Introduction to the Study of Islamic Creed
مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية
Editorial
مكتبة السوادي للتوزيع
Número de edición
الثانية ١٤١٧هـ
Año de publicación
١٩٩٦م
Géneros
مقدمة
...
وتزاحمت فيه الكتب على رفوف المكتبات، شيقة العنوان، جميلة التغليف.
وعندما استعرضت هذا الكتاب تذكرت يوم كنا نتلقى العلم والمعرفة من أمهات كتب العقيدة، بدءا بكتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" وشرح أرجوزات المؤلفين في العقيدة، واستنباط آيات الأحكام في العقيدة من كتب الشوكاني وغيره، ومن الصحاح وشروحها المتعددة.
إن العقيدة هي ركيزة الإسلام الأولى، وأول أركان الإسلام -وهي الشهادة- عقيدة متفرع منها توحيد الربوبية والألوهية، ثم يتبعه توحيد الأسماء والصفات. من أجل ذلك كانت العقيدة هي الركيزة الأولى التي تعتمد عليها أركان الإسلام الخمسة، فلا أركان بلا عقيدة ولا إسلام بلا ركيزة.
والفطرة التي فطر الله الناس عليها عقيدة صافية، لا يشوبها شرك في الاعتقاد، ولا عمل يعتريه الضلال والفساد. ولذلك كان استمرار عقيدة الفطرة أمرا مطلوبا من كل موحِّد سلمت عقيدته من الدخائل المبطلة. وتلك هي الفطرة التي حدّدها قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ . والعلم هنا هو الاعتقاد والمعرفة والإدراك لتلك الحقيقة العظيمة المرتبطة بحياة البشر ودينهم وأعمالهم.
وهذا الكتاب الذي يبحث في العقيدة، كتاب جمع بين دفتيه جانبين يمثلان البحث في أصول العقيدة، وتحديد النظام المنبثق عن هذه الأصول كما يشير المؤلف.
وعندما استعرضت هذا الكتاب وجدته كتابا نافعا لطالب العلم، يعرض للقضايا في سهولة ويسر، ويسعى لتقريب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم، ويؤيد
1 / 2
ذلك العرض بالدليل الناصع والمرجع النافع والأسلوب البارع، ويعتمد على حسن الدلالة ووضوح الإحالة، وذلك مطلب المتعلمين والدارسين.
لقد ألف العلماء الأجلاء في العقيدة مؤلفات شتى، تباينت في طريقة تناولها لهذا الجانب الهام في حياة المسلمين، وكلها نافع ومفيد، والحمد لله. ولكنها تتباين في طراز القارئين؛ فبعضها لا يدركه إلا العالم المتخصص، وبعضها الآخر يحتاج إلى إضافة وتحليل وشرح وتعليل!
ولقد جاء هذا الكتاب -فيما أراه- صالحا لطالب العلم الذي يبتغي معرفة الأصول ونظامها، ويحتاج إلى الشرح والتبسيط وتقريب المعرفة. وهذا نمط من التأليف لا يتهيأ لكل كاتب، ولا يتيسر لكل طالب.
وإذا كانت مصادر العقيدة معروفة مألوفة، فإن المؤلف قد استطاع أن يقرب إلى الأفهام مدلولات تسهل إثبات الحقيقة الراجعة إلى المصدر بدليل واضح، لا يحتاج إلى أدلة شارحة. وذلك ما يريده المتعلم في هذا المجال.
وإذا كان المؤلف في هذا الكتاب قد استنبط من بعض الأدلة مقاييس لم تكن قائمة في عصر السابقين، أوجدها العصر الذي نعيشه، فقد لا يوافقه البعض على جوانب مما ذكر، ولكن أمر الاجتهاد في العلم والمعرفة مفتوح، فتح بابه الإسلام لأهل العلم، وجعل مرده لكتاب الله وسنة نبيه ﷺ ثم لأهل العلم والمعرفة، وذلك ما قام به المؤلف؛ فإن إرجاع الرأي في العقيدة لأهل العلم -وقد أشار المؤلف إلى جمْع منهم- هو من دلائل الإجماع. ولا إخال إلا أنهم سيقيِّمون هذا الكتاب خير تقييم، والله المستعان.
