جدران السراي آيلة للسقوط منذ قرون، لكنها لا تسقط. قصور كثيرة سقطت وراحت في العدم، إلا هذه السراي، وقالوا لأن الشيطان يسكنها وهو مجنون لا يؤمن بالزمن أو الله أو المدير أو رئيسة الحكيمات.
مع انفتاح البوابة ارتفع غبار في الجو، وفرقة من رجال البوليس. كعوبهم حديدية تدق الأرض كحوافر الخيول. قبعاتهم النحاسية تلمع بلون أحمر. تبعتهم فرقة من التمورجية بالمرايل البيضاء. أحذيتهم من المطاط بلا صوت. أنفاسهم عالية مسموعة تتلاحق في لهاث سريع وأفواههم مفتوحة.
ثم توقف كل شيء فجأة لحظة دخولها من البوابة. حتى العصافير كفت عن الزقزقة. ثبتت في مكانها فوق الأسلاك ترمق القادمة الجديدة بعيون صغيرة تلمع كحبات الخرز.
من بين المصراعين المفتوحين اندفع جسمها الممشوق بحركة غير مألوفة لبنات حواء. حركة مقتحمة كمن تلقي نفسها في جوف البحر وقامتها مشدودة.
تحركت نحوها عيون الرجال والنساء وثبتت فوق عينيها المفتوحتين على العالم كالنافذتين لا يطرف لهما جفن؛ الرموش طويلة مرفوعة مستعدة للمقاومة حتى النهاية، و«النني» داكن السواد ثابت في مكانه. شعرها كثيف أسود يطيره الهواء فوق وجهها. تقذفه وراء ظهرها كالفرس الجامحة. حافية القدمين تمسك حذاءها في يدها. من الجلد الأسود بدون كعب كأحذية الراقصات أو لاعبات السيرك.
اندفعت من البوابة الحديدية السوداء كالسهم الأبيض يشق الكون نصفين. من خلفها عدد من التمورجية يحاولون اللحاق بها. يمد أحدهم يده ليمسك ذراعها فتفلت منه. يمسك أحدهم بذراعها فتضربه على يده بفردة الحذاء.
مشهد لم يحدث منذ بنيت هذه السراي. قالوا إنها بنيت في ثلاثين عاما. حمل العبيد الأحجار من جبل المقطم فوق ظهورهم. صعدوا السقالات بخطى ثقيلة والكرابيج تلسع أردافهم. قالوا إنهم هم العبيد الذين بنوا هرم خوفو أو منقرع. بعضهم قال خفرع، ولا أحد منهم يعرف التاريخ قبل نزول الكتاب.
كلمة «الكتاب» مكتملة لا تحتاج إلى كلمة أخرى. إذا رنت الكلمة في الجو أدرك الجميع أنه كتاب الله ولا كتاب غيره يدخل السراي بأمر المدير. تمر رئيسة الحكيمات في الليل تفتش العنابر. تدس يدها داخل الدواليب والأدراج. تقلب أصابعها بين الملابس. في السراويل الداخلية كان الرجال يخفون الكتب والروايات الغرامية، لكن النساء أكثر حذرا، ولا يمكن للرئيسة أن تعثر في ملابسهن الداخلية على شيء، اللهم إلا بقعة دم أو رائحة حلم قديم.
من وراء حاجز الحريم اتسعت عيون النساء. لأول مرة في حياتهن يشهدن امرأة تدخل من البوابة مرفوعة القامة. أعناقهن تشرئب بحركة أشبه بالكبرياء. كالعدوى. كبرياء واحدة من جنسهن تكفي لنشر المرض. تفك امرأة ذراعيها من حول صدرها وتنهض واقفة. تطل عليها من بعيد بفم مفتوح. تفلت منها ضحكة. تشاركها النساء الضحك المكتوم. تهتز أجسادهن المتربعة فوق الأرض بالهواء المخزون. تنتقل عدوى الضحك إلى الرجال، ينبعث الهواء الراكد في صدورهم بصوت أعلى من صوت النساء. كان الضحك مباحا للرجال دون قهقهة عالية. الوحيد الذي كان يقهقه دون عقاب هو المدير، ورئيسة الحكيمات حين يغيب المدير، وحين تكون وحدها في غرفتها.
لكن المشهد ذلك الصباح كان فريدا من نوعه، وإبليس كان يتمشى. عيناه تدوران فوق السور العالي. تتوقفان عند البوابة وتثبتان. رفع خصلة الشعر من فوق جبهته ورآها تدخل حافية القدمين وحذاؤها في يدها. عيناها واسعتان والرموش ثابتة، كأنما رآها من قبل. الوجه والملامح والحركة والكبرياء. كل شيء رآه في الحلم أو قبل أن يولد.
Página desconocida