المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية
المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية
Editorial
دار السلام
Número de edición
الثانية
Año de publicación
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
Ubicación del editor
القاهرة
Géneros
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية
المؤلف: د. علي جمعة محمد
(مفتي الديار المصرية)
الناشر: دار السلام - القاهرة
الطبعة: الثانية - ١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
تنبيه: الصفحة رقم ١٠٦ ناقصة
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول اللَّه وآله وصحبه
ومن والاه.
أما بعد ...
فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب المدخل، الذي صدرت طبعته
الأولى عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة ١٩٩٦ م، بعد أن قمت
بإعادة ترتيب مادته والتوسع في أجزاء كثيرة منه، وزيادة التوثيق وتقديم
ما كان حقه التقديم، وتأخير ما كان فرضه التأخير، واختصار وتهذيب
في مواطن كثيرة، وضم الشبيه إلى شبيهه، والنظير إلى نظيره كما سيراه
كل من قارن بين هذه الطبعة وأختها السابقة حتى شعرت وإن اتحد
الهدف واتفقت المادة أنه كتاب جديد، ناهيك عن تصحيح الأخطاء
المطبعية وتحرير النقول والعزو، فرأيت أن أسميه (المدخل إلى دراسة
المذاهب الفقهية) حتى أحافظ على الكلمة الأساس التي اشتهر بها،
وأشير بتلك الزيادة إلى حقيقته التي سأل عنها من لم يطلع على
مضمونه، وإلى أنه أصبح ككتاب مختلف عن سابقه بقدر ما حدث فيه
من زيادة وتنقيح.
ولقد وضعت له فهرسًا مفصلًا، وأرجو اللَّه أن ينفع به وأن يكون
خطوة في بناء أداة الفهم الصحيح للتراث الإسلامي ومذاهبه الفقهية حتى
يتم الاستفادة منه على الوجه الأكمل دون القبول المطلق، أو الرفض
المطلق، أو الانتقاء العشوائي، حتى نتحرر من المناهج غير العلمية التي
غبلت العقل المسلم، ونرجع إلى عهود السلف الصالح الذين خدموا دين
اللَّه وعقل الإنسان بهدف عبادته سبحانه وعمارة الكون.
القاهرة فى غرة رمضان ١٤٢٢ هـ
- ١٦ نوفمبر ٢٠٠١ م
أ. د. عَلي جُمعة محمد
1 / 5
الفصل الأول
ماهية التراث الإسلامي
التراث هو: نتاج العقل البشري المسلم عبر القرون.
وقانون الآثار المصري المعمول به الآن، يحدد مائة سنة سابقة عن الآن حتى نعتبر الشيء في عالم الأشياء أثرًا.
وقديمًا كان عصر الخديوي إسماعيل هو الحد الفاصل في مسألة الآثار، وهو عصر يعد نقطة فارقة في تاريخ مصر، وفي تاريخ الشرق المسلم، تغير فيه كل شيء، وأراد الخديوي إسماعيل أن يخرج مصر من سياقها التاريخي لتصبح قطعة من أوربا، فجاءها خير كثير من هذا، وجاءها شر أيضًا.
حدث هذا التغير، وحدث معه شيء كثير من الاضطراب: الاجتماعي،
والسياسي، والاقتصادي، والثقافي في مصر.
فقد غَيَّر الخديوي إسماعيل نمط حياة الإنسان المصري، غَيَّر برنامجه اليومي..
غَيَّر التقويم من الهجري إلى الميلادي..
غَئر الساعة من العربي إلى الأفرنجي..
غَيَّر الأزياء..
غَيَّر نمط المعيشة.
وقبله بدأ محمد علي التعليم الموازي، فترك الأزهر على حاله وأنشأ - موازيًا له - تعليما سماه التعليم المدني، وأرسل البعثات إلى أوربا فحدث بعد ذلك ما أسميناه بازدواجية التعليم، وأصبح هناك من يدري الشرع ويطلع على التراث، ومن يستطع أن يتعامل معه، وهناك أيضًا من أصحاب العلوم والفنون من لا يستطيع أن يتعامل مع هذا التراث، وسمي الأول بالسلفي، والآخر بالعصري، وأصبحت هناك معركة، ما كنا
نود أن تكون، لون ما أسموه بالأصالة والمعاصرة، حتى أطلق عليها بعضهم: " المعركة بين الطربوش والعمامة " على سبيل الرمز، وظل هذا التخالف في ازدياد إلى عصر الخديوي إسماعيل.
لقد كانت ساعاتنا ساعات غروبية تتسق مع العبادة، وتنضبط الساعة مع أذان المغرب على الساعة ١٢، فنعرف الساعة الأولى من الليل، والساعة الثانية من الليل، والساعة الثالثة من الليل، فعندما نقرأ حديث البخاري: " أن من اغتسل يوم الجمعة
1 / 7
غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر "
يفهمه الناس، لأنهم يعرفون ما الساعة الأولى،
وما الساعة الثانية.
تم اختلف الحال في عصر الخديوي إسماعيل فأصبحت الساعة (١٢) هي وسط
النهار، ومن المعلوم أن اليوم ليس (٢٤) ساعة تمامًا، بل يختلف باختلاف الأيام في السنة، فهو ٢٤ ساعة و١٧ دقيقة، أو ٢٤ ساعة إلا ١٧ دقيقة، لأجل هذه الى (٣٤)
دقيقة يختلف أذان الظهر عندنا الآن، فنجده يؤذن مرة ٣٥.
