Islamic Doctrines by Ibn Badis
العقائد الإسلامية لابن باديس
Número de edición
الثانية
Géneros
الْعَقَائِدُ الْإِسْلاَمِيَّةِ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ
لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ " عَبْدُ الْحَمِيدَ بْنُ بَادِيسَ "
رَائِدُ النَّهْضَةِ الْحَدِيثَةِ بِالْمَغْرِبِ الْعَرَبيِ وَقَائِدُ الْحَرَكَةِ الإِصْلاَحِيَّةِ وَمُؤَسِّسُهَا بِالْجَزَائِرِ.
1 / 1
للأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس - رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر -
...
العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
...
رواية وتعليق محمد الصالح رمضان مدير التعليم الديني بوزارة الأوقاف (سابقا).
...
الناشر: مكتبة الشركة الجزائرية مرازقه بوداود وشركاؤهما:٢٤ باب عزون-الجزائر-الهاتف ٥٦ - ٧٦ - ٦٢
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
...
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
...
صدق الله العظيم
1 / 4
مقدمة الطبعة الثانية
***************
الكتابة عن إمامنا المبرور العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس ليست بالأمر الهين الميسور على كل كاتب، لاعتقادي أنه لا يكتب عن العظيم إلا العظيم.
ورغم طول المدة على وفاته، ومع سطوع شمس الحرية على بلادنا لم يكتب أحد عنه، ليجلى للناس عظمته، وبعض أفضاله على النهضة المغربية بصفة عامة، وعلى الأمة الجزائرية بصفة خاصة.
وسمعنا أن العلامة البشير الإبراهيمي عزم على الكتابة عنه، وتهيأ لذلك، ولكن يبدو أن مشاغل وعوائق حالت دون أن يكتب بقلمه البليغ، مما رأى وسمع وشاهد، وما راء كمن سمعا، حتى لحق هو الآخر بربه رحمهما الله رحمة واسعة.
ويتعذر على الكاتب العادي أن يلم ببعض جوانب العظمة في هذا العبقري المخلص، وحسبه أن يشير إلى تلك الآفاق السامقة مجرد إشارة، كالشعاع الذي يشق الحجب منبثقا من الشمس فيهدي كما تهدي، ويدل عليها وإن كان بعضا منها.
عرفت الإمام في حداثة سني، حين عزفت عن التعليم الابتدائي
1 / 5
الفرنسي، لأعيش في رحابة ديني ولغتي، اللذين لم أكن أعرف عنهما إلا القليل النادر. وبمعرفتي به صححت وضعا أكرهت عليه، حين كنت لا أدري عن تلوين مستقبلي شيئا .. عرفته .. فعرفت أمة في رجل واستشعرت بعدئذ المعنى العميق لقول الشاعر:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
واستمر بي المقام في رحاب الشيخ خمس سنوات، وهي مدة ليست بالطويلة في عمر الزمان، ولكنها- والحمد لله- أثرت، وأثمرت بعدما أينعت فيما أظن، إذ استدعاني الإمام بعد ثلاث سنوات فقط من التلمذة عليه لأعاونه، في التدريس لطلابه بقسنطينة مع معاونيه، ثم عينني معلما في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، ومع ذلك لم أنقطع عن دروسه، وخاصة درس التفسير، حتى لقي ربه في ١٦/ ٤/١٩٤٠م ﵁ وأرضاه.
وقد وعيت عن إمامنا ما شاء الله أن أعي، وقبست منه ماكان يكفي لهدايتي، لولا أن طالب العلم كطالب المال لا يشبعه شيء.
وعشت بهذه الذكريات الطيبة، وعلى هذا العهد السماوي في مدارس جمعية العلماء المسلمين، مدرسا، ومديرا، ومفتشا، وقتا ليس بالقصير.
ومما وعيته عنه هذه الإملاءات في التوحيد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي لم يفتني منها شيء والحمد لله.
1 / 6
ومن فضل الله أنها لم تذهب في أيام الإرهاق والتضييق والعسف، والنسف، كما ضاع كثير غيرها فآلمنا فقده، ولكن لا يرجع الأسف ما ضاع!
وكأن صوت إمامنا ما يزال يرن في أذني حين إملاء هذه الدروس بالجامع الأخضر، وقد حذا فيها الإمام حذو السلفية الرشيدة من اعتماد كتاب الله، والصحيح من سنة رسول الله ﷺ، قبل تفسيرات المذاهب المختلفة وتأويلات أصحابها في مرحلة الاختلاط، والاستشهاد بما عند الأقدمين من أصحاب الأديان والفلسفات والمذاهب الأخرى. ومن المحقق أن بعض هذه الآراء كما كان لها فضل التجلية، ودقة الاستشهاد .. كان لها أيضا أثرها الضار في التعمية، أو البعد عن جادة الصواب أحيانا، مما أثار البلبلة والحيرة، وتشعب الآراء وانبهام الحقيقة أمام الدارس ..