وبعد:
فهذا الكتاب -كما ظهر- فيه من الجهد والتتبع والاستقصاء والاجتهاد ما يدل
1 / 3
على عزم مؤلفه أن يصل به إلى التمام، وفوق كل ذي علم عليم. ومما يشرح النفس ويريح الخاطر هو اجتهاده في تتبع الأدلة وحصر الشواهد والرجوع إلى أمهات الكتب في كل موضوع يطرقه، وفي كل معنى يأتيه، والتثبّت مطلوب لكل عالم يريد لعلمه قبولا ومكانة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصواب، وأن يجنبنا الخطأ والارتياب، وأن يجعل أعمالنا عبادة الصادقين معه، المخلصين لدينه، سالمة من المؤاخذة. ونسأله أن لا يوكلنا إلى علمنا وإلى عملنا، فإنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 / 4
مقدمات:
تقاريظ وكلمات:
تفضّل عدد من أهل العلم والفكر بكلمات أو مقالات عن الكتاب في طبعته الأولى نثبت بعضها، شاكرين لهم جميعهم اهتمامهم وحسن ظنهم.
كلمة معالي الشيخ ناصر بن حمد الراشد، وزير الدولة رئيس ديوان المظالم، عضو هيئة كبار العلماء بالرياض:
الأخ الأستاذ عثمان بن جمعة ضميرية سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد: فتلقيت شاكرا ومقدرا إهداءكم القيِّم مؤلفكم "مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية" الذي جمع بين دفتيه جانبين يمثلان البحث في أصول العقيدة وتحديد النظام المنبثق عن هذه الأصول. علاوة على أنه يعرض للقضايا في سهولة ويسر، ويقرّب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم.
وكنت قد قرأت الكتاب من قبل، وفي قراءتي الأخيرة ازداد إعجابي به؛ لما فيه من تحقيق وتخريج وحسن استنباط. زادكم الله علما وفهما وأجزل مثوبتكم.
وفي الختام نسأل الله -جل وعلا- التوفيق والسداد للجميع، وأن ينفع بهذا المؤلف.
رئيس ديون المظالم
المخلص
ناصر بن حمد الراشد
1 / 3
من كلمة سعادة الدكتور إبراهيم عوض:
كتب الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة، مقالا مطولا بجريدة "الجزيرة" العدد "٨١٢٠"، عرض فيه الكتاب عرضا شاملا، وأبدى بعض وجهات النظر، وناقش بعض القضايا المتصلة بمباحثه، نقتطف منه بعض الفقرات، حيث قال سعادته:
قدم الأستاذ عثمان جمعة ضميرية للمكتبة الإسلامية عددا غير قليل من الدراسات، تأليفا وإخراجا ... وقد ظهر كتابه هذا "مدخل لدراسة العقيدة" في طبعته الأولى سنة ١٤١٤هـ، وهو يضم مباحث شائقة، ويجوس بين المكتبة الإسلامية العقدية، ويشرح للقارئ جوانب كثيرة من مباحث العقيدة، وليس بالضرورة أن تحمل هذا العنوان ...
وقد اعتمد المؤلف في كتابه عدة مناهج: فهو في الفصل التمهيدي قد اتبع المنهج التاريخي، وفي معظم الأحيان نراه يأخذ بالمنهج الوصفي، إذ يقدم للقارئ تحليلا للموضوع الذي يتناوله، عارضا سماته التي تميزه وتجعل له ذاتيته الخاصة. ومع ذلك فهو لم يغفل الجانب التقويمي، وبخاصة حين يقارن بين مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الذي يرتضيه ويدافع عنه، وبين غيره من المذاهب.
وفي قائمة المصادر والمراجع المذكورة في آخر الكتاب يطالع القارئ أسماء مئات من الكتب التي تزيد على الثلاثمائة والثلاثين، وهي دليل على الجهد الذي نراه مفيدا للقارئ العام والمتخصص على السواء.
