[الاصطفاء سر الإبتلاء]
الاصطفاء سر الابتلاء
محمد قاسم الداعي
F
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وبعد:
قال تعالى: {الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}[العنكبوت: 1،2] صدق الله العظيم.
وقال الإمام كرم الله تعالى وجهه في (نهج البلاغة ص249): (أيها الناس، إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعدكم أن يبتليكم، وقد قال عز من قائل: {إن في ذلك لايات وإن كنا لمبتلين}[المؤمنون: 30].
فجعل الله الابتلاء سنة في الأولين والآخرين، وبدأ بملائكته المقربين، وذلك حين أمرهم بالسجود لآدم
، اصطفاء له قبل عمل مسبق منه، فقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم} وجعل الاصطفاء هو سر الابتلاء، وجعله سنة في الحياة، وذكر لنا قصته في كتابه العزيز، فقال تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس}[ص: 71-74] فقد فشل في هذا الامتحان؛ لأنه {أبى واستكبر وكان من الكافرين}[البقرة: 34].
Página 1
ترى ما هو سبب نجاح الملائكة في هذا الامتحان؟ وما هو سبب فشل إبليس وخروجه من حرمة الله تعالى؟ السبب واضح وهو أن الملائكة نظروا إلى من أصدر الأمر وهو الله سبحانه وتعالى، فلو أمرهم الله تعالى أن يسجدوا لذبابة لسجدوا، أما إبليس فقد نظر إلى من أمر بالسجود له وهو آدم فقال: {أأسجد لمن خلقت طينا}[الإسراء: 60] وهذه القصة معروفة، وقد ذكرها الله سبع مرات في القرآن، مع أن الحادثة لم تقع إلا مرة واحدة، فهل فكرنا في سبب تكرارها؟ إنه الاعتبار حتى لا نكون مثله، ولذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه ص 420 في خطبته المسماة القاصعة: (فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يدرى من سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة، فمن منا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته -أي يسلم من عقابه-؟ كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمة على العالمين).
Página 2
فما هي جريمته؟ وما هو ذنبه الذي صيره وجعله من الملعونين؟ هل سرق؟ أم قتل؟ أم زنى؟ أم رفض السجود لله تعالى وادعى الربوبية؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، وإنما رفض الاعتراف بالفضل لآدم
، فجعله الله من الكافرين، وهكذا ظل الابتلاء مستمرا في كل زمان ومكان، وقد أخبرنا الله بحال الأمم السابقة، وكيف أنهم أصيبوا بهذا المرض الخطير الذي هو مرض الكبر، فاستكبروا ورفضوا الاعتراف بمن فضلهم الله تعالى، حتى قال الله تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين}[سبأ: 20] وإن شئت فاقرأ سورة المؤمنين.
وجاء دور هذه الأمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله تعالى بتقديم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتراف بهم بالفضل، ووجوب اتباعهم، فقال تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}[الشورى: 23] (ووجه الاستدلال بها: أنه عز وجل جعل حبهم الذي هو لهم نفعة في الدين أجرا لسيد المرسلين، أوجبه سبحانه على كافة الخلق أجمعين، ومن ظلم الأجير أجرته فهو من الظالمين، فما حال من ظلم النبي الأمين، في وداد عترته الأكرمين؟، فهو من الهالكين بأيقن يقين) انظر المصابيح الساطعة ص 39 الجزء الأول.
Página 3
ومع ذلك كله أقول: فما بالك بهذا الأجير الذي لم يطلب الأجير إلا لمنفعة الأمة؛ لأن في مودتهم لأهل البيت المنفعة العظيمة من الله تعالى، ولذلك قال: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم}[سبأ: 47] فهو كالأجير الذي استلم أجرته من صاحبه الذي عمل عنده ثم ردها إليه وقال: اجعلها عليك وعلى أهلك وأولادك، فكان الأمر من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ب{قل} يا محمد لقومك، حتى لا يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمجاملة.
