Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Géneros
حتى إدوارد سعيد وماكسيم رودانسون.
5
ولكننا إذ نعرض هذا التشويه الغربي للإسلام، في العصور الوسطى، على أنه أمر مؤكد من الوجهة التاريخية، ينبغي، من الناحية المنهجية، أن نضعه في إطار حقيقتين أساسيتين لا مفر من الاعتراف بهما: (1)
الحقيقة الأولى هي أن التفسير التآمري متبادل بين الطرفين؛ فالغرب في العصور الوسطى كان يرى في الإسلام «مؤامرة» على المسيحية، وأدى ذلك إلى تشويه معرفته بالإسلام، أو على الأصح إلى العجز عن التمييز بين هدف المعرفة وهدف الدفاع عن الذات. ولكن الباحثين ذوي النزعة الإسلامية يرون بدورهم أن الاستشراق ذاته مؤامرة حاكها باحثون مسيحيون أو يهود من أجل هدم العقيدة الإسلامية وزعزعة إيمان المسلمين. وهكذا فإن فكرة المؤامرة تسود وجهتي نظر الطرفين، وليس من حق أحدهما أن يدين بها الآخر وحده. وليس من الصعب أن نعلل هذا الارتياب المتبادل بين الطرفين: (أ)
فهو يزداد حدة في الأوقات التي تسود فيها النظرة الدينية إلى العالم؛ حيث يؤمن أصحاب أية عقيدة بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ومن ثم فلا بد أن يكون الآخرون مخادعين متآمرين. وعلى هذا الأساس نجد هذا التفسير يزداد ظهورا لدى أوروبا في العصور الوسطى، كما تقوى شوكته في العالم الإسلامي كلما مر بفترة من فترات «الصحوة الدينية». (ب)
كذلك فإن فكرة المؤامرة تفرض نفسها، دائما، على الجانب الأضعف، الذي يتخذ من تشويهه لموقف الجانب الأقوى وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. وهكذا سادت فكرة المؤامرة لدى أوروبا عندما كانت هي الأضعف أمام موجة الإسلام الظافرة في العصور الوسطى، وسادت لدى المسلمين المعاصرين؛ لأنهم هم الأضعف، حضاريا واقتصاديا، بالقياس إلى الموجة الغربية الطاغية. (2)
أما الحقيقة الثانية، التي تترتب مباشرة على الأولى، فهي أن تشويه الصورة متبادل أيضا بين الطرفين. فكما أن الغرب المسيحي في أوروبا الوسيطة قد قدم صورا مشوهة إلى حد بعيد عن الإسلام، فإن في استطاعة كثير من المسيحيين المتدينين أن يشيروا إلى ما يعدونه، من وجهة نظرهم الخاصة، «تشويهات» موازية في تصور المسلمين لحقائق أساسية في المسيحية: كاعتقاد كثير من المسلمين أن المسيح - في نظر أبناء عقيدته - ابن الله بالمعنى المادي، وفهم العلاقة بين مريم العذراء والألوهية فهما لا يخلو من مضمون بشري فيه مسحة من الإشارة الجنسية، والقول بأن الأناجيل الحالية محرفة وبأن هناك إنجيلا أصليا تم إخفاؤه لأن فيه تنبؤا بظهور محمد. وهكذا يستطيع كل من الطرفين أن يشير إلى ما يعتقد، من وجهة نظره الخاصة، أنه «تشويهات» لصورته في نظر الطرف الآخر.
فإذا اتضح لنا ذلك أصبح من واجبنا أن نتأمل مسألة سوء الفهم هذه من منظور أوسع من منظور نقاد الاستشراق الذين يرونه تشويها سائرا في اتجاه واحد. فلا بد أن تكون لسوء الفهم هذا أبعاد عميقة حتى يسير في الاتجاهين على هذا النحو، ولا بد أن للمسألة كلها حدودا أوسع من مجرد ضيق الأفق الغربي في نظرته إلى الشرق، سواء كان ضيق الأفق هذا ناتجا عن جهل وافتقار إلى المعلومات الصحيحة، أم ناتجا عن خوف أو كراهية أو احتقار أو رغبة في السيطرة.
الأخطاء المنهجية في النقد الديني
وإذا كان هذا المنظور الأوسع الذي ندعو إلى تأمل المشكلة كلها من خلاله، سيتضح تدريجا خلال الأجزاء المتبقية من هذا البحث، فإننا نود أن ننبه إلى مجموعة من الأخطاء المنهجية الأساسية التي يرتكبها نقاد الاستشراق من وجهة النظر الدينية، وهي أخطاء لا يشير إليها الباحثون في هذا الموضوع عادة، إما بدافع الشعور بالحرج، أو خوفا من أن توجه إليهم تهمة الدفاع عن الاستشراق. ولما كان هدفنا يتجاوز هذين الاعتبارين، فإننا سنعرض لهذه الأخطاء إيمانا منا بأن الحقيقة العلمية تتخطى نطاق الحساسيات الضيقة، والمجاملات المزيفة. (1)
Página desconocida