١١، ومرة ٠٧.
١٢، لأن هذه المساحة من الوقت هي التي يختلف فيها اليوم واقعيًّا على مر السنة.
كان المسلمون يكيفون أنفسهم ومعيشتهم بطريقة تجعل العبادة سهلة، وتجعل هذه الشعائر التي يقيمونها تنطق تمامًا مع النظام اليومي الذي يعيشونه.
لم يكن هناك نوع تنافر ولا اضطراب، ولا ضيق، ولا نوع فوات للصلاة.
كانوا ينامون بعد العشاء ويستيقظون قبل الفجر، كانوا يدركون ما معنى ثلث الليل الأخير الذي يستجيب اللَّه
فيه الدعاء، كان هناك تفاعل مع هذا الدين.
ولكن دخلت الأوبرا، واضطروا إلى أن يخلعوا سراويلهم المغربية التي كانت أقرب إلى الالتزام بستر العورة في الصلاة، ليلبسوا الأزياء الأفرنجية، والياقات البيضاء المنشية،
التي لو جاء عليها ماء، لفسد ما بها من نشا، وأصبح من علامات الفسق عند المتدينين: لبس الجورب " الشراب "، وأصبع العوام يقولون: " كفر أبو فلان ولبس الشراب "؛ لأن لبسه " للشراب " كان دليلًا على أنه لا يتوضأ، وكان دليلًا على أنه خرج من منظومة ونسق معين، ودخل في نسق آخر.
ترك الناس الصلاة شيئًا فشيئًا؛ لأنهم ذهبوا عند المغرب للأوبرا، والذين يذهبون إلى الأوبرا كانوا هم عُلَيةَ القوم.
سهروا هناك حتى الساعة الثانية بالليل، فضاع عليهم
المغرب والعشاء، وضاع عليهم الفجر، وانتظرهم البواب، والطباخ، والسائق، فلم يصلوا هم الآخرون، وشاع عدم الصلاة في الناس، وشاع ترك الصلاة بالكلية.
1 / 8
هذا عرض بسيط لا نقف عنده طويلًا، لكن هذه اللحظة الفارقة في تاريخنا: لحظة عصر الخديوي إسماعيل.
يمكن أن نعد ما قبلها من التراث، حتى يدخل في التراث إنتاج الشيخ الباجوري المتوفى (١٢٧٧ هـ لم ١٨٥٦ م)، والذي كان شيخًا للأزهر، وهذا قياسًا لحد التراث على حد الآثار (مائة سنة) كما مرَّ.
* * *
1 / 9
توثيق التراث
هذا التراث - الذي بدأ مع تدوين العلوم عند المسلمين الأوائل في أواخر القرن الثاني الهجري، وامتد إلى عصر شيخ الإسلام الباجوري (١٢٢٧ هـ/١٨٥٦ م) - هو
النتاج الفكري الذي جعل لنفسه محورًا هو النص: الكتاب والسنة، النص بما اشتمل عليه من أحكام، ومن مقاصد شرعية تشتمل على قيم، وهذه القاصد والقيم تعمل في وسط قواعد، وتعمل كل هذه المنظومة في مجال السنن الإلهية التي خلقها اللَّه ﷿ في الكون، والنفس، والمجتمع.
فقد جعل المسلمون النص محورًا لحضارتهم، ومحور الحضارة معناه: أنهم جعلوه معيارا للتقويم، وجعلوه منطلَقًا للخدمة، وجعلوه مرجِعًا يرجعون إليه.
ولذلك نجد أنهم قد وَلَّدوا علومًا كثيرةً، كعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم
النحو، وعلم الصرف، وعلم الوضع، وعلم البلاغة، ...
، أرادوا بهذه العلوم أن يخدموا النص، وكذلك علم الخط يريدون به أن يخدموا النص، هذا الخط العجيب الذي يقول عنه ابن مقلة: إن كتاب اللَّه قد نزل على نسبة إلهية فاضلة، نظمه عجيب معجز، فلا بد أن يكتب بخط مبني على نسبة إلهية فاضلة، وتفتق ذهن ابن مقلة على
مسألة المسدس الدائري الذي رسم فيه الألف، واستطاع بميزان الألف أن يرسم الحروف كلها، فرسمت كل الحروف داخل المسدس داخل الدائرة.
يقول أبو حيان: لقد أوحى اللَّه تسديس الخط لابن مقلة كما أوحى للنحل
بتسديس بيوتها.
وليس هناك خط على وجه الأرض وإلى يومنا هذا يسير على نسبة واحدة كالخط العربي وما تفتق ذهن المسلمين بذلك إلا لأنهم قد خدموا النص، وأرادوا خدمته، وجعلوه محورًا واضخا لحضارتهم.
الفنون مثلًا وما حدث فيها من رسم وتعشيبات نباتية، وتلاعب بالخطوط،
والأشكال الهندسية، والتلاعب بالألوان، كل هذا إنما يحاولون به أن يصلوا إلى خدمة شيء معين جعلوه محورًا ينطلقون منه في حياتهم.
