فاعتذرت عن تسرعي قائلا: لا مؤاخذة يا صاحب السعادة، سأرفع مظلمتي فيما بعد!
ومضى إلى الخارج وأنا أهرول في أثره فصادفه بياع جرائد، فأخذ مجلة وكتابا بلغ ثمنهما خمسة وعشرين قرشا، وتبين لي أن المدير لا يجد نقودا صغيرة تفي بالثمن وأن البياع لا يملك فكة لورقة كبيرة، حتى هم المدير بإرجاع المجلة والكتاب، ولكنني بادرت - مدفوعا بأريحية ملهمة - بدفع المبلغ المطلوب، وتردد المدير قليلا ثم سلم بالواقع قائلا: تعال من فورك إلى مكتبي لأخذ نقودك.
وذهب يتمتم: شكرا.
تركني في دوامة من انفعالات السعادة والأشواق إلى المجهول، بحيث كان من أيسر الأمور أن تصدمني سيارة، وأنا غارق في بحر الوجد والأمل، وثبت في يقيني أن صفحة جديدة من الإشراق تفتح في تاريخي المليء بالمتاعب والمحن؛ فقد تعرفت بالمدير العام، وعملت له مرشدا، وأطلعته على سوء حالي، ووعد بالنظر في مظلمتي، وفي لحظة مباركة محفوفة بأنفاس الملائكة أصبحت له دائنا بخمسة وعشرين قرشا. ومعاذ الله أن أطالبه بالدين أو أن أذكر أحدا به؛ فهو القربان الذي يهبني عطفه ويفتح لي عند الضرورة بابه. أجل إنه مبلغ جسيم يقتضي اتخاذ إجراءات تقشف جديدة حتى يتحقق نوع من التوازن يكفل لي أدنى مراتب الحياة حتى ينقضي الشهر، ولكن كل شيء يهون إلا أن أقطع بيدي أسباب القربى التي تشدني إلى رحمته.
وتم النقل إلى العمارة الجديدة، وكالعادة استقر بنا المقام - نحن موظفي الأرشيف - في البدروم، ولم أكف عن التفكير في العلاقة الخفية السعيدة التي تربطني بصاحب السعادة، ولم أذهب إلى مكتبه للمطالبة بالمبلغ كما أمر ولم يرسله إلي مع أحد موظفي مكتبه والحمد لله. ومرت الأيام تباعا حتى ساورني خوف أن يكون قد نسيني في غمار شواغله الكثيرة اللامحدودة، وأن تفلت من يدي فرصة العمر. واستخرت الله، وتحوطت عليه ثم قررت أن أطلب مقابلة المدير العام، وقصدت حجرة السكرتير الخاص ولكن الساعي اعترض سبيلي، وأفهمني أن السكرتير مشغول جدا، وأبدى استعدادا لإبلاغه عن حاجتي، فقلت له: أرجو تحديد موعد للتشرف بمقابلة المدير العام.
فخطف الساعي نظرة جانبية من بدلتي المهلهلة، ولكنه غاب عني دقيقة وراء الباب المغلق ثم رجع وهو يقول: اكتب حاجتك على عرضحال تمغة، وأرسلها بالطريق الإداري المتبع.
ولم تجد معه أية محاورة فقد وجدته مغلقا صامدا، مثل الباب الذي يجلس أمامه، ورجعت إلى مكتبي فريسة لقهر معذب، ولكن بإرادة مصممة على الوصول مهما كلف الأمر، ومن توي لجأت إلى رئيسنا في الأرشيف وهو كهل يشاطرنا البؤس والهوان، ولا يتقدمنا إلا في العمر، فطمعت أن أجد عنده تجاوبا ورحمة. كاشفته برغبتي في مقابلة المدير العام وسألته الرأي والنصيحة فسألني: ولم تسعى إلى هذه المقابلة العسيرة؟ - أريد أن أعرض عليه شكواي. - ألسنا كلنا في البلوى سواء؟ - ولكنه شجعني على ذلك! - حقا ؟! ... متى وكيف؟
فقصصت عليه الجانب الذي يهمه من لقاء العمارة، فتفكر قليلا ثم قال: تلك كلمة طائرة عابرة لا يعول عليها. - لن أضيع على نفسي وأولادي فرصة قل أن تجود بمثلها السماء. - نصيحتي أن تقلع عن تصميمك.
فهتفت بحماس: إنه أمل حياتي الوحيد.
فجعل يهز رأسه مفكرا فلم أر مفرا من إطلاق الرصاصة الأخيرة، فهمست في أذنه: سأودع لديك سرا في ضميرك النقي، لقد اقترض سعادته مني خمسة وعشرين قرشا!
Página desconocida