Tafsir al-Tabari
جامع البيان في تفسير القرآن
[البقرة: 87] قال: وهما زائدتان في هذا الوجه، وهي مثل «الفاء» التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا، وكقولك للرجل: أفلا تقوم وإن شئت جعلت الفاء والواو ههنا حرف عطف. وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام. والصواب في ذلك عندي من القول أنها واو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه:
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتينكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا
[البقرة: 93] { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } ثم أدخل ألف الاستفهام على «وكلما»، فقال: قالوا سمعنا وعصينا { أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن الواو والفاء من قوله: { أوكلما } و { أفكلما } زائداتان لا معنى لهما. وأما العهد: فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بها في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أوكلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا نبذه فريق منهم فتركه ونقضه؟ كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم وما أخذ له علينا ميثاقا فأنزل الله جل ثناؤه: { أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون }. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. قال أبو جعفر: وأما النبذ فإن أصله في كلام العرب الطرح، ولذلك قيل للملقوط المنبوذ لأنه مطروح.
مرمى به، ومنه سمي النبيذ نبيذا، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء ثم يعالج بالماء. وأصله مفعول صرف إلى فعيل، أعني أن النبيذ أصله منبوذ ثم صرف إلى فعيل، فقيل نبيذ كما قيل كف خضيب ولحية دهين، يعني مخضوبة ومدهونة يقال منه: نبذته أنبذه نبذا، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
فمعنى قوله جل ذكره: { نبذه فريق منهم } طرحه فريق منهم فتركه ورفضه ونقضه. كما: حدثنا بشر ابن معاذ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { نبذه فريق منهم } يقول: نقضه فريق منهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: { نبذه فريق منهم } قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا . قال: وفي قراءة عبد الله: «نقضه فريق منهم». والهاء التي في قوله: { نبذه } من ذكر العهد، فمعناه: أوكلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم. والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه بمنزلة الجيش والرهط الذي لا واحد له من لفظه. والهاء والميم اللتان في قوله: { فريق منهم } من ذكر اليهود من بني إسرائيل. وأما قوله: { بل أكثرهم لا يؤمنون } فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا نقضه فريق منهم لا يؤمنون. ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله على عدد الفريق، فيكون الكلام حينئذ معناه: أوكلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله أكثرهم لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر: أن يكون معناه: أوكلما عاهدت اليهود ربها عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم، ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الإيمان وأنه التصديق.
[2.101]
يعني جل ثناؤه بقوله: { ولما جاءهم } أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل رسول يعني بالرسول محمدا صلى الله عليه وسلم. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: { ولما جاءهم رسول } قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: { مصدق لما معهم } فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة، والتوراة تصدقه في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه. وأما تأويل قوله: { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي الله، { نبذ فريق } ، يعني بذلك أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: { من الذين أوتوا الكتاب } وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: { كتاب الله } التوراة، وقوله: { نبذوه وراء ظهورهم } جعلوه وراء ظهورهم وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر وجعله وراء ظهره، يعني به أعرض عنه وصد وانصرف. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم } قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فذلك قوله الله: { كأنهم لا يعلمون }. ومعنى قوله: { كأنهم لا يعلمون } كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } يقول: نقض فريق { من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } أي أن القوم كانوا يعلمون. ولكنهم أفسدوا علمهم وجحدوا وكفروا وكتموا.
[2.102]
Página desconocida