اقتضى وجود النص مسألة التوثيق، فالتوثيق هو السؤال الأول الذي يطرح نفسه على
1 / 10
الإنسان الذي يسعى إلى معرفة الحق، هل الذي بين يديَّ الآن هو الذي نطق به رسول اللَّه ﷺ، سواء أكان قرآنًا، أم سنة صادرة عن النبي ﷺ
فمن أجل الإجابة على هذا السؤال وُجِدَ ما يقرب من عشرين علمًا، تتعلق بعلم الرجال وعلم الأسانيد، وعلوم الجرح والتعديل، وعلوم مصطلح الحديث، علوم كثيرة تحاول أن تضبط المسألة.
ليس هناك كتاب على وجه الأرض له تلك الأسانيد المتصلة، التي يقول كل قارئ للقرآن فيها (والقارئ هنا معناه: متحمل القراءة، وعالم القراءة) لقد سمعت هذا الكلام حرفًا حرفًا بالتشكيل، وعلى هذا الخط الموجود أمامنا، من شيخي الذي ولد يوم كذا وتوفي سنة كذا، وكان اسمه كذا وكان يضحك ويقول كذا وكذا، وكان يبكي
في المواقف الفلانية، تاريخ حياته كاملًا موجود في ملف في هذا العلم، وهذا الشيخ يقول أيضًا: إنه سمع هذا الكلام عن شيخ آخر، وله كل هذه المواصفات، ليس هناك أحد في هذا السند من المجاهيل التي لا نعرفها، فنحن وحتى الآن نعرف كل واحد في هذه السلسلة، وهذا النقل ليس عن شخصٍ واحدٍ يمكن أن يكذب، ويمكن أن يخطئ، ويمكن أن يضعف في موقف معين، لا عن ألف، بل قد يكون عن آلاف،
فابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر، أورد ما يقرب من ألفى طريق للقرآن، وكتاب النشر هذا، كتاب واحد، حصر ألف طريق، كأن هناك ألفًا قد تلقى عنهم ابن الجزري، وهؤلاء الألف قد تلقوا عن ألف من مشايخهم وهكذا، والأمر أعظم من هذا بكثير.
إن المسلمين يفتخرون بكتابهم، وأنه محفوظ عليهم، وأنه وارد إليهم بالأسانيد التي لو قارناها بكتب الديانات الأخرى، لوجدنا أن التوراة مثلًا يقول ابن حزم عنها:
لها سندُ واحدُ فقط، آخر شخصٍ في السند بينه وبين سيدنا موسى ﷺ ألف سنة أو أكثر.
كما أنه لا توجد النسخة الأصلية من الإنجيل، وإنما الذي يوجد له ترجمة يونانية، ومع ذلك، فمن المتُرجِم؟ لا نعرف.
مسألة مضحكة، ومحزنة، ومخزية أن يظل العقل البشري في حيرة من أمره أمام هذا الوضوح البين، بين مقارنة ظاهرية سطحية، تثبت من كل جهة قبل التعمق أن هذا
1 / 11
الدين، دين حفظه اللَّه ﷾، ودين قد دافع عنه اللَّه تعالى، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من تلك الأديان والكتب.
من المترجم؟ لا نعرف، ما هي الأسانيد إلى تلك الترجمة؟ لا نعرف.
ثم إن مجموعة الباباوات الذين تولوا الكنيسة، والمعروف عنهم النقل إلى هذا المصدر المبتور: واحد منهم ثبت لديهم أنه من عبدة الشياطين، ومجموعة منهم ثبت لديهم أنهم من المجرمين السفاحين، ومجموعة أخرى من الداعرين، هذا ليس كلامنا، هذا كلامهم.
أما السند عندنا فوصل به الحال إلى أن رحل البخاري الطلب الحديث فذهب إلى شخص للرواية، فوجده ممسكًا بعشب في يده يحاول أن يجذب إليه بهيمته، فلما جاءت إليه أمسك بها ورمى العشب، فتركه البخاري، ولم يُحَدث عنه، وقال: إنك قد كذبت عليها فلم يأمنه.
إلى هذا الحد يتم عندنا التوثق.
وَتذكَّر البخاريُّ أن النبي ﷺ عندما وجد امرأة تريد أن تمسك بصبيها، فقدمت له تمرة، ثم لما أمسكت به أرادت أن تحرمه منها، فقال لها: لو فعلت لكذبت.
هذا المنهج - منهج توثيق المصدر - أثر تأثيرًا كبيرًا في عقلية المسلمين، وامتد ذلك التوثيق من المصدر (الكتاب والسنة) إلى الكتب التي ألفها الناس لخدمة هذا المصدر.
ولذلك هناك علم قد نشأ اسمه " علم الأثبات والمسانيد "،
علم الأثبات؟ السند ينتهي إلى المؤلف، وليس إلى رسول اللَّه ﷺ،
وأصبحنا إذا ما أردنا أن نقرأ كتابًا، لا بد علينا أولًا أن نتوثق أن هذا الكتاب منسوب نسبةً صحيحة إلى مؤلفه بالسند المتصل أيضًا.
ألف الشوكاني كتابًا ماتعًا أسماه: " إتحاف الأكابر بأسانيد الدفاتر "،
وليست بأسانيد الأحاديث النبوية فقط، هذا أمر آخر في علم الحديث، لكن علم الحديث،
وعلم القراءات، وما حدث فيه من توثيق أثر على عقلية المسلم، فأصبح طلب التوثيق ضروريًّا في كل حياته، فأصبح هناك طلب لقضية أسانيد الدفاتر، وأصبح منهجًا يتخذ، وأثر هذا حتى في شكل النقل، فلا بد علينا أن نحفظ الوسيلة، والطريقة التي
بها النقل، ومن هنا وضع العلماء الأثبات التي جمعت أسانيد العلوم كلها.
