ولم تكن صديقتها بيضاء. كانت سمراء شديدة السمرة بلون إبليس، لكنها كانت تمشي مرفوعة الرأس، كأنما هي بنت الملك. شعرها غزير أسود يتطاير حولها كشعر الأسد تقذفه خلف ظهرها بيدها كالفرس الحرة لا يملكها أحد، وفي العيد ترتدي ثوبا برتقاليا يمتلئ بالهواء، والكرانيش تتطاير من حولها كأجنحة الفراشة.
تحت ضلوعها تحس الخفقات. في أعماقها لحن يدب بإيقاع راقص. سنابل القمح تتراقص تحت الشمس بالإيقاع ذاته. أوراق الشجر مع الهواء تصنع اللحن ذاته، وهي واقفة خلف النافذة، تكاد تقفز نحوها وتعانقها. تضمها إليها بقوة، ليذوب جسمها في جسمها، وتصبح هي وصديقتها شيئا واحدا، ويختفي من الوجود اسم نرجس.
حين ترى أمها الدموع في عينيها تقول: «نرجس اسم زهرة جميلة»، وتقول لكن اسم جنات يا أمي أجمل، فهي جمع جنة، لا جنة واحدة فما بال زهرة واحدة يتيمة مثل نرجس؟!
إحساس باليتم كان يملؤها وهي واقفة في النافذة، تنتظر قدومها كأنما ولدت من أب مجهول وأم مجهولة، وأهلها ليسوا أهلها، والوطن ليس وطنها. تعيش من أجل لحظة واحدة، أن تصبح هي وصديقتها شخصا واحدا. يملؤها الأمل من شدة الحب، ويملؤها الخوف من أن يأتي يوم فلا تراها. أو تمد يدها لتمسكها فيبددها الهواء، أو تدوسها عجلات ترام أو سيارة.
حين ترى وجهها من بعيد يقترب تخشى أن يتحول فجأة إلى وجه آخر غير جنات، تتراجع إلى الوراء مبتعدة عنها، ذراعاها مرفوعتان لا تعانقها، ويجف حلقها لا تنطق يستمر الصمت لحظة أو لحظتين، ثم يطغى وجودها الحقيقي على الخيال، تنفك العقدة وينهمر الكلام. تسألها أمها عما تقوله لصديقتها هي الصامتة المقطوعة اللسان. لا تعرف ماذا تقول لأمها، فهي لا تقول شيئا. ليست هي كلمات. مجرد همهمات كأصوات الحمام. تقرب الحمامة منقارها من الحمامة الأخرى، ولا ينتهي الهمس.
كانت تفهم لغة الحمام دون أن تفك الخطوط، ترسمها بأرجلها كالشخبطة فوق التراب، وصديقتها كانت تقرأ حروفها. تعرف أسرار الحمام واليمام، وعصافير الجنة والفراشات. تجري وراء الفراشة بين الزرع، تمسكها بين أصابعها. تقرب أذنها من فمها وتهمس لها بشيء، ثم تطلقها في الهواء، تصفق بأجنحتها عاليا محلقة في السماء.
لم تكن أمها تصدق ما تقوله صديقتها عن لغة الطيور، وتمنعها من زيارتها، وحين تأتي صديقتها تبقى أمها معهما في الغرفة. أو تلصق أذنها بالباب تتسمع، وتنام تحلم بالمدرسة لتلتقي بها في الفناء. تتقافزان كالفراشتين تلعبان «الحجلة» وتتسابقان الجري. تنطان الحبل. تشهقان. تضحكان، تصرخان، تدبان فوق السلم، وتنسيان في غمرة الفرح أعز ما تملكه البنات.
وفي حصة القراءة الرشيدة حين يلتها المدرسة عن أحب الناس لها لم تقل أحب أمي أو أبي، وقالت أحب جنات، أعطتها المدرسة صفرا في الأخلاق وجنات أخذت صفرا لأنها كانت تحب الطيور أكثر من أمها وأبيها، وسارت إشاعة في المدرسة عن حب آثم يزينه إبليس في عيون البنات. تصورت أن معركة كانت تدور بين الله وإبليس حول قلوب البنات، وكان إبليس يأتي إليها في الليل يهمس بصوت ناعم: الحب جميل، وفي حصة الدين جعلها الشيخ بسيوني تمد يديها أمامها. لسعها بالعصا الخيزران فوق كل إصبع ثلاث مرات، وجعلها تردد وراءه تسع مرات، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
منذ تعلمت النطق وهي تستغفر الله على الذنب العظيم، تدركه بجسمها وعقلها عاجز عن الإدراك. كالورم تحس الإثم بإصبعها، ينمو تحت الضلوع كالدم الساخن يتدفق في العروق. أو عود كبريت مدفون في ثنايا اللحم، يقطعه حلاق الصحة بالموسى، وتغرق الملاءة بالدم. تدرك أنه الذنب المعلق في السماء إلى الأبد. أو العار لا يمسحه إلا الدم.
وتسأل أمها عن السبب وهي واقفة خلف النافذة. تمد أمها عنقها إلى أعلى. تتعلق عيناها بضوء صغير يرتعش في الظلمة. نجمة وحيدة تشق الخضم. قطرة واحدة من النور في المساحات السوداء. معلقة في الأفق بين السماء والأرض. ثابتة في مكانها لا تنطفئ ولا تسقط. ترفع ذراعيها وتنشج بصوت كالغناء، أو النداء الطويل الممدود بامتداد الليل: «يا رب!»
Página desconocida