وكان ذلك مما دعا المصلحين إلى ضرورة العودة إلى إصلاح العقائد الإسلامية، وشرح المصطلحات، وحل القضايا على نمط سلفي واضح، بصريح نص الكتاب والسنة الصحيحة، لا برأي الجبرية والقدرية وغير ذلك من الآراء الفلسفية ..
فخير طريقة في تعليم العقائد في التوحيد هي طريقة الشارع الحكيم المبنية على مراعاة الفطرة الإنسانية السليمة، البعيدة عن
1 / 7
الأوضاع والتقنينات البشرية التي تعب الأوائل في وضعها فتعبوا وأتعبوا الناس في فهمها.
ولعل أول الصيحات التي ارتفعت بقوة في هذا الصدد .. صيحات المصلحين العظيمين: السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، في دعوتهما وكتابتهما، وتدريسهما، وعلى هذا النحو جاء كتابا: الرد على الدهريين، ورسالة التوحيد.
وعلى هذا السنن- وبطريقة أوضح وأبسط- سار الإمام ابن باديس الذي وضع هذه العقائد على أسس من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، فكانت تحقيقا ودفعا قويا لتحقيق أماني الإمامين الأفغاني وعبده.
ولو تفرغ ابن باديس للتأليف لجاءنا منه الشئ الكثير، خاصة وقد انقطع للتدريس ربع قرن وأكثر، وأتم تفسير كلام الله، وشرح حديث رسول الله في نيف وعشرين سنة بنفس الطريقة.
ولكنه كان جم المشاغل والأعباء: إذ حمل عبء إيقاظ أمة، وإنهاض سنة، وإماتة بدعة، ومحاربة جهل مطبق، ومناوأة مغير قوي ضار غشوم.
فإذا قيست مؤلفات الإمام ابن باديس بالنسبة إلى عقله الكبير، وعلمه الغزير، وجهاده الخطير، وسعة الآفاق التي حلق فيها وجال
1 / 8
وصال في الميادين الثقافية والإجتماعية، بلسانه وقلمه .. لعدت شيئا قليلا ..
ولكن حسبه -كما ذكرنا- أنه عاش يؤلف النفوس، ويشيد العقول، ويبني الرجال كالجبال، كما قال عنه العلامة الإبراهيمي، ويهيء للنهضة أرشد وأقوم دعائمها في وقت كان ظلامه المطبق، وإرهاقه المحدق على الجزائر ليس له مثيل حتى ولا في الأساطير.
وما دفعني- علم ربي- إلى نشر هذه الآثار، نفع مادي أو اشتهار، أو رياء وافتخار، فتلك والله- بعقد الهاء- أبعد ما تكون عن طبعي وطبيعتي، يعرفها من يعرفني، وينكرها من يتعلق بها أو يجهلني، وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، كما يقول شاعرنا المتني.
وإنما دفعني إلى كتابتها ونشرها:
وجه الله تعالى والانتفاع بها.
واستجابة لرغبة العلامة البشير الإبراهيمي ﵀ الذي دفعني إليه، وتهلل وجهه حينما شرعت فيه، ثم كتب مشكورا تقديما له.
ووفاء للإمام ابن باديس وإحياء ذكراه ببعض آثاره.
1 / 9
وعملا بهذا المبدأ الإسلامي العظيم: " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ".
والله أسأل؛ أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة له، وأن يوفقنا للعمل لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
محمد الصالح رمضان
الجزائر في غرة شوال ١٣٨٥ هـ جانفي ١٩٦٦م
1 / 10
مقدمة الطبعة الأولى (١)
***************
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد أتشرف بتقديم هذا الأثر من آثار أستاذنا الجليل العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى هذا الجيل من نشئنا الصاعد ليستمد منه النور والهداية التي لا بد منها لكل مسلم ناشىء ليركز عليها إيمانه حتى تستقيم أخلاقه ويقوّم تفكيره ليثبت أمام زلازل الدهر وتقلبات الزمان. فإذا ضمنا له قوة الإيمان وسلامته ضمنا له كل شيء في الحياة.