Página 4
قال الإمام علي كرم الله وجهه: (وجاء الأمر من الله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم، وإبعادا للخيلاء منهم)، فاصطفى هؤلاء دون غيرهم، وأمرنا باتباعهم، والاعتراف بفضلهم، والصلاة عليهم، فقال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا}[الأنعام: 26] لماذا هم أفضل منا؟ هذا شيء لا يكون، فقال تعالى: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[آل عمران: 73، 74] فقالوا: كيف يكونون الأفضل ونحن الأقوى، والأغنى، والأعلم؟ فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء}[النساء: 49] فليس البشر هم الذين يحكمون بالتزكية،وإنما خالقهم من خلال القرآن، فحكم سبحانه بتزكيتهم دون غيرهم فقال سبحانه وتعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}[الأحزاب: 33] فأراد سبحانه ووقع المراد؛ لأنه أسند الفعلين إليه في قوله تعالى: {ليذهب} و{ويطهركم} وهو إسناد صريح حقيقة كما في قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}[السناء: 26] فهاهو قد أراد كما في الآية السابقة بسواء، فهل وقع المراد؟
Página 5
نعم، فقد بين لنا وهدانا كما أنه أذهب عن أهل البيت الرجس، رجس الأوزار لا الأقذار، وطهرهم تطهيرا، وأمرنا بمودتهم والصلاة عليهم، فلوا كانوا غير صالحين وغير منزهين لما أمرنا بمودتهم؛ لأنه يقول: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}[المجادلة: 22].
فقلنا: كلنا آل البيت، فقال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة}[الأحزاب: 36] تسليم مطلق لله تعالى ولرسوله، فشهدت الأمة على أن أهل البيت هم الخمسة أهل الكساء ومن تناسل منهم إلى يوم القيامة، انظر كتاب (رسالتان) لابن الأمير الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني، تقديم مقبل هادي الوادعي، وهذا دليل من القوم، فهل اخترت لنفسك أن تكون ابن فلان؟ أو من آل فلان؟ وهل اخترت أنا أن أكون ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا، {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا}[الكهف: 51].
فما حكم من اعترض على هذا الاختيار وقال: لا كلنا آل البيت، ولا فضل لأحد على أحد؟ أو قال: لن نعترف لهم بالفضل، أو قال: أنا أفضل منهم.
حكمه هو نفس حكم الله على إبليس، فنعوذ بالله من ذلك.
وقد يقول قائل: إن الناس سواسية لا فرق بين سيد وغيره، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الناس سواسية كأسنان المشط)).
فنقول: إن هذا الحديث يحتاج إلى نظر؛ لأنا إن قلنا في الطول فهذا غير صحيح فهم مختلفون.
وإن قلنا في العرض فهم مختلفون أيضا.
Página 6
وإن قلنا في الطباع فهم مختلفون أيضا.
وإن قلنا في الرزق فهذا غير صحيح فهم مختلفون.
وإن قلنا في العلم فهذا غير صحيح فهم ليسوا سواء في ذلك.
وإن قلنا في التفضيل فقد جعل الله التفضيل في كل شيء حتى في المأكولات والمشروبات، والأيام والشهور، والأماكن والمعادن، والأحجار، فلم يبق إلا واحد فقط
-إن صح الحديث-، وهو في الحدود، إنهم سواسية في الحدود، وهذا ما ذكره أئمة آل البيت " وذكروا المناسبة.
قال صلى الله عليه وسلم: ((والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
إن الله سبحانه وتعالى أراد منا أن نكون عبيدا متواضعين، سامعين منقادين، فقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات: 59] ليكونوا عبيدا، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، ولم يخلقهم ليعصوه، فلم يقل: (ليعصون) أو (ليعصوني بعضهم وليعبدوني بعضهم) بل قال: {ليعبدون} جميعا بلا استثناء، ولكن حكمته جرت أن {لا إكراه في الدين}[البقرة: 256] {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[الكهف: 29] ولكن هناك حساب وعقاب، جنة أو نار، ولكي يميز الله الصالح من الفاسد، جعل هذا الاختيار، فاصطفى أناسا دون أناس، {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم}[الأنعام: 165] أي ليختبركم.
