Jamal Din Afghani
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
Géneros
إثبات التطور مع الإيهام بالبيان. فأنواع الحيوان والنبات تقلبت على أطوار، وتبدلت على أدوار على مر الزمان حتى وصلت إلى هيئاتها الآن. وهو رأي أبيقور أحد أتباع ديوجينس الكلبي؛ فقد كان الإنسان في بعض أطواره مثل الخنزير ذي شعر كثيف، ثم تطور حتى وصل إلى صورته الحسنى التي هو عليها الآن. ولا يوجد برهان على ذلك في رأي الأفغاني مع أن أصحاب نظرية التطور يعطون عشرات البراهين في وصف تطور الكائنات الحية لبيان اتصالها حتى ولو كانت هناك بعض الحلقات المفقودة؛ فالعلم الطبيعي وتطور الأحياء قادر على اكتشافها بمزيد البحث والاستقصاء. ولا يوضح الأفغاني إذا كانت هذه الفرقة مستقلة أم أنها فرع من الفرقة الثالثة. (5)
القول بالحدوث عند الماديين المتأخرين بعد أن بين علم الجيولوجيا، علم طبقات الأرض، بطلان قدم الأنواع، ثم اختلف أنصار هذا الرأي في موضوعين: الأول تكوين الجراثيم النباتية والحيوانية؛ فالبعض يرى أن تكوين الجراثيم جاء نتيجة تناقص التهاب الأرض ثم انتهى هذا التكوين بنهاية التطور. والبعض الآخر يرى أن تكوين الجراثيم ما زال متصلا حتى الآن خاصة في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة. وينقد الأفغاني رأي الفريقين لعجزهما عن بيان سبب حياة هذه الجراثيم النباتية والحيوانية خاصة بعد ما تبين أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، يوجب التئامها، وتحفظ تكوينها، وأن القوة الغاذية هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها فصارت إلى الانحلال، وقد ظن فريق ثالث أن هذه الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن الشمس، وهو ما لا يتفق مع القول بأن الأرض كانت جزءا ملتهبا من الشمس مما يؤدي إلى احتراق هذه الجراثيم وصورها في النار.
8
والثاني موضوع الخلاف هو التحول من النقص إلى الكمال؛ فالبعض يرى أن لكل نوع جرثومة، ولكل جرثومة طبيعة تميل إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجذب ما يلائمها من الأجزاء غير الحية ليصير جزءا لها بالتغذية، ثم تملؤه بلباس نوعه. وينقد الأفغاني هذا الرأي بعلم الكيمياء وإثباته أنه لا فرق بين نطفة الإنسان ونطفة الحيوان، وبتماثل النطفة في العناصر البسيطة، وبالتالي بالعجز عن تفسير التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها. والبعض الآخر يرى أن جراثيم الأنواع خاصة الحيوانية متماثلة في الجواهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالف جوهري ولا انفصال ذاتي، وبالتالي يجوز الانتقال من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان وحكم الحاجة والضرورة وقضاء سلطان القسر الخارجي. ويمثل دارون هذا الرأي في
أصل الأنواع . فأصل الإنسان قرد ثم عرض له التنقيح والتهذيب للصورة بالتدريج على توالي الأزمان وبتأثير العوامل الخارجية حتى ارتقى إلى درجة يسميها الأفغاني برزخ أو ران أو ثان، وهو لفظ قرآني صوفي، وهو نوع من القردة العليا حتى وصل إلى صورة الإنسان الأول، البمبم وسائر الزنوج، ثم إلى الإنسان القوقازي، ويسخر الأفغاني من ذلك بأنه طبقا لهذه النظرية يمكن أن يكون البرغوث فيلا بمرور الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثا. فالتطور تقدم ونكوص، ارتقاء ورجوع. وهي حجة خطابية؛ لأن التطور يخضع لقانون. كما يسأل الأفغاني دارون عن سبب اختلاف الأشجار في بقعة واحدة وزمان واحد، تروى بماء واحد وفي طينة واحدة، وسبب اختلاف أشكال الأسماك في بحيرة واحدة وطعام واحد ومياه واحدة، واختلاف أشكال الحيوانات وهي تعيش في منطقة واحدة. ويسأل عن العلة الفاعلة لهذه الجراثيم في استكمالها الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة والإبداع، لكل منها وظيفة محددة . كيف يمكن إرجاع ذلك إلى الضرورة العمياء دون إرادة واعية مريدة قاصدة؟ ويرى الأفغاني أن العجز عن الرد على هذه التساؤلات يجعل نظرية التطور مجرد جهل ووهم وخرافة مثل المشابهة الواهية بين الإنسان والقرد التي هي مجرد عماية وحيرة، والحقيقة أن الأفغاني هو الذي يتحول من العلم إلى الدين عن طريق تشخيص العلل الطبيعية وتحويلها من قوانين ثابتة إلى إرادة مشخصة عالمة قادرة مريدة كما هو الحال في علم الكلام التقليدي في الأدلة على وجود الله. كما يحاول دارون تفسير اختلاف الخيل في سيبريا والبلاد الروسية؛ لأنها أغزر شعرا من الخيل في البلاد العربية مستعملا نظرية التطور. والسبب في ذلك في رأي الأفغاني هو البيئة الجغرافية وحاجة الخيل في البلاد الباردة إلى شعر يدفئها. وهو نفس السبب لكثرة النبات وقلته لكثرة الأمطار أو ندرتها، وكذلك السمنة في البلاد الباردة والنحافة في البلاد الحارة طبقا لدرجات الحرارة. كما ينقد الأفغاني ساخرا نظرية التطور الهاوية بأن من يقطع ذنب كلب عدة قرون تتولد الكلاب بلا أذناب بعد أن تكتسب الصفات الوراثية، ولأنه لم تعد للذنب حاجة في الطبيعة فاستغنت عنه مع أن الختان موجود منذ آلاف السنين عند العبرانيين والعرب ولم يولد إنسان مختنا.