ومن جهة أخرى أخذ توثيق النص منحىً آخر بتصحيحه، وإتقانه في نفسه: فنرى
1 / 12
ابن الصلاح في مقدمته يرشد الطلبة والنساخ إلى كيفية كتابة النصوص، ونقلها، والتأكد من صحتها بمصطلحات هي أنقى وأبر من مصطلحات المستشرقين وأضبط،
ومن ضمن ما ذكره ابن الصلاح: أنه ينبغي على القارئ عند القراءة إذا ما وجد سقطًا أو خطأ أن لا يصلح في أصل النسخة، خيفة أن يكون ما ظنه سقطًا، أو خطأ ليس كذلك، بل على القارئ أن يصلح في الهامش وأن يشير بعلامة " صح " فوق الكلمة، ويخرج في الهامش ويقول ما يريد، سواء أكان من عنده أم كان من نسخة أخرى،
حتى يدع لآخرين من بعده ينظرون في هذه النسخة، ولا يقطع عليهم الطريق، ولا يحرف كلام الناس، وحتى لا يصبح عنده تسلط على الآخرين في العلم، وأن ما ذهب إليه قطعي، وأن ما ذهب إليه لابد على الناس جميعًا أن يتمثلوا به.
وتثبت أيضًا السماعات على النسخة، ومعنى السماعات: أن يقول المتلقي للكتاب مثلًا: " سمعت هذا الكتاب من الشيخ الفلاني، حيث قال لي: إنه سمعه من الشيخ الفلاني بتاريخ كذا في المكان الفلاني "، فيحدد الشخص، والزمان، والمكان، حتى إذا ما كان هناك اشتباه في الأسماء بين المشايخ يحدث تمييز بينهم بالتاريخ، وإذا ما كان هناك كذب، أو زيادة قد حرفها محرف، أو وضعها واضع، تتضح هذه عند العلماء
الذين يعرفون..
وبهذه الطريقة كشف عن كثير من أنواع التلاعب، وهذا علم قائم بذاته.
الحقيقة أن تحول المناهج إلى تلك الملكات، هي التي نفتقدها نحن الآن، نحن
أصبح عندنا معلومات، ولم يعد عندنا علم.
والفرق يينهما: أن المعلومات مفردة، والعلم نسق مرتبط بعضه مع بعض، له منهج، وله استعمال، وهذا هو الفرق بين العالم والمثقف، فالمثقف عنده كثير من المعلومات في مادة معينة، لكن ليس عالمًا في هذه المادة، وقد تفوق معلوماته معلومات بعض علماء هذه المادة، لكن لابد علينا أن نعي المنهج، وأن نعي طرق الاستعمال، وأن نعي الربط بين المعلومات، وأن نعي المعلومات أيضًا حتى نُحصِّل علمًا معينا.
وضع العلماء طرقًا ثمانية من طرق التحمل - أي تحمل العلم - أيضًا أخذوها من الحديث بعضها يتعلق بطريقة الأداء:
1 / 13
فمن ذلك: أن يقرأ الشيخ والتلميذ يسمع، ويقول: قد سمعت هذا، وهذا يكون أضبط؛ لأن الشيخ عندما يقرأ، يقرأ كثير من طلبة العلم الآن، من غير قراءة على عالم يستطيع أن يصحح، وأن ينقل الملكات، والمعلومات، ومناهج البحث العلمي منه إلى الطالب.
على كل حال فإن حضارة المسلمين لم تمت، بل نامت فقط، والنائم يستيقظ، واللَّه ﷿ ييعث مَنْ في القبور، على أن حالة النوم هذه استمرت عند المسلمين حتى دخول المطبعة الأميرية التي فتحها محمد علي (٨٢١ ام) لطبع كتب الجهادية،
وا لفنون، والزراعة، والصناعة، والطب، وغيرها.
ثم بعد ذلك بدأت في طباعة المصحف سنة ١٨٣٢ م)، لأن المشايخ حرموا طباعة الصحف ابتداء لسببين: أحدهما موضوعي، والآخر شكلي.
السبب الموضوعي: أنه سيكون فيه أخطاء فادحة نظرًا لصعوبة التصحيح وبدائية عملية الطباعة، وأنه لا بد علينا أن نكتبه بأيدينا حتى نتأكد من عدم وجود الأخطاء.
والسبب الشكلي: أنهم قد سمعوا أن الاسطوانة التي تدور عليها ورق الطباعة
مصنوعة من جلد الخنزير، فلا ينبغي أن تدنس صفحات المصحف بجلد الخنزير، فتأخرت طباعة المصحف.
ثم بعد ذلك أصدر محمد علي باشا، قرارا بطبع المصحف حتى ولو كان حرامًا!
وكانت هذه خطوة وعلامة فارقة من ارتباط الأحكام الشرعية بالسياسة فطبع
المصحف، طبع منه أول الأمر مائتا نسخة، واتضح أن فيه أخطاء فاحشة، فصححها،
وأذكر أن التصحيح قد تكلف ١٣ جنيهًا ذهبا لأجل تصحيح المصحف المطبوع.