Página 7
قال الإمام علي كرم الله وجهه (ص 547): (ولكن بنعمة الله أحدث أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين -ولكل فضل- حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء، وخصه رسول الله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، أو لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله -ولكل فضل- حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين، ولولا ما نهى عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمة، تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين).
Página 8
قد يقول قائل: قضية الاصطفاء ما حصلت إلا بالعمل، وما اختار الله أهل البيت وفضلهم إلا بسبب عملهم وجهادهم، وزهدهم وورعهم وعبادتهم، فنقول له: القرآن هو الحكم بيننا جميعا، ونعم الحكم هو، فهذا القرآن يذكر لنا اصطفاء الله لآدم
قبل عمل مسبق منه، فقال تعالى: {إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71، 72] فأمر الملائكة بالسجود لآدم قبل خلقه له، وهذا عيسى
اصطفاه الله، وجعله نبيا قبل التكليف، قال تعالى: {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 29، 30] وهذا يحيى بن زكريا آتاه الله الحكم وهو لازال صبيا، قال تعالى: {يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12] وهذا يوسف
اختاره الله على إخوته، وهذا موسى جعله الله نبيا {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}[القصص: 8] وكما قال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}[آل عمران: 33، 34] فهل سلمتم لهؤلاء بالاصطفاء؟ إذا كان نعم فآل البيت هم خلاصة آل إبراهيم لحديث رسول الله الذي رواه أئمتنا " ورواه مسلم والترمذي وغيرهم وهو: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار)).
Página 9
قال الإمام علي كرم الله وجه في نهج البلاغة (ص 236): (حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، وأعز الأرومات مغرسا، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه ، وانتخب منها أمناءه، عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم وبسقت في كرم، لها فروع طوال، وثمرة لا تنال) انتهى.
وقد يقول قائل: نحن نحب آل البيت، ونعترف لهم بالفضل، ولا أحد من الأمة ينكر فضلهم، فلماذا هذه العصبية، ولماذا الكلام حول هذا الموضوع؟
فنقول له: سامحك الله، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) ثلاث مرات،وهل قول الحق يؤدي إلى العصبية؟ إن الأمة جاهلة بحق أهل البيت جهلا عجيبا، وما نراه من الاعتراف لهم بالفضل فإنما هو قول فقط وهذا لا يكفي، لأن الإسلام جاء ليؤكد أهمية الفعل مع القول فقال تعالى: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}[التوبة: 8] فليس هناك أحد يقول: أنا أبغض آل البيت، أو أنا لا أحب آل ا لبيت، ولكن الله أراد أن يكون فعلنا مطابقا لقولنا: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}[الصف: 3] وهذا القرآن خير شاهد على الأمة، أمرنا الله بقراءته والعمل بما فيه، والإسلام جاء مخاطبا للعقل، فقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}.
Página 10
فنظرنا إلى القول فإذا هو مملوء بالآيات والعبر، ولكنها لأولي الألباب، فقد ذكر الله تعالى سورة كاملة، هي سورة يوسف فقال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}[يوسف: 111] أي لأصحاب العقول، ثم قال: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه}[يوسف: 111] فقد بينت هذه السورة قضية الاصطفاء حتى بين الإخوة، وحتى بين الرسل والأنبياء، قال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}[الإسراء: 55] فما بالك بالآخرين؟ فهذا يوسف اصطفاه الله دون إخوته، فحسدوه وحصل ما حصل بسبب الاصطفاء {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث}[يوسف: 101] ولكن في الأخير اعترفوا له بالفضل، وكان هذا الاعتراف قولا {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} ثم حصل الاعتراف الفعلي وذلك حين سجدوا له {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا}[يوسف: 100] ، وبقي الاعتراف القلبي وهو ما نسميه بالاعتقاد، وهو خاص بالله تعالى، فهو يتولى السرائر، ولو لم يحصل منهم الاعتراف قولا وفعلا لما غفر لله لهم، فعندما قالوا:{تالله لقد آثرك الله علينا}[يوسف: 90] قال
: {اليوم يغفر الله لكم}[يوسف: 92]، ولو لم يعترفوا لما غفر الله لهم مهما عملوا من الأعمال.