د. إبراهيم عوض
آداب عين شمس - القاهرة
1 / 4
كلمة فضيلة الشيخ الدكتور فؤاد مخيمر:
كتب فضيلة الشيخ الدكتور فؤاد بن علي مخيمر، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وعضو هيئة كبار علماء الجمعية الشرعية بمصر، كلمة ضافية، نجتزئ بمقتطفات منها. قال حفظه الله:
إن الاشتغال بعلم العقيدة من فروض الكفاية وخصوصية الخاصة من أهل العلم، ولا يشتغل به إلا من صَفَتْ سريرته وخلصت عقيدته من الشوائب والانحرافات والتأويلات، ورسخ إيمانه بالله وحده، وصدقت فراسته، واستقام خُلُقه وعمله، وأنعم الله تعالى عليه ببصر ثاقب، وفكر ناقد، وعقل نابغ، ليطرح القضايا بعد نظر وتأمل، ويدبر الحوار ويناقش، ثم يستلهم الحق والهداية للبشر، ثم يوجه القول إقامة للحجة مع وضع البرهان السامع أمام من له عقل وقلب.
وهذا الكتاب للأخ الفاضل عثمان بن جمعة ضميرية، كتاب عظيم في مبناه، غزير في معناه، سهل في أسلوبه وتراكيبه، محكم في عرض قضاياه، يلمس من يقرأ فيه صدق العبارة مع التوجيه المحكم والإلهام المستنير ... ولسنا في حاجة إلى عرض ما في الكتاب من قضايا وتوجيهات؛ لأن المؤلف -طيّب الله نفسه- قد أُلهم الرشد في اختيار العنوان الذي وسمه بـ "المدخل"؛ ذلك لأن محيط العلم واسع وعمقه بعيد المدى وبابه محكم، فخطا الأخ الشيخ عثمان خطوات ووقف أمام المدخل ففتح له الباب، فأجاد الغوص في علم العقيدة، فالتقط دررا نفيسة جعلها مشاعل هداية على طريق معرفة الله ﷿ ليوحده الناس توحيدا خالصا، ويخلصوا العبودية له وحده.
وبعد ... فهذا جهد مشكور، وعلم موفور، وتجارة لن تبور، قدمها الأخ الفاضل الشيخ عثمان جمعة مبتغيا بها وجه الله تعالى -أحسبه كذلك- نسأل الله أن يثيبه عليه وأن يثيبنا معه. والله من وراء القصد.
1 / 5
كلمة الدكتور حمد عبد الله العيسى:
ونشرت مجلة الدعوة السعودية في عددها رقم "١٤٤٠" عرضا للكتاب بقلم الدكتور حمد عبد الله العيسى، نقتطف أجزاء منه شاكرين له جهده وتشجيعه. قال سعادته:
اهتمت الدراسات المعاصرة بالعقيدة الإسلامية اهتماما بالغا يليق بمكانتها ودورها في الحياة، وتعددت الكتب والمؤلفات في جوانب كثيرة منها. إلا أن المكتبة الإسلامية ما زالت بحاجة إلى لون آخر من التأليف في العقيدة، وهو ما يمكن أن نجعله مدخلا لدراسة العقيدة وتمهيدا عاما بين يديها، على غرار ما نجده من "المداخل" في علم الشريعة "الفقه" واللغة والتاريخ. وميزة هذا اللون من التأليف أنه يعطينا نظرة كلية عامة قبل الدخول في الجزئيات، ويمهِّد تاريخيا للبحث والكتابة. وقد جاء هذا الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف الأخ الفاضل الشيخ/ عثمان جمعة ضميرية؛ ليسد الفراغ الذي كانت تشكو منه المكتبة الإسلامية الحديثة.
والكتاب مجموعة من المحاضرات الجامعية في مادة "العقيدة الإسلامية"، ألقيت على طلبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ويضم الكتاب تمهيدا عاما عن الإسلام: عقيدة وشريعة، ثم ست فقرات تتناول العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت في استقلال علم العقيدة وتدوينه، ثم التطور التاريخي لتدوين علم العقيدة منذ القرن الهجري الثاني وحتى نهاية القرن الرابع، حيث استقر تدوين العلوم الإسلامية عامة. وجاءت الفقرة الثالثة لتبحث في بعض العموميات فعرّفت ببعض المصطلحات الأساسية ومصادر العقيدة ودور العقل في ذلك وبيان الصلة بينهما. وجاءت الفقرة الرابعة لدراسة أعظم جوانب العقيدة الإسلامية وهو التوحيد وأنواعه، وهذا يستلزم دراسة الانحراف عن التوحيد. وجاءت الفقرة السادسة لدراسة موجزة عن الولاء والبراء ومكانتهما في العقيدة. وأخيرا جاءت الخاتمة لتوجز أهم السمات والخصائص العامة التي تتميز بها العقيدة الإسلامية.
