الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار
بسم الله الرحمن الرحيم
(رب يسر وأعن يا كريم)
[ونسأله الهداية إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين]
Página 22
[الاختلاف في اشتراط الأدلة القطعية]
قال السائل أرشدنا الله وإياه إلى ما يرضيه في مقدمة مسائله: ما يقول علماء الإسلام؟ إلى قوله: في جواب مسائل، إلى قوله: مشتملا على تبيين الحق في كل مسألة بأدلة قطعية، وإزالة ما يرد على تلك الأدلة من الأسئلة -يريد من الشبه- وذكر أقوال المخالفين وحجة كل قائل، وعلى الجملة فالغرض العلم بجواب كل مسألة مع بسط الكلام، وذكر الأقوال حتى يتميز القول الصحيح من الفاسد لا على وجه التقليد؟
والجواب والله الموفق والمعين: أما طلبه للأدلة القطعية في كل مسألة، ففيها ما هي فرعية كما يأتي إن شاء الله تعالى، والأمة في ذلك على قولين: منهم من يشترط القطع في الفروع كالأصول، ومنهم من يطلب القطع في الفروع إن حصل وإلا اكتفى بالظن، وزعموا أن من طلب القطع فقد عطل.
واحتجوا على ذلك وقوع التعبد بالمظنون وحسنه بوجوب دفع الضرر المظنون عقلا، وبخبر عبد الرحمن في المجوس، وكتاب عمرو بن حزم، وبعثة السعاة من الرسول صلى الله عليه وآله، والعمال، وخبر حمل بن مالك في الجنين.
قالوا: والكل آحاد لا يفيد إلا الظن.
قالوا: وقد أطبق التابعون، وفقهاء الأمصار على قبول أخبار الآحاد.
واحتجوا أيضا بوجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن.
Página 23
ومن الدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[البقرة:168،169]، وقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن...}، إلى قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[الأعراف:33]، وقوله تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}[النجم:28] ونحو ذلك من الآيات الدالة على ذم الظن، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله حتى ينزع)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وأما وجوب دفع الضرر المظنون عقلا، إن كان دفعه بما يعلم أنه يدفعه فلا حجة لهم فيه، وإن كان بما يظن، فإنا نعلم وقوع الخطأ في كثير من الظنون ورب خطأ مؤد إلى العطب، فإن حذر منه بصير وجب تجنبه عقلا، وهذا قد حذر منه السميع البصير كما تقدم، وكما قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم...الآية}[الإسراء:36].
وأما احتجاجهم بما سوى ذلك مما ذكروه، فلنا عليه جوابان: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي: فإنه لا يخلو إما أن يكون ثبوت ذلك لدليل أو لغير دليل ليس الثاني؛ لأن الأصول لا يصح ثبوتها لغير دليل عقلا وشرعا وإجماعا.
Página 24
والأول لا يخلو إما أن يكون الدليل: ظني أو علمي، إن كان الدليل ظني فهو محل النزاع، فكيف يصح الاحتجاج به علينا؛ ونحن ننفيه؟! ودليلنا قائم على بطلانه! وإن كان الدليل علمي فما قضى بصحته الدليل المعلوم كان معلوما، وخرج بذلك من دائرة الظن إلى دائرة العلم، وإلا انتقض الاستدلال بالمعلوم، ألا ترى أن دليل العمل بالشهادة معلوم! وهو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم...}[البقرة:282] الآية ونحوها، وذلك يقضي بصحتها قطعا، ويخرجها من دائرة الظن إلى دائرة العلم في الظاهر، وكذلك أدلة الأحكام لا تصح عندنا إلا إذا قضى بصحتها الدليل المعلوم، وأخرجها من حيز الظن إلى حيز العلم؛ لئلا نقول على الله ما لا نعلم.
وأما التفصيلي: فخبر عبدالرحمن لم يكن متحدا بروايته؛ لأنا قد روينا بالإسناد الموثوق به إلى علي عليه السلام أنه قال: (لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وأما مشركوا العجم فتؤخذ منهم الجزية)، والمجوس من مشركي العجم.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله: ((أنه قبل الجزية، من مجوس هجر))؛ ولأن خبر عبدالرحمن ليس فيه أن الصحابة لم يعرفوا ذلك كلهم إلا من جهته.