Página 11
وهذا القرآن يذكر لنا قصة أخرى، ويذكرنا لعلنا نتذكر، ولكن سيذكر من يخشى، فهاهي سورة البقرة (آية 246) تذكرنا بقصة بني إسرائيل الذين قالوا لنبي لهم: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} فلما أخبرهم وقال لهم: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} اعترضوا وقالوا: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}[البقرة: 247] فرد عليهم نبيهم: {قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء}[البقرة: 247] فهل أنتم المالكون أم الله؟ فاعترف من اعترف، وأبى من أبى، ولكن هذا الاعتراف كان قولا وسكوتا فقط، فأمره الله تعالى بوساطة النبي أن يختبرهم بنهر فقال: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}[البقرة: 249] لماذا؟ لكي يعرف الصادق في قوله الذي رضي به ملكا،من المنافق الذي أظهر القول فقط، ثم قال: {فشربوا منه إلا قليلا}[البقرة: 249] ، وعندما شربوا اسودت شفاههم فافتضحوا بفعلهم، إلا قليلا منهم وهم الذين امتثلوا لأوامره، ورضوا به ملكا قولا وفعلا!! حيث صدق قولهم فعلهم، واتبعوا أمره وأطاعوه.
Página 12
وهكذا يذكر الله لنا القصص ليبين أن القول لا ينفع وحده، وهو دعوى بلا دليل، فلابد من العمل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان)) كما أن الله تعالى إذا ذكر الإيمان ذكر العمل فما إن يقول: {الذين آمنوا} إلا ويأتي بعدها {وعملوا الصالحات}، ولذلك أمر الله بني إسرائيل بالدخول سجدا مع القول فقال تعالى: {وادخلوا الباب سجدا} أي متواضعين {وقولوا حطة}[الأعراف: 161] أي حط عنا الذنوب ، فلم يأمرهم بالقول فقط، بل قولا وفعلا.
فماذا نستفيد من الاعتراف لآل البيت بالفضل قولا فقط، ونحن لا نرى وجوب اتباعهم؟ بل نستغرب عندما نرى أحاديثا في فضلهم مع كثرتها وتواترها، ولم نفهم إلى الآن كيف يكون التمسك بهم؟
قال الإمام عبد الله بن حمزة
: ((وورود الحوض لا يكون إلا لأتباع آل محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أشياعهم، ولايكون ذلك إلا بالاعتراف بفضلهم ومطابقتهم في قولهم واعتقادهم) انظر مقدمة تفسير المصابيح الساطعة (1/66).
إن قضية الاصطفاء أمر عظيم، لا يعرف عظمتها إلا المؤمنون الذين عرفوا معنى العبودية، وذبحوا الأنا، وتجردوا من الهوى، ولذلك يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه متبعا لما جئت به)).
إن الأمة إلى الآن لم تعرف حق آل البيت، ولا تريد أن تعرف إلا اسم أهل البيت، ولذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه (ص 400): (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن، امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة).
Página 13
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي)) ذكر ذلك الإمام القاسم بن محمد في كتابه: (الاعتصام بحبل الله ج2/ص202)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه) انتهى (مسند الإمام زيد ص 463).
كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يركب سفينة النجاة، ويتمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليأتم عليا وليأتم الهداة من ولده)) (لوامع الأنوار: 1/142).
فكما أن التوجه إلى جهة الكعبة سبب من أسباب قبول الصلاة، فكذلك حب آل البيت سبب من أسباب قبول الأعمال عند الله تعالى.
