وبالمثل صور توفيق الحكيم «إيزيس» كأنما هي أسرع للخطأ والخطيئة من الرجال في المسرحية أمثال نوت ومسطاط؛ فهي تلجأ للرشوة والوسائل الفاسدة من أجل ما تريد، وإذا حدث وتذكرت أحد المبادئ أو المثل العليا فهي ليست مبادئها هي، إنما مبادئ زوجها أوزوريس، وهي مجرد ناقلة لمبادئه، وحافظة وحامية لأفكاره، حاملة لابنه هو وليس ابن رجل آخر.
وحينما يتهمها «سيت» بالزنا، وبأن «حوريس» ليس ابن أوزوريس الشرعي، لا تعرف كيف ترد سوى أن تطلب من «سيت» أن يحترم زوجة أخيه. حتى الاحترام لم يجده توفيق الحكيم جديرا بإيزيس إلا لكونها زوجة الأخ، وفرض عليها الوقوف صامتة عاجزة عن الرد سوى أن تؤكد أن حوريس هو ابن أوزوريس الشرعي وأنها امرأة شريفة، مع أن مفهوم الشرف في فلسفة وديانة إيزيس كان مختلفا عن مفهوم الشرف الأبوي الذي يؤمن به توفيق الحكيم.
كان الشرف عند إيزيس هو العدل وتحقيق العدالة، وكان شرف المرأة مثل شرف الرجل، والمقياس هو العدالة والحق والصدق، يسري على الجميع دون تفرقة. لكن مفهوم الشرف تغير بنشوء العبودية واستبداد الآلهة من الرجال، وأصبح للرجل شرف إخصاب ما يشاء من النساء والعبيد، أما المرأة فهي تقتل إذا ما نظرت لرجل آخر غير زوجها، أصبح قانون الشرف مزدوجا، وأصبح من حق الرجل أن يفرض على المرأة الإخلاص الزوجي، أما المرأة فلا يحق لها أن تطالب زوجها بالإخلاص.
لهذا لم يهدد الشرف والأخلاق في مسرحية الحكيم إلا عدم إخلاص إيزيس لزوجها وإنجابها حوريس من رجل آخر، وهي تدافع عن نفسها بالمنطق ذاته، تنفي التهمة وتؤكد شرفها وإخلاصها لزوجها.
ومن هو الذي يتهم إيزيس بعدم الشرف؟ إنه سيت، الذي يجسد عدم الشرف بمعناه الحقيقي في فلسفة إيزيس. «سيت» الرجل القاتل الفاسد الظالم، الذي لا يعرف شيئا عن المبادئ الإنسانية العليا وأولها العدل والرحمة. هذا هو «سيت» الذي يتهم «إيزيس» بفقدان الشرف لأنها أنجبت ابنها حوريس من غير أوزوريس، وينسى تماما أنها إلهة المعرفة والعدل والحق والحكمة، ينسى تماما أنها صاحبة الفلسفة الإنسانية القائمة على المبادئ والمثل العليا وأولها العدل والرحمة.
ومن حقائق التاريخ المصري القديم أن العرش كان يورث عن طريق النساء وليس الرجال؛ ولذلك كان الأخ يتزوج أخته ليحصل على العرش. لكن توفيق الحكيم تجاهل هذه الحقيقة التاريخية تماما، وتجاهل أيضا أن إيزيس كانت تشارك أوزوريس الحكم كما ورد في التاريخ.
وفي مصر القديمة كان الطب وعلاج الأمراض مجالا برزت فيه النساء. وكبيرة الأطباء في مصر القديمة كانت امرأة، وإيزيس هي التي علمت أوزوريس الطب وعلاج سم العقرب ضمن ما علمته من علوم وفنون وفلسفة، لكن مسرحية توفيق الحكيم تقلب هذه الحقائق التاريخية رأسا على عقب، وتجعل من أوزوريس معلما لإيزيس، يلقنها كل شيء حتى علاج ابنها حوريس من سم العقرب.
ولم تكن إيزيس تعلم أوزوريس فحسب، ولكنها كانت تعيد خلقه من جديد بعد أن يقتله «سيت»، وتصنع له رأسا جديدا وعقلا جديدا وعضوا تناسليا جديدا بدل الذي أكله سمك النيل.
وكان هيكل إيزيس يسمى «زونة» ومعناها إدراك الحقيقة، ولم يكن عابد إيزيس الحقيقي هو الذي يرتدي الأثواب المقدسة وتتدلى لحيته فوق ذقنه، ولكنه كان الذي يبحث بغير كلل أو ملل عن الحق والعدل والحكمة والمعنى العميق للأشياء.
كانت إيزيس ترمز إلى العمل والعقل والخلق، كانت تعيد خلق وبناء كل ما يهدمه «سيت»، بما في ذلك أوزوريس نفسه. كان «أوزوريس» الصورة أو الشكل الذي يتجسد به عمل «إيزيس».
Página desconocida