فنحن نعتقد من ناحية أننا نستطيع أحيانا أن نختار بين أن نسلك على نحو معين أو أن نسلك ضد هذا السلوك، وأننا مسئولون في الحالتين، وكذلك نعتقد أن تبعة تلك الجوانب من تاريخنا التي لم تكن في حدود اختيارنا يستحيل أن تقع على عاتقنا.
لكننا نؤمن من ناحية أخرى أن الطبيعة مطردة، وأن كل ما يحدث ناتج عن مجموعة من العلل والظروف ويمكن تفسيره بها. ونؤمن على الأخص بأن أفعالنا إنما تصدر عن طبيعتنا الموروثة بعد أن تقوم البيئة بتعديلها، لكن إذا كان كل ما يحدث يحدده سياقه الخاص، فقد يبدو إذن أن أفعالنا تتحدد بواسطة سياقها، وأن اختياراتنا يحددها سياقها أيضا، وقد يبدو - على الأخص - أنه إذا كانت أفعالنا تنشأ عن طبيعتنا الموروثة مع تعديل البيئة لها، فلسنا بمسئولين عن أفعالنا، كما أننا لسنا مسئولين عن طبيعتنا الموروثة وبيئتنا. وباختصار شديد نحن نميل إلى الاعتقاد بأن أفعالنا لا بد أن يكون لها سبب، أو لا بد أن تكون بغير سبب في وقت واحد!
لكن هل يمكن أن يكون هناك مثل هذا التفسير للفعل الحر؟ هل يجوز لنا أن نقول إنه من الممكن أن تكون للإرادة سبب وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرا؟ انظر أولا إلى المثال الآتي:
افرض أن هناك ساعة تدق آليا حين تكتمل دورتها ساعة كاملة فتخبرنا بالوقت. إننا إذا ما افترضنا في هذه الحالة أن حركات الساعة ليست محددة تحديدا سببيا، لكنها تسير بشكل عشوائي، بحيث تكون دقاتها مجرد صدفة، فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول عنها إنها تخبرنا بالوقت. إن الشرط الأساسي الذي يمكننا من القول بأنها تخبرنا بالوقت، بحيث نطمئن إلى ذلك، هو أن تكون محددة تحديدا سببيا. وإذا كنا من ناحية أخرى سوف نقول إن الساعة هي نفسها التي تخبرنا بالوقت فلا بد أن يكون التحديد السببي لحركات الساعة آتيا من عوامل بداخلها ذاتها. أما إذا كانت هذه الحركات محددة بقوى خارجية، وتتحكم فيها عوامل أخرى، فإننا لن نستطيع أن نقول عنها إنها «حرة» في أداء وظيفتها.
11
وإذا عدنا الآن إلى السؤال الذي سبق أن طرحناه: هل يمكن للفعل الحر أن يحدد تحديدا سببيا وأن يظل مع ذلك حرا؟ قلنا إن هذا الموقف هو موقف «الجبر الذاتي»، أو المذهب الثالث بين الجبرية الخالصة أو اللاجبرية الخالصة، فسلوك الإنسان كما يفسره هذا المذهب؛ محدد تحديدا سببيا بقوى نابعة من طبيعته الخاصة، قوى داخل الإنسان نفسه أو هي الإنسان نفسه، وهنا لا تكون «الحرية» و«الجبرية» ضدين، وإنما تكون الحرية البشرية نوعا من التحديد الذاتي، أو الجبر الداخلي، وهذا ما يسمى بالجبر الذاتي.
وبهذا المعنى وحده نستطيع أن نقول إن الإنسان مسئول عن أفعاله الإرادية. لأن الأفعال الإرادية ترتبط ارتباطا سببيا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تعبر عن طبيعة الفاعل، وتحقق ذاته. وهي في نفس الوقت حرة، لأنها ليست نتاجا ضروريا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه؛ فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيا بذاته في تفسير الفاعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو إنما يكون محددا بذاته أو مجبرا ذاتيا. •••
تلك هي - بإيجاز شديد - النظرية التي يعرضها علينا هذا البحث محاولا أن يثبت أن كلا من المذهب الجبري، والمذهب اللاجبري، محق فيما يؤكده، مخطئ فيما ينكره، على نحو ما سنرى في ثنايا الكتاب بالتفصيل.
غير أن أهمية هذا البحث لا تقف عند هذا الحد؛ ذلك لأنه يكشف لنا جانبا هاما كان مجهولا، من جوانب التطور الروحي عند واحد من المفكرين الممتازين في بلادنا، وكما قلت في مكان آخر:
12
Página desconocida