Irshad Al-Abed fi Hukm Mukth Al-Junub wa Al-Ha’id wa Al-Nifsa’ fi Al-Masajid
إرشاد العابد في حكم مكث الجنب والحائض والنفساء في المساجد
Géneros
إرشاد العابد في حكم مكث الجنب والحائض والنفساء في المساجد
أبو عمرو شريف مراد
قال اللهُ تعالى:
﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾
- الآية ١٢٥ سورة البقرة -
فمنعهُ من الحيّض من تمام طهارته (ابن تيمية)
1 / 1
المقدمة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون "
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إنّ الله كان عليكم رقيبًا"
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا ".
أما بعد ...
انتشر بين كثير من الأخوات المؤمنات أن الحائض يجوز لها اللبث والمكث في المسجد، وأنّه لا يوجد مانع شرعي من ذلك، فجمعت ما استطعت من أقوال العلماء في هذه المسألة، وحصرت أقوال من أجاز ذلك ثم أردفت ذلك بالرد على أقوالهم.
ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد وقبول الحقّ حيث كان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبو عمرو
شريف مراد
1 / 4
الفصل الأول مقدمة
١- تعريف الجنابة: (١)
لغة: البعد.
وفي الشرع: حال من ينزل منه منىّ أو يكون منه جماع
وقال الأزهري: ويقال له جنب لأنّه نهى أن يقرب مواضع
الصلاة.
٢- تعريف الحيض: (٢)
لغةً: السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال.
وفي الشرع: وهو دم طبيعة يخرج من أقصى رحم المرأة البالغة السليمة عن
الداء
والصغر، وبه تصير المرأة بالغة،
وهو يخرج من قبلها في أيام معلومة من غير ولادة ولا مرض
ولا إفتضاض، ولونه عادة السواد، كريه الرائحة،
وهو محتدم (أي شديد الحرارة)،لذّاع محرق (أي موجع مؤلم) .
والحيضة: الدم نفسه.
٣ - تعريف النِّفاَس: (٣)
لغةً: الولادة، والنَّفسْ: الدمّ، ومنه لا نفس له سائلة أي لا دمّ له يجرى.
وشرعًا: دمّ ترخية الرحم مع الولادة، وهو يخرج من قُبُل المرأة بسبب
الولادة.
٤ - التسوية بين الحائض والنُفساء في الأحكام:
- قال ابن قدامة (المغنى ١ / ٤٣٢) حكم النُفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها ويسقط عنها،لا نعلم في هذا خلافًا. وقال (١/٢٧٧) النفاس كالحيض سواء، فإن دم النفس هو دم الحيض.
- وقال النووي في المنهاج: النفاس يحرم به ما يحرم بالحيض.
وقال الخطيب (في شرحه مغنى المحتاج١/١١٩،١٢٠): بالإجماع لأنّه دم حيض مجتمع فحكمه حكم الحيض في سائر أحكامه إلا في شيئين:
أحدهما: أنّ الحيض يوجب البلوغ والنفاس لا يوجبه
والثانى: أن الحيض يتعلق به العدة والابتداء ولا يتعلقان بالنفاس.
(٢) (٣)
_________
(١) ١-٢-٣) هذا التعريف تم جمعه من عدة كتب، انظر: لسان العرب / ابن منظور، المصباح المنير / الفيومي، مختار الصحاح / الرازي، النهاية / ابن الأثير، تعريفات الجرجاني، أحكام القرآن للجصّاص، شرح زاد المستقنع / العثيمين، الفقه الإسلامي وأدلته /د. وهبة الزحيلي، فقه السنة /سيد سابق، القاموس الفقهي لغة واصطلاحًا / سعيد أبو حبيب.
1 / 5
- وقال الشوكاني في نيل الأوطار (١/٢٨٤): قد وقع الإجماع من العلماء - كما في البحر - أن النفاس كالحيض في جميع ما يَحلّ ويَحرم ويُكره ويُندب.
٥ - الفرق بين دخول المسجد والمكث فيه:
الدخول:- قال في المصباح المنير: (داخل الشيء خلاف خارجه، ودخلت الدار: صرت داخلها، فهي حاوية لك) .
المكث:- قال في النهاية: (المكث هو:الإقامة مع الإنتظار والتلبث في المكان) .
اللبث:- قال في مختار الصحاح: (لبث أي مكث) .
وعلى هذا فإن اللبث والمكث بمعنى واحد،وقد وردا في القرآن الكريم (١)، والمكث يختلف عن مجرد الدخول، حيث أن الأول فيه إقامة وانتظار.
وقد أردت أن أوضح هذا الفرق - وهو واضح - لأننا سنجد من يثبت حكمًا للحائض وهى تدخل المسجد، ثم يقيس عليه حكمًا آخر للبثها في المسجد بالرغم من وجود فارق بينهما، بل من الناس من لا ينتبه لهذا الفرق أصلًا!!