وأنا واثق من أن هذه الطريقة السلفية التي سار عليها أستاذنا الإمام في عرض العقيدة الاسلامية هي الطريقة المثلى لأنها تتماشى والفطرة البشرية التي جاء بها القرآن لهداية الناس فكانت من جملة أسرار تأثيره في النفوس التي فهمته وتأثرت به من أول وهلة، وانطلقت من جزيرة العرب، تاركة الأهل والعشيرة والوطن لتبشر برسالة الله وتنشرها في الخافقين مستهينة بكل شيء مستعذبة الموت في سبيلها، فكان النصر حليفها، واندهش العالم للفئة القليلة تقهر الفئات الكثيرة باذن الله،
_________
(١) لم تظهر في الطبعة الاولى لظروف خاصة.
1 / 11
ولم تستطع أن تقف أمامها قوة في الوجود، كما بهت العالم من دخول الناس أفواجا في هذا الدين الحنيف بعد انتهاء جولات الفتح الأول.
هذا بالنسبة للعهود الأولى، أما في عهدنا هذا فلعل من آثار بذور الإيمان الصحيح التي بثها مصلحنا الأكبر الشيخ ابن باديس في أمته وكرس لها حياته، ونشرها أخوانه وتلاميذه من بعده، نجاح الشعب الجزائري- الذي يدين له بأكبر الفضل- في حربه التحريرية ضد قوى البغي والعدوان الماثلة في الإستعمار الفرنسي ومن ورائه التحالف الغربي بجميع معداته وأجهزته الجهنمية في الحلف الأطلسي الذي يعتبر أكبر تحالف عسكري عرفه التاريخ.
وهكذا صمد الشعب الجزائري الفتي الأبي المؤمن بربه وبحقه في وطنه، وتحدى العالم الظالم متدرعا بسلاح الإيمان الذي لا يُعلُّ والصبر الذي لا يهون فضرب أروع الأمثلة في البطولة والفداء التي لا نعرفها إلا في الأساطير أو في حواربِّي الأنبياء والمرسلين، فهذه معجزة أخرى من معجزات الإيمان تجلت للعالم على أيدي هذا الشعب الفتي البطل الذي قدم من القرابين على مذبح الحرية مليونًا ونصفًا من الشهداء.
***
1 / 12
تلقيت هذه الدروس املاءً عن أستاذنا الإمام مباشرة في حلق دراسية مسجدية بالجامع الأخضر بقسنطينة في الفترة ما بين ١٦ رجب ١٣٥٣ و٢٥ صفر ١٣٥٤ هجرية (الموافقة لأكتوبر ٣٤ وماي ٣٥ من السنة الميلادية) أي في ثمانية أشهر بنسبة حصة واحدة في الأسبوع لا تتجاوز الثلاثين دقيقة وسط جمع من الطلاب يقارب أحيانا المئة فى أول عهدي بالدراسة العربية الإسلامية.
ولما احتجنا إلى هذه الدروس للتعليم الديني بوزارة الأوقاف لنقدمها إلى تلاميذ معاهدنا الإسلامية في فاتح السنة الدراسية (٦٣ - ٦٤) عكفت على تبيضها والتعليق عليها بما لا يتنافى والروح السائدة فيها وأنهيت هذا العمل ليلة الإثنين ثاني رجب ١٣٨٣ الموافقة لليلة ١٨/ ١١/١٩٦٣م.
وحفظا لأمانة النقل ومراعاة لحق الغائب رأيت من واجبي أن ألفت الأنظار إلى أني حافظت على الأصل في تبويبه وترتيبه وعناوينه كما أملاه صاحبه في الفترة المذكورة وما أضفت إليه سوى ترقيم أوائل الدروس والمواضيع، أما الأحاديث فقد خرجها صاحبها إلا القليل النادر فقد خرجته داخل المتن أو خارجه، وزدت على العناوين الأصلية والفرعية عناوين إضافية وضعتها في الهامش، أما التعاليق
1 / 13
والحواشي التي رأيت أنها ضرورية متممة للأصل فقد جعلتها أسفل الصفحات مفصولا بينها وبين المتن بخط أفقي وأستطيع أن أؤكد بأنها لم تخرج في مجموعها وتفصيلها عن روح ابن باديس ﵀ وأرضاه.
والله أسأل أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح وأن ينفع بهذه الدروس كما نفع بصاحبها، وأن يعيننا على نشر آثار أخرى من تراثنا الخالد بمنه وقوته.
الجزائز يوم الاثنين ٢/رجب/١٣٨٣ هـ
الوافق لـ١٨/ ١١/١٩٦٣م
الراجي عفو ربه
محمد الصالح رمضان
1 / 14
تقديم بقلم فضيلة العلامة المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
شيخ علماء الجزائر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وعضو المجمع اللغوي بالقاهرة، والمجمع العلمي بدمشق.
