El Islam y la civilización árabe
الإسلام والحضارة العربية
Géneros
إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالا بين أهل الشرق والغرب بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن سببا في أن جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتها تتصور الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه إن كان مخلصا في بحثه، محبا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلا بد أن تهوش عليه شهوته في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم، وهم السواد الأعظم، ضربوا دون الحق أستارا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل، مما تسوله لهم شهوتهم، حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب.
5
صعوبة درس التاريخ
وليس البحث في تاريخ بلد واحد بالأمر السهل، على من كتب له حظ من البحث والنظر، فما بالك بتاريخ أمة عظيمة تباعدت أرجاء بلادها كالأمة العربية؛ ولذلك رأينا الغربيين لما بلغ العلم هذه الدرجة العالية من الارتقاء والتشعب، يقسمون التاريخ أقساما كثيرة، فمن بحث منهم في تاريخ قرن أو قرون من تاريخ أمة، لا يتطال إلى البحث في دور آخر من أدوارها، أو من خاض في تاريخ إقليم أو بلد يحظر عليه، أو يحظر على نفسه الخوض في تاريخ إقليم أو بلد آخر، ومن اختص بجانب من تاريخ الرومان، يتعذر عليه معالجة التاريخ الحديث، ومن تاقت نفسه أن يتناول في أبحاثه النظر في حال أمة من أمم الشرق، لا يجود تأليفا له في تاريخ الغرب؛ ولذلك تقل قيمة سفر يؤلفه واحد على الأغلب، إن كان متشعب المقاصد، فكتب المعلمات أو دوائر المعارف ينشئها مئات، وأحيانا ألوف من العلماء عندهم، وكتب التاريخ والجغرافيا والآداب يؤلفها عشرات من المؤرخين والأدباء والجغرافيين، وربما لا تكتفي أمة بما عندها من الرجال فتستعين برجال من غير أمتها، تلاحظ أنهم أرقى كعبا.
إذا فالتاريخ اليوم صعب المراس لتنوع أغراضه، فكيف يعتمد على من يقرأ بضعة كتب في تاريخ العرب، ويحكم على أهله ومدنيتهم، ألا يعد من كان هذا شأنه من كتاب العامة؛ لقلة بضاعته، فما الحال بما يصدره من الآراء، وهو على رأي له قديم اصطنعه، وما استطاع أن يتحلل من قيوده، وهذا فيما نرى ما دعا «رنان» أن يقول: إن التاريخ مجموعة ظنون أو علم صغير سداه ولحمته من الفرضيات البعيدة، وقالوا: كل امرئ يحاول أن يدمج في التاريخ أفكاره من طرف خفي، وأن يتصور الحقيقة ويخلقها؛ وذلك لقلة الوثائق التي تثبت على محك النظر، ويحاول المؤرخون أبدا أن يحيوا نظريات قائمة على نظريات أخرى، ويدخلوا إلى روح أشخاص يجهلون مزاجهم، وما ورثوه من تربية وأفكار؛ ولذلك يصعب جدا كتابة تاريخ عصر أو رجل، وما زال البشر منذ عهد «توسيديد» و«هيرودتس» يحاولون كتابة التاريخ، وقلما وصلوا إلى الحقائق؛ لقلة معرفتهم باكتناهها، ويحاولون شرح الحوادث ومعرفتها وحفظها؛ ليدخلوا شيئا ضئيلا كالخيال من العناصر التي تركها العالم في ماضيه السحيق، وكان «تاسيت» يحاول أن يضع نفسه فوق الحوادث وأن يحكم عليها، ويحاول «مونتسكيو» و«هردر» أن يستخرجا من نصوص التاريخ فلسفة، وحاول «رنان» أن يوفق بين الحوادث، ويكشف أسرارها الممكنة الظهور، وأن يورد وقائعها ملموسة ذات وحدة، ولكل مؤرخ طريقته. يقول كارلايل: إن التاريخ مجموعة إشاعات، وفولتير يقول: إنه مجموعة أساطير قبلها الضعفاء.
وقال لبون:
6 «منذ القديم كان الإنصاف في التاريخ صفة جوهرية في المؤرخ، ويؤكد عامة المؤرخين منذ عهد تاسيت خلوهم من الغرض، وتجردهم عن الهوى، وحقا إن الكاتب يرى الحوادث، كما يرى المصور منظرا من المناظر، بحسب مزاجه وخلقه وروح عنصره، وإذا جئت تضع عدة مصورين أمام منظر واحد، فإنك ترى كل فرد منهم يعبر عنه بالضرورة تعبيرا يخالف فيه صاحبه، ومنهم من يعني بتفاصيل أهملها غيره، وعلى هذا تأتي كل نسخة صورة خاصة لمصورها، بمعنى أنها تمثل شكلا خاصا من التأثير، وهكذا الحال في الكاتب، فلذلك تعذر على المؤرخ أن يقول الإنصاف كله، كما يتعذر ذلك على المصور. لا جرم أن للمؤرخ أن يأتي بالوثائق كما هو العرف اليوم، ولكن هذه الوثائق إذا طال عهدها عن عهدنا كالثورة الفرنسية مثلا؛ إذ قد بلغ من اتساعها أن حياة رجل لا تكفي للإحاطة بها، وجب الاختصار على لباب ما فيها، وقد يبلغ بالمؤلف عن عمد أو غير عمد، أن يختار المواد التي توافق أهواءه السياسية والدينية والأخلاقية؛ ولذلك تعذر تأليف كتاب في التاريخ بلغ من الإنصاف مداه، اللهم إلا إذا اقتصر فيه على إيراد الحادثة في سطر واحد وفي زمن واحد، وليس هذا في طاقة مؤلف، ولا يؤسف لعدم اقتدار المؤلفين عليه، وقد بلغ من انتشار دعوى عدم التحزب في التاريخ اليوم، أن ظهرت للناس آثار تافهة تورث مللا وأي ملل، بحيث يتعذر بالرجوع إليها فهم تاريخ عصر من العصور.» ا.ه.
وقيل: إن التاريخ
7
رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام، من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها، والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة والترجيح والتضعيف، فأنت إذا حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك، ويحتاج المؤرخ إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، وقد ينقصه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص والأخبار والمصالح والآراء، ولكل عنصر من العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة، بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الخفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده ، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل؟ وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر، وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء. ا.ه.
Página desconocida