٦ - الفرق بين الحائض والجنب في الأحكام:
من الثابت أن الحائض والجنب يشتركان في كثير من الأحكام، إلا أنهما بالرغم من ذلك يختلفان في أحكام أخرى منها:
* حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية (٢): (الحائض حدثها أغلظ من الجنب) .
- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (٣): (وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك فكذلك الجنب، لأن حدثها أغلظ من حدثه) .
- وقال أيضًا (٤): (والاستقذار بالحائض أكثر من الجنب) .
_________
(١) مثل قول الله تعالى ﴿... فلبث في السجن بضع سنين﴾ يوسف - ٤٢،وقوله سبحانه ﴿فمكث غير بعيد ...﴾ النمل - ٢٢ ويوجد غير ذلك.
(٢) الفتاوى الكبرى ٢/ ٣٨٩ ط دار الغد العربي.
(٣) فتح الباري شرح صحيح البخاري ١/ ٤٨٦
(٤) المرجع السابق ١/٤٧٨
1 / 6
- قال الخطيب الشربيني (١): (يحرم بالحيض ما حرم بالجنابة من صلاة وغيرها لأنه أغلظ، ويدل على أنه أغلظ منها أنه يحرم به ما يحرم بها وأشياء أخرى) .
- قال حصني (٢): (ويحرم بالحيض والنفاس ثمانية أشياء..منها دخول المسجد..ولا شك أن حدثها أغلظ من الجنابة) .
- قال العلاّمة الشوكاني (٣): (والجنب لا يمكث في المسجد فالحائض أولى بالمنع) .
- قال الإمام ابن القيم (٤): (الحائض إذا انقطع دمها فهي كالجنب فيما يجب عليها ويحرم، فيصح صومها وغسلها وتجب عليها الصلاة ولها أن تتوضأ وتجلس في المسجد، ويجوز طلاقها على أحد القولين، إلا في مسألة واحدة فإنها تخالف الجنب فيها وهى جواز وطئها، فإنه يتوقف على الاغتسال) .
-وقال أيضًا (٥): الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه، ويصح منها ما يصح منه)
- وقد ورد ذلك عن جمع من أهل العلم أيضًا، وسيأتي بعض ذلك إن شاء الله تعالى.
** وضوء الحائض لا يصح بخلف الجنب فإنه يستحب أحيانًا:
- قال موفق الدين بن قدامة (٦) (فصل: إذا توضأ الجنب فله الُلبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق ... فأما الحائض إذا توضأت فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح) .
- وقال أيضًا (٧): (ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة ... وإذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها ذلك لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ولا يصح منها)
_________
(١) مغني المحتاج شرح المنهاج ١/١٠٩
(٢) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار
(٣) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ١/٢٢٧
(٤) بدائع الفوائد ٣/١٩٦ ط دار الكتب العلمية
(٥) تهذيب سنن أبى داود عند الحديث رقم ٢١٧١
(٦) المغني لابن قدامة
(٧) الكافي ١/٧٣
1 / 7
- وقال المرداوي (١): (فوائد: ... منها: حكم الحائض والنفساء بعد انقطاع الدم حكم الجنب فيما تقرر على الصحيح من المذهب) .
- وقال ابن مفلح (٢): (في الرعاية وجه: لا يجوز لحائض ونفساء اللبث في المسجد لأن حدثهما باق لا أثر للوضوء فيه، فإن لم ينقطع الدم لم يجز، نص عليه) . انتهى ملخصًا.
الخلاصة:
١ - حدث الحائض أغلظ من حدث الجنب.
٢ - الجنب يستحب له الوضوء عند الأكل أو معاودة الجماع أو النوم.
كما ورد في الحديث المتفق عليه (٣) ﴿أن عمر ﵁ سأل النبي ﷺ: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ﴾ .
وروى مسلم (٤) ﴿عن أبى سعيد ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ:إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ﴾ .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ﴿عن عائشة ﵂ أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ. تعنى وهو جنب﴾ . وفي الباب أحاديث أخرى صحيحة.
٣- أما الحائض فلا يستحب لها الوضوء عند هذه الأشياء لأنه لم يرد لها ذكر عند أي من هذه الأحاديث، بل إن وضوءها لا يصح كما مر، وقد ذكر ابن قدامة في المغنى بعد ذكر هذه الأحاديث الخاصة بالجنب (إن هذه الأحاديث تدل على الاستحباب، فالحائض حدثها قائم، فلا وضوء مع ما ينافيه، فلا معنى للوضوء) .
٤- الحائض والنفساء بعد إنقطاع دمهما لهما حكم الجنب عند بعض أهل العلم (الحنابلة) .
