[chapter 1] مقالة جالينوس فى أنه يجب أن يكون الطبيب الفاضل فيلسوفا، ترجمة حنبن بن إسحق
بسم الله الرحمن الرحيم، إستعنت بالله تعالى.
كتاب جالينوس فى أنه يجب أن يكون الطبيب الفاضل فيلسوفا، إخراج حنين بن إسحق.
قال:
(١) إنه قد يعرض لكثير من الأطباء مثل الذى عرض لكثير من المصارعين الذين يحبون أن ينسبوا إلى الظفر فى المحافل، وهم لا يفعلون شيئا من الأشياء التى ينبغى أن يفعلوها، حتى يصلوا بها إلى ذلك. وذلك أنهم يمدحون بقراط ويقدمونه على جميع الأطباء، وهم بكل شىء أولى منهم بالتشبه به. وذلك أن بقراط يقول: إن منفعة صناعة النجوم فى صناعة الطب ليست باليسيرة. وبين أن الصناعة المتقدمة لهذه الصناعة، أعنى صناعة الهندسة، تنفع ضرورة فيها. فأما هؤلاء الأطباء، فلم يقتصروا على أنهم لم يتعاطوا شيئا من هاتين الصناعتين، حتى ذموا من سدا منهما شيئا.
Página 14
وبقراط يأمر أن نتعرف طبيعة البدن معرفة باستقصاء، ويزعم أنها ابتداء لجميع القول فى صناعة الطب. فأما هؤلاء، فقد بلغ من حرصهم على هذا، أنهم لم يقتصروا على ترك معرفة جوهر كل واحد من الأعضاء واشتباك ما اشتبك منها وخلقتها وعظمها واشتراك وضعها بعض إلى بعض، لكن قد تركوا مع ذلك معرفة مواضعها أيضا. وقد قال بقراط: إنه قد يعرض للأطباء أن يخطئوا فى أغراض العلاج من أنهم لا يفهمون تقسيم الأمراض بأنواعها وأجناسها. فأشار بهذا إلى أنه ينبغى لنا أن نتدرب فى صناعة المنطق. فأما أطباء أهل زماننا هذا فإنه بلغ من بعدهم من التدرب فيها، أنهم يثلبون من تدرب فيها كأنه يتدرب فيما لا منفعة فيه.
وكذلك قال بقراط: إنه ينبغى أن تكون لنا عناية كثيرة وفى أن نتقدم فنعلم ما الأعراض الحاضرة فى العليل وما تقدم منها وما سيحدث. فأما هؤلاء الأطباء فإنه بلغ من حرصهم على هذا الجزء أيضا من الصناعة، أنهم يسمون من يتقدم فينذر بعرق أو برعاف خداعا صاحب بدع. فكم بالحرى لا يقبل هؤلاء من غيرهم إذا تقدم فأنذر، وكم بالحرى يكون بعدهم عن تقدير الغذاء بحسب المنتهى الذى سيكون فى المرض. فإن هذه هى السبيل التى أمرنا بقراط أن نسلكها فى تقدير الغذاء. فأيش الذى بقى لهؤلاء مما يتشبهون فيه ببقراط؟ فما شبهوه ولا فى حذقه بالعبارة. وذلك أنه يعبر عبارة صحيحة مستوية، وهؤلاء يبلغ من مضادة حالهم لحاله فى هذا، أنا نرى أكثرهم يخطئون فى الإسم الواحد فى موضعين، وذلك ما لا يسهل توهمه توهما.
[chapter 2]
Página 16
(٢) فرأيت أنه من الواجب أن نطلب العلة، أى علة هى، التى بسببها على عجب جميعهم ببقراط لا يقرؤن كتبه، أو إن قرؤها لا يفهمون ما يقرؤنه، أو إن فهموه لا يتدربون فى معرفته، حتى يثبت ويتقرر علمه فى أنفسهم. وأنا أجد أن جميع الأشياء التى يحسنها الناس ويصلون إلى صواب معرفتها إنما يكون ظفرهم بها بالإرادة والقوة، وأنه من عدم أحد هذين فحسب، ذلك يقصر ضرورة عن بلوغ غرضه. فقد نرى الصريعين يبعدون من غرضهم إما لأن طبيعة أبدانهم غير متهيئة للصراع، وإما لقلة عنايتهم بالتدرب فى غرضهم. فأما من كانت طبيعته مستعدة وكان تدربه لا يذم منه شىء، فليس يمنع من أن يصير على رأسه أكثر الأكلة التى يستحقها الغالبون فى المناضلة. أفترى هؤلاء الاطباء إنما عدموا التدرب فى هذه الصناعة لبعدهم من هذين جميعا، إذ لم يكن فيهم من القوة والإرادة مقدار يعتد به، أو إنه كان فيهم أحدهما وعدموا الآخر.