وبعد ذلك بدأت دار الطاعة الأميرية في إخراج أوائل منتجاتها الأدبية، فقام
علماء المطبعة الأميرية من المصححين المطعيين.
وكانوا من أكابر العلماء أمثال الشيخ
قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني.
1 / 14
والشيخ نصر الهوريني هذا له شرح على ديباجة القاموس المحيط للفيروزآبادي، حيث إنه أشرف على طبعه فألف هذا الشرح، ولا يؤلف مثله إلا من هو أعلى من الفيروزآبادي أو مثله، وهذا ييين لك من المصحح، ليس كالمصحح المطبعي الآن لا يدري عن نفسه شيئًا، حتى أصبحت مهنة مَنْ لا مهنة له، بل لقد كان المصحح من كبار العلماء.
لقد لاقى التراث اهتمامًا كبيرًا في قضايا التوثيق والنقل إلى أن أصبحت الطبعة
الأميرية من أي كتاب وإلى يومنا هذا، هي العمدة والمعتمد.
ومثل الشيخ نصر الهوريني: الشيخ قطة العدوي، وحسن بك حسني، وأحمد باشا زكي شيخ العروبة، وأحمد باشا تيمور.
وبدأ أحمد باشا تيمور ما نطلق عليه الآن بتكشيف التراث، وذلك في التذكرة التيمورية، وفي الموسوعة التيمورية، فقد كان يقرأ، ويأخذ الفوائد والقواعد والشوارد،
ويضعها في نظام خاص، طبع بعد موته؛ لأنه كان يفتح الملفات ولا يغلقها، لأنه كان دائمًا يلقي فيها بالدرر التي يلتقطها من بحار التراث في اتجاهه الأدبي اللغوي إلى أن ألفى أكثر من ثلاثين كتابًا على هذا الوضع، وأغلبها قد طبع بعد وفاته، لأنها لم تكمل حتى في حياته، لأنها مستمرة،
ولأنها ملفات تكشيف.
لقد قام كثير من علماء الأمة ممن عرفناهم وممن لم نعرفهم من الجنود المجهولين
1 / 15
بالحفاظ على قضية التوثيق أثناء الانتقال من المخطوط إلى المطبوع.
وأول من كتب في علم مستقل هو علم نقد النصوص، ومحاولة نشرها نشرًا علميًّا
هو: " برجستراسر " كتب كتابه بالعربية سماه " نقد النصوص "، وكان مجموعة من المحاضرات التي يلقيها على طلبته في جامعة القاهرة.
وبعد ذلك كتب من العرب عبد السلام هارون ﵀، وترجم أحمد شلبي شيئًا ما في الموضوع.
ثم انثالت بعد ذلك الكتب التي تتكلم عن كيفية نشر التراث نشرًا محققًا مخدومًا، له فهارس وله مقدمة، كيف نقارن بين النسخ، وكيف نخرج نسخة معتمدة؟ وما هي شروط تلك النسخ؟.
واستفيد في هذا المجال بكثير مما وصل إليه الإنسان في الشرق والغرب، واختلفت المصطلحات، ولكن المقصود هو الوصول إلى المضمون والمعنى، وهو أن نحافظ على التراث، وأن نوثقه، هذه إطلالة سريعة على قضية توثيق التراث قديمًا وحديثًا.
1 / 16
فهم التراث
إلا أن هذا التراث الذي بين أيدينا في الحقيقة لا بد علينا أن نفهمه، وكثير من الناس يرفضون التراث رفضًا تامًا، وهذا الرفض رفض وجداني فقط؛ لأنه لم يفهم التراث أصلًا، حتى يرفض ما فيه.
وكثير من الناس يقبلون التراث قبولًا تامًّا، وهذا أيضًا قبول وجداني، لأنه لم يفهم ما فيه أيضًا، نعم هو خير من الأول الذي رفض، لأنه ينتمي إلى آبائه الصالحين، وإلى سلفه الأماجد.
لكن لا بد علينا أن نفهم التراث، والتراث مكتوب في إطار طرائق معينة،
ونظريات، وأفكار، وأساليب ما في التفكير والتحليل، فله ما يشبه
"الشفرة "، هذه "الشفرة " نريد أن نلقي شيئًا من الضوء عليها.
ولقد تنبه كثير من العلماء إلى هذا، أو إلى شيء منه، مثل الشيخ طنطاوي جوهري ﵀ فألف كتابه الماتع " بهجة العلوم "، محاولًا أن يلقي الضوء على تلك التصورات الكلية التي كانت في أذهان السلف الصالح.
هذه التصورات نجدها في مقدمات علم الكلام، نجدها في علم لم يعد يدرس اسمه " الحكمة العالية "، وموضوعه الوجود والعدم، نجد مثل هذه التصورات عند التأمل والتدبر في عباراتهم، نجدها في النطق الصوري العربي، نجدها مشتتة.
وألف عبد القادر بن بدران كتابًا أسماه المدخل، يحاول فيه أن يلقي الضوء على جانب آخر من هذه الشفرة التي كتب بها التراث.
كما اهتم الأتراك كثيرًا بمثل ذلك حتى يفهموا، فعلماء الدولة العثمانية، وهي ناطقة بالتركية أرادوا أن يفهموا بعمق حتى يساهموا في البناء الفقهي، فكانت مؤلفاتهم تشتمل على كثير من حل تلك الشفرة.