وقد أردت إيضاح ذلك أيضًا لأننا سنجد من يقرر حكمًا للجنب ثم يسحبه على الحائض بالرغم من وجود فارق بينهما في الأحكام كما سبق، وسيأتي مزيد من ذلك إن شاء الله تعالى.
_________
(١) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ١/٢٤٦. أي حكمها بعد انقطاع الدم وقبل الغسل مثل الجنب.
(٢) المبدع في شرح المقنع ١/١٨٩
(٣) البخاري ١/٨٠، مسلم ١/٢٤٨،٢٤٩
(٤) رواه مسلم ١/٢٤٩، والترمذي وابن ماجه.
1 / 8
الفصل الثاني أقوال من أجاز للحائض المكث في المسجد والجواب عنها
(أ) قالوا لم يأت نهى عن ذلك بدليل صحيح؛ فيبقى الأمر على البراءة الأصلية
الجواب عن ذلك:
بل ورد النهي عن ذلك، ولقد استدل العلماء القائلون بعدم جواز مكث الحائض في المسجد بالآية ٤٣ من سورة النساء، وبثلاثة أحاديث: حديثين متفق على صحتهما،والثالث مختلف في صحته.
أولًا: الآية ٤٣ من سورة النساء:
قال ﷾: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) .
١- من تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري:
قال ﵀: تأويل هذه الآية على قولين:
الأول: لا تقربوا نفس الصلاة وأنتم سكارى. ثم ذكر من قال من السلف بهذا القول.
الثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى. ثم ذكر من قال من السلف بهذا القول. ومنهم أثر عبد الله بن عباس، ولكنه أثر ضعيف لوجود أبى جعفر الرازي في إسناده، إلا انه ورد عن غير ابن عباس أيضًا وبأسانيد أخرى كثيرة (١)، انظرها في تفسير الطبري.
_________
(١) كما سيأتي عند نقل كلام ابن كثير.
1 / 9
ثمّ قال ﵀: " وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوله ﴿ولا جنبًا إلا عابري سبيل﴾: إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: ﴿وإن كنتم مرضي أو على سفرٍ أو جاءَ أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تَجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا﴾، فكان معلومًا بذلك أن قوله ﴿ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا﴾ لو كان معنيًا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله ﴿وإن كنتم مرضي أو على سفرٍ﴾ معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك، وإن كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. والعابر السبيل المجتازه مرًا وقطعًا ". أ. هـ
فها هو شيخ المفسرين الطبري يقول بأن الصحيح في معنى الآية: لا تقربوا المساجد وأنتم جنبًا حتى تغتسلوا إلا أن تعبروها مجتازين- يعنى من غير مكث فيها.
٢ - من تفسير الحافظ ابن كثير:
قال رحمه الله تعالى: " ينهى ﵎ عباده المؤمنين عن:
١ - فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدرى معه المصلى ما يقول.
٢ - وعن قربان محالّها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازًا من باب إلى باب من غير مكث وقد كان هذا قبل تحريم الخمر."
1 / 10
ثمّ أورد بعد ذلك أثر ابن عباس المذكور آنفًا برواية ابن أبى حاتم ولكن في سندها أيضًا أبى جعفر الرازي، ثمّ قال ابن كثير:" قال - يعنى ابن أبى حاتم - وروى عن عبد الله بن مسعود وأنس وأبى عبيدة وسعيد ابن المسيب والضحاك وعطاء ومجاهد ومسروق وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وأبى مالك وعمرو بن دينار والحكم بن عتبة وعكرمة والحسن البصري ويحي بن سعيد الأنصاري وابن شهاب وقتادة نحو ذلك، وقال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله ﷿ ﴿ولا جنبًا إلا عابري سبيل﴾ إنّ رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد فأنزل الله: ﴿ولا جنبًا إلا عابري سبيل﴾ . ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبى حبيب ﵀ (١) ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال:"سدوا كل خوخة في المسجد،إلا خوخة أبى بكر". وهذا قاله في آخر حياته ﷺ علمًا منه أنّ أبا بكر ﵁ سيلى الأمر بعده (٢) ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرًا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ﵁".
وقال: " وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد وجوز له المرور وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه، إلا أن بعضهم قال يحرم مرورهما لإحتمال التلويث، ومنهم من قال إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا ".
فانظر رحمك الله كيف قال: المرور، أمّا عند حكم المكث فيصرح بالتحريم، وإذا أمنت التلويث فإنه يجوز لها المرور فقط.
_________
(١) هذه الرواية فيها احتمال إرسال؛ ولذلك استشهد ابن كثير لصحتها بحديث آخر صحيح في صحيح البخاري.
(٢) كذا قال ﵀.
1 / 11
ثمّ حكى بعد ذلك قول الطبري السابق نقله واختيار الطبري لتأويل الآية، ثم قال ابن كثير:
" وهذا الذي نصره - يعنى الطبري -هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن:
١ - تعاطى الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها.
