16

حرص على أن تكون لنافذته إطلالة مباشرة على الباب الأمامي للمقهى، ولكنه بعد أن أصبح وحده الآن وأغلق عليه بابه، تفقد الموقع بدقة أكبر. كانت فوق الباب الأمامي للمقهى مظلة تحجب رؤيته للرصيف والشرطي الذي لا يفتر عن المشي ذهابا وإيابا عليه. عقد ذلك الأمر. لكنه تذكر أنها ترفع عند غروب الشمس. كانت فكرته الأولى عند استئجار الغرفة أن يسقط الديناميت من نافذة الطابق الثالث إلى الرصيف، لكنه كلما فكر في هذه الخطة قل اقتناعه بها. كانت كالأشياء التي يمكن لأي أحمق فعلها كما قال الشرطي. كان الأمر يتطلب بعض التفكير. كما أن أسوأ ما قد ينتج عن إسقاط الديناميت على الرصيف أن ينفجر أمام المقهى وربما يقتل الشرطي المتجول أو أحد المارة الأبرياء، لكنه لن يقتل العجوز سون ولا النادل الذي تطوع بالمساعدة في القبض على هيرتسوج.

كان دوبريه رجلا منظما. كان صادقا إلى حد كبير في قوله إنه طالب. وهو الآن قد عكف على دراسة الحالة كما لو كانت مسألة رياضية.

أولا: لا بد من تفجير الديناميت داخل المقهى. ثانيا: ينبغي تنفيذ المهمة ببراعة تمنع إثارة الشكوك حول الفاعل الحقيقي. ثالثا: لن يكون الانتقام انتقاما بحق إذا تسبب في مقتل الرجل الذي أشعل فتيل الانفجار أو خلف دليلا يؤدي إلى القبض عليه.

جلس دوبريه إلى طاولته، ووضع يديه في جيبيه، ومد ساقيه، وقطب حاجبيه، واستعد للتفكير في حل للمعضلة. من السهل أن يحمل إلى المقهى حقيبة يد مليئة بالمواد المتفجرة. كان معروفا في المكان، لكن ليس بوصفه صديقا لهيرتسوج. لقد كان زبونا ومستأجرا، ولهاتين الصفتين كان مأمون الجانب. لكنه لا يستطيع ترك الحقيبة هناك، وإذا ظل معها فسيرتد انتقامه عليه. يمكنه أن يسلم الحقيبة للنادل ويخبره أنه سيأخذها في وقت لاحق، لكن النادل سيتساءل حينئذ حول سبب عدم تركه الحقيبة للقائم على المبنى ليرسلها إلى غرفته، هذا إلى جانب أن النادل كان شديد الارتياب. لقد كان يدرك وضعه المؤسف. ولم يكن يجرؤ على ترك مقهى فيرنون الآن بعد أن أصبح رجلا مستهدفا. فهو في مقهى فيرنون يتمتع بحماية الشرطة، أما إذا غادره إلى أي مكان آخر فلن يتمتع بأي حماية تفوق حماية أي مواطن عادي؛ لذا ظل في مقهى فيرنون باعتباره أهون الشرين. لكنه كان يراقب كل من يدخله بتمحيص فاق فيه الشرطي نفسه.

أدرك دوبريه أيضا وجود صعوبة أخرى في خطة حقيبة اليد. إن الديناميت يجب إشعاله بفتيل أو بآلية كآلية الساعة. والفتيل يصدر دخانا، ولن يلبث من يلمس بيده حقيبة بها آلية كآلية الساعة أن يشعر بحركة بداخل الحقيبة. ومن يسمع لأول مرة صوت اهتزاز ذيل الأفعى ذات الجرس الذي يشبه صوت اهتزاز حبات البازلاء الجافة في قرنها يبتعد من فوره بالغريزة، ولو لم يعرف شيئا عن الأفاعي. إلى أي مدى إذن قد يتسبب نادل شديد الارتياب، أعصابه متحفزة للاستجابة إلى الصوت الهادئ القاتل الذي تصدره آلية الديناميت، في إفساد كل شيء فور لمسه الحقيبة بيده؟ نعم، أقر دوبريه في نفسه على مضض بأن فكرة الحقيبة ليست عملية. وكان يرى أن نتيجتها الموت أو السجن.

ما العمل إذن بعد أن استبعد فكرتي الفتيل وآلية الساعة؟ هناك نوع من القنابل ينفجر بالاصطدام، وكان دوبريه قد صنع عددا منها بنفسه. يمكن لأي رجل أن يقف في منتصف الشارع ويقذفها إلى داخل المقهى من الباب المفتوح. لكنه قد يخطئ المدخل. كما أن الشارع حتى ساعة إغلاق المقهى يكون مضاء تماما كما في النهار. ثم إن الشرطي كان يراقب كل المارة في منتصف الطريق بعناية. فسلامته الشخصية هي أيضا تعتمد على ذلك. وكيف يمكن أن يهرب الرجل الذي سيقذف القنبلة من منتصف الشارع عند تحقيق النتيجة المرجوة؟ لو لم تكن الجادة بهذا الاتساع لأمكن لأي شخص أن يطلق قنبلة مزودة بديناميت من غرفة أمامية على الجانب الآخر من الشارع إلى المقهى كما يفعلون باستخدام المدافع، لكن هناك ...

فجأة صاح دوبريه: «يا إلهي!» ثم أضاف: «وجدتها!»

ضم ساقيه الممدودتين، وتوجه إلى النافذة وفتحها، وحدق في الرصيف بالأسفل لوهلة. عليه أن يقيس المسافة أثناء الليل، بل في وقت متأخر منه؛ هكذا خاطب نفسه. اشترى بكرة سلك لونه أشبه ما يكون بلون واجهة المبنى. وفتح نافذته، وبعد منتصف الليل أخرج السلك ودلاه، فقدر أنه يصل إلى أعلى باب المقهى تقريبا. انسل إلى الأسفل بهدوء وخرج من المبنى دون أن يغلق الباب بالمزلاج. كان الباب المؤدي إلى الغرف عند أقصى طرف المبنى، في حين كان باب المقهى في المنتصف بين نافذتين كبيرتين. وعندما وصل إلى مقدمة المبنى، أوشك خفقان قلبه على التوقف عندما جاء من عند باب المقهى صوت يقول: «ماذا تريد؟ وماذا تفعل هنا في هذه الساعة المتأخرة؟»

كان الشرطي قد أصبح جزءا لا يتجزأ من الرصيف في ذهن دوبريه حتى نسي أنه يمكث عليه ليلا ونهارا. شهق دوبريه دون صوت، ثم عاد قلبه إلى الخفقان.

وقال في هدوء: «كنت أبحث عنك.» وضيق عينيه فلاحظ أن السلك كان يتدلى فوق رأس الشرطي على بعد قدم واحدة تقريبا وهو يقف في المدخل المظلم.

Página desconocida