Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Géneros
والنتيجة الثانية:
التي تترتب على الأولى، هي أن نظرية المؤامرة والتشويه المتعمد، التي يقول بها نقاد الاستشراق من المعسكرين الديني والعلماني، كل على طريقته الخاصة، تضعف إلى حد بعيد إذا أدركنا أن الخطاب الاستشراقي موجه أساسا إلى الغرب. فالباحثون الغربيون لا يشاركون في مؤامرة تستهدف تضليل الشرق وتثبيط عزيمته وتشويه تاريخه، لأنهم ببساطة لا يخاطبونه أصلا. هذا بالطبع لا يمنع دون حدوث تشويه، ولكنه إذا حدث لا يكون مستهدفا خداع الشرق أو التآمر عليه. وعلى ذلك ففكرة المؤامرة في هذا السياق لا معنى لها، أما التشويه فلا يمكن أن يكون فادحا؛ لأن أي مجتمع سيحاول بقدر إمكانه ألا يخدع ذاته، وخاصة إذا كان يستهدف فهم مجتمع آخر من أجل السيطرة عليه.
والنتيجة الثالثة:
هي أن استخدام المستشرقين للمناهج والمقولات المنتمية إلى حضارتهم، في محاولتهم أن يفهموا الشرق، يغدو عندئذ أمرا طبيعيا، فخطابهم إذا كان عن الشرق فإنه موجه من الغرب إلى الغرب، ومن ثم فإن ما يبدو غريبا في نظرنا - أعني اتباع المنهج العقلاني أو التاريخي مثلا في تفسير ظواهر تنتمي إلى صميم الجانب العقائدي في الإسلام - يكون في نظرهم شيئا عاديا لا غرابة فيه؛ ذلك لأن الغرب يستخدم هذا المنهج العقلاني في تفسير المسيحية واليهودية بدورهما، كما أنه يتعقب أصول العقائد فيهما إلى مراحل تاريخية أسبق من ظهور العقيدتين بكثير. وبعبارة أخرى، فإن المعرفة الاستشراقية لا تستهدف النيل من الإسلام بالذات عندما تفسر الظواهر الدينية تفسيرا عقلانيا أو تاريخيا، بل إن هذا منهج سار عليه العلم الغربي منذ عهد بعيد، وأصبح تقليدا راسخا فيه، أيا كان الموضوع الذي يبحثه.
والنتيجة الرابعة:
التي ربما كانت أهم النتائج جميعا، هي أن الاستشراق نشأ عن وجود فراغ علمي لدى الشرق ذاته، فقد كان من الأفضل بالنسبة إلى الغرب أن يعرف الشرق من خلال ما يكتبه عنه أهله، لو كانت توجد كتابات كافية تتبع مناهج علمية دقيقة وتقدم معرفة متكاملة. ولكن عدم وجود هذه الكتابات، أو وجودها بصورة ناقصة، هو الذي ولد ظاهرة الاستشراق. فما الذي كان يدعو الباحثين الغربيين إلى تحمل مشقة تعلم اللغات الشرقية ومعايشة تراث الشرق وعاداته، وإلى تحمل مهمة التعريف بالشرق بدلا من أهله، لو كانوا يجدون في أعمال الشرقيين أنفسهم ما يغني عن هذا الجهد؟ إن ضعف الدراسات التي نقوم نحن بها هو في الواقع سبب أساسي لازدهار الاستشراق. ومن هنا فإني أتفق تماما مع الرأي الذي يقول إنه «في اليوم الذي يضطر فيه الغرب لترجمة دراساتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عن بلداننا، باعتبارها أفضل المراجع المتوفرة عنا، نكون قد بدأنا دق المسامير الأولى في نعش الاستشراق، ولكنه ولا شك نهار بعيد.»
3
وهكذا فإن نقاد الاستشراق لو كانوا قد طرحوا على أنفسهم هذا السؤال البسيط: لمن يوجه الخطاب الاستشراقي؟ لتوصلوا منه إلى مجموعة من النتائج الهامة التي كانت كفيلة بأن تقدم ردودا مباشرة على كثير من تساؤلاتهم وانتقاداتهم.
فإذا كان الاستشراق في أساسه خطابا عن الشرق موجها من الغرب إلى الغرب، فإن من واجبنا، في هذا التحليل النفسي الاجتماعي الذي نقدمه الآن، أن نبحث عن الأسباب التي جعلتنا، في هذا الجزء من الشرق الذي نسميه بالوطن العربي، والذي هو أيضا جزء من الحضارة الإسلامية، ننظر إليه كما لو كان خطابا موجها إلينا، وننقده بوصفه مؤامرة تحاك ضدنا، أو معرفة غير موضوعية تستهدف تحقيق مصالح الغرب في مجتمعاتنا. وسوف نحاول في النقاط التالية أن نعدد أهم هذه الأسباب، في ضوء هدفنا الحالي، وهو تحليل نقد الاستشراق نفسيا واجتماعيا. (2)
إن رفضنا للاستشراق يمكن أن يعد في جانب منه مظهرا من مظاهر العجز عن تقبل وجهة النظر الأخرى، والامتناع عن رؤية أنفسنا بعيون الآخرين. ولو كنا ناضجين بما فيه الكفاية لعملنا على الإفادة من رؤية الآخرين لنا، حتى ولو كانت غير موضوعية، بعد أن شبعنا من رؤية أنفسنا بطريقتنا الخاصة. والواقع أننا نستطيع أن نكتسب استبصارا عميقا بحياتنا وتاريخنا من خلال المقارنة بين الرؤيتين، بغض النظر عن مسألة الصواب والخطأ في كل منهما. ولكن الإصرار على رفض نظرة «العين الأخرى» إلينا، والتمسك بأن تكون هذه النظرة مطابقة لطريقتنا في النظر إلى أنفسنا - وهو ما نسميه «إنصاف» الحضارة الإسلامية - لا بد في هذه الحالة أن يبدو علامة من علامات الافتقار إلى النضج.
Página desconocida