1 / 17
ولقد تأملت كثيرًا في هذه القضية حتى أرى ما الحائل الذي يحول بيننا وبين نص تراثي مكتوب، فوجدت أن الأمر لا يخلو من أحد أمور خمسة:
١ - أن يكون القارئ المعاصر قد فقد التصور الكلي الذي كان شائعًا عند الكاتبين للتراث عبر الزمان والمكان، وعلى ذلك من الممكن أن نقول: إنه ينبغي علينا - حتى نفهم التراث فهمًا دقيقًا واعيًا - أن ندرك أولًا التصورات الكلية التي كانت قائمة في أذهانهم، وحاكمة على كتاباتهم حتى شاعت هذه التصورات، وكأنها مسلَّمات.
فعندما نفقد هذه التصورات، أو لا نستوعبها، أو لا نستحضرها حين قراءتنا للتراث، فإن خيرًا كثيرًا يفوتنا، وإن فَهْمًا دقيقًا يعوزنا.
٢ - أيضًا فقد يفقد القارئ المعاصر النظريات الكلية التي حكمت الذهن العلمي عندما أنشأ تلك العلوم، أو تعامل وتفاعل معها، أو دوَّنها، أو انقسم فيها إلى مدارس ...
وإلخ.
هذه النظريات الكلية عادة وغالبًا لا نجدها مستورة في الكتب التي بين أيدينا بطريقة شاملة، بل نجد عناصر مشتتة في الكتب، وموزعة على الأعصار المختلفة، وموزعة أيضًا بين المذاهب المتعددة، وبين الأشخاص، والعلماء، والفقهاء الذين قاموا بإنتاج كل ذلك،
ومنذ خمسين سنة والعلماء المسلمون يحاولون تجميع وصياغة تلك النظريات
الكلية في بعض العلوم خاصة الفقه واللغة، ويحاولون أن يستنبطوا تلك النظريات وأن يكتبوا رسائل علمية (ماجستير ودكتوراه) فيها، ولقد قطعوا شوطًا كبيرًا، فكتبوا في نظرية الملكية، وفي نظرية المال، وفي نظرية الحق، وفي نظرية العقد، وفي نظرية الضمان، وفي نظرية المسئولية وهكذا، كتبوا عن هذا كثيرًا، لكن الأمر لم يسر في
كل العلوم سيرته في الفقه، كما أنه لم يسر أيضًا بصورة منتظمة، وعلى درجة واحدة من الإتقان، ومن العمق، فأصبح عندنا نظريات استطعنا أن ندرك فيها عمق التفكير الفقهي الموررث، وهناك نظريات ما زالت في بداياتها من ناحية الصياغة والشمول.
فنظرية العقد في الفقه الإسلامي مثلًا، نضجت بما فيه الكفاية، لأنا نستعملها
كمفتاح نستطع به أن ندرك كثيرًا من العقود الإسلامية، فهمًا، أو إنشاء، - في حين أن الشخصية الاعتبارية وأحكامها ما زالت في بداية الطريق.
٣ - الأمر الثالث الذي يجعل الإنسان غير قادر على أن يتصل الاتصال المرجو
1 / 18
بالتراث هو قضية المصطلحات، فلكل عصر ولكل مذهب ولكل علم مصطلحاته الدقيقة، التي إذا ما فقدها القارئ المعاصر، أو طالب العلم، أو الباحث فإنه لا يدرك كثيرًا مما أمامه، ويقف هذا حجر عثرة دون الفَهْم العميق، أو الفهم المتأني.
٤ - أما الأمر الرابع فهو قضية فقد العلوم الخادمة، فكل علم من هذه العلوم كان يعتمد على بنية فكرية، هي عبارة عما حصله العالم من درس في مختلف العلوم الأخرى، فالذي كتب في الفقه درس قبله المنطق، ودرس علم الكلام، ودرس ما كانوا يسمونه بعلم الوضع، ودرس النحو، ودرس البلاغة، ودرس علوم العربية،
ودرس الأصول، ودرس علومًا كثيرة أخرى، كوّنت نسيجه الفكري، وكوَّنت بنيته الذهنية، فجلس وهو يتكلم في الفقه يتكلم بهذه الأداة التي تولَّدت عنده في ذهنه من دروسه المختلفة، نحن الآن عندما نريد أن نعادل شهادات الكليات، فإننا نطلع على كمِّ
الدراسة، وكم الساعات، وكم المعلومات التي تلقاها طالب معين في جامعة بعينها، حتى نرى ما إذا كان مساويًا لما تلقاه الآخر في جامعة أخرى.
إن كمَّ الساعات التي كان يتلقاها الفقيه قديمًا كان يشتمل على علومٍ كثيرةٍ، قد تغيب عنا، وعن كثير من المطلعين اليوم.
كل هذا أَثَّر في إنشاء العبارة، وفي الأداء، وفي الصياغة، وفي كتابة العلوم بصورة عامة.
ولهذا لما كتب الفقه رأيناه وكأنه مُسْتَبطِن للمنطق، ومُسْتَبطِن لما عليه علماء الكلام من مفاهيم، ومُسْتَثطِن أيضًا لما عليه علماء الحكمة العالية وعلماء الأصول.
