قال الإنسان: إني موجود لأني أفكر. فكان بقوله هذا فيلسوفا. وقال الذئب: إني موجود لأني آكل وأفترس. فأثبت أن الفلسفة ليست وقفا على الإنسان.
قلت للذئب: هلا سموت بنفسك فأشفقت على هذا المسكين؟ فقال الذئب ساخرا: هكذا يسمو الناس، لكن ما هكذا تسمو الذئاب. ومن الذئاب ما يسكن البيوت مع الناس ومنها ما يسكن الغاب.
ليس على الذئب في ذلك كله لوم ولا تثريب.
إنما يقع اللوم والتثريب على صاحبنا «الخروف» الذي استمرأ ضرب المخالب واستلذ وقع الأنياب، دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضا.
عبثا ينبري بقلمه كاتب ليدفع الأذى عن هذا الخروف، وعبثا يرتقي المنبر في سبيله خطيب؛ لأن عدوان الذئب يصادف في نفسه القبول، فليعدل الخروف من طبيعته أولا، وبعد ذلك فليكتب الكتاب ليدفعوا عنه العدوان وليخطب الخطباء.
يضحكني آنا ويحزنني آنا أن أرى أنصار الكرامة الإنسانية يتصدون للذئب قائلين: أهكذا يا ذئب يكون الإخاء وتكون المساواة بين عباد الله؟ ولو أنصفوا لاتجهوا نحو الخروف وحقنوه بما يشيع في عضلاته الصلابة وفي لحمه المرارة؛ ليخاطب الذئب في ثقة وإيمان كلما خطر للذئب خاطر العدوان: التمس يا ذئب غيري إن لحمي كان مرا.
قلت للخروف: هلا أخذتك النخوة يوما فغضبت غضبة الكرام التي لا تقف عند حد اللغو والكلام؟ هلا أخذتك النخوة يوما فأبيت على الذئب هذا العدوان؟
قال: كيف عرفتني خروفا وقد تخفيت في ثياب الرجال؟
قلت: عرفتك في مائة موضع وموضع، أسوق لك منها مثلين:
عرفتك حين أردت أن تخاطب سيدك الذئب يوما، فضغطت على القرطاس بحافر وأمسكت القلم بحافر، وهززت قرنيك تفكر كيف توجه إلى الذئب الخطاب، بحيث تباعد بينك وبينه، كأنه السليم وكأنك الأجرب، وكأنك تخشى عليه المرض إن دنوت منه؛ أردت في الخطاب أن تجعل بينكما من الكلمات عددا يضمن له الرفعة ولا يفسد عليك الضعة التي استمرأت مذاقها. إنك تعلم أن قوانين الغابة تجعل منكما زميلين من ذوات الأربع، فلو خاطبته بقولك «إلى الذئب» لما كان عليك لوم ولا عتاب؛ لكنك استكبرته واستصغرت نفسك، أعززته وأذللت نفسك، عظمته وحقرت نفسك، لأن الصغار والذلة والحقارة أصبحت جزءا من طبعك، لا تطمئن إلا بها ولا تجد نفسك إلا بينها؛ عرفتك خروفا حين رأيتك يوم أخذت تحرر الخطاب لسيدك الذئب، وتهز قرنيك مفكرا كيف توجه إليه الخطاب، بحيث ترضي كبرياءه وتشيع في نفسك ذل العبيد؛ فكتبت أول ما كتبت «إلى حضرة الذئب»، ولكنك رأيت المسافة بينكما تكون بمثل هذا الخطاب أقصر مما ينبغي، فلا يكفي أن تتجه بالخطاب إلى «الحضرة» مباشرة - و«الحضرة» معناها فيما أظن مكان الذئب لو خلا من الذئب - فلم تحتمل أن تواجه بخيالك مكان الذئب، حتى وإن خلا منه، مواجهة مباشرة لا تحميك دونها الموانع والحواجز؛ فمحوت وكتبت: «سيدي حضرة الذئب»؛ لكنك وجدت مرة ثانية أن الشقة بينكما لم تزل أقصر مما ينبغي، فهززت قرنيك ومحوت ثم كتبت: «سيدي ومولاي حضرة الذئب»؛ لكنك وجدت مرة ثالثة أن المسافة لم تزل بعد قصيرة، وأنها ينبغي أن تطول بقدر المستطاع فمحوت وكتبت: «سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد الذئب»؛ لكنك للمرة الرابعة لم ترض عما كتبت وطاف برأسك خاطر أزعجك وخوفك، إذ قلت لنفسك: إن الذئاب في الغاب كثيرة، فكيف أسوي بين سيدي هذا وبين زملائه؟ لا بد لي من علامة تعلو بذئبي فوق الذئاب، ليزداد ضخامة فازداد ضآلة، فمحوت وكتبت «سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد ذئب الذئاب وملك الغاب»؛ وهنا افترت شفتاك عن ابتسامة رأيت فيها الغبطة والرضا.
Página desconocida