٢ - وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهى الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضًا، والله أعلم."
وقال "وقوله ﷿ ﴿حتى تغتسلوا﴾ دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أبوحنيفة ومالك والشافعي أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله بطريقة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى سعيد بن منصور في سننه بسند صحيح أنّ الصحابة كانوا يفعلون ذلك. "
فائدة:
أوضح ابن كثير أن تفسير آية ﴿ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا ...﴾ أي لا تقربوا مواضع الصلاة وأنه قول الجمهور، وفي ذلك رد على من قال أن المقصود حقيقة الصلاة وأنه قول أكثر المفسرين! (١)
نعم من الصحيح أنه قول بعض المفسرين بلا شك، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، وقد عرفت قول الجهبذين الطبري وابن كثير.
٣ - ومن تفسير مفاتح الغيب لفخر الدين الرازي:
بعد أن نقل الرازي الاختلاف في تأويل الآية، قال إن أصحاب الشافعي انتصروا لقوله بوجوه منها:
الأول: أنّه ﷾ قال: ﴿لا تقربوا الصلاة﴾ والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة، إنّما يصحان على المسجد.
الثاني: أنّا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحًا، أمّا لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحًا لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد؛ فإنّه يجوز له الصلاة بالتيمم، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى.
_________
(١) قال ذلك فخر الدين الرازي، ونقله بعد ذلك بعض المعاصرين.
1 / 12
الثالث: أنّا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدًا للماء لم يجز له القرب من الصلاة البتّة فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية، وإن لم يكن واجدًا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية، وأمّا على ما قلناه فإنّا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية؛ فكان قولنا أولى.
الرابع: أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا، فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية. والذي يؤكده أن القرّاء استحبوا الوقف عند قوله ﴿حتى تغتسلوا﴾ ثمّ يستأنف قوله ﴿وإن كنتم مرضي﴾ لأنّه حكم آخر. وأمّا إذا حملت الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الإلحاقات، فكان ما قلناه أولى.
وقال الرازي أيضًا: قيل للذي يجب عليه الغسل جنب لأنّه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر.
٤ - وقال القاضي أبو بكر بن العربي في" أحكام القرآن":
المسألة الحادية عشرة: ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال: كان رجال من أصحاب النبي ﷺ تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد يتحدثون فيه. وربما أغتر بهذا جاهل فظنَّ أنَّ اللبث للجنب في المسجد جائز. وهذا لا حجة فيه، فإن كل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة كيف يدخله من لا يرضي لتلك العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها؟
٥ - وقال الشوكاني في تفسيره" فتح القدير":
1 / 13
يمكن أن يقال: أن بعض قيود النهى أعنى (لا تقربوا) وهو قوله (وأنتم سكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي وبعض قيود النهى وهو قوله (إلا عابري سبيل) يدل على أن المراد مواضع الصلاة ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبًا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب.
ثمّ حكى قول الطبري وقول ابن كثير وهو قول الجمهور كما سبق.
توضيح:
بالرغم من أن هذه الآية في حق الجنب إلا إنها أيضًا في حق الحائض كما قال المفسرون، وذلك لأن الحائض حدثها أغلظ من حدث الجنب، فكل ما ينطبق حكمًا على الجنب ينطبق على الحائض، وليس كل ما ينطبق حكمًا على الحائض ينطبق على الجنب، لأن الحائض حدثها أغلظ كما سبق.
ثانيًا: الأحاديث:
الحديث الأول:
حديث رواه الجماعة: عن أمّ عطية قالت: قال رسول الله ﷺ:
﴿لتخرج العواتق ذوات الخدور-أو العواتق وذوات الخدور - والحيض فيشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى﴾ . (١)
من فقه الحديث:
- ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث: "باب: اعتزال الحيض المصلى "
- وقال الإمام النووي (في شرحه لصحيح مسلم ٦/١٧٩): "فيه منع الحيض من المصلى، واختلف أصحابنا في هذا المنع، فقال الجمهور: هو منع تنزيه لا تحريم وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة، وإنما لم يحرم لأنّه ليس مسجدًا. وحكى أبو جعفر الدارمي من أصحابنا عن بعض أصحابنا أنّه قال يحرم المكث في المصلى على الحائض كما يحرم مكثها في المسجد لأنّه موضع للصلاة فأشبه المسجد والصواب الأول. "
_________
(١) خ٣٥١،٩٧١،٩٧٤،٩٨٠،٩٨١،١٦٥٢،م،ن، ت ٥٣٧،د ١١٢٥،هـ ١٣٠٨
1 / 14
- وقال الحافظ (الفتح ١/٥٠٥ -ح ٣٢٤- عند تبويب البخاري: " باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلنّ المصلى ") قال: " حمل الجمهور الأمر المذكور على الندب لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيّض من دخوله ".
