ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر، بل سلسلة من الخواطر جاءت في تتابع سريع؛ فالفتاة التي تعطلت في دارها عن غير ضعف إلا ضعفا في إدراك ذويها، دعت إلى الذهن ألوف الألوف من الناس الذين انتشروا في أرجاء البلاد مدائنها والقرى، لا يعملون أو يعملون وكأنهم لا يعملون؛ فهم أقرب الناس شبها بمدينة ضاقت بأهلها سبل العيش، فاتفق الجيران على أن يتبادلوا الخدمات، فكل يغسل لجاره ثيابه، وكل تكنس لجارتها بيتها؛ ثم دهش أهل المدينة أن رأوا أنفسهم كادحين والبطون لم تزل على حالها خاوية! إن السادة إذ أعدوا لأنفسهم حياة ترضي فيهم الغرائز والشهوات، نثروا حولهم عن غير وعي هذه القصاصات.
وصاح صائح: كيف السبيل إلى الإصلاح؟
الإصلاح سبيله أن تعرف لكل قصاصة قيمتها، وأن تجد كل قصاصة مكانها من نافذة المجتمع، فمن لهذه القصاصات البشرية بمن ينسقها أمة منتجة عاملة؟ من لهذه القصاصات البشرية بمثل ذلك الصبي الفنان؟
الدقة الثالثة عشرة
إذا دقت ساعتك ثلاث عشرة دقة، كانت الدقة الثالثة عشرة خطأ في ذاتها أولا، وداعيا إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيا، ثم كانت ثالثا بمثابة النذير الذي يعلن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير.
وقد دقت ساعتي ذات ليلة ثلاث عشرة دقة، إذ كنت بين يقظة ونعاس، ولبثت الدقة الثالثة عشرة حينا في الهواء تجر وراءها ذنبا من رنين يرتعش مائجا فيهز مسمعي بأصداء خافتة أخذ يتداخل بعضها في بعض، حتى صارت في الأذن طنينا موصولا ودارت في نفسي معانيها مضطربة غامضة كما تدور في النفس أوائل الأحلام عند من ينسحب من يقظة النهار شيئا فشيئا ليأخذ في رقدة الليل؛ حتى إذا ما أخذ مني الكرى بمعاقد الجفنين، رأيتني في بهو فسيح كتب على بابه «بهو الفراعنة»، رصت إزاء جدرانه ثلاثة عشر تابوتا نقشت على ظهورها رموز ورسوم مما تراه على توابيت الفراعنة الأجداد؛ لكنها كانت تدق كأنها الساعات، كل منها يدق ثلاث عشرة دقة، حتى إذا ما فرغت الواحدة من دقاتها بدأت الأخرى.
كان البهو فسيحا معتما لا تتبين فيه حدود الأشياء واضحة إلا إن دنوت منها ونظرت إليها عن كثب، فرشت أرضه بمنثور من الرمل يبعث صوتا أجش كلما داست على حصبائه قدم؛ وكان يضيء في وسطه قنديل ضئيل استقامت في ذبالته شعلة النار، لا تموج يمنة ولا يسرة، لسكون الهواء، أو قل لانعدامه؛ فما يسع القادم إلى «بهو الفراعنة» إلا إحساس عميق بأنه إنما أقبل من المكان على مقبرة كل ما فيها يوحي بركود الموت وجموده؛ ولأول مرة أدركت في وضوح أن الضوء إذا خفت كان في طبيعته أقرب إلى الظلام منه إلى الضياء؛ لأنه يزيد من الأشباح التي تتراءى لناظريك ولا يكاد يعينك على الإبصار، فكأنما هو ظلام منظور، أو نار بغير نور.