Página 25
وأما كتاب عمرو بن حزم، فإنهم لم يعملوا به؛ حتى عرفوا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كتبه له، وقد يحصل العلم بمثل ذلك إذا عرف الخط ولم يخرج عن أيدي أهل الصدق، وككتب الأئمة، والملوك إلى الأمراء والعمال وغيرهم، فإنهم يقطعون عند وصولها إليهم أنها من أهل أمرهم بانضمام قرينة العلامة والختم وخوف متحمليها من أهل الأمر أن ينكلوا بهم لو زوروها، والناس في كل عصر يقطعون بصحة ما شأنه كذلك، وكذلك القول في السعاة والعمال، والحجة واحدة.
وأما خبر حمل بن مالك في دية الجنين: فإن المشهور أن عليا عليه السلام كان مرجوعا إليه؛ لأنه باب مدينة العلم كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله، فأنى لهم أن عليا عليه السلام رجع في ذلك إلى حمل بن مالك، وأيضا فإن الخبر ليس فيه أن جميع الصحابة لم يعرفوا ذلك إلا منه، وكذلك القول في ما عسى أن يرد من نحو ذلك، والحجة واحدة.
وأما رواية أن عليا عليه السلام كان يحلف من يروي له عن النبي صلى الله عليه وآله فيقبله، فلعله من روايات من يغمص في حقه، ويقدم غيره عليه مع أنها أحادية مصادمة لما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى من تفصيله عليه السلام لأحوال الرواة.
Página 26
وأما وجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن، فهو حكم فرعي اقتضاه دليل علمي خاص وهو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم...}[البقرة:282] الآية ونحوها، والحكم غير دليله، وكلامنا إنما هو في أدلة الأحكام لا في نفس الأحكام؛ لأنا نوجب في كل حكم أن يكون دليله علميا، وإن كان الحكم لا يفيد إلا الظن كالتحري في الفطر، وكثلاث زوجات ملتبسات بمطلقة، فتأمله.
Página 27
[الدليل العلمي]
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن يكون كلما اقتضاه الدليل العلمي غير مفيد للعلم كالإجماع مثلا.
قلت وبالله التوفيق: إن الذي يقتضيه الدليل العلمي قسمان:
الأول: الحكم وهو نحو ما ذكرناه، فلا يشترط في الحكم أنه يفيد علما إلا في الظاهر فقط.
والثاني: الدليل نحو الإجماع، فالدليل العلمي لو لم يكن شاهدا بصدقه ظاهرا وباطنا، لم يكن حجة على شيء من الأحكام؛ لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}[الإسراء:36].
وأما إطباق التابعين وفقهاء الأمصار على قبول المظنون، فمردود؛ لأن قدماء الأئمة " كما يأتي إن شاء الله تعالى، والبغدادية والظاهرية، وبعض الإمامية لا يقبلون من الأخبار إلا ما يفيد العلم، وذلك ظاهر مشهور.
وأما قولهم: من طلب القطع فقد عطل فباطل؛ لأن في كتاب الله سبحانه، والسنة المتواترة والمتلقاة بالقبول بين جماعة الأمة، ثم بين جماعة العترة "، والأحادية الموافقة لكتاب الله سبحانه، حتى كان موافقة الكتاب العزيز لها شاهدا بصحتها، مع شهادة ما نقله علماء الأمة بالأخبار المتواترة، من قوله صلى الله عليه وآله: ((ألا وإنه سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما روي عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)) بحرا لا يدرك قعره.
Página 28
[حكم القياس]
فإن قيل: إن النصوص فيما ذكرت غير وافية، فلا بد من القياس، وهو ظني.
قلت وبالله التوفيق: قد قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}[النساء:59]، والرد إلى الله هو: إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو: إلى سنته، وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}[الشورى:10]، أي مردود إلى ما جاء عن الله في محكم كتابه تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، وذلك دليل علمي يقضي بصحة القياس من حيث أنه رد إلى النصوص من الكتاب والسنة، لا ينكر ذلك إلا ألد مكابر، وما قضى بصحته المعلوم كان معلوم الصحة خارجا من حيز الظن إلى حيز القطع وإلا انتقض؛ ولأن الآيتين نص في صحة الاحتجاج به على الأحكام كما تبين، وذلك يقضي بكونه علميا، وإلا لما صح الاحتجاج به لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}[الإسراء:36].
فإن قيل: فعلى هذا يلزم صحة الاحتجاج بالأخبار الأحادية والقياس في مسائل الأصول.
قلت وبالله التوفيق: أما الاستدلال بهما على ثبوت الباري تعالى، وتصحيح الرسالة والنبوة، وعلى ثبوتهما في أنفسهما فلا نسلم لتأدية ذلك إلى الدور القاضي ببطلان الاستدلال بهما، وأما ما سوى ذلك فما المانع؟ وقد قضى الدليل القطعي بكونهما حقا! كما قضى بكون الإجماعين حقا، وإلا لزم أن لا [يصح أن] يستدل بالإجماعين على شيء من المسائل الأصولية؛ لعدم الفرق وذلك معلوم البطلان.
