ينشأ أحدهم كما تنشأ الكثرة الضخمة من الشعب المصري في أسرة شقية بائسة أو في أسرة متوسطة متواضعة، فيتكلف أهله ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل أبواه ما يحتملان من المشقة والعناء؛ ليرفعاه إلى حال خير من حالهما، ولينزلاه منزلة أرقى من منزلتهما، وفيه هو ما في الكثرة الضخمة من الشعب المصري من هذا الذكاء الحاد، والعقل الخصب، والطموح إلى الخير، والقدرة على الجد، فما يزال الأبوان يكدحان ويشقيان، وما يزال هو يكد ويجد، وما يزال التعاون بين كدح الأسرة وجد الفتى الناشئ يؤتي ثمره قليلا قليلا، حتى يبلغ الفتى بعض ما أرادت له الأسرة أو كل ما أرادت له الأسرة، وبعض ما أراد لنفسه أو كل ما أراد لنفسه، وإن كانت حاجة من عاش لا تنقضي كما يقول الشاعر القديم، وإذا صاحبنا فتى موفق موفور قد بلغ من لين الحياة وخفض العيش ما لم تبلغ أسرته؛ فعلم وكانت أسرته جاهلة، ونعم وكانت أسرته بائسة، وابتسم وكانت أسرته عابسة، واستقبل الحياة في رجاء كثير وأمل واسع، فجعل لا يرقى إلى درجة إلا طمع في أن يرقى إلى درجة أعلى منها، وجعل لا يظفر بخير إلا حرص على أن يبلغ خيرا أكثر منه، وأصبحت الحياة بالقياس إليه ميدان سباق إلى التفوق لا ميدان جهاد لكسب القوت.
هنالك يتنكر لماضيه القريب، وينسى تلك الدموع التي سكبتها الأمهات في كثير من مواطن البؤس والشقاء، وذلك العرق الذي سكبه في كثير من مواطن الجد والعمل، وتلك المواقف الحرجة التي وقفتها الأسرة في كثير من مواطن الأزمة والضيق، والتي كانت ترده عن المدرسة؛ لأن الأسرة لم تكن تملك المصروفات، وكادت تضطره إلى الجهل والخمول؛ لأن الأسرة لم تكن تجد ما تنفق على نفسها فضلا عن أن تجد ما تنفق عليه، ولكن الأم نزلت عن آخر ما بقي لها من الحلي أو استغنت عن بعض ما في بيتها من المتاع، ولكن الأب ضاعف الجهد، ووصل الليل بالنهار في العمل، وأراق ماء وجهه عند فلان أو فلان يقترض منه مقدارا ضئيلا أو ضخما من المال، واستطاعت الأسرة بفضل هذا الشقاء المتصل، والعذاب الأليم أن تحل الأزمة، وتخرج من الحرج، وتؤدي المصروفات، وتقوم له بما يحتاج إليه ليمضي في درسه وادعا مطمئنا ناعم العين رضي البال، ولعل الأسرة لم تتعرض لهذا الحرج مرة واحدة ولا مرتين، وإنما تعرضت له مرات ومرات حتى أتم الفتى درسه، وبلغ ما أرادت له الأسرة، وما أراده هو لنفسه.
ينسى هذا كله نسيانا يسيرا سهلا؛ ينساه بالقياس إلى نفسه فيحسب أنه قد نشأ في النعمة والرخاء، وأن ليس له بالضنك والضيق عهد، وينساه بالقياس إلى أسرته فيحسب أنها لم تقدم إليه شيئا؛ لم تشق ليسعد، ولم تكد ليستريح بالنعيم. ثم هو ينساه بالقياس إلى الجيل الناشئ؛ فلا يفكر في أن بين هؤلاء الأطفال والصبية الذين يبسمون فتبتسم الحياة، والذين يمرحون فيشيع من حولهم الرضى والغبطة مئات ومئات، إنما يشتقون ابتساماتهم هذه الحلوة من عبوس الآباء والأمهات، وإنما يشتقون ضحكهم هذا المرح من حزن الآباء والأمهات كما كان هو يشتق ابتسامه ومرحه من عبوس أبويه، وحزنهما في العهد القديم.
