فصرخ القائد: الويل لكم.
ولكن سبقته الأحداث فندت صرخات، واختلطت أشباح ونشبت معركة عمياء، تبودلت اللكمات والركلات واللعنات، ومضى القائد يهدد وينذر في الهواء. اشترك كل واحد منا في المعركة، هاجما أو مدافعا، بلا حساب ولا حذر، وكأننا نقاتل المجهول في الأركان الأربعة، اندثر لحظتئذ الود الجامع بيننا، وتلاشت روح الزمالة العتيدة، وحلت محلهما وحشية كاسرة تنفث حقدا وشهوة طاغية للأذى، كأنها قوة مدمرة تفجرت في قلب الظلام. تواصل الضرب بلا رحمة، وصمت قائدنا كأنما قد ترك لأيدينا وأرجلنا مهمة إنزال العقاب الشامل بنا، وما ندري إلا والظلمة تخف وتتهافت، ومعالم الدنيا تطل علينا من حولنا، ورقعة الأفق الشرقي تبتسم ببهجة الضياء. عند ذاك تراءى المتعاركون، رأى كل وجه زميل أو صديق، فعقد الحياء أيدينا، وتطايرت انفعالاتنا السوداء، وتراجعنا بوجوه أسيفة، وقلوب منكسرة، وجعلنا نجفف عرقنا، ونضمد جراحنا، ونتبادل نظرات حسيرة، متجنبين النظر نحو قائدنا الواقف كتمثال للغضب والازدراء، وساد صمت ثقيل مشحون بالندم، وتلقينا أول شعاع للشمس بوجوه كالحة.
وراح القائد ينقل عينيه من شخص لآخر، ثم قال: بداية على أي حال جديرة بكم.
لم ينبس أحد بكلمة، ولا انبرى أحد للدفاع يستوي في ذلك الظالم والمظلوم، وعاد القائد يقول: إن زيكم الرفيع ليخجل منكم.
وهز رأسه في أسى ثم تساءل: هل لدى المذنب منكم الشجاعة للاعتراف؟
ولما لم يسمع صوتا قال : ليس من مبادئنا إلغاء رحلة بدأناها، ولكن لن يمر ذنب بلا عقوبة تناسبه.
مضى إلى موقفه، نفخ في الصفارة، هوت المطارق على الطبول، تحرك الطابور في ضوء الصباح الباكر. انتقلنا من الصحراء إلى المدينة، فقابلتنا طلائع العمال والباعة، وتبعا لتقاليدنا رحنا ننشد الأناشيد متناسين المعركة وآلامها، ولم يكن شيء يؤثر فينا مثل أناشيدنا الجميلة المتغنية أبدا بالبطولة والمجد والأخوة، فسحرها يخاطب منا القلوب والسرائر. ومر بنا السابلة بلا اهتمام، وقليلون من تابعونا بنظرات محايدة، أما الغلمان الذين يهرعون وراءنا فلم يكن قد استيقظ منهم أحد بعد، وزالت آثار المرارة تماما، وانتصر الشباب بقوته الخارقة، وأنعشتنا الأناشيد، فعدنا أهلا للرحلة الطويلة الشاقة أمامنا، وسيطر علينا الإيمان بما نفعل وبما نقول، بالمثل التي نستظل بها، والمجد الذي نمضي إليه، والقوة التي سنحقق بها المعجزات. وكنا سعداء، رغم الجهد المتوقع والنظام الصارم، والعقوبة المتربصة كنا سعداء، وسرنا وسرنا، وأنشدنا وأنشدنا، على دقات طبول لا تتوقف، حتى نفخ القائد في الصفارة فتوقفنا وسط الضحى، وهتف القائد بوجه لم يزايله الغضب: استراحة.
غسلنا وجوهنا في مقهى قريب، ثم قصدنا العربة، فتناولنا شراب الليمون، وبعضا من البسكوت، وكان الطريق غاصا بالمارة والسيارات والعربات، وحرارة الشمس تحرق الرءوس وتستدر العرق، وتبادلنا الأحاديث في صفاء كأن لم تكن بيننا معركة، وتذكرنا ملابساتها بقلوب ضاحكة، ولكننا لم نخل من قلق من ناحية عواقبها. - هل تمر بسلام؟ - بعيد ذلك كل البعد. - حبس انفرادي أو صيام نهار كامل.
وطوينا الموضوع بقرفه؛ لنواجه ما هو أهم في حاضرنا، فهدف الرحلة يظل مجهولا لا ينبئ عنه قائدنا حتى نستدل عليه من خط السير، وكنا معسكرين عند مشارف الميدان، ولكن الميدان مفترق طرق مليء بالاحتمالات. - أنتجه جنوبا أم نمضي شمالا؟ - الجنوب يعني الأهرام. - أهرام الجيزة أم سقارة أم دهشور؟ - ولا تنس الفيوم. - والشمال يعني هليوبوليس أو عين شمس. - وهناك الصحراء في الجنوب والشمال معا. - وهي أسوأ الاحتمالات.
ونفخ القائد في الصفارة، فتوالت دقات الطبول كالنداء الملح فهرعنا إلى الطابور، وما كدنا نتوسط الميدان حتى أدركنا أننا نتجه نحو الجنوب، فعرفنا الهدف بلا تحديد، ولن يتحدد حتى نبلغ هضبة الأهرام. مضينا بأقدام نشيطة وحيوية رائعة، تستغرقنا الأناشيد، فلم نشعر بمرور الوقت؛ لذلك دهشنا عندما دعينا للتوقف لتناول وجبة الغداء، وتبين لنا أن الساعة تمت الثانية بعد الظهر. عسكرنا على حافة حقل مزروع بالجرجير، نزعنا الأحذية وغسلنا أقدامنا في جدول ماء، فرشنا الحصر وجلسنا لتناول الغداء بعد أن جاء كل منا بتموينه من العربة، وهو عبارة عن طبق يحوي بامية وقطعة من الضأن، ومغرفة من الأرز وموزة. وأنسانا تناول الطعام همومنا الصغيرة، كما أنسانا الوقت فأثملتنا لذته الموشاة بأطايب الأحاديث والنوادر. ولما فرغنا من الطعام استلقينا على ظهورنا لنستمتع بالراحة في الفترة القصيرة المخصصة للقيلولة. وداعبنا النعاس، ونحن مستسلمون لأحلام اليقظة، وكدنا نستسلم للنوم لولا أن همس هامس: انظروا.
Página desconocida