والقول بأنه ليس أحد يكون فيه من قوة النفس مقدار كاف فى قبول هذه الصناعة، على ما جعلها الله عليه من الرحمة، لا أظنه قولا صحيحا، إذ كان العالم فى وقتنا هذا وفى ذلك الوقت على حال واحدة ونظام الأوقات ودور الشمس غير متغيرة، ولم يحدث فى كوكب آخر من الكواكب المتحيرة أو الثابتة حادث غيره. وجب بسبب سوء التدبير الذى يتدبر به أهل زماننا وظنهم أن الغنى أشرف من الفضيلة، ألا يوجد فيهم أحد على حذاقة فيذياس فى الصناعة، أو على حذاقة أباللوس فى التصوير، أو على حذاقة بقراط فى الطب، على أن فضل ما نستفيده فى بقائنا بعد القدماء من الصناعات التى وضعوها بتداولنا إياها زمانا كثيرا فضل ليس باليسير. وذلك أنه قد يسهل علينا أن نعلم فى سنين يسيرة ما وضعه بقراط فى زمان كثير، ونستخرج فى باقى عمرنا معرفة ما كان بقى عليه من الصناعة، إلا أنه ليس يمكن المتعلم، إذ هو وضع أن الغنى أشرف من الفضيلة وأن الصناعات لم توضع لمنفعة الناس لكن لاكتساب الأموال، أن يبلغ إلى غايتها، لأنه قد يستغنى قوم آخر كثير غيرنا من قبل أن نبلغ نحن غايتها. فليس يمكن إذا أحدا أن يتدرب فى هذه الصناعة إذ كانت بهذه الحال من العظم والشرف مع طلب الغنى، لكن قد يضطر متى مال إلى أحدهما ميلا أكثر أن يستخف بالآخر.
Página 18
فلننظر أيمكنك أن تقول إنا نجد واحدا من أهل زماننا هذا قد بلغ من قنوعه فى اكتساب الأموال، أن اقتصر على مقدار ما يجيئه منه الشىء الذى يضطر إليه فى إقامة ما يحتاج إليه لبدنه فقط، ولا يقتصر على القول بأن حد الغنى الطبيعى هو ما يبلغ الإنسان إلى أن لا يجوع ولا يعطش ولا يعرى، لكن يثبته فعلا.
[chapter 3]
Página 20
(٣) وإن وجدنا أحدا حاله هذه الحال فإنه يذهب بنفسه عن الملوك، كمثل الذى عمل بقراط، فإنه لم يجب أردشير ملك الفرس إلى أن يراه البتة. وأما بارذيقس الملك فإنه عالجه من أمراض مرضها عندما احتاج إلى صناعته، ولم يره أهلا لأن يقيم معه دهره كله. وعالج المساكين الذين كانوا فى مدينة قرانون وتاسو أو فى مدن أخر كثيرة وإن صغرت. وخلف لأهل مدينته بولوبس 〈و〉سائر تلامذته ودار هو نفسه جميع مدن اليونانيين، لأنه لما رأى أنه يجب أن يضع فى طبيعة البلدان كتابا، لكيما يمتحن ما علمه من القياس بالتجربة، احتاج لا محالة أن يعاين ما كان من المدن مائلا إلى الجنوب أو إلى الشمال والتى بحذاء المشرق والتى بإزاء المغرب، وأن يعاين ما كان منها فى واد وما كان منها فى موضع عال وما كان أهلها يستعملون المياه التى تساق إليها فى القنى أو المياه التى تنبع من أعين فيها أو مياه الأمطار أو مياه البحيرات أو مياه الأنهار، وألا يغفل ما كان أهلها يستعملون المياه الباردة جدا أو الحارة جدا أو ما يغلب عليه قوة البورق أو قوة الشب أو غير ذلك مما أشبهه، وأن يعرف المدينة المجاورة لنهر كبير أو لبحيرة أو لجبل أو لبحر، وأن يفهم سائر جميع الأشياء التى فهمناها. فليس إذا يضطر من أراد أن تكون حاله هذه الحال إلى أن يستخف بالغنى فقط، لكن ينبغى أن يكون فى غاية الحرص والإيثار للنصب على الخفض، وليس يمكن أن يكون أحد مؤثرا للنصب على الخفض إذا كان موثرا للسكر أو للشبع أو قد وهب نفسه للجماع أو يكون بالجملة عبدا لفرجه وبطنه.