فإن قيل: إنه قد وقع الخطأ في الاستدلال بهما، وذلك ينافي كون دلالتهما معلومة.
Página 29
قلت وبالله التوفيق: أما بعد الظفر بهما وبمعناهما على الحقيقة، فلا نسلم ذلك؛ لأن الأدلة القطعية تشهد بخلاف ما ذكرتم، وإنما وقع الخطأ لعدم الظفر بهما أو بمعناهما.
Página 30
[الاجتهاد المطلق]
فإن قيل: فما تقول في الاجتهاد المطلق؟
قلت وبالله التوفيق: إن كان مبنيا على الاحتياط، وموافقة الأصول من الكتاب والسنة، فالقول فيه كالقياس؛ لأن الاحتياط معلوم السلامة عقلا، وأكد ذلك موافقة الكتاب والسنة؛ لأن ذلك رد إليهما، والمردود إليهما حق؛ لأن الله قد أمر به حيث قال: {فردوه إلى الله والرسول}[النساء:59]، وهو تعالى لا يأمر إلا بما كان حقا.
فإن قيل: إن القائلين: بأن دلالات الثلاثة ظنية، يقولون: إن دليل وجوب العمل بها علمي، فالخلاف راجع إلى اللفظ دون المعنى.
قلت وبالله التوفيق: كيف يكون الخلاف لفظيا، وهم ينفون الاستدلال بها على المسائل العلمية؟!
Página 31
[بيان الأخبار التي لا يصح الاستدلال بها]
فإن قيل: فما الذي لا يصح الاستدلال به من الأخبار؟
قلت وبالله التوفيق: ذلك الذي لم يكن منها متواترا، ولا متلقى بالقبول ولا موافقا لكتاب الله سبحانه وتعالى، ولو صح سنده وحصل الظن بصدقه؛ فإنه لا يقبل الاستدلال به في شيء من المسائل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وإنه سيكذب علي...)) الخبر، والظن لا يغني من الحق شيئا، كما أخبر الله تعالى في كتابه؛ ولأن الأخبار قد روي أكثرها بالمعنى وهو مما يقع فيه الغلط، ولأنه قد روي المنسوخ مع عدم التمييز بينه وبين ناسخه عند كثير من الرواة، ولعدم التمييز بين روايات المؤمنين والمنافقين لعدم العلم بهم، كما قال تعالى: {مردوا على النفاق لا تعلمهم...}[التوبة:101] الآية، ولما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل: منافق مظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله [صلى الله عليه وآله] رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم لك، ثم بقوا بعده عليه السلام، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.
Página 32
ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه ولم يتعمد كذبا، فهو في يديه يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفا لله وتعظيما لرسول الله، ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة معناه، وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله، ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي، أو الطارئ، فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي شيء من ذلك إلا سألت عنه وحفظته) انتهى كلامه عليه السلام.
Página 33
[اعتماد أكثر المحدثين في رواياتهم على أشياع الأموية
والعباسية]
ولأن أكثر المحدثين معتمدون في رواياتهم على أشياع الأموية، والعباسية وذلك معروف لمن طالع كتب السير والتواريخ.
قال العجلي في عمر بن سعد أمير الجيش الذين قتلوا سبط رسول الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وسبوا محارم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تابعي، فقيه، روى عنه الثقات، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري أعدل العدول عندهم، وإمام روايتهم، حديثه معتمد عليه في (الصحاح الستة) عندهم، وغيرها.
قال ابن المدائني: له ألفا حديث.
وقال أبو داود: حديثه ألفان ومائتا حديث.
وقد روى أبو جعفر عنه -أعني الزهري- أنه قال لعلي بن الحسين عليه السلام: كان معاوية يسكته الحلم، وينطقه العلم، فقال عليه السلام: كذبت يا زهري، بل كان يسكته الحصر، وينطقه البطر، وأي حلم مع من سفه الحق، ورد الشرع، وحمل أولاد الأدعياء على بناته، وأظهرهم على أخواته، وكذلك صرح القاسم بن إبراهيم عليه السلام بجرحه، وذكر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، في (أصول الأحكام)، وأبو جعفر الهوسمي، أنه كان ممن يحرس خشبة زيد بن علي عليه السلام.