وهكذا في كل فن، وفي كل علم عندما كان صاحبه يصوغه، فإنه يصوغه متأثرًا بما قد تلقاه من درس في حياته العلمية، فكانت العلوم بعضها يخدم بعضًا، وتكون نسيجًا وبنيةً فكريةً واحدةً ومتسقةً في نفس الوقت.
وفهم هذا الجانب أمرُ أساس حتى نفهم بدقة كلام الأقدمين، وحتى نستطيع بعد ذلك أن نكمل المسيرة، ونبني كما بنوا.
٥ - أما الأمر الخامس فهو قضية الصياغة اللغوية والمنطقية، والتي تحتم علينا أن
ندرك فلسفة اللغة وعلاقتها بما في الأذهان، وبما في الأعيان.
هذه الصياغات لا بد علينا أن نقف عندها كثيرًا، وأن نعيها بطريقة أساسية، حتى تصبح مفتاحًا لنا لقراءة التراث كله بكافة تشعباته، وبكافة أنواعه.
هذه هي الأمور الخمسة التي ينبغي أن تُعالجَ بشيء من التفصيل، ولا أدعى أن هذه
1 / 19
الأمور الخمس هي فقط التي نحتاجها لفك شفرة التراث، لكنها هي أهم المحاور على كل حال، كما أنني أريد أن أبين أن الاتصال بالتراث على درجات ومستويات مختلفة.
ونحن الآن في المستوى الأول منه، ولكننا إذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام، أو أن ننتقل نقلة نوعية، فإننا ينبغي علينا أن نعالج هذه الموضوعات بمستوى آخر غير الذي سنعالجه في هذه العجالة.
فالمستويات منها ما هو مبتدئ، ومنها ما هو متوسط، ومنها ما هو منتهي.
* * *
1 / 20
الفصل الثاني
من مداخل التراث
ذكرنا في الفصل الأول أن الأمر الثالث الذي نستطع به أن نفك شفرة التراث، هو قضية المصطلحات، ومعرفة مبادئ العلوم، وقواعد وفوائد حول العلم الذي ندخل فيه.
ولنضرب مثلًا بفقه الشافعية، ثم الحنفية، ثم المالكية، ثم الحنابلة..
* * *
مذهب الشافعية
ترجمة الإمام الشافعي:
هو: أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف.
ولد في سنة ١٥٠ هـ بغزة، ومات بمصر في سنة ٢٠٤ هـ.
وقد قدم الشافعي مكة صغيرًا، ونشأ يتيمًا فقيرًا في حجر والدته، حتى إنها لم يكن معها ما تعطي المعلم.
حفظ الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى القرآن، ولما يتجاوز سبع سنين،
وكان يقرأ على إسماعيل بن قسطنطين، وكان شيخ أهل مكة في زمانه، وأخذ العلم عن شيوخ مكة منهم: سفيان بن عيينة إمام أهل الحديث، ومسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة،
وسعيد بن سالم القداح، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود.
وقد حيل بين الشافعي رحمه اللَّه تعالى وبين الرحلة إلى الإمام الليث بن سعد بمصر.
ثم رحل ﵀ إلى المدينة للأخذ عن علمائها وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فقد كان حفظ موطأ الإمام مالك، وأراد أن يتلقاه عن الإمام مالك نفسه، وقد استصغر الإمام مالك سِنَّه في أول الأمر، وطلب من الشافعي أن يحضر معه من يقرأ له، فلما سمع قراءة الشافعي أعجب مالك بها جدًّا، لفصاحة الشافعي وجودة قراءته، وقد لازمه من
سنة ١٦٣ هـ، وحتى وفاته سنة ١٧٩ هـ.
كما أخذ بالمدينة أيضًا عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد
الداراوردي، وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك، وعبد الله ابن نافع الصائغ صاحب ابن أبي ذئب.
1 / 21
وكان أول أخذه العلم عن علماء بغداد سنة ١٨٤ هـ، وخاصة الإمام محمد بن الحسنن صاحب الإمام أبي حنيفة صاحب المذهب المشهور، فتلقى جميع مصنفاته، ودرس مذهب الحنفية دراسة واسعة.
كما أخذ ببغداد عن: وكيع بن الجراح، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي، وإسماعيل ابن علية، وهؤلاء الأربعة من حفاظ الحديث النبوي.
وقد أقام الشافعي مدة ببغداد، سافر بعدها عائدًا إلى بلده مكة، ليعقد بها أول مجالسه في الحرم المكي.
ثم عاد الشافعي من مكة إلى بغداد، وذلك سنة ١٩٥ هـ، وقد بلغ من العمر خمس وأربعون سنة، وقد استوى عالمًا له منهجه المتكامل، ومذهبه الخاص به.
وقد كان للشافعي في هذه الرحلة الثانية أثر واضح على الحياة العلمية في بغداد.
ثم رجع الإمام الشافعي ﵀ إلى مكة، ليعود إلى بغداد مرة أخيرة في سنة ١٩٨ هـ،
إلا أنه لم يمكث في هذه المرة الأخيرة غير بضعة أشهر عزم فيها على الرحيل إلى مصر.
غادر الإمام الشافعي ﵀ بغداد بعد أن نشر بها مذهبه، وترك بها عددًا كبيرًا من أصحابه تولوا بعده نشر المذهب، والتصنيف فيه، حتى أصبحت لهم مدرسةً متميزةً خاصة بهم داخل المذهب الشافعي، عرفت بطريقة العراقيين.
