Tafsir al-Tabari
جامع البيان في تفسير القرآن
[2.180]
يعني بقوله تعالى ذكره: { كتب عليكم }: فرض عليكم أيها المؤمنون الوصية إذا حضر أحدكم الموت { إن ترك خيرا } والخير: المال، { للوالدين والأقربين } الذين لا يرثونه، { بالمعروف } وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته، { حقا على المتقين } ، يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به. فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟ قيل: نعم. فإن قال: فإن هو فرط في ذلك فلم يوص لهم أيكون مضيعا فرضا يحرج بتضييعه؟ قيل: نعم. فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول الله تعالى ذكره: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرضه، كما قال:
كتب عليكم الصيام
[البقرة: 183] ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر مضيع بتركه فرضا لله عليه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه وله ما يوصي لهم فيه، مضيع فرض الله عز وجل. فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: { الوصية للوالدين والأقربين } منسوخة بآية الميراث؟ قيل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي محكمة غير منسوخة: وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة لنفي أحدهما صاحبه. وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية. حدثني سالم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إن الله قد قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضله، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك، قال: لا تجوز وصية لوارث ولا يوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية، إلا أن لا يكون قرابة فيوصي لفقراء المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: العجب لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن رجل، عن الشعبي، قال: لم يكن له حال ولا كرامة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمى جعلناها حيث سمى، ومن قال حيث أمر الله جعلناها في قرابته. حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: ثنا المعتمر، قال: ثنا عمران بن جرير، قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبة؟ قال: على من ترك خيرا. حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا عبد الملك بن الصباح، قال: ثنا عمران بن حرير قال: قلت للاحق بن حميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرا. واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرها ظاهر عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمراد بها في الحكم البعض منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم معهم. ذكر قول من لم يذكر قوله منهم في ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن زيد في رجل أوصى لغير ذي قرابة، وله قرابة محتاجون، قال : يرد ثلثا الثلث عليهم، وثلث الثلث لمن أوصى له به. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا في الرجل يوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال: كانوا يجعلون ثلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له به. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثلث الثلث، وثلثا الثلث لقرابته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته. وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبا وعمل به برهة، ثم نسخ الله منها بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وأقربائه الذين يرثونه، وأقر فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجعل للوالدين نصيب معلوم، ولا تجوز وصية لوارث.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: نسخ الوالدان منها، وترك الأقربون ممن لا يرث. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: نسخ من يرث ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون. حدثنا يحيى بن نصر، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كانت الوصية قبل الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث نسخ الميراث من يرث وبقي من لا يرث، فمن أوصى لذي قرابته لم تجز وصيته. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن في قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: نسخ الوالدين وأثبت الأقربين الذين يحرمون فلا يرثون. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: { الوصية للوالدين والأقربين } قال: للوالدين منسوخة، والوصية للقرابة وإن كانوا أغنياء. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فكان لا يرث مع الوالدين غيرهم إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنزل الله بعد هذا:
ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث
[النساء: 11] فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فنسخ الوصية للوالدين وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } بالمعروف. قال: كان هذا من قبل أن تنزل سورة النساء، فلما نزلت آية الميراث نسخ شأن الوالدين، فألحقهما بأهل الميراث وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة، قال: سألت مسلم بن يسار، والعلاء بن زياد، عن قول الله تبارك وتعالى: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قالا: في القرابة.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن إياس بن معاوية، قال: في القرابة. وقال آخرون: بلى نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريب ولا بعيد. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } الآية، قال: فنسخ الله ذلك كله وفرض الفرائض. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس ههنا، فقرأ عليهم سورة البقرة ليبين لهم منها، فأتى على هذه الآية: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: نسخت هذه. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } نسخت الفرائض التي للوالدين والأقربين الوصية. حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر، قال: سمعت ابن عمر يقول في قوله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: نسختها آية الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضما عنه فلم يحفظه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث. حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: زعم قتادة، عن شريح في هذه الآية: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: كان الرجل يوصي بماله كله حتى نزلت آية الميراث. حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: زعم قتادة أنه نسخت آيتا المواريث في سورة النساء الآية في سورة البقرة في شأن الوصية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة نسختها آية في سورة النساء:
يوصيكم الله في أولدكم
Página desconocida