Página 34
وحكى الذهبي، وهو من الخصوم بعد أن أثنى عليه[أعني] الزهري ومجده، وقال: إن ترجمته تحتمل أربعين ورقة أنه قال: نشأت وأنا غلام، فاتصلت بعبد الملك بن مروان، ثم توفي عبد الملك، فلزمت ولده الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبدالعزيز، ثم يزيد فاستقضاني على قضاته، ثم لزمت هشام بن عبد الملك فصيرني هشام مع أولاده أعلمهم، وقضى عني سبعة آلاف دينار كانت علي، وحكوا عنه: أنه كان يتزيا بزي جندهم، وقال فيه بعضهم: كان الزهري جنديا جليلا.
وحكى الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب قال: قدمت على الزهري، وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حربة، وبين يديه الناس بأيديهم الكابركوبات، فقلت: قبح الله ذا من عالم فلم أسمع منه.
وفي علوم الحديث للحاكم أنه قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري؟ فقال: برئت منه إن كان مثل الزهري، إنه كان يعمل لبني أمية.
فهم معتمدون على من كان شأنه كذلك، ومجتنبون روايات النجباء الأطهار من عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم، وروايات أشياعهم رضي الله عنهم.
قال الذهبي في تأريخه: وللزيدية مذهب في الفروع في الحجاز واليمن؛ لكنه من أقوال البدع كالإمامية.
وقال الحافظ المراكشي: الجرح بالبدع كان كثيرا في المتقدمين إلى حد ثلاثمائة؛ والمراد بالبدع عندهم ما خالف مذاهبهم ولو كان حقا.
وقال أبو بكر المروزي: من أنكر إمامة أبي بكر ردت شهادته؛ لمخالفة الإجماع، والمعلوم أنه لم ينعقد إجماع على ذلك إلى يومنا هذا.
Página 35
وقال ابن سمرة اليمني في (طبقاته): وفي سنة كذا وكذا، جرت في اليمن فتنتان عظيمتان إحداهما: فتنة علي بن الفضل ودعاؤه الناس إلى الكفر، والأخرى: فتنة الشريف يحيى بن الحسين الرسي، ودعاؤه الناس إلى التشيع، فانظر كيف قرن المؤمن الهادي بالكافر المضل!! والدعاء إلى الحق بالدعاء إلى الكفر!! وسماهما فتنتان، وعرجوا في جرح أئمة الهدى، وجرح أشياعهم الأتقياء على ذلك وتعاموا عن قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}[الأحزاب:33]، ونحو ذلك من الآيات، وعن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا من بعدي أبدا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي...)) الخبر، وقد تضمن هذا الخبر صحاحهم المتفق على صحتها عندهم في ألف وستمائة وخمسة أحاديث، غير ما روي عنه صلى الله عليه وآله في عترته الطاهرة، وأشياعهم، فيما لم يتفقوا على صحته من كتبهم، وغير ما رواه أهل البيت "، وشيعتهم منها -أي من التي تضمنها صحاحهم المتفق على صحتها عندهم - ستمائة وخمسة وثمانون حديثا، تختص بعلي عليه السلام، وتسعمائة وعشرون حديثا تختص بالعترة "، كل واحد منها يدل على إمامتهم، وفضلهم على سائر الناس، والحق ما شهدت به الأعداء، وتحكموا في تعديل غيرهم بلا دليل، ولا برهان، حتى قال ابن معين، وهو المعتمد على قوله في الجرح والتعديل عندهم في عبد الرزاق: لو ارتد عبدالرزاق ما تركنا حديثه، فكيف يعتمد على من لم يوافق كتاب الله من ذلك! ولا سيما وقد عثر على الكذب فيها، وذلك في الجبر والتشبيه، وغير ذلك مما صادم قضايا العقول المبتوتة، وآيات الكتاب الصريحة، وقد قال الشعبي، وهو من عيون العدول عندهم: ما أحدقوا بأحد -يعني من رجال الحديث- إلا كلفوه أن يكذب.
وقال شعبة إمام المحدثين: تسعة أعشار الحديث كذب.
وقال الدارقطني: ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود.
وروي أن بعض المحدثين أمر السلطان بقتله فقال: افعلوا ما شئتم، فقد حللت عليكم الحرام، وحرمت عليكم الحلال، ودسست في مذهبكم أربعة آلاف حديث، فقال بعضهم: وهذه مصيبة حدثت بعد الثلاثة القرون، ابتلي بها كثير من الحفاظ، يروون الحديث الموضوع ولا يثبتون وضعه، فيسألهم الله عن ذلك، وأي فائدة لكتب التواريخ؟ إلا كشف الكذاب وهتكه!
