Intikasat Muslimin
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Géneros
ولهذه الأسباب تحديدا، وعلى مثل هذه العقائد بالذات وبالتخصيص، قامت حروب الفتن الإسلامية وحروب الفتوحات التي حصدت ملايين المسلمين وغير المسلمين (حوالي مليون ونصف مليون إنسان خلال السنوات الأربع الأولى من الفتوح خارج الجزيرة في زمن كان المليون إنسان رقما هائلا بحسب تعداد المجتمعات حينذاك)؛ لأن هذه الحروب قامت على اعتقاد بامتلاك المسلمين للحقيقة النهائية في فهم الدين والدنيا، ثم امتلاك كل طرف مسلم في حروب الفتن للحقيقة التامة، وأنه وحده من يملك قيما أخلاقية، في مقابل اعتقاد الطرف الآخر للاعتقاد ذاته في قيم أخرى مخالفة تقوم على فهم آخر للإسلام، فكانت قيما ذاتية تتأسس على الهوى وليس لها في الواقع معيار محدد يثمنها بالإيجاب أو بالسلب، من يحدد القيمة ويصنعها هو شخص صانعها وعادة ما يكون هو القوي المنتصر. هذا رغم أن العالم حينذاك كان قد اكتشف القيم الموضوعية «الإكسيولوجية» منذ فلاسفة اليونان قبل الإسلام بقرون وأزمان، وتواضع الفلاسفة على ثلاث قيم مطلقة لا يختلف حولها اثنان، لذلك هي موضوعية يفهمها الكل بكل وضوح، وهي: الحق والخير والجمال. لكن الإسلام لم يظهر لا في أثينا ولا في روما، وإنما في فيافي الحجاز، وخاطب الناس في هذه البوادي القاسية بلسانهم وفهمهم ومعارفهم وقيمهم وليس بمعارف الأعاجم وقيمهم.
كانت القيم الذاتية في الجاهلية الأولى هي الشأن الطبيعي في ثقافة العربي؛ لأنه لو طبق القيم الغيرية كالكرم والإحسان لمات في بواديه جوعا، فكانت القبائل تتحرك في البوادي بحثا عن خيرها الضنين، فتتقاتل عليها قتالا صفريا لا توجد فيه موائد صلح ولا مبادرات سلام، فإما قاتلا وإما مقتولا، فتقتل القبيلة من تقدر عليه من القبيلة المهزومة، وتستولي على ما تملك جميعا عيون الماء والسوائم والمتاع، وتبقي من البشر على من يمكن الاستفادة منه فقط لأن له فما يأكل، فيجب أن يكون لوجوده ضرورة، وعدم وجوده أفضل؛ لذلك كانت العبودية عمودا من أعمدة المجتمع البدوي من فجر تاريخه، بينما لم تعرف مصر مثلا نظام العبودية طوال تاريخها إلا عندما دخلها البدو اليهود زمن النبي يوسف والهكسوس، ولم يرتق العرب إلى التواضع على قيم كالكرم والوفاء بالوعد والصدق في القول إلا مع الاستقرار المدني لمكة، التي تحولت إلى مركز تجاري ترانزيتي، ثم أمسكت بعنان تجارة العالم إبان الحرب السبعينية بين إمبراطورتي الفرس والروم، وفرضت مصالح التجارة وضرورة سيولتها وسلامتها التي تعود بالنفع على الجميع، ضرورة توافق العرب على قيم النخوة والمروءة والأمانة والنجدة والإجارة والكرم والوفاء بالعهد، وكان ذلك تحديدا إبان العصر الجاهلي الثاني منبع كل فضائل العرب، والذي انتهى بظهور الإسلام والعودة بالعرب إلى قيم الجاهلية الأولى حيث قيم الغزو والسلب والنهب والسبي والحرب الصفرية.
وهو الأمر الذي تعبر عنه رواية ابن عبد ربه في عقده الفريد (ج5، ص132) عن صحابة لرسول الله جلسوا يتذاكرون الجاهلية الأخيرة مقارنين بينها وبين زمن الصحابة، قيل لبعض أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قالوا: كنا ننشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليتها. وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية، ألا ترى عنترة الفوارس جاهليا لا دين له، والحسن بن هانئ مسلما له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه، فقال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
فقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
كان الشباب مطية جهل
ومحسن الضحكات والهزل
Página desconocida