ولما كان لا بد له أن يأكل، فقد استأجر خادمته وهيبة لتطهو له الطعام وتناوله ما يحتاج إليه وتنظف له البيت. ولو أن موضوع النظافة لم يكن عنده ذا شأن. ولما كانت وهيبة تقارب الستين من عمرها وتتمتع بقبح شديد، أصبح لا بأس عليها ولا على توفيق أن تبيت معه في البيت؛ فزوجها قد مات، ولم تكن قد أتت له ببنين أو بنات، وأمست هي وحيدة لا هم لها إلا أن تسعى لرزقها وحدها، فهي راضية بعملها عند توفيق مهما يكن لحزا شحيحا.
وهكذا وجد كل من السيد والخادمة بغيته عند الآخر.
ولم يكن توفيق خبيرا في الزراعة خبرة أبيه، فهو لا يطيق خدمة الأرض. ولذلك كان تعامله مع زراع أرضه عن طريق المحصول، فهم يزرعون الأرض ويسددون استئجارهم بما تنتجه الأرض من محصول. ويتولى بيعه هو للتجار، وفلسفته في هذا أن المحصول إذا كانت كميته كبيرة إلى حد ما يكون ثمنه عند البيع أكبر.
وتفرغ هو للإقراض بالربا الفاحش لكل من طحنه الزمن واضطره أن يقترض من توفيق صبحي، وهم كثر لا يحصيهم عدد. فليس غريبا أن يصبح مالكا لأربعين فدانا بعد أن كان لا يملك إلا عشرين، فأغلب الأرض تملكها من المدينين الذين عجزوا عن السداد ومستقبلهم يتربص به السجن بتهمة خيانة الأمانة بموجب الإيصال الخبيث الذي يستكتبه توفيق للمقترضين في كل قروضه. وكان من بين هؤلاء الشيخ إسماعيل عوض، وكان رجلا يمتلك خمسة أفدنة وليس له إلا ابنة واحدة اسمها صبيحة. وقد احتاج للاقتراض ليجهز صبيحة التي خطبها ابن عمها عمران الدهشوري. وما كان بينه وبين خطيبته حب وإن كان بينهما ألفة، وكان والد صبيحة حريصا على هذه الزيجة فقد كان ابن أخيه الأثير عنده.
وحين تسلم الشيخ إسماعيل القرض بدأ في الاتفاق مع الصناع ليعدوا الشوار الذي لم يرد أن يشتريه جاهزا ليوفر الفارق في الأثمان. وكان ينوي سداد الدين من محصول القطن، ولكن موعد سداد الدين حل قبل أن يصبح القطن صالحا للجمع.
وهكذا لم يكن غريبا أن يقصد توفيق إلى بيت الشيخ إسماعيل ليتقاضى دينه، وكان مقدار الدين ثلاثمائة جنيه.
فتحت صبيحة الباب ورآها توفيق عن كثب، واقتادته إلى المضيفة واقتعد الأريكة في انتظار الشيخ إسماعيل.
وبينما هو جالس هاجمت رأسه أمور وشئون، وكان الهجوم خاطفا في لحظات وجيزة. البنت حلوة وليس يعنيني فقرها فهذا الفقر سيجعل المهر ضئيلا، ثم إنها أيضا لن تستطيع أن ترفع رأسها في وجهي، وهذا ما أريده في الزوجة، فهي إذا كانت على شيء يسير من الغنى، فستكون متكبرة مزهوة بغنى أبيها مهما كان ضئيلا.
وجاء الشيخ إسماعيل وعلى وجهه قترة: يا مرحب يا توفيق أفندي. - مرحبا بك. - القهوة يا صبيحة. - لا داعي لها. - إكرام الضيف واجب. - حتى وإن كان ضيفا ثقيلا؟ - معاذ الله أنت رجل أمير وابن حلال. - ولكن هذا لا يمنع أن مجيئي غير مرغوب فيه. - لا قدر الله. - أخذ السلفة سهل مريح، ولكن سدادها صعب ثقيل. - أنت تعرف أننا لم نجمع القطن. - وصل الأمانة لا تاريخ له، ولا شأن لي بجمع القطن. - معروف أن الفلاحين يسددون ديونهم كلها بعد جمع القطن وبيعه. - فلماذا لم تقل لي إن موعد السداد بعد بيع القطن؟ - حسبت أن هذا الأمر لا يحتاج إلى قول. - في الديون وسدادها لا بد من الاتفاق ... حتى القرآن أكد هذا المعنى. - ما دمت ذكرت القرآن هل يوافق كتاب الله على الربا؟ - إن ما أفعله ليس ربا، إنما هو ريع للمال. - علم الله أنه ربا وأنا وأنت مذنبان، وأرجو من الله الغفران فهو يعلم سبحانه مقدار حاجتي لهذا المال الذي استلفته. - على كل حال أنا لم أجئ إليك لندخل في مناقشة شرعية. - أنا متأكد من هذا، وأعرف تماما ما جئت لأجله. - المقصود ماذا أنت فاعل؟ - لا يقدر على القدرة إلا الله. - فما قولك فيمن يتنازل لك عن الدين كله، أصله وفوائده. - طبعا أنت لا تعني ما تقول. - ما قولك إذا كنت أعنيه؟ - لا بد أنك ستطلب مني مقابلا لذلك. - الله ينور عليك. - ولا بد أنه طلب كبير. - بنتك صبيحة. - ماذا؟! - اسمها صبيحة وهي فعلا صبيحة.
وبدا الرعب على وجه الشيخ إسماعيل وهو يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله. - ما لك فزعت كأنما ظهر لك عفريت من الجن؟ - ألا تعرف لماذا فزعت؟ - حسبتك ستفرح وتبتهج للحظ العظيم الذي واتى ابنتك الوحيدة. - يا رجل البنت مخطوبة. - ولكنها لم تتزوج ولا كتبت كتابها، وأظن لا تستطيع أن تقارن بيني وبين خطيبها عمران. - يا توفيق أفندي ألم تسمع أن النبي
Página desconocida