1 / 6
وإذا عدنا إلى هذا الكتاب بالدراسة لنتبين منهجه وطريقته، وجدنا الكتاب يجمع فصولا مترابطة متسلسلة، وأفكارا واضحة مرتبطة بمصادرها الأصلية من الكتاب والسنة وأقوال علماء السلف من أهل السنة والجماعة، فكان منهجا علميا استدلاليا، يعطينا الثقة فيما يعرض من مبادئ أو أحكام عقدية، مع الالتزام بالأحاديث الصحيحة أو الحسنة وعَزْوها إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة النبوية.
وقد جمع هذا الكتاب ميزات متعددة وأبحاثا جديدة في أبواب مستقلة أو منثورة في ثنايا الكتاب ومسائله، وحرّر بعض المسائل تحريرا علميا، وحسبنا أن نقتطف كلمات من مقدمة الأستاذ الدكتور عبد الله العبادي -عميد كلية التربية بجامعة أم القرى- ترسم لنا صورة عن الكتاب، حيث قال: "وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ضرب من المثل الذي شق به مؤلفه الطريق في زمن اتجه أهله إلى الماديات المغرية حتى في الكتابة والتأليف، وتزاحمت فيه الكتب على رفوف المكتبات، شيقة العنوان، جميلة التغليف".
وقال:
"استعرضت هذا الكتاب فوجدته كتابا لطالب العلم المبتدئ، يعرض للقضايا بيسر وسهولة، ويسعى لتقريب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم. ويؤيد ذلك العرض بالدليل الناصع والمرجع النافع والأسلوب البارع، ويعتمد على حسن الدلالة ووضوح الإحالة. وقد جاء -فيما أراه- صالحا لطالب العلم المبتدئ بمعرفة الأصول ونظامها، الذي يحتاج إلى الشرح والتبسيط وتقريب المعرفة. وهذا نمط من التأليف لا يتهيأ لكل كاتب، ولا يتيسر لكل طالب".
وفي ختام هذه الكلمة أرجو أن أكون قد وفِّقْتُ في التعريف والنقد لهذا الكتاب النافع المفيد، وأدعو المؤلف لمزيد من الكتب الجيدة التي نحتاجها في هذا العصر، شاكرا لمجلة "الدعوة" وداعيا للقائمين عليها. والله من وراء القصد.
1 / 7
كلمة سعادة الدكتور حماد الثمالي، عميد شئون المكتبات بجامعة أم القرى:
سعادة الأستاذ عثمان جمعة ضميرية..
تلقينا ببالغ الشكر والتقدير هديتكم القيمة "مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية". وإننا إذ نهنئكم على هذا الجهد العلمي المخلص الذي هو خدمة للعلم والدين، نتمنى لكم دوام التوفيق، آملين أن يزداد التعاون بيننا في كافة مجالات المعرفة، سائلين الله تعالى أن يوفقكم لخدمة العلم والمعرفة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة سعادة الدكتور محمد سعيد الغامدي:
في كلمة تعقيبية على ما نشر في جريدة الجزيرة، كتب الدكتور محمد سعيد الغامدي يقول: وكنت قد قرأت الكتاب فوجدته يجمع ميزات عديدة في المنهج وطريق العرض والأسلوب، وفي الاستدلال وحسن التنظيم والترتيب لمباحثه وأفكاره التي يأخذ بعضها برقاب بعض، مع التوثيق الدقيق وبأسلوب لا يستعصي على القارئ العادي، ولا ينبو عن ذوق المتخصص. مع ما فيه من جهد في التتبع والاستقراء؛ مما يجعله مرشحا ليكون مرجعا ذا فائدة في دراسة العقيدة الإسلامية، وخاصة بمباحثه الأولى عن تاريخ تدوين علم العقيدة ومناهجها.
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
١- فهذا كتاب ابتدأ إنشاؤه في كلية المعلمين بالطائف، واكتمل سويا في كلية التربية بجامعة أم القرى "فرع الطائف" وهو يجمع بين دفتيه مجموعة من المحاضرات تتناول جوانب من علم العقيدة الإسلامية، أردت لها أن تكون مدخلا عاما لدراسة العقيدة الإسلامية، وتمهيدا بين يديها.
