183

هكذا كانت، ترى هل يخطر بباله أنه يملك عمارة وفيلا وسيارة؟ هل يتصور أنه يخاطب لصا أريبا في ثوب موظف كبير؟! - الحياة أصبحت شاقة. - جدا جدا جدا يا بيك. - ولكنك مؤمن والإيمان كنز لا يقدر بمال. - الحمد لله. - قديما كان العيش يتيسر لك ببضعة قروش حقا، ولكن كان يتسلط على البلد إقطاعيون يبذرون الملايين على ملاذهم. - انتهى أمرهم يا بيك ولكن حالي ازداد سوءا. - بسبب عملك فقط أما ملايين الفلاحين والعمال فقد تحسنت أحوالهم. - إني لا ألقى إلا شاكيا مثلي. - أنت محصور في بيئة معينة، هذه هي المسألة. - ومتى نتحسن بدورنا؟ - كل آت قريب. - ولكن مرت عشرون سنة! - ما هي إلا لحظات في عمر الزمان. - علينا أن ننتظر عشرين سنة أخرى؟ - لا أدري، قد يضحى بجيل في سبيل الأجيال القادمة. - ولكني أرى يا بيك كثيرين من المحظوظين السعداء. - مظاهر خادعة، لكل شكواه ومتاعبه. - أراهم في السيارات الفاخرة كأيام زمان. - هل تصورت أعباءهم القاتلة؟ هل تصورت ما يؤدون للدولة من خدمات؟ ثم أمن يعمل كمن يرث؟

ابتسم مستسلما وهو مكب على عمله في تكاسل ليطيل فرصة الحوار، وجعل ينظر إليه بمودة صافية، وفي نظرته تتجلى أشواق للذكريات المشتركة الماضية. - هل أضايقك يا بيك؟ - أبدا ... هات كل ما في قلبك. - الله يكرمك، كنا نضحك ملء قلوبنا من الماضي. - وممكن نضحك الآن أيضا. - ولكن ... - ولكن داءنا أننا ننظر دائما إلى الوراء، دائما نتوهم أن وراءنا فردوسا مفقودا. - ألم نكن نضحك من أعماق قلوبنا؟ - تذكر، لقد رقصت يوم قامت الثورة. - طبعا، سكرت بالآمال، سكرنا جميعا بالآمال. - ولقد تحققت الآمال، ولولا سوء الحظ، ولولا الأعداء ... ماذا كنت تتوقع؟ - زوال الظلم والفقر، لقمة متوفرة، مستقبل للأولاد. - حصل ذلك كله. - دائما نسمع ولكن الأولاد ضاعوا جميعا. - واضح أنك تشكو كثرة العيال؟ - إني أحمد الله. - المدارس مفتوحة لاستقبال الجميع. - دخلوها وخرجوا كما دخلوا، ولم ينجح أحد. - وما ذنب الثورة؟ - لا ذنب لها، ولكننا نسكن جميعا في حجرة واحدة! وفي المدرسة لا يفهمون شيئا. - إنكم تنشدون معجزة لا ثورة. - إنه حال أبناء الفقراء جميعا. - كلا. - الاستثناء لا يعول عليه. - كان اليأس القديم أنسب لكم! - ما زال المال يملك الحظ كله. - المسألة أن الأمور معقدة، أمور الدنيا كلها معقدة. - خلنا في أنفسنا. - ولكننا جزء من الدنيا. - هل أنتظر حتى تحل مشاكل الدنيا؟ - ليس كذلك بالضبط، ولكنه تساؤل لا يخلو من حقيقة.

وضحك ليخفف من وقع قوله ثم استطرد: ولا تنس أننا في حال حرب.

أرجع فردة الحذاء وتناول الأخرى ثم قال: وسبق ذلك الهزيمة. - لا داعي لتذكيري بما لا يمكن أن ينسى. - بعد أن نفختنا الآمال حتى طرنا في الجو. - قيل كل ما يمكن أن يقال. - متى نحارب يا بيك؟ - هل تنتظر من وراء الحرب حلا لمشاكلك؟ - الحركة بركة. - ربما اللقمة نفسها لن تجدها.

فهز منكبيه استهانة. - سنحارب عندما نضمن النصر.

لم ينبس ولكن وضح أنه لم يقتنع. - هل تعرف معنى الحرب؟ ... هل تتصور حالنا إذا خربت المصانع والسدود والمواصلات؟ - نفعل بهم مثلما يفعلون بنا. - ستتوقف الحياة هنا. - ليكن، المهم أن نحرر أرضنا. - هل تهمك الأرض حقا أم أنك تريد الخراب؟ - أريد أن أحيا في ظل العدل. - يبدو أنك تريد أن تهدمها على رءوس من فيها. - لا والله يا بيك.

خيل إليه أنه يقصده بشيء ما. - المهم النصر لا الانتقام. - أنا لا أفهم. - الأمور واضحة. - يا بيك أنا أريد النصر والحياة المعقولة، خبرني كيف ومتى يتم ذلك؟ - لا أدري متى، ولكنه يتم بالصبر والعمل والإخلاص.

كأنه أصم، يرفض التصديق والاقتناع، وقد أنجز عمله، أعطاه خمسة قروش بدلا من قرشين، تهلل وجهه ودعا له بالستر، واعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه في حاجة ماسة لذاك الدعاء، وبأنه يشاركه حيرته فضلا عن المخاوف التي ينفرد بها وحده، ورآه يهم بالذهاب فسأله: ما رأيك فيما قلت؟

ابتسم مداريا شكوكه وتمتم: كلام جميل ... - وحقيقي أليس كذلك؟ - مثل كلام الراديو.

شعر بأنه يذكره بكلام الراديو طيلة عشرين عاما، شعر بأنه يوبخه فأوشك على الانفعال. - ولكن بروح جديدة تماما. - نرجو ذلك. - ألا تريد أن تصدق؟

Página desconocida