El Islam y la civilización humana
الإسلام والحضارة الإنسانية
Géneros
فكتب الأستاذ لاندو يرد على ذلك السائح بما وعاه من مشاهداته الكثيرة، ومنها أحاديث المتعلمين في وليمة بمدينة مراكش حضرها وذكر أن الحديث على المائدة أوشك أن يدور على موضوع واحد وهو موضوع التصرف، ثم قال:
شجعني موضوع هذا الحديث على إثارة السؤال عن حالة الإسلام في مراكش المستقلة، فبعثت كلماتي حماسة عظيمة وكاد الحاضرون أن ينطقوا بالكلام معا دفعة واحدة. ثم تكلم الحاكم نفسه - وهو أوفرهم نصيبا من التربية الأوروبية - فأفضى بما يعتبر الرأي الفصل المتفق عليه بين الحاضرين، وفحواه أن السائح الأجنبي يستحيل عليه أن ينفذ إلى حقيقة الحياة الدينية الإسلامية. فإن الشاب المراكشي قد يشرب ويطلق لسانه بالحديث في مظاهر المعيشة الأوروبية، ولكنه إنما يفعل ذلك حبا للظهور أو لاختيار نوع غريب من المعيشة، وقد يتخلف عن الذهاب إلى المساجد، ولكنه يؤدي الصلوات في مواقيتها ويدين بالمهم الأساسي من الفرائض الدينية، وإذا احتاج إلى الهداية الروحية في أزمات ضميره فإنما يتجه بطلب هذه الهداية إلى القرآن. ولا تزال علاقاته بأبويه وبأهله وبما يؤمن به من فضيلة أو رذيلة هي تلك العلاقات التي يستوحيها من الآداب الإسلامية. وربما خطر له أن يوقع في روع صاحبه الأوروبي أنه رجل (متقدم) يتخلى عن القديم ليأخذ بالجديد، ولكنه ضرب من الدفاع عن الذات أمام الغريب؛ إذ هو على يقين أن هذا الغريب يجهل حقيقة الإسلام ويعتبره في عرفه مرادفا للرجعية. على أن الغرباء الأجانب إنما يسمعون هذه الأحاديث من فئة قليلة بين الذين يقال عنهم إنهم فكريون
Intellectuals
ويجوز أن يكون بعضهم قد تحول عن ديانته ليدين بالمذاهب الهدامة. إلا أن هؤلاء الفكريين المزعومين لا يمثلون أحدا في الأمة المراكشية في حياتنا اليومية ...
وقد سرد الأستاذ لاندو في الكتاب أحاديث شتى سمعها من الشبان والشابات، وروى جملة من المشاهدات التي مر بها اتفاقا من العواصم وقرى الريف، ومن أعجبها عنده أنه كان يتحدث إلى فتاة متعلمة تحسن الكلام بالفرنسية كإحدى الفرنسيات، وكانت تشترك في أحاديث المجلس وهي مقنعة بقناعها التقليدي، فسألها: كيف توفقين بين عادة البرقع وهذه الآراء العصرية التي تجهرين بها؟ فكان جوابها أن الإنسان لا يعتقد ما يعتقده بملابسه وأنها تستطيع أن ترفع القناع، ولكنها لا تحب أن تؤلم أباها وأمها بعمل لا يستريحان إليه. وحكى أنه يركب أحيانا إلى منازه المدن فيرى الفتى الناشئ ينزل عن مطيته في موعد صلاة المغرب ينتحي جانبا ويؤدي صلاته قبل مواصلة السفر إلى وجهته. وحكى عن طائفة الاتباع والخدم الذين عرفهم في بيته أو في بيوت أصحابه أنهم يعاشرون الأجانب زمنا، ولكنهم يقومون بفرائضهم ولا يشربون الخمر أو يأكلون المحرمات.
ولم يستطع الرجل أن يحكم على الذين حادثهم واختبر شئونهم من أبناء البلاد بحكم واحد يشملهم جميعا، ولكنه استطاع أن يقول: إن الأوروبيين المتعجلين يخطئون الظن خطأ بعيدا إذا اعتزوا بظواهر الفرنج وحسبوها علامة على المروق من العقيدة، فإن الظواهر خداعة في مسائل الدين التي تنطوي عليها الضمائر خلال عصور المحنة، وليست هي بالعلامة الصادقة على الشعور الخفي الذي لا يدركه صاحبه أحيانا، فضلا عن الغرباء من أبناء وطنه أو أبناء الأوطان الأجنبية.
فربما شوهدت الغيرة على الإسلام بين أناس يهملون الشعائر ويخالفون الفرائض ولا يحرصون على التقاليد، وربما كانت الغيرة الوطنية التي تحتدم في نفوس الكثيرين من الساسة المتطرفين قبسا من غيرة المسلم على حماه وعلى تاريخه القديم، ولا يجوز أن يفهم الأوروبي أن المسلم يتخلى عن نسبته إلى الإسلام إذا لاح عليه أنه قد تخلى عن بعض الشعائر والتقاليد.
والذي نحب أن نزيده على تعليقات الأستاذ لاندو أن أمثال هذه الظنون التي تخامر بعض الكتاب عن الإسلام قد سلفت في الأزمنة الخالية غير مرة منذ أوائل الدولة الأموية إلى هذه الأعوام الأخيرة، وقد خفيت على مؤرخي القرون الخالية دلالتها العارضة ودلالتها الدائمة، فخطر لهم في كل مرة أنها نذير بزوال الدين أو عرض من أعراض النهاية التي يقدرونها لكل عقيدة كما يقدرونها لكل حضارة أو لكل نظام من نظم الاجتماع، ولو أن المتأخرين استفادوا من عبر الماضي لاجتنبوا الخطأ في رأي واحد بين سائر الآراء، وهو خطأ الظن بأنها «الشيخوخة» قد عرضت للدين نفسه وآذنت بانتهاء حياة الإسلام إلى ما تنتهي إليه كل حياة. فإن العرض الواحد لا يكون من أعراض الشيخوخة عشر مرات.
حدث في أواخر أيام الخلفاء الراشدين أن المسلمين الذين انتقلوا إلى البلاد المفتوحة فتنوا بمحنة الحضارات المنحلة، وقارفوا بعض منكراتها، وهجروا بعض عاداتهم، فخيل إلى أعدائهم كما خيل إلى بعض الغلاة منهم أنها نذر الضياع على قول فريق، ونذر القيامة على قول آخرين، وجاء «رد الفعل» كما نقول في اصطلاح هذه الأيام غلوا من الخوارج في التشديد وإمعانا من الأعداء في الدس الخفي أو في العدوان الظاهر، ثم انقضت الدولة كلها - وهي أول دولة إسلامية - وقامت بعدها دولة العباسيين على أساس من الغيرة للدين والنخوة لبيت النبوة، وتكررت هذه الظاهرة على مثال أخطر وأكبر في إبان دولة العباسيين، فإن احتكاك العالم الإسلامي من جميع الأجناس بدعا كهذه البدع التي يذكرها السائحون المعاصرون، ويرد عليهم الأستاذ لاندو بما أجملناه. كان الرجل منهم يتظرف بالزندقة ليقال عنه إنه من التقدميين على اصطلاحنا في هذه السنين، وكان الفكريون المزعومون يلقى بعضهم بعضا بالسؤال عما يعتقده مذهبا له كأنما كانت عقائد المذاهب ضربة لازب مع العقيدة الإسلامية العامة كما قال ميسرة بن حسان السمري يسأل ابن أبي الشيخ:
دخلتنا الشكوك يا ابن أبي شي
Página desconocida