قلت: فقد تبين من كلام القرافي هذا أن المداراة وسيلة إلى حرام، وهو أكل اللصوص للمال المحرم عليهم لأنهم يخاطبون بفروع إجماعا، لأنهم مؤمنون فليسوا كالكفار الحربيين في مسألة القرافي؛ وإذا كانت المداراة وسيلة إلى محرم كام الدليل الكلي يقتضي تحريمها لأن وسيلة المحرم محرمة إلا إذا أفضت إلى مصلحة أرجح من المحرم المتوسل إليه بها كما في فداء الأسارى من أيدي الكفار بالمال، فإنه يفضي إلى مصلحة هي تخليص أنفس المسلمين، وتلك المصلحة هي أرجح من المحرم المتوسل إليه بها الذي هو أكل الكفار للمال حراما. وأما المداراة بالمصلحة المفضية إليها وهي تخليص المال من اللصوص ليست بأرجح من المحرم المتوسل إليه بها الذي هو أكل اللصوص للمال حراما، لأن تخليص المال بالمال في المداراة لا يساوي تخليص نفوس الأسارى بالمال في مسألة القرافي، ولو فرضنا أن المصلحة في المداراة أرجح من المحرم الناشئ عنها لكانت غايتها الجواز لأن الأصل في وسيلة المحرم التحريم، وإذا انتفى غيره بقي الجواز فقط، إذ لا يمكن أن تكون وسيلة المحرم واجبة، وإذا لم تكن المداراة واجبة لم تكن لازمة لمن وديت عنه بغير إذنه فأحرى إن وديت عليه بغير رضاه، ولا يجبر عليها من أباها لأن الجائز للإنسان فعله وتركه لا يلزمه أداؤه لمن وداه عنه بغير إذنه إجماعا، لأنه ودى عنه للصوص حقا غير واجب عليه وأوصل إليه نفعا لا يلزمه إيصاله إلى نفسه.
وحجة لديه الاستصحاب ... - ... ورأيه في ذاك لا يعاب
يعني الاستصحاب حجة شرعية لدى مالك، فهو من أدلة مذهبه، (ورأيه في ذلك) أي في جعله حجة شرعية (لا يعاب) أي لا يرد ولا ينتقد عند أهل النظر الصحيح في العلم الشرعي. وهو على قسمين: استصحاب العدم الأصلي واستصحاب ثبوت ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حتى يثبت نفيه.
Página 23