى سبع ضار لا يبالي بمن يفتك به ما دام ذلك يحقق رغبته، وليس شيء أسرع في اشتعال نار الفتنة بين الناس من حب المال، فكم من ولد استعجل وفاة والده، أو قريب استطال حياة قريبه فسقاه السم الزعاف، أو استخدم أية وسيلة في القضاء على حياته، وما الغاية من ذلك إلا حيازة تركته والتنعم بثروته.
ومن استقرأ التاريخ البشري لم يجد عدالة في الاقتصاد أو غيره كعدالة الاسلام، دين الله الحق الذي كفل لكل إنسان حقه، فإن جميع الأنظمة البشرية التي عاشتها الانسانية في أطوارها المتقلبة وعصورها المختلفة لم تكن إلا مصدر شقاء وبلاء، فقد اكتوى الفقراء والبؤساء بسعيرها اللاهب، ولم تمتد منها يد عادلة لتنتزع من الطبقات الغنية ما احتكرته من حقوق الناس ، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية أن وادي النيل في العهود القديمة كان ينتج من المحصولات الزراعية أضعاف ما كان يحتاج إليه مواطنوه، ولكن لم تكن تنصب فوائدها إلا في خزائن الأغنياء والطبقات المستعلية من الناس، بينما الجماهير الكادحة تكتوي بنار المسغبة، وتتقلب على رمضاء المآسي، وقد أدى الحال في المجاعة المشهورة في الأسرة الثانية عشرة أن باع الفقراء نفوسهم للأغنياء من أجل الحصول على لقمة العيش، وحدث عن مثل ذلك في ممالك كل من بابل، وفارس واليونان، بل ثبت أن في مملكة اليونان كان الأغنياء يذبحون الفقراء ذبح الأغنام لأتفه الأسباب، وفي أثينا نفسها كان الفقراء يباعون مع الماشية والأرض، ووقع مثل ذلك في مملكة الرومان، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن شهوة المال إذا استحكمت في النفس جعلت صاحبها يتخطى جميع حدود الانسانية، ويتجاوز ما طبع الله عليه البشر من العطف والرقة والحنان، وهذا هو سر تحذير الله تعالى من احتكار طائفة مخصوصة من الناس رؤوس الأموال، وذلك في قوله، بعد تبيان أحكام الفيء وقسمه:
كي لا يكون دولة بين الأغنيآء
[الحشر: 7].
وإذا جهل الانسان أو تجاهل تاريخ الظلم المالي في العصور البشرية الغابرة السحيقة، فما عليه إلا أن يفتح عينيه على الأنظمة المالية السائدة في العالم اليوم والتي هي نتيجة الأطوار الاقتصادية التي مر بها الانسان، ففي العالم اليوم نظامان ماليان خطيران، كل منهما يلتهم حقوق الانسان بأتونه المستعر، وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وما الفرار من أحدهما إلى الآخر إلا فرار من جهنم إلى الجحيم، ولست أتحدث عنهما عن خبر قرأته أو سمعته، وإنما أتحدث عن مشاهد رأيتها ومآس أحسستها، تتفطر منها الكبد ويذوب منها الفؤاد، فقد كنت في زيارة لدولة اشتراكية شيوعية، فشاهدت عيناي جماهير الشعب تساق بعصي الذل والهوان، ليس لأحد منهم اختيار في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو عمله أو مسكنه أو حركته وتنقلاته، وإنما يأكل كل أحد ما يشتهى له من قوت لا ما يشتهيه، في الوقت الذي يعين له لا في الوقت الذي يعينه بنفسه، وقل مثل ذلك في مشربه ومسكنه وعمله، ولا يحق لأحد أن ينتقل من مدينة إلى أخرى باختياره، وإنما ذلك إذا اختير له، ولم تكد هذه المشاهد المؤلمة تتوارى عني حتى واجهت مشاهد أخرى في دولة رأسمالية لا تقل عما قبلها إيلاما، وإنما الفارق بين السابقة واللاحقة تنوع أسلوب القهر والظلم، فبينما كنت أشاهد العمارات الضخمة التي كأنما تعانق السحاب، وتناغي النجوم، وهي ملك لأفراد من الناس، إذا بي أشاهد أفواجا من بني الانسان قد أعوزهم المأوى الذي يقيهم لفح الصيف وقسوة الشتاء، ولم يجدوا إلا أن يأووا إما إلى القوارب في البحر، أو إلى الكهوف في الجبال، أو إلى هياكل السيارات المتحطمة، أولا يكفي ذلك دليلا على أن الانسان يفقد كل ما يحتاج إليه من عطف بني جنسه ورحمتهم وحنانهم وإحسانهم في غير ظل الاسلام دين الحق والعدل؟
إن الاسلام لا يقتصر في الانفاق على المحرومين ومواساتهم على الحض فقط، ثم يكل ذلك إلى مروءات الأغنياء وضمائرهم، وإنما يجعل الانفاق ركنا أساسيا من أركانه، لا يكتمل دونه بنيانه، ولأجل ذلك نجد الحض على الانفاق واردا في آيات نزلت في مرحلة مبكرة من تاريخ الدعوة.
ومن أمثلة ذلك ما في سورة المزمل التي هي من أوائل السور المكية نزولا، ففيها الأمر الصريح بإيتاء الزكاة في قوله تعالى:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا
[المزمل: 20]. وفي هذا دليل على أن الزكاة فرضت قبل الهجرة بزمن طويل، وليس كما يقول جل العلماء إنها لم تفرض إلا بالمدينة بعد الهجرة، وقد اشتهر ذلك بينهم حتى أصبح من المسلمات.
Página desconocida