*****************************************************************************************
الحمد لله حق حمده. وصلى الله على سيدنا محمد رسوله وعبده، وعلى آله وأصحابه الجارين على سنته من بعده.
هذه عدة دروس دينية، مما كان يلقيه أخونا الإمام المبرور الشيخ عبد الحميد بن باديس- إمام النهضة الدينية والعربية والسياسية في الجزائر غير مدافع- على تلامذته في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن، على الطريقة السلفية التي اتخذتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منهاجا لها بعد ذلك، وبنت عليها جميع مبادئها ومناهجها في الإصلاح الديني، مسترشدة بتلك الأصول التي كان الإمام ﵀ يأخذ بها تلامذته قبل تأسيس الجمعية، وإن كانت الجمعية قد توسعت في ذلك.
فالفكرة التي بنى عليها الإمام دروسه وأماليه .. كانت تصحبها فكرة أخرى أشمل منها وهي فكرة جمعية العلماء. فالفكرتان كانتا
1 / 15
مختزنتين في تلك النفس الكبيرة. وكان ﵀ يديرهما بذلك النظر البعيد، ويهيء لهما من الوسائل ما يبرزهما في الحين المقدر لهما.
وكان يمهد في نفوس تلامذته والمستمعين لدروسه، ليكونوا في يوم ما قادتها وأعوانها، وحاملي ألويتها ومنفذي مبادئها، وناشري الطريقة السلفية الشاملة في العلم والعمل وسائر فروع الإصلاح الديني.
كان الإمام المبرور يصرف تلامذته من جميع الطبقات على تلك الطريقة السلفية.
ومعلوم أن الإصلاح الإسلامي الذي قامت به جمعية العلماء بعد ذلك لا تقوم أصوله إلا على ذلك، وأن هذا الإمام رفع قواعده وثبت أصوله وهيأ له جيشا من تلامذته وحاضري دروسه.
والإمام ﵁ كانت منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك - وهو في مقتبل الشباب - ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشائخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلما، وقد بلغه الله أمنيته: فأخرج للأمة الجزائرية أجيالا على هذه الطريقة السلفية قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيال أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية.
وقد تربت هذه الأجيال على هداية القرآن؛ فهجرت ضلال العقائد
1 / 16
وبدع العبادات؛ فطهرت نفوسها من بقايا الجاهلية التي هي من آثار الطرائق القديمة في التعليم، وقضت الطريقة القرآنية على العادات والتقاليد المستحكمة في النفوس، وأتت على سلطانها.
وقد راجت هذه الطريقة وشاعت حتى بين العوام، وإن كانوا لا يحسنون الاستدلال بالقرآن، وإن كان الاستعداد الكامن في الأمة للإصلاح الديني، وكثرة حفاظ القرآن فيها أعانا على تثبيت هذا الميل القرآني فيها: فأصبح العامي لا يقبل من العالم كلاما في الدين إلا إذا استدل عليه بآية قرآنية، وأصبح العامي إذا سمع الاستدلال بالقرآن أو الحديث .. اهتز وشاعت في شمائله علامة الاقتناع والقبول! وهذه أمارة دالة على عودة سلطان القرآن على النفوس يرجى منها كل خير!
ختم الإمام ابن باديس القرآن كله درسا على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة، ولو أنه رزق تلامذة حراصا على تلقف كل ما كان يقوله وينزل عليه الآيات من المعاني .. لوصل إلى الأمة كثير.
كما وصلت هذه الأمالي بعناية الأستاذ الموفق محمد الصالح رمضان القنطري، فإنه تلقى هذه الدروس ونقلها من إلقاء الإمام واستأذنه في التعليق عليها ونشرها للانتفاع بها، فجزاه الله خير الجزاء.
1 / 17
لم ينقل لنا تاريخ العلماء بهذا الوطن أن عالما ختم تفسير القرآن كله درسا إلا ما جاء فيه عن الشريف التلمساني، أنه ختم تفسير القرآن كله في المائة التاسعة، والشريف حقيق بذلك، ولكن لم ينقل لنا منه شيء، لأن تلامذته كانوا في التقصير كتلامذة ابن باديس. ولو كانوا على درجة من الحرص والاحتياط .. لوصل إلينا شيء من ذلك.
