Colección de joyas en sal y rarezas
جمع الجواهر في الملح والنوادر
وتخلف أيامًا عن بعض الأشراف بسبب طيرة عرضت له، فبعث إليه غلامًا جميلًا فقرع الباب. فقيل: من؟ قال: إقبال؛ فخرج فرأى وجهًا مستحسن الصورة حسن الهيئة. فقال له: مولاي يرغب في حضورك، فمشى معه ثم توجس وبقي باهتًا مطرقًا لا ينصرف، ثم مشى قليلًا؛ فلما قارب الجسر انفتل بسرعة شديدة، ثم مضى على وجهه إلى داره، فأغلق الباب على نفسه، وكتب إلى الرجل: تخلفت أطال الله بقاءك عن حظي من لقائك، لاعدمته لي أيامًا، وأنا أتقلى على جماجم الضجر، بما جرى به القدر، من كلام سمعته وأمر توقعته؛ فأتاني غلام جميل اسمه إقبال؛ فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالًا إذا نكس كان لا بقاء! فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالًا إذا نكس كان لا بقاء! فقلت: هذا من ذاك؛ فمشيت معه مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى حتى صرت بالجسر، فرأيت حبالًا مفتولة قد التوت، فصار كل واحد منها في صورة لام ألف، فقلت: هذه تحقق ما ظننت من لا بقاء بقولها: لا لا، فما حصلت في الدار، إلا بعد خوف مضي المقدار، فابسط العذر في التأخر، والسلام.
وقال علي بن إبراهيم كاتب مسرور البلخي: كنت بداري جالسًا بباب الشعير على أسرة نصبت لي في صحن الدار؛ فإذا حجارة قد سقطت علي، فبادرت هاربًا، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا؟ فقال لي: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد أشرفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرةً من الماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشًا؛ فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة بأن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت. وبادرت بالجرة وأتبعتها بشيء من المأكول. ثم عادت وقالت: ذكرت المرأة أن الباب مقفل عليها منذ ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وأنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح بيده، ثم يضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان أعور يقعد كل غداة على بابه؛ فإذا رآه رجع وخلع ثيابه. وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت من حديثها؛ وبعثت بخادم لي كان يعرفه فأمرته بأن يجلس بإزاء بابه، وكانت العين تميل إليه. وتقدمت إلى بعض غلماني أن يدعو الجار الأعور؛ فلما حضر عندي أدى الغلام إلى ابن الرومي رسالتي يستدعيه الحضور، فإني لجالس وعندي الأعور إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة المسوس صاحب المعتضد؛ ودخل ابن الرومي فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعورًا، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرًا يدل على تغير حاله، فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه. فقلت له: يا أبا الحسن، ما لك؟ أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهةً وهي قطع أنثييه. فقال برذعة: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم! ويفرط. قال: ومن هو؟ قلت: أبو الحسن بن الرومي. قال: الشاعر؟ قلت: نعم! فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت على نفسي فوطّنتها على ... ركوب جميل الصّبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفةٌ بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يوم تعيشه ... وكن حذرًا من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح ... تطيّر دارٍ أو تفاؤل صاحب
فبقي ابن الرومي باهتًا؛ ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي ألا يتطير أبدًا من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره. فقلت: وهذا الفكر أيضًا من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه في حسن مأتاه. فقلت له: ليتنا كتبناه. فقال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علي.
ومن الدليل على شدة حذره وعظم تطيره
ومن الدليل على شدة حذره، وعظم تطير، قوله لأبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع، ... لك الخير، تحذيري شرار المحاطب
ومن يلق ما لاقيت من كلّ مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
أذاقتني الأسفار ما كرّه الغنى ... إليّ وأغراني برفض المطالب
1 / 112