وقد جاء هذا الكتاب في تمهيد عام يتبعه ست فقرات وخاتمة. تناولت في الفقرة الأولى منه "الإسلام عقيدة وشريعة" كما تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم، وفي الفقرة الثانية العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية التي أدت إلى نشوء علم العقيدة واستقلاله عن سائر العلوم الشرعية، ثم تتبعت التطور التاريخي لتدوين العقيدة منذ القرن الثاني الهجري وحتى نهاية القرن الرابع، حيث استقر تدوين العلوم الإسلامية بعامة وعلم العقيدة بخاصة. ثم ألمعتُ إلماعة سريعة إلى بعض الكتابات العَقَدِية المعاصرة.
وفي الفقرة الثالثة بعض العموميات الأساسية في البحث، فعرّفنا ببعض المصطلحات التي تتردد في هذا المدخل، وتعرّفنا على مصادر العقيدة مع الإشارة إلى دور العقل ومكانته والعلاقة بينه وبين الوحي؛ لنخلص بعد ذلك إلى وجوب التزام العقيدة والتحذير من البدع.
وجاءت الفقرة الرابعة لدراسة أعظم جوانب العقيدة الإسلامية، وهو التوحيد وأنواعه بعامة مع بعض التفصيلات عن توحيد العبادة "الإلهية"، ويستلزم ذلك أن
1 / 9
ندرس الانحراف عن التوحيد؛ كالشرك والكفر والنفاق في الفقرة الخامسة. وفي الفقرة السادسة دراسة موجزة لعقيدة الولاء والبراء ومكانتها في الإسلام.
أما الخاتمة، ففيها إشارة إلى أهم الخصائص التي تميز العقيدة الإسلامية عن غيرها من العقائد والمذاهب.
وكان من الممكن أن يتسع هذا المدخل لفقرات أخرى تناسب موضوعه، كمنهج السلف في عرض العقيدة ابتداء أو ردا على الفرق الأخرى. كما يمكن أن تتسع بعض فقراته لشيء من البسط، ولعلنا نستدرك ذلك على ضوء ملاحظات الإخوة القراء، في طبعة قادمة إن شاء الله ويسّر ذلك.
٢- وفي كل ما كتبت حاولت أن أربط كل فكرة بمصدرها؛ ليكون ذلك عونا للقارئ على التوسع فيها والتثبت من مصدرها، وتحقيقا للأمانة في النقل -مما نفتقده في كثير من الكتابات المعاصرة -ولهذا تراني أحيل في بعض الجوانب إلى كثير من المصادر والمراجع، وقد أكتفي أحيانا بالإحالة إليها رغبة في الإيجاز.
وأما الإشارة في كثير من المواضع إلى فقرات سابقة أو لاحقة، فإن ذلك يومئ إلى الترابط والتكامل في البحث ويجنبنا التكرار.
وأما ما قد يراه بعض الإخوة من القراء إسرافا في النصوص اللغوية بين يدي التعريفات الاصطلاحية، فإن ذلك كان عن عمد وقصد؛ لأنها تلقي الضوء على التعريف الاصطلاحي، وهو في أصله تعريف لغوي، ومن لم يكن بحاجة إليها من القراء فيمكنه أن يتجاوزها إلى ما وراءها بيسر وسهوله.
واجتهدت ألا أذكر في هذا البحث من الأحاديث النبوية إلا ما كان صالحا للاحتجاج به، وعزوته إلى مصدره من دواوين السنة النبوية، مكتفيا بالصحيحين أو
1 / 10
أحدهما إن كان من أحاديثهما، وفي أحاديث غيرهما أنقل حكم أحد الأئمة المحدِّثين عليها.
٣- وقد كان في النية أن ندفع بهذا الكتاب للطبع منذ سنوات، فقضت إرادة الله تعالى غير ذلك، مما هيأ الاطلاع على كتابين اثنين في هذا الموضوع.
أولهما للدكتور يحيى هاشم فرغل بعنوان "مداخل إلى العقيدة الإسلامية" وهو ينحو منحى فلسفيا يستهدف الدخول في العقيدة الإسلامية، فهو في غير ما يهدف إليه هذا المدخل.
وأما الثاني فهو "المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة" للدكتور إبراهيم محمد البريكان، وهو بجملته في موضوع هذا المدخل نفسه وفق المنهج المقترح لكليات المعلمين، وإن كان لكل وجهة هو موليها.