9
ويستعمل الأفغاني أسلوب الحجاج التقليدي في علم الكلام، ويتخيل المعترض ويرد عليه سلفا بطريقة فإن قيل ... قال. ولا يتعرض الأفغاني للنقد الرئيسي لنتائج نظرية التطور على الأجناس البشرية وهي العنصرية التي تجعل الإنسان الأبيض أكثر رقيا من الزنجي، وتجعل الزنجي وسطا بين الإنسان والحيوان.
وبالإضافة إلى كثرة التقسيمات والتعريفات للفرق التي تقول بنظرية التطور على طريقة الفرق الكلامية القديمة فإن الأفغاني يفرق بين رأي المتقدمين والمتأخرين من أنصار نظرية التطور؛ إذ رفض المتأخرون رأي المتقدمين نظرا لاستحالة خلو المادة من الشعور لتفسير هذا النظام المتقن والهيئات البديعة. وجعلوا للكون العلوي والسفلي علة مركبة من ثلاثة أشياء: المادة (ماتيير )، والقوة (فورس)، والعقل (إنتليجانس)، أو الإدراك بترجمة الأفغاني الحرة أو المعربة. وباجتماع هذه القوى الثلاث تتجلى الأشكال والهيئات الحية النباتية والحيوانية نظرا لما يلابسها من شعور يؤدي إلى البقاء الشخصي وحفظ النوع. ثم تظهر الأعضاء والآلات لأداء الوظائف الشخصية والنوعية بالتعامل مع الأزمنة والأمكنة وفصول السنة. ويرى الأفغاني أن هذا هو أفضل ما هو موجود في المذهب المادي، الجمع بين المادة والشعور. وهو أيضا أبعد عن العقل والمنطق وأقرب إلى الوهم. فإذا كانت المادة مكونة من أجسام أو ذرات على رأي ديموقريطس فإن هذا الرأي الجديد، الجمع بين المادة والشعور، لا ينطبق على علة تركيب الأجسام في النظام الكوني؛ إذ يلزم عن هذا الرأي، شعور المادة، أن يكون لكل جزء شعور أو قوة يتمايز به عن سائر الأجسام؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد بمحلين كما يقول قدماء المتكلمين. فلا يقوم علم واحد بجزأين أو أجزاء. وكيف يطلع كل جزء على مقاصد الأجزاء الأخرى؟ كيف يفهمها؟ وأي جماعة: جماعة، برلمان، مجلس شورى أو سنات (مجلس شيوخ) تشاور لإبداع هذه المكونات المركبة على غاية الإبداع؟ وكيف تعلم الأجزاء ضرورة تكونها في هيئة طير يأكل الحبوب أو اللحوم؟ وكيف تعلم أنها ستكون ذكرا أم أنثى، بحلمة واحدة أو بحلمات؟ وكيف تدرك حاجاتها إلى الأجزاء الأخرى؟ ولا سبيل إلى الإجابة على هذه التساؤلات إلا بإعلان العجز والحيرة والتردد والجهل، لزم إذن علم كل جزء بباقي الأجزاء العلوية والسفلية مراعاة لنظام الكون حتى لا يقع الخلل فيه نظرا لقيام العالم على ناموس واحد. وكيف يكون لكل جزء أبعاد غير متناهية ولا يدرك ولا بالمجهر؟ وإذا كان العلم مجرد ارتسام الصورة المعلومة في ذات العالم المادي، وهي صورة غير متناهية مع أن الأجسام متناهية، فإن ذلك يناقض العقل. وإذا كانت الأجزاء على درجة من العلم والقوة فلم تصاب الكائنات بالآلام والعناء للتخلص منها؟ لماذا عجز الإنسان والحيوان عن الحفاظ على حياتهما؟ ولا يجيب الأفغاني على هذه التساؤلات ولكنه ينتهي إلى أن هذا المذهب خرافة وأملته الحيرة. ولا يفسر مبدآه، الطبع والشعور، أي شيء. وهما مبدآن متناقضان؛ إذ كيف يكون شيئان مختلفين في الخواص ومتماثلين في العناصر؟ افتراض الأجزاء إذن رجم بالغيب، ولا سبيل إلا أن تكون مختلفة لتفسير اختلاف الخواص. وتؤدي هذه المذاهب كلها إلى إنكار الألوهية. أنصارها كالخلابيص، يقومون بحركات لإضحاك الناظرين، ويقدمون شيئا لا نظام له. فهم لا علم ولا إنسانية لهم، بعيدون عن مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض. ليس المقصود التشنيع عليهم بل إظهار الحق وكشف الواقع.
10
ونظرية التطور ليست جديدة. قال بها العرب، شعراء وفلاسفة وعلماء، قبل الأوروبيين مثل قول المعري.
Página desconocida