وقدكتب الإمام ابن باديس بقلمه البليغ مجالس التذكير، وهي تفسير لآيات ولأحاديث جامعة كانت تعرض له في تفسير القرآن أو في شرح الموطأ التي أقرأها درسا حتى النهاية، ونشر ذلك كله في مجلة الشهاب، ثم فسر سورتي المعوذتين يوم الختم تفسيرا عجيبا! ونقلها من إلقائه كاتب هذه السطور نقلا مستوعبا بحيث لم تفلت منه كلمة ونشره في عدد خاص من مجلة الشهاب، وقدم له كاتب هذه السطور أيضا (١).
وهذا درس من دروسه ينشره اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة تلميذه الصالح كإسمه محمد الصالح رمضان: فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي، موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقد
_________
(١) جمعت التفسير في مجلد باسم " تفسير ابن باديس" في أكثر من خمسمائة صفحة.
1 / 18
في ربه بآية من كلام ربه، لا بقول السنوسي في عقيدته الصغرى: أما برهان وجوده تعالى فحدوث العالم!
كان علماء السلف يرجعون في كل شأن من شؤون الدين إلى القرآن، بل كان خلقهم القرآن كما كان النبي ﷺ، وكما ثبت في حديث عائشة ﵂:" كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه ". وكانوا يحكمون القرآن في كل شيء، حتى في الخطرات العارضة، والسرائر الخفية، حتى تمكن سلطانه من نفوسهم وأصبحت لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره ونهيه. وأصبحوا يقودون حتى الخلفاء والأمراء بذلك السلطان. وذلك هو السر في علوّ كلمة الاسلام وسرعة انتشاره في المشارق والمغارب.
فلما تفرقت المذاهب الفقهية ونشأ علم الكلام، وتفرقت منازعه بين الأشاعرة والمعتزلة، وطما علم الجدل، وتفرق المسلمون شيعا حتى أصبح كل رأي في علم الكلام أو الفقه يتحزب له جماعة، فيصبح مذهبا فقهيا أو كلاميا يلتف حوله جماعة ويجادلون. فضعف سلطان القرآن على النفوس، وأصبح العلماء لا يلتزمون في الاستدلال بآياته ولا ينتزعون الأحكام منها إلا قليلا: فعلماء الكلام صاروا يستدلون بالعقل، والفقهاء أصبحوا يستدلون بكلام أئمتهم أو قدماء أتباعهم!
ومن هنا نشأ علم الكلام، وعلم الفقه.
1 / 19
وعلى هذه الطريقة أُلّفت المؤلفات التي لا تحصى في العلمين وانتشرت في الأمة وطارت كل مطار.
أما أئمة الفقه ومؤلفاتهم فلا يحصون كثرة.
وأما أئمة الكلام: فالذي توسع في الطريقة العقلية ووسع دائرتها فهم جماعة معروفون كفخر الدين الرازي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبى بكر الباقلاني، والبيضاوي، وإمام الحرمين، وسعد الدين التفتزاني، والقاضي عضد الدين الإيجي، وهؤلاء هم الذين ثبتوا القواعد الكلامية والاستدلال على التوحيد بالعقل. ومؤلفاتهم ما زالت إلى يومنا هذا مرجعا للمتمسكين بهذه الطريقة، وإن كانت لا تدرس في المدارس إلا قليلا، وكلها جارية على الأصول التي أصلها أبو الحسن الأشعري ﵁، وآراؤه هي التي يقلدها جمهرة المسلمين اليوم، وهذا كله في الشرق الإسلامي.
وأما مغربنا هذا مع الأندلس فلم يتسع فيه علم الكلام إلى هذا الحد وإن كانوا يدرسونه على هذه الطريقة ويقلدونه، ويدينون باتباع رأي الأشعري ولم يؤلفوا فيه كتابا ذا بال إلا الإمام محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، فإنه ألف فيه على طريقة المشارقة عدة كتب شاعت وانتشرت في الشرق والغرب، وقررت في أكبر المعاهد الاسلامية كالأزهر.
1 / 20
حتى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه- ومنها هذه الدروس- وأكملتها جمعية العلماء.
فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى هي الاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونفي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سولت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسول له مخالفة القرآن.
وقد سلك علماء جمعية العلماء في دروسهم الدينية كلها، وخطبهم الجمعية طريقة الإمام ابن باديس فرجع لسلطان القرآن على النفوس.
فجزى الله أخانا ابن باديس عن الإسلام خير الجزاء، فإن من أحيا القرآن فقد أحيا الدين كله. وجزى الله إخوانه الذين اتبعوا طريقته توفيقا للعمل يساوي توفيقهم في العلم، وجزي الله تلامذته الذين قاموا بحمل الأمانة من بعده.
وهذه دروس من دروسه ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة الأستاذ محمد الصالح رمضان، أحد طلابه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي موحد لربه
1 / 21