وكان الإمام الشافعي ﵀ يعرف جيدًا أحوال مصر قبل قدومه إليها، فقد سأل الربيع عن أهل مصر قبل أن يرحل إليهم فقال الربيع: هم فرقتان، فرقة مالت إلى قول مالك، وتاضلت عنه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عنه.
فقال الإمام الشافعي ﵀: أرجو أن أقدم مصر إن شاء اللَّه، فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا، فكان كما قال ﵀.
وكان شديد الحب لأصحابه، واسع الجود معهم، يقضي لهم حوائجهم،
ويساعدهم في أمورهم.
ولقد علم الشافعي كثيرًا من الناس، وله تلامذة في بغداد، وله تلامذة في مصر، وله أيضًا تلامذة في خراسان.
هكذا ينبغي علينا أن نتصور صورة لهذا المذهب، كيف نشأ؟ وكيف نقل إلينا؟
وكيف نستيطع أن نتعامل معه؟ فالإمام الشافعي ﵀ قد ألف أكثر من ثلاثين كتابا،
1 / 22
وكثير من هذه الكتب قد وصل إلينا، وبعضها قد فقد، ولم يصل إلينا، وكثير مما وصل إلينا قد طبع، وعلينا أن نتتبع هذا كله.
وقد مر المذهب الشافعي بعدة أطوار:
أ - طور الإعداد والتكوين: وابتدأ هذا الطور بعد وفاة الإمام مالك سنة ١٧٩ هـ،
واستمر فترة طويلة حيث استغرق حوالي ستة عشر عامًا، إلى أن قدم الإمام الشافعي إلى بغداد للمرة الثانية سنة ١٩٥ هـ.
ب - طور الظهور للمذهب القديم: واحتلت هذه المرحلة الفترة الزمنية من وقت قدوم الشافعي بغداد المرة الثانية سنة ١٩٥ هـ، وحتى رحيله إلى مصر سنة ١٩٩ هـ.
ج - طور النضج والاكتمال لمذهبه الجديد: وبدأ بقدومه إلى مصر سنة ١٩٩ هـ،
وحتى وفاته بها سنة ٢٥٤ هـ.
د - طور التخريج والتذييل: ابتدأ على يد أصحاب الشافعي، من بعد وفاة الإمام الشافعي، وامتد حتى منتصف القرن الخامس تقرييًا - وبعض الباحثين يصل به إلى القرن السابع الهجري - وفي هذا الطور نشط الأصحاب إلى استخراج المسائل من أصول المذهب.
هـ - طور الاستقرار: حيث استقرت مدارس المذهب، وتم الجمع بينها، والانتهاء من الترجيح فيما اختلف فيه علماء المذهب، ثم وضعت الكتب المختصرة في المذهب التي تشمل على الراجح في المذهب، وشرح هذه المختصرات بطريقة مدرسية.
1 / 23
أسس المذهب الشافعي:
من مداخل التراث
١ - اتباع الكتاب والسنة: لا شك في شدة اتباع الإمام الشافعي ﵀ للسنة النبوية الشريفة حتى إنه قال: كل حديث عن النبي ﷺ فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني.
٢ - اتباع الحق والدليل: وهذه من أهم مميزات مذهب الإمام الشافعي ﵀، فما كان يحول بينه وبين اتباعه للدليل حائل من متابعة عمل أهل بلده، أو تقليد أحد من الأئمة السابقين عليه، فنجد مثلًا الإمام مالك يرى عمل أهل المدينة حجة يأخذ بها،
ولا يدعه لمرويات أحد من أهل البلاد الأخرى، ويرى أن عمل أهل المدينة هو آخر الأمر من رسول الله ﷺ.
بينما كان الإمام أبو حنيفة يأخذ بما كان عليه أهل بلده بالعراق،
ولا يخالفهم.
يقول الإمام الشافعي ﵀ تعالى للإمام أحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحًا فأعلموني -: كوفيًّا كان، أو بصريًّا، أو شاميًّا، حتى أذهب إليه إن كان صحيحًا.
٣ - الاهتمام بأقوال الصحابة: حيث كان الشافعي يرى أن أقوال الصحابة فيما اتفقوا عليه حجة أما إذا اختلف الصحابة في مسألة، فيحتاج الأمر إلى الترجيح بينهم بدليل آخر.
ويرى الشافعي أنه إذا انفرد الصحابي بقول ولم يوجد في المسألة نص من الكتاب، أو السنة أن هذا القول أولى من القياس.
وإذا كان قول الصحابي في الأمور التي فيها مجال للاجتهاد، فقد رأى الإمام
الشافعي أن قول الصحابي ليس بحجة على غيره من المجتهدين.
٤ - الأخذ بالقياس: وقف الإمام الشافعي في القياس موقفًا وسطًا، فلم يتشدد فيه تشدد الإمام مالك، ولم يتوسع فيه توسع الإمام أبي حنيفة، ومع هذا فكان الإمام الشافعي يرى للقياس أهمية كبيرة في العملية الفقهية، حتى جعله هو والاجتهاد بمعنى واحد، وكان ﵀ يقول: الاجتهاد القياس.
٥ - اعتبار الأصل في الأشياء: من الأسس التي بنى عليها الإمام الشافعي ﵀
1 / 24