فانظر - رحمك الله - كيف رخص لها في حضور مجالس العلم ومواطن الخير، أمّا المسجد فلا، حتى وإن كان فيه مواطن الخير للنصوص الواردة في ذلك.
- وقد وقع في رواية لأبى داود ح ١١٢٦ [قالت أم عطية: والحيّض يكنّ خلف الناس فيُكَبرن مع الناس] . وفي هذه الرواية رد على من قال يعتزل الحيّض المصلى أي: يعتزلن الصلاة، حيث أن هذه الرواية توضح أن الحيّض لم يكنّ مع باقي النساء، وإنّما خلفهنّ.
فائدة: اختلف العلماء في الحكم على مصلى العيد:
١ - فمنهم من اعتبره كالمسجد في الأحكام، ولذلك قال بتحريم دخول الحائض فيه.
٢ - ومنهم من اعتبره ليس بمسجد وليس له أحكامه؛ فقال بكراهة دخول الحائض فيه.
الخلاصة:
قال الإمام النووي والحافظ ابن حجر العسقلاني عند شرح هذا الحديث بتحريم المسجد على الحائض، وهو واضح من قول الأول (لم يحرم لأنّه ليس مسجدًا)، أي لو كان مسجداَ لحرم. ومن قول الثاني (لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيّض من دخوله)، أي لو كان المصلى مسجدًا لامتنع الحيض من دخوله.
الحديث الثاني:
حديث رواه الجماعة إلا البخاري:
﴿عن السيدة عائشة ﵂ قالت:
قال لي رسول الله ﷺ: ناوليني الخمرة - وفي رواية الثوب - من المسجد، قالت: إنى حائض.فقال: إنّ حيضتك ليست في يدك. - وفي رواية فناولته -﴾ . وهذه الألفاظ كلها عند مسلم. (١)
من فقه الحديث:
_________
(١) حم٢/٧٠،٦/٤٥،١٠١،١٠٦،١٠،١٢،١١٤،١٧٣،١٧٩،٢١٤،٢٢٩،٢٤٥،م١/٤٥، د ١/٦٠،ت١/١٣٤وقال حسن صحيح،ن١/١٢٠،١٥٨،هـ١/٢٠٧،مي١/١٩٧، ٢٤٧.
1 / 15
- قال الترمذي بعد روايته للحديث في سننه: " حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو قول عامّة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك: بأنّ لا بأس أن تتناول الحائض شيئًا من المسجد ".
وهذا يوضح أن الحديث عنده يَخُص تناول الحائض شيئًا من المسجد بدون مكث فيه.
- وقال الشوكاني (نيل الأوطار ١/٢٢٧): " استدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسة ".
(فانظر رحمك الله كيف قال جواز الدخول ولم يقل جواز المكث كما بينّا في المقدمة) .
- وقال أيضًا: "وعليه المشهور من مذاهب العلماء أنّها لا تدخل لا مقيمة ولا عابرة لقوله ﷺ: [لا أحل المسجد لحائض ولا جنب]،قالوا: ولأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة ".
وقال أيضًا: " وقد ذهب إلى جواز دخول الحائض المسجد وأنّها لا تمنع إلا مخافة ما يكون منها: زيد بن ثابت، وحكاه الخطّابي عن: مالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر ". - فانظر رحمك الله كيف قال جواز الدخول ولم يقل جواز المكث -.
وقال أيضًا: " ومنع من دخولها: سفيان وأصحاب الرأي، وهو المشهور من مذهب مالك ".
الحديث الثالث:
حديث اختلف أهل العلم في تصحيحه وتضعيفه. رواه أبو داود ح ٢٣٢، والبيهقي ٢ /٤٤٢ -٤٤٣ ح ٤٣٢٣،٤٣٢٤ (١) .
قال أبو داود حدثنا مُسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أَفْلَتْ بن خَليفة قال حدثتني جَسْرة بنت دِجاجة قالت سمعت عائشة تقول:
_________
(١) وقد ورد في ذلك أيضًا حديث أم سلمة مرفوعًا رواه ابن ماجه والطبراني، لكن في إسناده أبو الخطّاب الهجري وهو ضعيف، وقال أبو زرعة حديث عائشة أصح من حديث أم سلمة. ولذا أعرضت عن ذكره.وانظر نصب الراية للزيلعي ١/١٩٤، ١٩٥.