وقفت ذاهلا أنصت إلى الدقات التي كانت أدنى إلى حشرجة الموت منها إلى الرنين الصافي، وقد امتلأت أرجاء المكان بأصدائها حتى خيل إلي أن موجات الصوت تتراكم بعضها فوق بعض، وأنني مغموس منها في بركة من صوت؛ ولأول مرة كذلك أدركت في وضوح أن الصوت إذا انبعث من وادي الموت، كان في طبيعته أقرب إلى الصمت منه إلى الصيات؛ فقد أحسست حولي بصمت عميق رغم هذه الأصداء التي تملأ أرجاء المكان، وخشيت أن أحرك قدما فيصيت الرمل تحت قدمي، ويعلن بصوته عن وجودي في مكان أريد به في أغلب الظن أن يرمز للموت لا أن يكون مضطربا للحياة والأحياء؛ لكني لما سكتت ساعة عن دقها وبدأت ساعة، أحسست بدافع يجذبني إلى الساعة الدقاقة ولم أملك الوقوف، فخطوت نحوها خطو الخائف الوجل، جف في حلقه الريق وارتعدت منه الفرائص، وود لو استطاع أن يحقق رجاء أبي العلاء، فنسير في الهواء رويدا حتى لا يحرك حصباء الأرض بقدميه.
دنوت من الساعة الدقاقة فإذا بوجه التابوت فيها قد تبدل شيئا عجيبا تكاد تخر لرؤيته صريعا؛ انقلب وجه التابوت في ثلاثة أرباعه السفلى لوحا من زجاج وفي ربعه الأعلى مربعا من الخشب فيه ثقب مستدير؛ وكان البندول إنسانا مخنوقا أخذ جثمانه يتأرجح خلف الغلاف الزجاجي يمنة ويسرة، مشدود الذراعين موثق القدمين، وتدلى رأسه من الثقب في أعلى الإطار؛ يغطيه طربوش قديم بال مجعد السقف والجوانب، طال «زره» وطال حتى لف حول عنقه ثلاث عشرة حلقة، وجحظت عيناه وانفتح فمه وتدلى لسانه وأخذ يهتز في اتجاه معاكس لحركة جسده؛ فإن تأرجح الجسد يمينا مال لسانه نحو اليسار، وإن تأرجح الجسد يسارا مال لسانه نحو اليمين، أو خيل إلي أنه يفعل.
لم يفتني بين هذه المفازع كلها أن أعجب للقدر كيف كان في سخريته حكيما وفي حكمته ساخرا؛ فقد مات الرجل مختنقا بما اتخذه في حياته دليلا على أنه حي بين الأحياء! مات مختنقا بالذي اصطنعه رمزا لعزته! أكان السم الزعاف إذن يكمن له في خيوط هذا الإرث المجيد؟ وقع في وهمه أن تراث أجداده باعثه على الحياة والنشاط، فإذا تراث الأجداد ينحدر به إلى مهوى الموت والهلاك! مات المسكين مختنقا في أغلال وأصفاد من نسج الآباء والأجداد، ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن ينسلخ من جلده انسلاخا، لأن في جلده الضر والوباء؛ لو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن يلقي عن نفسه هذا الموت الرابض، وأن يحطم هذه الأغلال وهذه الأصفاد ليكون بين سائر الناس خفيفا نشيطا؛ لكن علموه فتعلم أن أصفاده سلاسل من ذهب، وهل يطرح الذهب النضار إلا أحمق مجنون؟ علموه فتعلم أن في الدنيا شرقا وغربا، وأن للشرق هذا البريق الذي تلمع به تلك السلاسل الذهبية؛ ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأفهمه أن ليس في الدنيا شرق وغرب، لكن في الدنيا إنسانا يحيا ويتقدم فيقال له غرب، ويتدهور ويموت فيقال له شرق، وله بعد ذلك أن يختار بين الحياة والموت. لكن مات المسكين - وا أسفا - مغلول اليدين موثق القدمين؛ غلوه بسلسلة ذرعها خمسة آلاف عام تمتد إلى حيث كان أجداده عن الحياة في شغل يبنون الأهرام الشوامخ استعدادا للموت والفناء، ومن يدري؟ لعله مات بعد أن بذر في أبنائه بذور الرجاء.
Página desconocida