Página 22
فقد وجب إذا أن الطبيب الفاضل هو المؤثر لسبل الحق والاستقامة، وينبغى له أيضا أن يكون قد تدرب فى صناعة المنطق، حتى عرف كم الأمراض كلها فى أنواعها وأجناسها وكيف ينبغى أن يستخرج من كل واحد منها الاستدلال على العلاج. وبهذه الصناعة بعينها يتعرف نفس طبيعة البدن، أعنى الطبيعة التى هى من الإسطقسات الأولى التى يمازج الكل منها الكل من تلك، والطبيعة التى من الإسطقسات الثوانى المحسوسة التى تسمى أعضاء متشابهة الأجزاء، والطبيعة الثالثة التابعة لهاتين التى هى من الأعضاء الآلية. وتعرف المنفعة أيضا التى ينالها بدن الحى من كل واحد من هذه التى ذكرنا ما هى وما فعل كل واحد منها، إذ كان هذا أيضا يحتاج فى التصديق به إلى ألا يكون بالتسليم من غير تفتيش، لكن بإقامة البرهان، والبرهان إنما يكون بصناعة المنطق: فأى شىء بقى على الطبيب مما يقضى به على أن يكون فيلسوفا، إذا كان يحتذى حذو بقراط ويتقيل فى الحذاقة طريقته؟ إذ كان يوجب على نفسه، كيما يعرف طبيعة البدن وأصناف الأمراض والاستدلال على العلاج بها، أن يرتاض فى علم المنطق، وكيما يؤثر النصب على الخفض، يصير علل التدرب فى هذه الأشياء، أن يستخف بالأموال ويلزم ظلف النفس، ما يقصر به شىء عن أن يكون قد استوعب جميع أجزاء الفلسفة، حتى يكون قد حصل له الجزء المنطقى منها والجزء الطبيعى والجزء المصلح للأخلاق. وذلك أنه لا يخاف عليه إذا هو استخف بالأموال وأخذ نفسه بظلفها أن يفعل فعلا مخالفا للعدل. وذلك لأن | الناس إنما يقدمون على جميع ما يفعلونه مما يغادر العدل باختراع إيثار الأموال وباختداع اللذة لهم.
وكذلك يجب ضرورة أن يكون معه سائر الفضائل، وذلك أنها كلها يتبع بعضها بعضا، ولا يمكن أحدا أن يستفيد فضيلة واحدة من الفضائل ولا يتبعها سائر الفضائل الباقية ضرورة، لأنها كلها كأنها منظومة فى خيط واحد. فإن كانت حاجة الأطباء إلى الفلسفة ضرورية فى تعلمهم الطب أولا، ثم فى تدربهم من بعد، فقد بان أن من كان طبيبا فهو لا محالة فيلسوف. فإنى لست أرى أنه يحتاج أحد إلى إقامة البرهان له على أن الأطباء يحتاجون إلى الفلسفة، كيما يكون استعمالهم لصناعتهم على ما ينبغى، إذ كان قد يرى عيانا مرارا كثيرة أهل الثروة من الأطباء ليس هم أطباء بالحقيقة، لكنهم خداعون يستعملون صناعة الطب لضد ما قررت له.
[chapter 4]
Página 24
(٤) أفتراك بعد هذا تنازعنى فى الأسماء وتستعمل الهذيان والمماراة فتقول: إنه ينبغى أن يكون الطبيب ضابطا لنفسه عفيفا عازبا عن الأموال عدلا، وليس يحتاج إلى أن يكون فيلسوفا. فإنه يعرف طبيعة البدن وأفعال الآلات ومنافع الأعضاء وأصناف الأمراض والاستدلال على العلاج، لكنه ليس يحتاج إلى أن يتدرب فى علم المنطق. أوتراك، إذ أسلمت الأمر فى نفس هذه الأمور، تستحى من أن تنازع فى أسماءها؟ والأجود عندى لك، وإن كنت قد تخلفت، أن تراجع الآن عقلك ولا تمارى فى الأصوات كما تمارى العقاعق والغربان، ولكن اصرف عنايتك إلى نفس الأشياء بأعيانها، حتى تعرف حقيقتها. فإنك لا تقدر أن تقول: إن الحائك الحاذق أو الإسكاف المجيد لا يكونان حاذقين إلا بتدرب من كل واحد منهما فى صناعته، ويمكن أن يصير إنسان من الناس عدلا 〈أو عفيفا〉 أو حاذقا بالبرهان أو عالما بأمر الطبيعة دفعة من غير أن يكون قد استعمل التعاليم، ومن غير أن يكون قد أخذ نفسه بالتدرب. فإذا كان هذا من قول من لا حياء معه، والقول الآخر ليس هو قول من يتكلم فى نفس الأشياء، لكن من قول من ينازع فى أسماءها، فقد ينبغى لنا أن نستعمل الفلسفة أولا، إن كنا نريد تقبل قول بقراط بالحقيقة. ونحن، إن فعلنا ذلك، لم يمنعنا مانع من أن نصير أندادا لبقراط، بل أفضل منه، إذا نحن تعلمنا منه جميع ما أثبته فى كتبه على ما ينبغى، واستخرجنا لأنفسنا نحن ما كان بقى علينا.
تمت مقالة جالينوس فى أنه يجب أن يكون الطبيب الفاضل فيلسوفا، وكتب خلف بن أبى الربيع الأندلسى لنفسه فى ربيع الآخر من سنة سبع وخمسين وأربعمائة. والحمد لله ذى القدرة التامة والنعمة العامة، وصلواته على رسوله محمد وآله الطاهرين، وسلم تسليما.
عارضتها بالأصل المنسوخ منه. والحمد لله وحده، وصلواته على رسوله محمد وآله.
Página 26