يقول الإمام علي كرم الله وجهه: (فلا يقبل توحيده إلا بالاعتراف لنبيه صلى الله عليه وسلم بنبوته، ولا يقبل دينا إلا بولاية من أمر بولايته، ولا تنتظم أسباب طاعته إلا بالتمسك بعصمه وعصم أهل ولايته). (مستدرك نهج البلاغة ص 75)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء عماد وعماد الدين حبنا آل البيت)) [انظر لوامع الأنوار: 2/617].
فوالله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا عظمة المسئولية التي حملها الله أهل البيت لرحمناهم، وبدلا من أن نحسدهم ندعو الله لهم أن يعينهم على تأدية هذه المسئولية، فهي تكليف قبل أن تكون تشريف.
قال الإمام الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
: (وإني أخاف أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين، والله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين) [انظر كتاب آداب العلماء والمتعلمين
ص 148، ط1].
فكما أن أجرهم مضاعف فكذلك عقابهم مضاعف، وذلك بسبب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
Página 14
فعلينا أن نتبع الله ورسوله ونتواضع لمن أمر الله سبحانه وتعالى بالتواضع لهم، يقول الإمام علي كرم الله وجهه (ص 414 -نهج البلاغة): (فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه، وحق رسوله وأهل بيته، مات شهيدا ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه، وإن لكل شيء مدة وأجلا) كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (من مات على حبنا أهل البيت مات شهيدا، ألا وإنه من مات على حبنا أهل البيت مات مغفورا له، ألا وإنه من مات على حبنا أهل البيت بشره ملك الموت بالجنة ثم نكير ومنكر في القبر...) إلى آخر الحديث، ذكره الزمخشري في كتاب (الكشاف) المجلد الثالث ص 467، وقال في (ص 468): (ومن يقترف حسنة) عن السدي إنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والظاهر العموم في أي حسنة، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة دل ذلك على أنها تناولت المودة تناولا أوليا كأن سائر الحسنات لها توابع) انتهى.
فعلينا أن نتبع آل محمد كما قال الإمام علي (ص240): (وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا، انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا)).
Página 15
وهذا أحد الشيعة الأخيار المعروفين بين الناس وهو إبراهيم الكينعي رحمه الله تعالى قال في (لوامع الأنوار 2/193): (قال: وكان إبراهيم الكينعي يحب أهل البيت محبة ظاهرة لا يتقدمهم في قول ولا عمل، ويقول: يهنيكم يا آل محمد الشرف العلي في الدنيا والآخرة)، كما ذكر في (ص 180): (بأنه معترف بحق أهل البيت الصغير منهم والكبير، مقدم لهم في الصلوات، وغيرها من القربات، معتقد أن ما نال الخير إلا ببركتهم). وهكذا تكون المحبة.
Página 16
إن الأمة لم تعرف حق آل البيت"؛ لأنها نظرت إليهم بنظر المادة، ولم تعرف بأن آل البيت فكر رباني قبل أن يكونوا أجسادا، فنحن نحترمهم لا لكونهم آل البيت وإنما بما يحملونه من فكر عظيم، وقد وقع إبليس في هذا الخطأ، واعتقد أن الله فضل آدم لخلقته فقال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}[الأعراف: 12] ولكن الله بين لملائكته بعد ذلك أن آدم أعلم منهم، فيا عجبا لهذه الأمة التي لا تريد أن تعترف للنور بأنه متمثل في شخص، ولكنها تعترف للظلام بأنه متمثل في إبليس وجنوده، وأنه مستمر إلى يوم القيامة مع أنه مخلوق من مخلوقات الله، فأصبح حالهم كحال أمة موسى إذ أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة، فرفضوا وبدلوا فقال الله: {ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 60] فقد أمرهم رسول الله بأخذ علمه من باب مدينته الذي تمثل في علي، ومن يقوم مقام علي من ذريته، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب)).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا بما أعان به الصالحين، وأن يرزقنا التواضع ويجعلنا من أتباع محمد وأهل بيته المطهرين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
Página 17