Jamal Din Afghani
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
Géneros
(1) الأصالة والتقليد
وانتقالا من الفلسفة النظرية إلى الممارسة العملية يضع الأفغاني ثنائيات الصراع بين الأنا والآخر التي تتجلى في الأصالة والتقليد، والإسلام والنصرانية، والشرق والغرب؛ فالتقليد أيا كان اتجاهه يؤدي إلى سقوط الهمة والعجز. فساقط الهمة من علم الفضيلة وصدق الدعوة ولم يبادر إليهما، بل ينتظر أن يكون تابعا ومقلدا لغيره فيهما. والتقليد يرفض الدين، وليس مصدرا من مصادر العلم عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين. ومن قال إن الدين يأمر بالعسر دون اليسر، بالضار دون النافع لمجرد التقليد والمألوف، فهو كذاب؛ فالحقيقة لا تؤخذ إلا بالبرهان ولا يحصل عليها بالتقليد . والطريق الصحيح للمعرفة، وهو البرهان، أضمن للمعرفة ذاتها بالتقليد. ولو كان لا بد من تقليد خاصة بالنسبة للعامة، فتقليد نافع ثبتت منفعته أولى من تقليد مألوف ثبتت مضرته. فالنفع هنا شفيع لنقص الاجتهاد. ويظل التوازي قائما بين الاجتهاد والتقليد، والمنفعة والضرر.
1
ويكون التقليد لجهتين، تقليد الغرب وتقليد القدماء. تقليد الغرب غالبا من الشباب، وتقليد القدماء غالبا من الشيوخ. يقلد الشباب الغرب بمجرد تعلمه لغته والتأدب بآدابه دون فهم لتجربة الغرب وتدرجها ومعناها. ويعتقد أن كل العيوب والرذائل ومظاهر الانحطاط ومعوقات التقدم في قومه. فيسير في تقليد الغرب، يجل الآخر، ويسفه الأنا. يعطي الآخر أكثر مما يستحق، ويعطي الأنا أقل مما تستحق. يأنف من الاشتراك في أي عمل وطني، ويسارع بالاشتراك في عمل الأجنبي ولو كان اسما. يعيب كل شيء في قومه، ويقدس كل شيء عند الغريب. يسهل له مقاصده، ويطلعه على معايب قومه، ويساعده على أهله. وقد يصل الأمر إلى حد الخيانة للوطن واستعباد الغرب له، مؤثرا مصلحته الخاصة على مصلحة الجماعة. وسواء تم ذلك عن علم أو جهل فقد ابتلي الشرقيون بهذه العلة. والأزمة في ازدياد حتى يستيقظوا عندما يصل الأمر إلى دين لا يتعبدون به، وتجارة دون مال أو مجال، وفقدان الحرية الشخصية، ووقوع في القهر والذل. ولا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي. فكلاهما في التقليد سواء؛ لأن التقليد موقف حضاري لا ينبع من دين أو طائفة. وقد يشعر المسيحي ببعض الميزة على المسلم في تقلد الوظائف لمسيحيته ومعرفته باللسان الأجنبي، فيقربه الأجانب ويوالونه. فيقع التنافر، وتحدث الفرقة في الأمة. وكلاهما متساويان في المذلة والهوان. والعجيب أن هذه الأمة التي وقعت في تقليد الغرب كانت مبدعة في ماضيها. أمة لم تكن شيئا، وأصبحت كل شيء في العلم والعمران، ودانت لها الشعوب والأقوام. ثم وهن البنيان، وضعف التعاون، وتقطعت الأوصال. ومن ثم فإن هذه الأمة في حاجة إلى تربية جديدة حتى تبدع في الحاضر كما أبدعت في الماضي. ويضع الأفغاني قواعد لتربية الأمم لا عن طريق الجرائد الأجنبية بل عن طريق تعلم القراءة والكتابة لفهم الحياة الوطنية، وليس عن طريق إنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة على النموذج الأوروبي لحاجة ذلك إلى سلطان قوي، بل عن طريق المدارس الأهلية القادرة على التعليم الوطني. ولا يتم ذلك تدريجيا بالضرورة؛ لأن الأمة لا تعرف هذه العلوم الغريبة عنها ولا كيف بدأت، وفي أي تربة نبتت. ويكفي نقلها كما فعل العثمانيون والمصريون؛ لأنها ارتبطت بالبيئة التي نشأت فيها، وبنظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني. لذلك لم ينجح النقل من الخارج. وبدلا من التشدق بألفاظ الحرية والوطنية دون فهم لمعانيها يمكن البحث عن هذه المعاني أولا والتعبير عنها بعديد من الألفاظ الموروثة أو الوافدة. ويمكن أيضا تغيير عادات الشرقيين وقلب أوضاع المباني والمساكن وتبديل هيئات المأكل والملبس والفرش والتنافس مع الأجنبي فيها بعادات أصيلة جديدة أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر. لكل أمة طورها الحضاري، ولا يمكن انتحال طور أمة لأمة أخرى أو تقليدها كما حدث للأفغان من تقليد الإنجليز، فأصبحوا أعوانا لهم وامتدادا. ولا يمكن النضال ضد الاستعمار بتقليد المستعمر بالرغم من مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب إما إحساسا بالنقص أمامه أو لمحاربته بسلاحه.
2
وقد يكون التقليد أيضا للقدماء والأسلاف وهو الأقل شيوعا عند الأفغاني؛ فتقليد الغرب أخطر من تقليد القديم الذي يمكن محاربته بضرورة الاجتهاد، ومن الطبيعي أن يقلد المسلمون آثارهم القديمة، آثار العرب والعجم المدفونة عند القدماء، الآثار العلمية والعملية، آثار الفتوحات والنهضة والعمران. ومع ذلك فالمسلم، عربيا كان أم أعجميا، إنما يعجب بماضيه وتراث الأسلاف، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله وكيف يجب أن يكون.
ليس الفتى من قال هذا أبي
ولكن الفتى من قال ها أنا ذا
3
ويأخذ الصراع بين الأصالة والتقليد شكل الصراع بين الأجداد والأحفاد. يعيب الأفغاني على الأحفاد عدم اتباع سنن النبي، والفخر بالثبات والصبر والإقدام والبسالة والاعتصام بحبل الله، ويدعوهم إلى استلهام الأجداد. ويستنفرهم للتمسك بالأصالة التي يرمز لها الأجداد. فللأحفاد حق في ميراث الأجداد. وفي نفس الوقت يؤيد الأفغاني الشباب في معركتهم ضد الشيوخ. فمن سفه الرأي أن يعتقد الرجل أفضليته على الغير بالعمر والمشيب فقط. وربما أفادت السنون تجارب ولكن الأقدمية لا تجدي الأفضلية غالبا. ليست الأفضلية بالعمر والزمن ولكن بالعمل. وتجربة العمر قد تكون أقل من علم الشباب. العلم قد يكون في الأحداث ولكن التجارب لا تكون إلا في الشيوخ، وبالرغم من أن كثيرا من الآباء يستميتون ليحيوا أبناءهم فقليل من الأبناء لا يستثقلون طول حياتهم ويستعجلون موتهم. فالآباء أكثر رحمة من الأبناء، والأبناء أكثر قسوة على الآباء.
Página desconocida