حلة
هم أمير الموصل أن يهدي إلى أحد ندمائه خلعة نفيسة، ثم غضب عليه لبعض الأمر قبل أن تبلغه الهدية، وكان النديم طويلا في السماء عريضا في الفضاء، وقد أراد الأمير أن يغيظه؛ فأهدى خلعته إلى نديم آخر له كان قصيرا لا يكاد يرتفع عن الأرض، وضيقا لا يكاد يشغل من الفضاء إلا حيزا ضئيلا. وتلقى النديم هدية الأمير جذلان راضيا، فلما دخل فيها ضاع بين ثناياها؛ لأنها لم تفصل على قده. فأما الأمير وحاشيته فضحكوا وأغرقوا في الضحك، وأما النديم فلم يشك في أن الخلعة قد خلقت له، وأما الناس فقد جعلوا كلما رأوه يشيرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: انظروا إليه، إنه يرفل في حلة فلان!
وقار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أترى إلى وقار فلان حين يسعى؟ إن الناس ليعجبون بما يصطنع من الأناة والمهل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو استطاع أن يسعى وهو واقف، وأن يتحرك وهو ساكن، لفعل.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ليته يأخذ نفسه بمثل ما يأخذ به جسمه من الوقار!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! ذاك شيء لا يتاح إلا لأولي العزم.
ذاكرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غرفات الدرس وحجراته يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئا ولا تمتنع على شيء.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجل التاريخ من أعماق الناس، ومن وراء هذه وتلك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يسأل أصحابها عنها يوم لا تنفع خلة ولا شفاعة. فأضعف الناس عقلا وأوهنهم عزما وأكلهم حدا هو الذي لا يحفل إلا بلوحاتك السود، والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ، والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي والنفس الزكية؛ فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحفظة فيه على الناس أعمالهم، لتعرض عليهم بين يدي الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون.
Página desconocida