Página 37
[مما يقدح به عليهم]
ومما يقدح به عليهم:
ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس: ((إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة، إبراهيم عليه السلام، وإنه سيجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك...))، الخبر.
وفي حديث ابن مسعود: ((أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) ومثله في حديث حذيفة.
وفي حديث أنس: ((ليردن علي ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني...)) الحديث.
وفي رواية أبي سعيد الخدري: ((فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي)).
وفي رواية أبي هريرة: ((يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلأون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي...))الخبر إلى قوله: ((إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).
وفي حديث سعيد بن المسيب، كان يحدث عن أصحاب النبي عليه السلام، أن النبي عليه السلام قال: ((يرد علي الحوض رجال من أصحابي، فيجلأون عنه...)) الخبر، أي: يمنعون ويطردون عنه.
وفي رواية أخرى لأبي هريرة قال: ((بينا أنا قائم إذ زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، ثم ذكر مثل الأول، ثم قال: فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)).
Página 38
وما روى مسلم في صحيحه، في حديث أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ترد علي أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله، تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة فلا يصلون، فأقول: يا رب، هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك))، وفي رواية: ((ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا، فأقول: سحقا سحقا)).
وفيه عن أبي هريرة أيضا: ((لأذودن عن حوضي رجالا، كما تذاد الغريبة من الإبل)).
وفي حديث أنس: ((ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب، أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وفي حديث لأحمد -أي ابن حنبل-: ((رجال ممن صحبني ورآني)).
ولأحمد من حديث أم سلمة من ثلاث أو أربع طرق: ((إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني)) فبلغ ذلك عمر فأتاها، فقال لها: أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قالت: لا، ولن أبرئ أحدا بعدك.
وفيه أيضا حديث عمار، قال: أخبرني حذيفة عن النبي أنه قال: ((في أصحابي اثنا عشر منافقا، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة))، وفي رواية: ((كان أصحاب العقبة أربعة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ورسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد)).
Página 39
وفي تفسير الثعلبي، رفعه إلى ابن المسيب، عن أبي هريرة: أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلأون عن الحوض فأقول: يا رب، أصحابي [أصحابي] فيقال: إنك لا علم لك بما أحدثوا، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).
وفي الجمع بين الصحيحين قال: وأخرجه البخاري، من حديث عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((بينا أنا قائم، إذ أقبلت زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل [من] بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: [ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال]: إنهم ارتدوا [على أدبارهم] فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)).
Página 40
ووجه القدح عليهم بذلك أنه لا يخلو إما أن يكونوا صادقين في روايات هذه الأخبار أو كاذبين، إن كانوا صادقين فقد خرجوا أكثر الصحابة الذين رووا عنهم، كما ثبت في رواية البخاري، أنه لا يخلص منهم -أي من الصحابة- إلا مثل همل النعم، وإن كانوا كاذبين، فقد لزمتهم التهمة، فثبت بحمد الله عدم الوثوق برواياتهم، إلا ما وقع مجمعا عليه، أو موافقا لكتاب الله سبحانه، ولا يقال: إن المراد بتلك الأخبار أهل الردة، كبني حنيفة؛ لأنا نقول: إن في لفظها: ((ممن صحبني ورآني)) وفي لفظها أيضا: ((فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي)) بالتصغير، وذلك يفيد التحبيب، والتقريب، فالمراد به بعض من كان يحبه، ويقربه، وفي لفظها أيضا: ((كان أصحاب العقبة أربعة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر حرب لله ورسوله...))الخبر ، وفيها أن أم سلمة لم تبرئ غير عمر، وفي لفظها [أيضا]: ((فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)) وأهل الردة من بني حنيفة أقل قليل مع أنهم أو أكثرهم لم ير النبي صلى الله عليه وآله البتة، والصحابي عند المحدثين، وبعض الفقهاء من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وآله مؤمنا، وإن لم تطل مجالسته.
Página 41
[من هو الصحابي]
ومذهبنا وهو الحق أخص من ذلك، وذلك أنا نقول: الصحابي من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله متبعا له، يشهد بذلك المعلوم من عرف اللغة، فمتى كان أهل الردة من بني حنيفة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومتى كانوا محبوبين مقربين عنده صلى الله عليه وآله؟ ومتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله مثل همل النعم؟ وقد بلغ المهاجرون [والأنصار]عددا اكتفى ببعضه في قهر أهل الردة:
فالحق لا يخفى على أحد .... إلا على أحد لا يعرف القمر
Página 42