1 / 16
﴿جاء رسول الله ﷺ ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد. ثمّ دخل النبي ﷺ ولم يصنع القوم شيئًا رجاء أن ينزل فيهم رخصة. فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإنّى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب﴾
- وقد بوّب البيهقي لهذا بقوله: " باب الجنب يمرّ في المسجد مارًّا ولا يقيم فيه ". وقال بعد روايته للحديث: وهذا إن صحّ فمحمول في الجنب على المكث فيه دون العبور بدليل الكتاب. (١)
وهذا الحديث هو أوضح حديث في هذا الباب، ولكن ضعّفه بعض أهل العلم بسبب ضعف راويين من رواته وهما: أفلت بن خليفة، وجسرة بنت دِجاجة، لكن رد هذا التضعيف آخرون، وبيان ذلك:-
أولًا: أفلت بن خليفة العامري: (٢)
قال ابن حزم: أفلت مجهول الحال، وقال الخطابي: قد ضعفوا هذا الحديث وقالوا أفلت راويه مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه.
وقد ردّ ذلك جماعة من الحُفّاظ منهم الحافظ المنذري في تهذيب السنن، حيث علّق على كلام الخطابي قائلًا:" وفيما قاله نظر، فإنه أفلت بن خليفة العامري ويقال الذهلي وكنيته أبو حسان حديثه في الكوفيين، وروى عنه سفيان بن سعيد الثوري وعبد الواحد بن زياد، وقال الإمام أحمد: ما أرى به بأسًا، وسأل عنه أبو حاتم الرازي فقال شيخ، وحكى البخاري أنّه سمع من جسرة بنت دجاجة. ". انتهى كلام المنذري.
- وقال الدارقطني: صالح وروى عنه الثقات.
- ووثقه ابن حبّان.
- وقال في الكشاف: صدوق.
_________
(١) يقصد الآية ٤٣ من سورة النساء، وقد تقدمت.
(٢) تجد ترجمته في: تهذيب الكمال ١/١٢٠، الكاشف ١/١٣٧، الجرح والتعديل ٢/٣٤٦، الثقات ٨٦/٨٨،ميزان الاعتدال - أثناء ترجمة جسرة بنت دجاجة -،تهذيب التهذيب برقم ٥٨٧، تقريب التهذيب.
1 / 17
ثانيًا: جَسْرة بنت دِجاجة: (١)
- قال الإمام البخاري في تاريخه الكبير: عندها عجائب.
- قال الحافظ في تهذيب التهذيب: " قال العجلي: ثقة تابعية، ذكرها ابن حبّان في الثقات، وقال البخاري: عندها عجائب، وقال أبو الحسن بن القطّان: هذا القول لا يكفي لمن يسقط كل ما رَوَتْ، كأنّه يُعرِّض بابن حزم لأنّه زعم أنّ حديثها باطل." أ. هـ ملخصًا
- وقال ابن حبّان في الثقات: " تروى عن عائشة، روى عنها أفلت ".
الحكم على الحديث:
(أ) من ضعّف الحديث:
قال ابن حزم: باطل
وقال أبو محمد عبد الحق: لا يثبت من جهة إسناده.
وقال الخطابي: ضعّفوا هذا الحديث.
وقال البيهقي: هذا إن صح.
وضعّفه من المُعَاصرين: الشيخ الألباني. (٢)
(ب) من صحّحَّ الحديث:
- قال الشوكاني (٣): "الحديث صحيح ... وقال أبو زرعة: حديث عائشة أصح من حديث أم سلمة، وضعّف ابن حزم هذا الحديث، وقال الخطابي ضعّفوا هذا الحديث ... وليس ذلك بسديد ...
الحديث إمّا حسن أو صحيح، وجَزْم ابن حزم بالبطلان مجازفة وكثيرًا ما يقع في مثلها
_________
(١) ترجمتها في: تهذيب الكمال٣/١٦٨٠،تهذيب التهذيب٨٨٤٨ والكاشف٣/٦٦،خلاصة٣/٣٧٧،أعلام النساء١/١٦٠،لسان الميزان٧/١٨٩،الميزان١/٣٩٩،المشتبه٥١٠،سؤالات البرقاني رقم ٦٩،تراجم الأخبار ١/٢٤٠. وقد روى البخاري هذا الحديث في التاريخ الكبير بزيادة (إلا لمحمد وآل محمد)،ثم قال البخاري: وجسرة عندها عجائب.ثم ذكر بعد ذلك حديث (سدوا هذه الأبواب إلا باب أبى بكر) . فكأن البخاري يقول الثابت لفظ (باب أبى بكر) وليس لفظ (لمحمد وآل محمد)، وقد وجدت كلامًا يؤيد ذلك لأبى محمد العيني في البناية شرح الهداية ١ / ٦٣٦. .
(٢) في إرواء الغليل، تمام المنّة، ضعيف سنن أبى داود، ضعيف سنن ابن ماجه.ولم يزد فضيلته على كلام مَن سبقوه مِن الذين ضعّفوا الحديث.