هذا، وقد رأى بعض الإخوة أن يكون عنوان هذا الكتاب "المدخل لدراسة علم العقيدة الإسلامية"؛ لأنه يشتمل على البحث في نشأة العلم ومراحل تدوينه ... إلخ، ولكني رأيت العنوان الحالي يدخل فيه علم العقيدة كما تدخل فيه العقيدة نفسها موضوعا للبحث.
٤- وقبل أن أغادر هذه المقدمة ينبغي أن أعود بالفضل لأهله فأقدم الشكر -بعد شكر الله ﷾ لكل من نظر في هذا الكتاب، أو في جزء منه فأفادني برأي أو توجيه أو تصحيح. وأخص بالشكر فضيلة الشيخ الدكتور/ بكر بن عبد الله أبي زيد، وكيل وزارة العدل وعضو هيئة كبار العلماء بالرياض، وفضيلة الأستاذ الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل، أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض،
1 / 11
وفضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن المراكبي، أستاذ العقيدة المشارك بجامعة الأزهر، وسعادة الأستاذ الأديب الدكتور إبراهيم عوض، الأستاذ بآداب عين شمس بالقاهرة، الذي قرأ الكتاب قراءة نقدية دقيقة وتفضّل بعرض الكتاب والتعريف به.
وأما سعادة الأستاذ الدكتور/ عبد الله بن عبد الكريم العبادي، عميد كلية التربية بجامعة أم القرى "فرع الطائف" فقد طوَّق عنقي بمنة كبرى عندما تفضل بقراءة الكتاب كاملا وتولى تقديمه للقراء الكرام، فله ولهم جميعا خالص الشكر والدعوات.
وبعد:
فإن كنت قد بلغت في هذا الكتاب ما أردت فذلك توفيق من الله تعالى، وهو حسبي، وإن كانت الأخرى فإنني أُشهد الله تعالى أنني راجع عن كل ما فيه من خطأ. والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.
الطائف - غرة شهر ذي الحجة ١٤١٣هـ
عثمان بن جمعة ضميرية
1 / 12
تمهيد عام:
خلافة وهداية:
قضت حكمة الله وإرادته أن يخلق آدم، وأن يجعله وذريته خلفاء في الأرض؛ ليقوموا بعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته، فيحققوا بذلك غاية وجودهم، توحيدا لله تعالى وعبادة له وطاعة:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] .
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] .
﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١] .
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: ١٦٥] .
ولما أهبط الله آدم إلى الأرض لم يتركه لنفسه أو لعقله؛ فهو يحتاج إلى عناية ورعاية، ويحتاج إلى منهج وهداية، يسير هو وذريته عليه، فيكون سببا للنجاة وحاجزا عن الضلالة والشقاء، وقد أكرمه الله تعالى بهذه الهدية الربانية والهداية الإلهية:
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٨، ٣٩] .
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: ١٢٣-١٢٧] .
1 / 15
طريقان للهداية:
الفطرة والوحي ومنذ أن أوجد الله تعالى البشر فَطَرهم على التوحيد والإيمان بالله تعالى، خالقهم ومعبودهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق مذ كانوا ذرية في ظهور آبائهم:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٢، ١٧٣] .
ولذلك يأمرهم الله تعالى أن يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له، فإنه مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، وتحقيق للعهد والميثاق، وأداء لشهادة الحق التي أشهدهم عليها:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠] .
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ "الآية"١.
_________
١ أخرجه البخاري: ٣/ ٢١٩، ومسلم: ٤/ ٢٠٤٧، وانظر "تفسير البغوي": ٦/ ٢٩٦ مع المراجع المشار إليها، طبعة دار طيبة بالرياض، "معالم السنن" للخطابي: ٧/ ٨٣-٨٨.
1 / 16
وعن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته:
"ألا إن ربي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلتُه عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... " ١.
وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار، وهو الحنيفية التي وقعت الخِلْقة عليها، وإن عبد غيره، قال تعالى:
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧] .
فكل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة، أي: على الجِبِلَّة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره، لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره٢.
وهكذا كانت البشرية الأولى أو ذرية آدم ﵇، قبل أن يقع الانحراف، كانت على التوحيد والإسلام، فقد كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح -وكان بينهما عشرة قرون- كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، فبعث الله إليهم نوحا، فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيين٣.
