El Islam y la civilización árabe
الإسلام والحضارة العربية
Géneros
17
وإذا كان الشعوبيون يشكون متعنتين في هذه الأخبار الصحيحة من مسامحة المسلمين في معظم أدوار عزهم، مع أنه لم يعهد لأمة فيما نحسب أن دونت أيام سعادتها ما لها وما عليها، بمثل هذا التدقيق الذي اشتهر به علماء العرب، فما قولهم فيما كتبه عالم معاصر
18
من جامعة الجزائر؟ قال: «لقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية من فضيلة المسامحة لم تكن تتوقع من أناس يحملون دينا جديدا ... وما فكر العربي قط في أشد أدوار تحمسه لدينه الجديد، أن يطفئ بالدماء دينا منافسا لدينه، وقد جاءنا العالم ميز في باب التسامح الإسلامي بتفاصيل أشد غرابة من هذه قال: إن من أعظم بواعث الاستغراب كثرة عدد غير المسلمين من رجال الأمر في الدول الإسلامية، وقد شوهد المسلم في بلاده يحكم عليه النصارى، وحدث مرتين في القرن الثالث للهجرة، أن كان من النصارى وزراء حرب، وكان على القواد حماة الدين أن يقبلوا أيدي الوزير، وينفذوا أمره، هذا والدواوين غاصة بالكتاب من النصارى.»
هكذا عامل المسلمون أهل ذمتهم وهكذا عاملهم الخلفاء من الراشدين والأمويين والعباسيين، بل الخلفاء والأمراء في كل أرض انتصب عليها علم التوحيد، وكان الخلفاء بل من اشتهر منهم بتعصبه الديني يبوحون لأبناء الذمة بأسرارهم، ويطلعونهم على خويصة أنفسهم، ويوسدون إليهم مهمات أمورهم، ويأتمنونهم على حرمهم وأرواحهم، ويرفعون منازلهم، ويغدقون
19
عليهم إحسانهم، وهل عهدت مثل هذه المسامحة في بعض ممالك الغرب إلا بعد حروب طويلة وثورات مستديمة، ومجازر بشرية فظيعة؟ وذلك في العصر الأخير فقط.
لما أراد المأمون تدوين العلوم في بغداد استدعى ثلاثمائة عالم من أهل كل دين وجنس، وحظر عليهم في اجتماعهم مسلمهم وغير مسلمهم أن لا يستشهدوا بآي القرآن والإنجيل والتوراة وأن لا يتعرضوا للأديان في مباحثهم، وقد وضع أبوه هرون الرشيد من قبله جميع المدارس تحت مراقبة يوحنا بن ماسويه، وكانت إدارة المدارس في بلاد العباسيين مفوضة إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود أخرى، وجامعات قرطبة وغرناطة وغيرهما من المدن الكبرى في الأندلس كانت تدار في الغالب بأيدي اليهود على ما قال درابر ، ولما خربت بغداد في القرن الرابع أمر عضد الدولة ابن بويه وزيره نصر بن هرون وكان نصرانيا بعمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم، فماذا يقول الشعوبيون بعد هذا من الباطل ليدحضوا به الحق؟ وهل من العدل في شيء أن يعتز الشعوبيون بقوة الغرب المادية؟ فيحطوا من قدر مدنية استغربوا كيف حملها الأجداد على ما يظهر.
نشرت في العهد الأخير عدة كتب بلغات الأمم الكبرى في الغرب في موضوع الأديان البشرية، فغمز أكثرها الإسلام من طرف خفي أو جلي، فعجبنا كيف لم يرق البشر بمدنية القرن العشرين، ومن الغريب أن يكتب أبو الريحان البيروني في أديان الهند في القرن الخامس من الهجرة، ولا يمس عاطفة أحد من أهلها، كأنه إذا كتب في نحلة يوهمك أنه هو أحد أبناء تلك النحلة لتلطفه في وصف شعائرها، ويكتب علماء اليوم وينحون على من لا يدين بدينهم، ويمجدون دين السواد الأعظم وحده، إن مدنية هذا القرن لم تصف النفوس من الشوائب، فإذا ذكر حتى العظيم من المسلمين ذكر على الأغلب بتقزز ممقوت، وكراهية بادية، أما إذا كان الكلام في مجموع الأمة الإسلامية فإن تصويرهم لها يصدر من تصوراتهم وأوهامهم.
رأينا كتاب العرب أيام قوتهم يذكرون جميع المخالفين لهم بكل حرمة، وفي كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وفي طبقات الحكماء لابن القفطي، وفي طبقات الأدباء لياقوت، وفي الوافي بالوفيات للصفدي، وفي تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وفي الجامع المختصر لابن الساعي مثال ظاهر من هذه المسامحة المحمودة، فقد ترجم هؤلاء المؤلفون للمسلم كما ترجموا للصابي واليهودي والسامري والمجوسي واليعقوبي وغيرهم كأنهم أبناء ملة واحدة، ونحن في هذا القرن وهو سيد القرون بتسامحه نرى الكاثوليكي إذا ترجم للبرتستانتي، أنحى عليه وثلمه والعكس بالعكس، وهما في الحقيقة أبناء نبعة واحدة، وكتاب واحد.
Página desconocida