والمذاهب الوجودية من كيركجور حتى سارتر تتخذ من هذه المشكلة محورا لها. فالقول بأن الوجود يسبق الماهية، يعني أن الوجود هو القدرة على خلق هذه الماهية. ويهتم بالتيار الذي يمثله سارتر اهتماما خاصا بهذه المشكلة؛ إذ يرى سارتر أن الإنسان ليس حرا فحسب، لكنه الحرية ذاتها؛ فوجوده هو نفسه حرية، وهو يقاس بمقدار ما يتمتع به من حرية: «لست السيد، ولست العبد، لكني أنا الحرية التي أتمتع بها» ... هكذا يقول «أورست» بطل مسرحية «الذباب»، فحياة الفرد وشخصيته تتوقف على القرارات التي يتخذها بمحض اختياره وكامل حريته.
كما أن هذه المشكلة لا تزال لها أهمية خاصة في فلسفة التاريخ؛ إذ تقوم بعض المدارس في فلسفة التاريخ على أساس أن حرية الإرادة الفريدة التي لا يمكن تكرارها عند الفرد هي القوة المحركة للأحداث التاريخية، ومن ثم فإن جميع ظواهر التاريخ تمثل خلقا جديدا، وليس التكرار إلا عاملا ثانويا فحسب.
3
من ذلك تتضح أهمية هذه المشكلة في الفكر المعاصر، كما يتضح أيضا أن حلها لن يفيد الفلسفة وحدها، لكنه سوف يعطي دفعة قوية لكثير من العلوم. فلا شك أن حل مشكلة حرية الإرادة سوف ينعكس أثره على فهم الحرية البشرية بصفة عامة، طالما أنها تشمل - بالإضافة إلى الإرادة الفردية - مجموع العقل البشري مأخوذا بمعناه الفردي والاجتماعي في آن معا. وإذا كانت مشكلة الحرية أكثر عمومية وشمولا من مشكلة حرية الإرادة، فإن الأخيرة تمثل المركز والنواة للأولى، وإذا لم تقدم - من ناحية أخرى - إجابة شافية لمشكلة حرية الإرادة، فإن التصور العام للحرية سوف يظل ناقصا مبتورا. •••
ولعل هذا هو السبب في النزاع المحتدم بين أنصار حرية الإرادة وخصومها منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر.
4
ذلك لأن اكتشاف القوانين العلمية قد أدى أولا إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب، ونظر إلى الكون في عصر «نيوتن» على أنه آلة ضخمة أو ساعة دقيقة، يسير كل شيء فيها وفقا لقانون صارم، لكن الإنسان مع ذلك ظل خارج نطاق السببية، أو كانت الطبيعة البشرية لا تزال منعزلة عن الطبيعة بمعناها العام، أعني أنها كانت مستقلة عن الجبرية السائدة في الطبيعة. (وهو ما عبرت عنه النظرية الثنائية عند ديكارت، حين وضعت حاجزا أساسيا بين الطبيعة الفيزيائية والطبيعة البشرية). ثم جاء داروين وكشف عن العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، وهنا بدا كأن الزحف المستمر للحتمية ولسيادة مبدأ السببية قد بلغ أقصى مداه، وبدأ التساؤل عن إمكان خضوع الأفعال البشرية نفسها للقوانين الطبيعية. وتولى علم البيولوجيا تدعيم المذهب الجبري حين درس مشكلة الوراثة والبيئة وأثرهما على شخصية الإنسان، ولم يكن ثمة خلاف بين العلماء على أثر هذين العاملين، لكن الخلاف تركز حول القدر الدقيق الذي ينبغي أن ينسب إلى كل منهما، ولا يزال هذا الخلاف قائما حتى اليوم.
غير أن الدراسة البيولوجية للإنسان - شأنها شأن الدراسات العلمية الأخرى - كانت، ولا تزال، تؤيد المذهب الجبري، وتدعم التفسير الحتمي للسلوك البشري، ولا يعني ذلك أن سلوك الإنسان محدود سلفا بما ستزوده به «الجينات» «المورثات» من خصائص، لكنه حتمي، بمعنى أن ما سوف يكون عليه هو نتيجة مركب كونته هذه الوراثة الأولى مع البيئة التي يتطور فيها.
وإذا كان علم البيولوجيا قد انحاز إلى المذهب الجبري، فإن من الباحثين من اتجه إلى علم النفس، آملا أن يؤدي إلى تسوية نهائية لهذه المشكلة، بحيث تقنع أطراف النزاع جميعا. يقول «هنتر ميد» في هذا المعنى: «إن أيا من جانبي النزاع الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد . ولو حدث ذلك لكان هذا يوما سعيدا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية مستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب قدر ما أثارت هذه.»
5
Página desconocida