ينسى هذا كله نسيانا، ويجهله جهلا، وتمحوه الحياة من قلبه محوا قاسيا؛ فإذا هو يرى الناس كلهم ناعمين كما ينعم، راضين كما يرضى، قادرين على الإنفاق كما هو يقدر على الإنفاق، ليس عليهم إلا أن يريدوا ليظفروا، وليس عليهم إلا أن يضعوا أيديهم في جيوبهم ليجدوا ما يحتاج إليه أبناؤهم من هذه النفقات التي تزداد كلما تقدمت الأيام. يرى نفسه موفورا فيحسب الناس كلهم موفورين، ويجد نفسه سعيدا فيحسب الناس كلهم سعداء.
وهو من هنا قاس أشد القسوة، عنيف أشد العنف، ينظر إلى الرحمة على أنها خور في الطبيعة كما كان يراها وزير عربي قديم، وينظر إلى العدل على أنه قوة في يد الدولة ترفع بها من تشاء إلى حيث تشاء، وتخفض بها من تشاء إلى حيث تشاء.
ثم ينظر إلى الحياة على أنها جهاد لا ينال خيرها إلا بالكد والجد والعناء كما يتصور هو الكد والجد والعناء، وهو على ذلك صورة عابسة لدولة عابسة لا شر فيها ولا رضى، ولا رفق فيها ولا ابتسام، إنما هي القسوة المنكرة، والعنف المسلط على الرءوس والنفوس، وعلى كل شيء من حوله حتى تستحيل الحياة جحيما أو شيئا يشبه الجحيم.
وأنت تستطيع أن تنظر في حياتنا العامة على اختلاف فروعها فسترى كبارا يقسون على صغار؛ لأنهم نسوا أنفسهم أو قل نسوا ماضيهم، ولم يذكروا أنهم كانوا صغارا، وأنهم شقوا بهذه القسوة من كبار الجيل الماضي، وأن الحق عليهم لأنفسهم وللناس أن يمحوا هذا الشقاء، ويجنبوا الناشئ ما شقي به الجيل الماضي لا أن يثأروا لأنفسهم من الأبرياء؛ فكثير من هؤلاء الكبار القساة إنما يصطنعون القسوة متأثرين بشعور عميق خفي هو شعور الحاجة إلى التشفي والانتقام؛ لكثرة ما ذاقوا من الشدة والجهد حين كانوا صغارا.
وشر من هؤلاء قوم قست عليهم الحياة، ورفقت بهم الدولة؛ فأعانت أسرهم على تربيتهم وتعليمهم، ومكنتهم من أن يتموا الدرس على أحسن وجه، ويتقلبوا في المناصب حتى تصير إليهم الأمور، وإذا هم ينسون في وقت واحد قسوة الحياة عليهم فيقسون على الناس، ورفق الدولة بهم فلا يرفقون بأحد. أخذوا لأنفسهم ما استطاعوا من لين الحياة، وهم يأخذون لأنفسهم وسيأخذون لأنفسهم ما يستطيعون من لين الحياة، ولكنهم لا يعطون شيئا، لا من ذات أيديهم، ولا مما في يد الدولة؛ لأنهم إنما نعموا بالحياة، وينعمون بها من حيث إنهم ممتازون قد اشتقوا من عناصر ممتازة، وهم ليسوا كغيرهم من الناس، ولا ينبغي أن يشبه بهم الناس من قريب أو بعيد، وصدق الله العظيم في قوله الكريم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين .
كل هذه الخواطر الحزينة الشاحبة التي تملأ النفس بؤسا وحزنا ومرارة، وإنما تخطر لي في هذه الأيام حين تنتهي إجازة الصيف، ويستقبل الناس العام الدراسي الجديد. من شأن هذه الأيام أن تكون أيام ابتهاج حلو، واكتئاب هادئ لا مرارة فيه. من شأنها أن تكون أيام ابتهاج؛ لأن الأطفال، والصبية، والفتيان يستقبلون عامهم الدراسي الجديد الذي سيملؤه النشاط الخصب فتنمو عقولهم وأخلاقهم وأجسامهم، ويخطون إلى الرجولة خطوات مباركة ترقبها الأسر سعيدة مبتهجة.
Página desconocida