_________
١ أخرجه مسلم: ٤/ ٢١٩٧.
٢ انظر: "تفسير البغوي": ٦/ ٢٧٠، والمراجع المشار إليها في الحاشية.
٣ وهذا مرويّ عن قتادة وعكرمة. انظر: "تفسير البغوي": ١/ ٢٤٣.
1 / 17
وعن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله، أنبيا كان آدم؟ قال: "نعم"، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة قرون" ١.
قال تعالى:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" ٢.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا"٣ وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب رضي الله عنه٤. وهذا متناسق مع قوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِيَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: ١٩] .
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ
_________
١ أخرجه ابن حبان ص"٥٠٩"، والطبراني في "الأوسط" ١/ ٢٥٦، والحاكم: ٢/ ٢٦٢، والبيهقي في "الأسماء والصفات": ١/ ٥١٧. قال ابن كثير: وهو على شرط مسلم.
٢ انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: ١/ ١٠١.
٣ أخرجه الطبري: ٤/ ٢٧٥، وصححه الحاكم في "المستدرك": ٢/ ٥٤٦، ٥٤٧، ووافقه الذهبي. وعزاه السيوطي في "الدر" "١/ ٥٨٢" للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم.
٤ "تفسير ابن كثير": ١/ ٣٦٤ "طبعة الشعب".
1 / 18
اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] .
وأنزل الله تعالى كتبه هداية ورحمة وبيانا وإزالة للخلاف؛ ليفيء الناس جميعا إلى الحق والعدل:
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٣، ٦٤] .
يقول الأستاذ سيد قطب، ﵀:
"وهذه هي قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم ... كان الناس أمة على نهج واحد وتصور واحد، وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم قبل اختلاف التصورات والاعتقادات. فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد، وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة؛ ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غَبَر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى، حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم، وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة التي فطرهم عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع والاستعدادات والطاقات والاتجاهات.
عندئذ اختلفت التصورات، وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات ... وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"١.
_________
١ "في ظلال القرآن": ١/ ٢١٦، وانظر فيما سيأتي ص٢١٩-٢٢٤.
1 / 19
حاجة البشرية إلى الرسالة:
ولا تستقيم حياة البشرية ولا تنتظم إلا ببعثة الرسل، عليهم الصلاة والسلام، فالرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، فهي روح العالم ونوره وحياته؛ فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟! ١
ولذلك سمى الله تعالى وحيه إلى نبيه ﷺ روحا، وسماه نورا، والإنسان لا يستغني عن الروح؛ فهي سبب الحياة، ولا عن النور؛ فهو سبب الهداية، فقال ﷾:
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٢، ٥٣] .
وقال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٢] .
فبعث الله تعالى الرسل تترى، كلما ضلت أمة بعث إليها رسولا، فكثر الرسل والأنبياء، فما من أمة إلا وقد بعث الله فيها نذيرا، يقطع العذر ويقيم الحجة:
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] .
_________
١ "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": ٩/ ٩٣.
1 / 20
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [يونس: ٤٧] .
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: ٧] .
وعن أبي ذر ﵁ قال: قلت: يا رسول الله، كم عدد الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة عشر ألفا"، قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: "ثلاثمائة وخمسة عشر، جما غفيرا" ١.
وهؤلاء الرسل هم الذين يحملون الشرائع للناس، ويبينونها لهم، ويبلغونهم البلاغ المبين، فيعرفون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم الفكرية والعملية بضوابط الوحي الإلهي، إذ لا تستطيع العقول البشرية أن تستقل بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه ولا تستقل بمعرفة ما تنبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل "وسيأتي شرح هذا في الكلام على دور العقل".
والرسل هم القدوة الصالحة التي تتأسى بها البشرية، ولهم الأثر الباقي الخالد في الحياة، وهم سبب كل خير.
_________
١ قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند": ٥/ ١٧٨، ١٧٩، وابن حبان ص"٥٢، ٥٣" من "موارد الظمآن"، والحاكم: ٢/ ٥٩٧ وتعقبه الذهبي.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "١/ ١٥٩": "رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف". وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة": "٣/ ١٥٩٩". وانظر: "الفتاوى الحديثية" لابن حجر الهيثمي، ص١٨٠.
1 / 21