(٣) نيل الأوطار ١/٢٢٩
1 / 18
وقال ابن سيد الناس: ولعمري إنّ التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته، ووجود شواهد له من خارج فلا حجة لأبى محمد بن حزم في رده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح ما رواه في ذلك لأن هذا الحديث كاف في الرد ".
- وقال: " قال الحافظ: وأمّا قول ابن الرفعة في أواخر شروط الصلاة: إنّ أفلت متروك. فمردود؛ لأنّه لم يقله أحد من أئمة الحديث ". أ. هـ (١)
- وقال الحافظ الزيلعي (٢): " هو حديث حسن ".
- وقال أيضًا: " قال ابن القطّان: قال أبو محمد عبد الحقّ في حديث جسرة هذا، أنه لم يثبت من جهة إسناده ولم يبين ضعفه، ولست أقول إنّه حديث صحيح وإنّما أقول إنّه حسن ".
- وهذا الحديث رواه أبو داود وسكت عليه ولم يضعّفه، فهو حسن على الأقل عنده.
- كما صححه أيضًا إمام الائمة ابن خزيمة، حيث رواه في المجلد الثاني من صحيحه.
- وقال الإمام الزركشي (٣): قد صح الحديث المتقدم، وحسّنه ابن القطّان وغيره.
وقد أورد الحافظ ابن حجر هذا الحديث في تهذيب التهذيب، وكذا في تلخيص الحبير، ثمّ نقل كلام من ضعّفه، ثمّ أعقبه برد ابن القطّان وابن حبّان، فكأنّه يميل إلى رأيهما فيصححه أو يحسّنه على الأقل.
- قلت: ولعلّ حجّة من ضعّف الحديث قول الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب في جسرة: مقبولة. وهذا يعنى عند الحافظ إذا توبعت وإلا فلينة، وهى لم تُتابع فيكون الحديث ضعيفًا.
ولكننا نلاحظ أنّ الحافظ قد نقل أيضًا القول بأنّها ثقة عن العجلي وابن حبّان. بلّ إنّه أعقب كلام الإمام البخاري بقول ابن القطّان في الدفاع عن جسرة، وقال الحافظ أنّ ابن القطّان هنا يُعرّض بابن حزم.
_________
(١) بتصرف يسير تحرزًا عن تكرار ما سبق من كلام المنذري والحافظ في التهذيب.
(٢) نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ١/١٩٤
(٣) إعلام الساجد في أحكام المساجد ص٢٢٣ ط. دار الكتب العلمية.
1 / 19
ولعل ذلك لأن الجرح فيها غير مُفسر فلم يقبله ابن القطان إلا إذا تبين السبب، وذلك كما قال الإمام الذهبي (١): قول أبى بكر بن الجعابى (عنده عجائب) عبارة محتملة للتليين فلا تُقبَل إلا مُفسّرة. وانظر تهذيب التهذيب وتلخيص الحبير.
هذا مع ملاحظة أن ابن القطّان ليس من المتساهلين في التعديل، بلّ إن الإمام الذهبي قال عنه (٢):انّه تعنت في أماكن من كتابه بيان الوهم والإيهام، وقال الحافظ ابن حجر (٣): ابن القطّان يتبع ابن حزم في إطلاق التجهيل على من لا يطّلعون على حاله.
أمّا مجرد تضعيف الحديث لمجرد أن الحافظ قال في التقريب أن جسرة (مقبولة) فهذا مردود بتوثيق الأئمة لها كما سبق.وقد قال الشيخ الألباني (٤): أبو الجعفاء ... وثقه ابن معين والدارقطنى وروى عنه جماعة من الثقات فلا يلتفت بعد هذا إلى قول الحافظ فيه (مقبول) يعنى لين الحديث عند التفرد، فكيف هذا مع توثيق الإمامين المذكورين إيّاه؟!
وقال الشيخ مقبل بن هادى الوادعي (٥): إن الحافظ ربما يحكم على رجل بأنّه (مقبول) أي لا يحتج بحديثه إلا في الشواهد والمتابعات، ويكون قد وثقه معتبر.
** وبذلك يكون من صحّحّ الحديث أو حسّنه:
ابن خزيمة، وأبو داود، والمنذري، وابن القطّان، وابن سيد الناس، والزيلعي، والشوكاني. بالإضافة إلى الموقف المذكور للحافظ ابن حجر.
وأرى، والله أعلم: أن الحديث حسن، وأقول كما قال ابن القطان " ولست أقول إنّه حديث صحيح وإنّما أقول إنّه حسن ". مع ملاحظة أن صحة هذا الحديث أو ضعفه ليس هو الفيصل في الحكم على المسألة لوجود أدلة أخرى سبق بيانها.
