يقول: «لا أستطيع أن أمسك عن القول بأنني دهشت غاية الدهشة من قولك: إنه ما لم يعاقب الله على الجريمة ... فأي اعتبار يمكن أن يمنعني من أن أرتكب بشغف جميع ألوان الجرائم؟ يقينا أن من يمتنع عن ارتكاب الجرائم خوفا من العقاب فحسب ... لا يكون سلوكه صادرا عن المحبة على أي نحو، وسلوكه هذا يتضمن أدنى فضيلة ممكنة. أما بالنسبة لي فأنا أتجنب ارتكاب الجرائم - أو أحاول أن أتجنبها - لأن طبيعتي الخاصة تعافها صراحة، ولأنها لا بد أن تؤدي بي إلى الضلال بعيدا عن محبة الله وعن معرفته.»
55
لكن لو أن إنسانا ذا طبيعة خيرة حقق تلك الطبيعة في أعماله الخيرة، واستمتع بالسعادة الناجمة عنها، فلماذا لا بد للإنسان ذي الطبيعة الشريرة أن يعاني من أعماله، لو أن هذه الأعمال كانت لا تعبر إلا عن ماهية طبيعية فحسب؟ ولا نستطيع أن نفعل شيئا بصدد الإجابة عن هذا السؤال خيرا من اقتباس نص من المراسلات التي دارت بين «أولدنبرج»
56
واسبينوزا، الأول يسأل، والثاني يجيب إجابة مقنعة.
وهذا ما كتبه «أولدنبرج »: «لو كان مثلنا نحن الموجودات البشرية في جميع أفعالنا الأخلاقية والطبيعية - على حد سواء - بين يدي الله، مثل قطعة الصلصال بين يدي صانع الفخار، فبأي حق يمكن لأي واحد منا أن يلام لأنه سلك بهذه الطريقة أو تلك، حين يكون من المستحيل عليه استحالة مطلقة أن يسلك بطريقة أخرى؟ أليس في مقدورنا جميعا أن نرد على الله قائلين: إن قدرك المحتوم، وقوتك التي لا تقاوم قد اضطرتنا أن نسلك على هذا النحو، وجعلت من المستحيل علينا أن نفعل على نحو آخر، فلماذا إذن، وبأي حق تسلمنا إلى مثل هذه العقوبات المرعبة، التي لا نستطيع اجتنابها بأية طريقة من الطرق، إننا نرى أنك تفعل كل شيء وتوجه كل شيء وفقا لضرورة عليا تتفق مع إرادتك ومشيئتك؟ لو أنك أجبت بأن الناس لا عذر لهم أمام الله، لا لسبب آخر سوى أنهم بين يدي الله. فإني سوف أرد هذه الحجة - يقينا - وأقول: إن الناس لهم عذرهم الواضح بالضبط بسبب أنهم بين يدي الله. لأنه من اليسير على كل إنسان أن يحتج قائلا: آه! يا إلهي. إنها قوتك التي لا راد لها! ومن ثم يبدو أنني لا بد لي من أن أعذر إن لم أفعل على نحو آخر.»
57
ولقد كتب «اسبينوزا» يقول في رده على هذه الرسالة: «ما قلته من أننا ... لا عذر لنا لأن مثلنا بين يدي الله مثل قطعة الصلصال بين يدي صانع الفخار أردت أن يفهم منه أن أحدا لا يستطيع أن يلوم الله لأنه منحه بنية هشة أو عقلا ضعيفا؛ لأن مثل هذا اللوم سوف يكون عبثا
absurd ، أشبه بعبث شكوى الدائرة من أن الله لم يمنحها خصائص الكرة
sphere ، أو شكوى الطفل الذي آلمه حجر من أن الله لم يمنحه جسدا سليما من الناحية الصحية، ومن المعرفة الحقة ومن محبة الله، وأنه أعطاه طبيعة بلغت من الوهن حدا جعله لا يستطيع أن يكبح جماح رغباته أو أن يجعلها معتدلة. إذن لا شيء ينتمي لطبيعة كل موجود غير ما ينتج بالضرورة من سببه المعطى. لكنك تصر على القول بأنه لو كان الناس يخطئون بضرورة طبيعتهم، فإنهم في هذه الحالة لهم عذرهم؛ لكنك لم تفسر لي ما الذي تريد أن تستنتجه من ذلك؟ لم تفسر لي ما إذا كنت تريد أن تستنتج من ذلك أن الله لا يكون على حق في غضبه عليهم، أو ما إذا كانوا هم يستحقون الغبطة، أعني يستحقون معرفة الله ومحبته. لو كنت تقصد الأولى فسوف أسلم تماما بأن الله ليس غاضبا، وأن جميع الأشياء تسير وفقا لقراره. لكني أنكر أنه ينبغي لهم من ثم أن يكونوا سعداء؛ لأن الناس يمكن أن يكون لهم عذرهم، ويفتقرون مع ذلك إلى السعادة، بل عليهم أن يكونوا معذورين بطرق شتى. فالحصان له عذره في كونه حصانا وليس إنسانا، ومع ذلك فهو لا بد أن يكون حصانا لا إنسانا. من يصيبه مس من جنون بسبب عضة كلب هو في الواقع معذور، لكن غيره من الناس لهم الحق - مع ذلك - في خنقه.
Página desconocida