ومن أدلة المجوزين:
_________
(١) سير أعلام النُبلاء ١٠ / ٦٣٤
(٢) سير أعلام النُبلاء ٢٢ / ٣٠٧
(٣) لسان الميزان ١ / ٢٣٥ ط. دار الفكر
(٤) إرواء الغليل ٦ / ٣٤٧
(٥) إتحاف النبيل - المقدمة ص ٥ ط. مكتبة ابن تيمية
1 / 20
(ب) قول رسول الله ﷺ: " المؤمن لا يَنْجُسُ ". (١)
الجواب عن ذلك:
قد تلصق أعيان النجاسة بالمؤمن فيكون حاملًا لها ولكنّه هو لا ينجس، ألا ترى أن الرجل يكون على جسده دمًا مسفوحًا أو بولًا فنقول له لا تصلى هكذا حتى تزيل هذه النجاسة. فهل يعنى ذلك أنّه نجس؟ الجواب: لا، وإنّما هو يحملها فقط. وكذلك الحائض فإن حيضتها نجاسة تحملها معها، أمّا هي ذاتها فليست نجسة، ونقول لها لا تصلى ولا تصومي ولا تمكثي في المساجد و....و.....، ليس لأنّها نجسة، ولكن لأنّها تحمل النجاسة.
قال السندي (٢): ونجاسة بعض الأعيان اللاّصقة بأعضائه أحيانًا لا توجب نجاسة الأعضاء، نعم تلك الأعيان يجب الاحتراز عنها فإذا لم تكن فما بقى إلا أعضاء المؤمن فلا وجه للاحتراز عنها.
فكأنّه قال: لو كانت هناك نجاسة لكانت تلك النجاسة في أعضاء المؤمن إذ ليس هناك عين نجاسة لاصقة به، والمؤمن لا ينجس بهذه الصفة فلا نجاسة.
وقال العظيم آبادي (٣): معنى قوله: " لا ينجس " أي بالحدث سواء كان أصغر أو أكبر، ويدل عليه المقام، إذ المقام مقام الحدث، فلا يرد بأنه يتنجس بالنجاسة. وقد يقال: إن المراد نفسه لا يصير نجسًا، لأنّه إن صحبه شيء من النجاسة فنجاسته بسبب صحبته بذلك، لا أن ذاته صار نجسًا، فإذا زال ما كان معه من النجاسة فالمؤمن على حاله من الطهارة، فصدق أن المؤمن لا يتنجس أصلًا.
ومن أدلتهم: (ج): كان أهل الصُفّة يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله ﷺ، وهم جماعة كثيرة، ولا شك أن فيهم من يحتلم، فما نُهوا قط عن ذلك.
الجواب:
_________
(١) خ ٢٨٣، م ٤ / ٦٦، ن ١ / ١٤٥ عن أبى هريرة مرفوعًا، حم ٥ / ٣٨٤، م ٤ / ٦٧، د ٢٣٠، ن ١ / ١٤٥، هـ ٥٣٥ عن حذيفة مرفوعًا أيضًا.
(٢) في حاشيته على سنن النسائي ١ / ١٤٥
(٣) عون المعبود ١ / ٣٨٧
1 / 21
١ - أهل الصُّفَّة كانوا من أكثر المسلمين فقرًا ولم يكن لهم بيوت فكانوا يأوون إلى موضع مُظلّ في مسجد المدينة يسكنونه (١)، فكأنهم مضطرين، والقول فيهم كالقول في المعتكف، ألا ترى أن المعتكف إذا اعتكف فإنّه يبادر إلى الاغتسال، فكذلك هم، وكانوا قطعًا يغتسلون عقب احتلامهم.
٢ - أنّ الجنب قد يجوز له المكث في المسجد إذا توضأ - عند الحنابلة - للأثر الوارد في سنن سعيد بن منصور، أمّا الحائض فليس لها ذلك كما مرّ في المقدمة، مع ملاحظة الفارق بين الحائض والجنب كما سبق أيضًا.
ومن أدلتهم قالوا: (د): إن النبي ﷺ لم ينه السيدة عائشة ﵂ في الحجّ إلا من الطواف بالبيت فقط (متفق عليه)
الجواب عن ذلك:
- بوّب البخاري في صحيحه لهذا الحديث فقال: (باب تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف)
فانظر- رحمك الله - كيف قال:المناسك، فإنّ هذا الحديث خاص بالمناسك فقط.
- قال الحافظ في الفتح ١/ ٤٧٨: غير ألاّ تطوفي بالبيت هذا الاستثناء مختص بأحوال الحجّ، لا بجميع أحوال المرأة.
- وقال أيضًا ٣ /٥٩٠: قوله " ويعتزل الحيض المصلى " فإنّه يناسب قوله ﷺ (ان الحائض لا تطوف بالبيت) لأنّها إذا أُمرت باعتزال المصلى، كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام بل للكعبة من باب أولى.
_________
(١) انظر لسان العرب لابن منظور.
1 / 22